الحركة العلمية في البحرين

تفخر‭ ‬كلّ‭ ‬أمّةٍ،‭ ‬ويعتزّ‭ ‬كلّ‭ ‬قومٍ‭ ‬بتراث‭ ‬أجدادهم‭ ‬يحوطونه‭ ‬بعنايتهم،‭ ‬ويولونه‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬محاولين‭ ‬ترسيخه‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة،‭ ‬وتعريف‭ ‬الآخرين‭ ‬به‭.‬

وتتفنن‭ ‬الأمم‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬تراثها،‭ ‬فمرّة‭ ‬يقيمون‭ ‬المتاحف،‭ ‬ويضمّون‭ ‬بين‭ ‬جنباتها‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬إبداعات‭ ‬أسلافهم،‭ ‬ومرة‭ ‬يقيمون‭ ‬المعارض،‭ ‬فيعرضون‭ ‬فيها‭ ‬الصناعات‭ ‬التقليدية،‭ ‬التي‭ ‬برع‭ ‬فيها‭ ‬أسلافهم،‭ ‬ومرة‭ ‬يقيمون‭ ‬الندوات؛‭ ‬لتسليط‭ ‬الأضواء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬ذلك‭ ‬التراث،‭ ‬وقد‭ ‬يقيمون‭ ‬لعظمائهم‭ ‬من‭ ‬القادة‭ ‬والساسة‭ ‬والأدباء‭ ‬والمفكرين‭ ‬تماثيل‭ ‬ضخمة،‭ ‬يزينون‭ ‬بها‭ ‬الميادين‭ ‬والساحات‭ ‬العامة؛‭ ‬اعترافًا‭ ‬بما‭ ‬قدّمه‭ ‬أولئك‭ ‬لأمّتهم‭.‬

والأمم‭ ‬حين‭ ‬تفخر‭ ‬بتراث‭ ‬الأجداد،‭ ‬إنّما‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬بأنّ‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬وجودها؛‭ ‬فحاضر‭ ‬الأمّة‭  ‬امتداد‭ ‬لتراثها،‭ ‬وهو‭ ‬المبين‭ ‬للمدى‭ ‬الحضاري‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه،‭ ‬والحافز‭ ‬لها‭ ‬للمضي‭ ‬قدمًا،‭ ‬والبناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أسسه‭ ‬الأولون‭.‬

والبحرين‭ ‬–‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬الحواضر‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ – ‬مرّت‭ ‬بحقبة‭ ‬ازدهارٍ‭ ‬علمي،‭ ‬امتدّت‭ ‬قرونًا‭ ‬عديدة،‭ ‬برز‭ ‬فيها‭ ‬مئات‭ ‬الأسماء‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬ميادين‭ ‬المعرفة،‭ ‬وقد‭ ‬أنتجوا‭ ‬مئات‭ ‬المصنفات‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ ‬والدنيوية،‭ ‬فقد‭ ‬ألفوا‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬وأصوله،‭ ‬وفي‭ ‬التفسير،‭ ‬والحديث،‭ ‬واللغة،‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والحساب،‭ ‬والفلك،‭ ‬والطب،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬المعروفة‭ ‬يومذاك‭.‬

وكان‭ ‬المؤمّل‭ ‬من‭ ‬المعنيين‭ ‬بالشأن‭ ‬الثقافي‭ ‬أن‭ ‬يقفوا‭ ‬عند‭ ‬ذلك‭ ‬التراث؛‭ ‬ليقرأوه‭ ‬ويبينوا‭ ‬خصائصه،‭ ‬ويبرزوا‭ ‬ما‭ ‬انفرد‭ ‬به‭ ‬أولئك‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المؤمل‭ ‬لم‭ ‬يكن،‭ ‬بل‭ ‬وجدنا‭ ‬حالا‭ ‬معكوسة؛‭ ‬إذ‭ ‬تنكّر‭ ‬المعنيون‭ ‬لتراثهم،‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الإرث‭ ‬العظيم‭ ‬سوى‭ ‬بضعة‭ ‬أسماء،‭ ‬يتداولها‭ ‬خاصة‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬مجالسهم،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬الأجيال‭ ‬المعاصرة‭ ‬عنها‭ ‬شيئًا‭:‬

كأنْ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بين‭ ‬الحجون‭ ‬إلى‭ ‬الصفا ‭      ‬أنيسٌ‭ ‬ولم‭ ‬يسمر‭ ‬بمكة‭ ‬سامرُ

ولقد‭ ‬بُحَّ‭ ‬من‭ ‬المهتمين‭ ‬الصوت،‭ ‬وهم‭ ‬ينادون‭ ‬ويدعون‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬العلمية‭ ‬والثقافية‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬لجنةٍ‭ ‬متخصصة،‭ ‬تأخذ‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬صياغة‭ ‬تراث‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬وبخاصة‭ ‬العلمي‭ ‬منه،‭ ‬فتؤوب‭ ‬إلى‭ ‬جمعه‭ ‬من‭ ‬مظانّه،‭ ‬فقد‭ ‬تناثر‭ ‬في‭ ‬مكتبات‭ ‬العراق،‭ ‬وإيران،‭ ‬والهند،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬المكتبات‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬ثمّ‭ ‬تعكف‭ ‬تلك‭ ‬اللجنة‭ ‬على‭ ‬تصنيف‭ ‬ما‭ ‬جمعت،‭ ‬وتحقيقه‭ ‬تحقيقًا‭ ‬علميًّا،‭ ‬ونشره؛‭ ‬ليكون‭ ‬بين‭ ‬أيدي‭ ‬الباحثين،‭ ‬ينظرون‭ ‬فيه،‭ ‬ويقيمون‭ ‬عليه‭ ‬بحوثهم،‭ ‬ولمّا‭ ‬يُسْمَع‭ ‬الصوت‭!!‬

ولعلّ‭ ‬معترضًا‭ ‬يعترض‭ ‬علينا،‭ ‬فيقول‭ ‬إنّ‭ ‬التراث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مهملا‭ ‬البتة،‭ ‬ويستدلّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بإقامة‭ ‬المعارض،‭ ‬والمهرجانات‭ ‬التراثية‭ ‬وغيرها‭.‬

وأقول‭: ‬إنّ‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬انصبّ‭ ‬على‭ ‬جانبٍ‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬التراث،‭ ‬هو‭ ‬الجانب‭ ‬الحرفي،‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الصناعات‭ ‬التراثية،‭ ‬كصناعة‭ ‬الفخّار‭ ‬والنسيج‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولم‭ ‬يحظ‭ ‬التراث‭ ‬العلمي‭ ‬والأدبي‭ ‬لعلماء‭ ‬البحرين‭ ‬وأدبائها‭ ‬بعناية‭ ‬تُذكر،‭ ‬بل‭ ‬طوته‭ ‬يد‭ ‬النسيان‭.‬

ولو‭ ‬أننا‭ ‬أنعمنا‭ ‬النظر‭ ‬لأمكننا‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬أبرز‭ ‬مظاهر‭ ‬تناسي‭ ‬التراث‭ ‬العلمي‭ ‬والأدبي‭ ‬البحراني،‭ ‬فكتب‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬الدراسية،‭ ‬التي‭ ‬تعدّ‭ ‬النواة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بالبلاد‭: ‬تاريخًا،‭ ‬وحضارة،‭ ‬وحركة‭ ‬علمية،‭ ‬تخلو‭ ‬تمامًا‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬وأدبائها،‭ ‬والتعريف‭ ‬بهم،‭ ‬وبمنجزاتهم‭ ‬العلمية‭ ‬والأدبية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بروز‭ ‬منارات‭ ‬علمية‭ ‬شامخة‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬هذه‭ ‬البلاد،‭ ‬كالشيخ‭ ‬ميثم‭ ‬البحراني،‭ ‬والسيد‭ ‬هاشم‭ ‬التوبلاني،‭ ‬والشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي،‭ ‬والشيخ‭ ‬يوسف‭ ‬العصفور،‭ ‬ومئات‭ ‬غيرهم‭.‬

وقد‭ ‬انعكس‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الطلاب،‭ ‬فبرز‭ ‬جيل‭ ‬جاهلٌ‭ ‬برجالات‭ ‬البحرين،‭ ‬منبتّ‭ ‬الصلة‭ ‬عن‭ ‬ماضيه‭ ‬الثقافي،‭ ‬وقد‭ ‬سألتُ‭ ‬طلبتي‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭ ‬عن‭ ‬الشيخ‭ ‬ميثم‭ ‬البحراني،‭ ‬فأجمع‭ ‬أكثرهم‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬معرفتهم‭ ‬به،‭ ‬وقال‭ ‬بعضهم‭ ‬إنها‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يطرق‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬سمعه‭!!!‬

ولم‭ ‬تكن‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬تناسي‭ ‬التراث‭ ‬البحراني،‭ ‬فقد‭ ‬تابعتها‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين،‭ ‬فلا‭ ‬هي‭ ‬أنشأت‭ ‬قسمًا‭ ‬لجمع‭ ‬ما‭ ‬تناثر‭ ‬من‭ ‬تراثنا‭ ‬أسوة‭ ‬ببقية‭ ‬الجامعات،‭ ‬ولا‭ ‬استحدث‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬فيها‭ ‬مسارًا‭ ‬خاصًّا‭ ‬لدراسة‭ ‬الأدب‭ ‬البحراني‭ ‬والتعريف‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬اكتفى‭ ‬بمقرر‭ (‬الأدب‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭) ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬مقررًا‭ ‬اختياريًّا،‭ ‬ولا‭ ‬يأخذ‭ ‬الأدب‭ ‬البحراني‭ ‬فيه‭ ‬بنصيب‭!‬

وقد‭ ‬انعكس‭ ‬هذا‭ ‬التناسي‭ ‬سلبًا‭ ‬على‭ ‬برنامج‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية؛‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تتناول‭ ‬أية‭ ‬رسالة‭ ‬أدب‭ ‬البحرين،‭ ‬ولا‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ابتداء‭ ‬البرنامج‭ ‬سنة‭ ‬1991م‭!!‬

وإنْ‭ ‬تعجب‭ ‬فاعجب‭ ‬من‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة،‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬تخلو‭ ‬ممّا‭ ‬طُبِعَ‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬على‭ ‬قلة‭ ‬هذا‭ ‬المطبوع،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬توافره‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬المحلية‭!! ‬

وتأسيسًا‭ ‬على‭ ‬الحال‭ ‬الموصوفة،‭ ‬لم‭ ‬يبقَ‭ ‬أمام‭ ‬المهتمين‭ ‬إلا‭ ‬القيام‭ ‬بمحاولاتٍ‭ ‬فردية،‭ ‬علّهم‭ ‬ينقذون‭ ‬بها‭ ‬شيئًا،‭ ‬ويخرجونه‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬النسيان‭ ‬التي‭ ‬أريد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يقبع‭ ‬فيها،‭ ‬فاشتغل‭ ‬بعضهم‭ ‬بما‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬مخطوطات،‭ ‬وحققها‭ ‬ونشرها،‭ ‬لكنَّ‭ ‬ذلكم‭ ‬العمل‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬أهميته‭ ‬–‭ ‬يبقى‭ ‬فرديًّا‭ ‬متناثرًا،‭ ‬والمراد‭ ‬أن‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬عملٍ‭ ‬علميٍّ‭ ‬يحدّه‭ ‬إطارٌ‭ ‬واضح؛‭ ‬كي‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭.‬

وفي‭ ‬هذه‭ ‬السبيل‭ ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬البحث؛‭ ‬فهو‭ ‬يحاول‭ ‬رسم‭ ‬خريطة‭ ‬شاملة‭ ‬للحركة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬امتدّت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬قرون،‭ ‬فقد‭ ‬حاول‭ ‬تجلية‭ ‬تاريخ‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬والحالات‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬قوتها‭ ‬وضعفها،‭ ‬وتابع‭ ‬البحث‭ ‬أوجه‭ ‬النشاط‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬وُكْدِهِ‭ ‬متابعة‭ ‬إسهامات‭ ‬البحرانيين‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭ ‬الشرعية‭ ‬واللغوية،‭ ‬وإبراز‭ ‬ما‭ ‬يتميّز‭ ‬به‭ ‬النتاج‭ ‬العلمي‭ ‬البحراني‭ ‬في‭ ‬المنهج،‭ ‬والمادة‭ ‬العلمية‭ ‬المطروحة‭.‬

وليس‭ ‬أضرّ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬عبر‭ ‬الثقوب‭ ‬السياسية‭ ‬الضيقة‭ ‬المقيتة،‭ ‬ومحاولة‭ ‬إخراجه‭ ‬من‭ ‬الدائرة‭ ‬الوطنية‭ ‬الكبرى،‭ ‬وربطه‭ ‬بفئةٍ‭ ‬أو‭ ‬طائفةٍ‭ ‬دون‭ ‬أخرى؛‭ ‬فتنطلق‭ ‬الأسئلة‭ ‬الساذجة،‭ ‬التي‭ ‬تنمّ‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬عن‭ ‬ضيق‭ ‬عطن‭ ‬السائل،‭ ‬وانغلاق‭ ‬صدره‭ ‬عن‭ ‬البخوع‭ ‬إلى‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬متناسيًا‭ ‬أنّ‭ ‬عملنا‭ ‬هنا‭ ‬إنّما‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬المؤرّخ،‭ ‬الذي‭ ‬يذعن‭ ‬إلى‭ ‬الأدلة‭ ‬التاريخية‭ ‬الدامغة،‭ ‬فما‭ ‬وجد‭ ‬منها‭ ‬صادقًا‭ ‬أخذه‭ ‬واعتمده،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ – ‬ما‭ ‬دام‭ ‬صادقًا‭ – ‬أن‭ ‬يختلق‭ ‬وقائع‭ ‬لم‭ ‬تكن،‭ ‬أو‭ ‬يخفي‭ ‬أحداثًا،‭ ‬أو‭ ‬أسماءً‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬وجودها‭ ‬التاريخي‭ ‬المؤثر‭.‬

من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أوضح‭ ‬اهتمامات‭ ‬الباحث‭ ‬البحثُ،‭ ‬والتنقيبُ‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬التاريخية،‭ ‬التي‭ ‬درست‭ ‬البحرين،‭ ‬ورجالاتها‭ ‬في‭ ‬المدة‭ ‬المحصورة‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬البحث،‭ ‬فوجد‭ ‬كمًّا‭ ‬هائلا،‭ ‬قديمًا‭ ‬وحديثًا،‭ ‬أمكنه‭ ‬الاطمئنان‭ ‬إليه؛‭ ‬لتواتر‭ ‬أخباره،‭ ‬وشهادة‭ ‬الواقع‭ ‬عليها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬وجد‭ ‬كتاباتٍ‭ ‬حديثة،‭ ‬زعم‭ ‬أصحابها‭ ‬أنهم‭ ‬يؤرّخون‭ ‬بها،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬وكدها‭ ‬إخفاء‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية‭ ‬الثابتة،‭ ‬وطمسها‭ ‬بطرقٍ‭ ‬فجّة،‭ ‬في‭ ‬محاولةٍ‭ ‬بائسةٍ‭ ‬لتأسيس‭ ‬ذاكرةٍ‭ ‬حديثة،‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬أو‭ ‬جغرافيا،‭ ‬ولا‭ ‬تصمد‭ ‬أمام‭ ‬النظر‭ ‬التاريخي‭ ‬العلمي؛‭ ‬فكان‭ ‬اطّراحها،‭ ‬وعدم‭ ‬الاعتناء‭ ‬بها‭ ‬أليقَ‭ ‬وأقرب‭ ‬إلى‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭. ‬

ولستُ‭ ‬إخالُ‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬يضيق‭ ‬بمن‭ ‬يرشده‭ ‬إلى‭ ‬مكامن‭ ‬القصور‭ ‬أو‭ ‬التقصير،‭ ‬أو‭ ‬يدلّه‭ ‬على‭ ‬حركةٍ‭ ‬علميةٍ‭ ‬لعلماء‭ ‬بحرانيين،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أوال،‭ ‬فأغمض‭ ‬عينه‭ ‬عنها،‭ ‬لكنه‭ ‬يشترط‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬الحجة‭ ‬والدليل‭ ‬التاريخيين،‭ ‬مستمسكًا‭ ‬بقول‭ ‬الحقّ‭ ‬تعالى‭: ‬﴿قُلۡ‭ ‬هَاتُواْ‭ ‬بُرۡهَٰنَكُمۡ‭ ‬إِن‭ ‬كُنتُمۡ‭ ‬صَٰدِقِينَ﴾‭ ‬البقرة‭‬111‭.‬:

لم‭ ‬تكن‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬يسيرة،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬تسير‭ ‬مرة،‭ ‬وتتوقف‭ ‬مرات‭ ‬أخرى؛‭ ‬ذلكم‭ ‬بأنّ‭ ‬البحث‭ ‬يعتمد‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬مادّةٍ‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬أكثرها‭ ‬مخطوطًا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬نسخٍ‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المخطوطات‭ ‬ميسّرًا‭ ‬دائمًا،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬رجع‭ ‬الباحث‭ ‬بخفي‭ ‬حنين،‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬أمضى‭ ‬أسابيعَ‭ ‬يرجو‭ ‬من‭ ‬أحدهم‭ ‬إطلاعه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يكتنزه‭ ‬من‭ ‬مخطوطات‭! ‬ولولا‭ ‬أنْ‭ ‬منَّ‭ ‬الله‭ ‬عليَّ‭ ‬بمعرفة‭ ‬الأخ‭ ‬الكريم،‭ ‬سماحة‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عيسى‭ ‬المكباس‭ ‬لوهنت‭ ‬العزيمة،‭ ‬وما‭ ‬واصلت‭ ‬البحث،‭ ‬فلسماحة‭ ‬الشيخ‭ ‬مني‭ ‬الشكر‭ ‬كلّه؛‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يبخل‭ ‬عليّ‭ ‬بما‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬كنوز‭ ‬بحرانية،‭ ‬بل‭ ‬زوّدني‭ ‬بنسخٍ‭ ‬مصورة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكنوز،‭ ‬أسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬ينفع‭ ‬به،‭ ‬وأن‭ ‬يجعل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬حسناته‭. ‬

والشكر‭ ‬موصولٌ‭ ‬إلى‭ ‬أخويّ‭ ‬العزيزين‭: ‬الدكتور‭ ‬ناصر‭ ‬حميد‭ ‬المبارك،‭ ‬والدكتور‭ ‬علي‭ ‬عبدالنبي‭ ‬فرحان،‭ ‬اللذين‭ ‬تجشّما‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬مسوّدته،‭ ‬فلم‭ ‬يبخلا‭ ‬عليّ‭ ‬بملاحظاتهما‭ ‬السديدة،‭ ‬وقد‭ ‬أفدت‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬تقويم‭ ‬ما‭ ‬اعوجّ،‭ ‬وإصلاح‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬خلل‭.   ‬

اقرأ أيضًا:

الكتاب متوفر على متجر:
نيل وفرات (ورقي والكتروني)
جملون
أمازون