داعش من النجدي إلى البغدادي (نوستالجيا الخلافة)

أثارت‭ ‬احتفالية‭ ‬التيار‭ ‬الوهابي‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬السعودية،‭ ‬وبدرجة‭ ‬أقل‭ ‬تيارات‭ ‬أخرى‭ ‬سنيّة‭ ‬وإخوانية‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬بالاعلان‭ ‬عن‭ ‬سيطرة‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش»على‭ ‬محافظة‭ ‬الموصل‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬10‭ ‬حزيران‭ (‬يونيو‭) ‬2014‭ ‬حزمة‭ ‬أسئلة‭ ‬كبرى‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬يمثّله‭ ‬التنظيم‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الشعبي‭ ‬الوهابي،‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية،‭ ‬وفي‭ ‬التوقعات‭ ‬المعلنة‭ ‬والمضمرة‭ ‬لدى‭ ‬أتباع‭ ‬المذهب‭ ‬ولدى‭ ‬عموم‭ ‬السنّة‭. ‬

في‭ ‬غمرة‭ ‬الصخب‭ ‬الداعشي‭ ‬الذي‭ ‬رافق‭ ‬الاجتياج‭ ‬لمناطق‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬شعر‭ ‬جمهور‭ ‬الناشطين‭ ‬وطلاّب‭ ‬الحريّة‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬السنيّة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وبما‭ ‬يحملونه‭ ‬من‭ ‬مطالب‭ ‬مشروعة‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬بالإحباط‭ ‬الشديد‭ ‬لأن‭ ‬ثمة‭ ‬‮«‬عدواناً‮»‬‭ ‬آخر‭ ‬وقع‭ ‬عليهم‭ ‬نتيجة‭ ‬اختطاف‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬لنضالهم‭ ‬السلمي‭ ‬المدني‭. ‬وساهمت‭ ‬قنوات‭ ‬فضائية‭ ‬خليجية‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬المعادلة‭ ‬الميدانية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الحراك‭ ‬الشعبي‭ ‬السلمي‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬السنيّة‭. ‬في‭ ‬النتائج،‭ ‬برز‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬بوصفه‭ ‬حبل‭ ‬نجاة‭ ‬ليس‭ ‬لسنّة‭ ‬العراق‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬ولعموم‭ ‬السنّة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬فجّر‭ ‬هواجس‭ ‬أمنية‭ ‬وسياسية‭ ‬إقليمية‭ ‬ودولية‭..‬

وبدا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬ظاهرة‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬ـ‭ ‬اجتماعية‭ ‬طارئة‭ ‬أو‭ ‬عابرة،‭ ‬ولا‭ ‬أفكاره‭ ‬صنعت‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬أرض،‭ ‬وإن‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬بوقع‭ ‬الصاعقة،‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التنظيم‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬السلالة‭ ‬النقيّة‭ ‬للجيل‭ ‬الوهابي‭ ‬المؤسس،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬خطورة‭ ‬ما‭ ‬يدبّر‭ ‬لمستقبل‭ ‬المملكة‭ ‬السعودية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬والمنطقة‭ ‬عموماً‭. ‬

في‭ ‬التداعيات،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬إعلان‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الخلافة‭ ‬الاسلامية‭ ‬في‭ ‬29‭ ‬حزيران‭ (‬يونيو‭) ‬2014‭ ‬،‭ ‬فإن‭ ‬المشروعية‭ ‬الدينية‭ ‬للدولة‭ ‬السعودية‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬خطر‭ ‬جدّي،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الوكيل‭ ‬الحصري‭ ‬للعقيدة‭ ‬الوهابية‭. ‬فإعلان‭ ‬الدولة‭ ‬الاسلامية‭ ‬يشي‭ ‬بنزع‭ ‬المشروعية‭ ‬وجدارة‭ ‬الاستمرار،‭ ‬وإنها،‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬‮«‬داعش‮»‬،‭ ‬أصبحت‭ ‬الوارث‭ ‬الشرعي‭ ‬للوهابية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬السعودية،‭ ‬دون‭ ‬بقية‭ ‬الدول،‭ ‬المستهدف‭ ‬الأول‭ ‬لمشروع‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬بقيادة‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬البغدادي،‭ ‬الذي‭ ‬حقّق،‭ ‬بحسب‭ ‬متبنيات‭ ‬العقيدة‭ ‬الوهابية‭ ‬في‭ ‬ولي‭ ‬الأمر،‭ ‬العنصر‭ ‬المفقود‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬المالكة‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬أي‭ ‬العنصر‭ ‬القرشي،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يُنظَر‭ ‬اليه‭ ‬بكونه‭ ‬شرطاً‭ ‬جوهرياً،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬تيولوجيين‭ ‬إسلاميين‭ (‬ابي‭ ‬الفراء‭ ‬الحنبلي‭ ‬وابن‭ ‬خلدون‭ ‬وابن‭ ‬القيم‭ ‬وغيرهم‭) ‬في‭ ‬الخليفة‭.‬

في‭ ‬لحظة‭ ‬ما،‭ ‬وفي‭ ‬محصّلة‭ ‬أوليّة،‭ ‬أخرج‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬المستور‭ ‬والكامن‭ ‬والمحبوس‭ ‬داخل‭ ‬كثيرين‭ ‬ينتمون‭ ‬للتيار‭ ‬الديني‭ ‬الوهابي‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬السعودية‭. ‬اكتشف‭ ‬هؤلاء‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬السردية‭ ‬الداعشية‭ ‬أنهم‭ ‬أعضاء‭ ‬غير‭ ‬رسميين‭ ‬في‭ ‬التنظيم،‭ ‬وربما‭ ‬رعايا‭ ‬في‭ ‬دولته‭ ‬أيضاً‭. ‬عبّر‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬عن‭ ‬انتمائه‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬طريقته،‭ ‬وبإسلوبه‭ ‬الخاص،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬سيطرة‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬على‭ ‬الموصل‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬حركة‭ ‬تحرير‮»‬‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬تغريدة‭ ‬للشيخ‭ ‬الصحوي‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬فهد‭ ‬العودة،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الخصومه‭ ‬المعلنة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬تنظيمات‭ ‬السلفية‭ ‬الجهادية‭ (‬القاعدة‭ ‬وداعش‭ ‬حصرياً‭)‬،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬مقاتلي‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬أنّهم‭ ‬ثوّار‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬صحيفة‭ (‬الجزيرة‭) ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬السعودية،‭ ‬الرياض،‭ ‬بالرغم‭ ‬مما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬تمايز‭ ‬بين‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬ومجموعات‭ ‬ثورية‭ ‬انتفضت‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬العراقي،‭ ‬فيما‭ ‬راح‭ ‬ناشطون‭ ‬من‭ ‬التيار‭ ‬الديني‭ ‬الوهابي‭ ‬يملأون‭ ‬فضاء‭ (‬تويتر‭) ‬بتغريدات‭ ‬تمجيدية‭ ‬صريحة‭ ‬تارة‭ ‬ومواربة‭ ‬أخرى‭ ‬لارتكابات‭ ‬مقاتلي‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وإدراجها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الثورة‭ ‬الشعبية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الطابع‭ ‬المذهبي‭/‬الطائفي‭ ‬المرافق‭ ‬لها‭ ‬وتصويرها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬منازلة‭ ‬سنيّة‭ ‬ـ‭ ‬شيعيّة‭..‬

وفي‭ ‬يوم‭ ‬الاعلان‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬الاسلامية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الخلافة‮»‬‭ ‬وتتويج‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬البغدادي،‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬عواد‭ ‬البدري‭ ‬خليفة‭ ‬على‭ ‬المسلمين،‭ ‬بادر‭ ‬بعض‭ ‬أتباع‭ ‬المذهب‭ ‬الوهابي‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬السعودية‭ ‬إلى‭ ‬مبايعته،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي،‭ ‬وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬السؤال‭ ‬المفتاحي‭ ‬لفهم‭ ‬علاقة‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬بالمملكة‭ ‬السعودية،‭ ‬وبأتباع‭ ‬المذهب‭ ‬الرسمي‭ ‬فيها‭.‬

عوامل‭ ‬النشأة

لا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬نجاح‭ ‬التنظيم‭ ‬لعب‭ ‬دوراً‭ ‬محورياً‭ ‬في‭ ‬اختراق‭ ‬الوعي‭ ‬الشعبي‭ ‬الوهابي‭ ‬أولاً‭ ‬والاسلامي‭ ‬السنّي‭ ‬ثانياً،‭ ‬ولكن‭ ‬النجاح‭ ‬يأتي‭ ‬كنتيجة‭ ‬لتظافر‭ ‬عوامل‭ ‬تشكّل‭ ‬معقّدة‭ ‬أنتجت‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التنظيم،‭ ‬وتالياً‭ ‬وفّرت‭ ‬أسباب‭ ‬نجاحه‭. ‬وعليه،‭ ‬فإن‭ ‬بناء‭ ‬صورة‭ ‬متكاملة‭ ‬عن‭ ‬التنظيم‭ ‬يتطلب‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬جذور‭ ‬نشأة‭ ‬التنظيم‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬هيئته‭ ‬الراهنة‭. ‬وسوف‭ ‬نستعرض‭ ‬أهم‭ ‬العوامل‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

أولاً‭:‬‭ ‬الحملة‭ ‬الإيمانية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬التسعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بقرار‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬الأسبق‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭. ‬وتزوّدنا‭ ‬مقالة‭ ‬الكاتبة‭ ‬والاعلامية‭ ‬السورية‭ ‬ثناء‭ ‬الإمام‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬والذي‭ ‬نشر‭ ‬قبل‭ ‬شهر‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬الحرب‭ ‬الاميركية‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬آذار‭ (‬مارس‭) ‬2003‭ ‬بمعطيات‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬حول‭ ‬انعكاسات‭ ‬الحملة‭ ‬الإيمانية‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬العراقي‭. ‬سلّطت‭ ‬الإمام‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬انتشار‭ ‬‮«‬ظاهرتي‭ ‬التدين‭ ‬والتسلّح‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬العراقيين‭..‬‮»‬‭. ‬

في‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية،‭ ‬تتحدث‭ ‬الإمام‭ ‬عمّا‭ ‬يشبه‭ ‬الانقلاب‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬السيكولوجية‭ ‬العراقية‭ ‬‮«‬فمن‭ ‬عرفوا‭ ‬بحب‭ ‬الحياة‭ ‬والكحول‭ ‬باتت‭ ‬غالبيتهم‭ ‬متدينة‭ ‬على‭ ‬ايقاع‭ ‬احباطات‭ ‬الفقر‭ ‬وريث‭ ‬الحصار‮»‬‭.  ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أصدرت‭ ‬القيادة‭ ‬العراقية‭ ‬أوامرها‭ ‬ببناء‭ ‬مئات‭ ‬المساجد‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬سقوط‭ ‬النظام،‭ ‬كما‭ ‬صدر‭ ‬قرار‭ ‬رسمي‭ ‬بمنع‭ ‬الكحول‭ ‬في‭ ‬المطاعم‭ ‬والفنادق،‭ ‬وحورب‭ ‬البغاء‭ ‬بصورة‭ ‬رسمية‭ ‬وبقسوة‭ ‬عام‭ ‬2000،‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬انتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحجاب‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬العاصمة‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الحذر‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬التصوير‭ ‬على‭ ‬اطلاقه،‭ ‬فالحياة‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عنها‭ ‬الإمام‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬البيئة‭ ‬الحاضنة‭ ‬للنظام‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬العراقية‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬العراق‭ ‬بمجتمعه‭ ‬المحافظ‭. ‬

تلفت‭ ‬‮«‬ثناء‭ ‬الإمام‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬التجليات‭ ‬الدينية‭ ‬للحملة‭ ‬الايمانية‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬العراقي‭ ‬‮«‬فاالعراقيون‭ ‬مدفوعون‭ ‬باحباطات‭ ‬الحصار‭ ‬لجأوا‭ ‬إلى‭ ‬التدين‭ ‬فعلاً‮»‬‭ ‬وأن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬70‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬منهم‭ ‬باتوا‭ ‬مصلّين‭ ‬وفقاً‭ ‬لاستطلاع‭ ‬أجرته‭ ‬صحيفة‭ ‬‮«‬النهار‮»‬‭ ‬البيروتية‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬وشمل‭ ‬النخب‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭. ‬

أما‭ ‬ظاهرة‭ ‬التسلّح،‭ ‬بحسب‭ ‬‮«‬الإمام‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬وافدة،‭ ‬ولكن‭ ‬الحملة‭ ‬الأميركية‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬‮«‬ساهمت‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬تسليح‭ ‬المواطنين‭ ‬سواء‭ ‬بقرار‭ ‬شخصي‭ ‬أم‭ ‬بتمويل‭ ‬رسمي‮»‬‭. ‬وتسجّل‭ ‬‮«‬الإمام‮»‬‭ ‬مشاهداتها‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬وتقول‭: ‬‮«‬واذا‭ ‬تجوّلت‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬بغداد،‭ ‬تجد‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭ ‬رجلاً‭ ‬يحمل‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬وفي‭ ‬الأخرى‭ ‬لوازم‭ ‬بيته‭ ‬وكأن‭ ‬حمل‭ ‬السلاح‭ ‬ثقافة‭ ‬مسموح‭ ‬بها‭ ‬بل‭ ‬موضع‭ ‬ترحيب‭ ‬هنا‮»‬‭. ‬ونقلت‭ ‬عن‭ ‬مواطن‭ ‬عراقي‭ ‬يعمل‭ ‬حارساً‭ ‬قوله‭ ‬باللهجة‭ ‬العراقية‭ ‬‮«‬ماكو‭ ‬بيت‭ ‬عراقي‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬سلاح‭…‬الكل‭ ‬مسلح‮»‬‭. ‬

تضع‭ ‬‮«‬الإمام‮»‬‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬سياسة‭ ‬العسكرة‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بناء‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬‮«‬جيش‭ ‬القدس‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬سبعة‭ ‬ملايين‭ ‬مسلّحاً‭ ‬لهذا‭ ‬الجيش‭ ‬الذي‭ ‬تأسس‭ ‬عقب‭ ‬انتفاضة‭ ‬الاقصى‭ ‬‮«‬ويضم‭ ‬عناصر‭ ‬بعثية‭ ‬ومتقاعدة‭ ‬ومستقلة‭ ‬والجميع‭ ‬مدربون‭ ‬على‭ ‬السلاح‮»‬‭.‬

تخلص‭ ‬‮«‬الإمام‮»‬‭ ‬من‭ ‬مشاهداتها‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬دقيقة‭ ‬وفي‭ ‬غاية‭ ‬الأهمية‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المشهد‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الظاهرتين‭ ‬ـ‭ ‬التدين‭ ‬والتسلّح‭ ‬ـ‭ ‬يبدو‭ ‬مرعباً‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬سيناريوات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الضربة‭ ‬والوضع‭ ‬الامني‭ ‬الذي‭ ‬ستشهده‭ ‬البلاد‮»‬‭.‬

مفاعيل‭ ‬ظاهرتي‭ ‬التدين‭ ‬والتسلّح‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬بدأت‭ ‬بوتيرة‭ ‬مجنونة،‭ ‬إذ‭ ‬أخذت‭ ‬شكلاً‭ ‬دموياً‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬وخلقت‭ ‬بيئة‭ ‬مؤاتية‭ ‬لتحالفات‭ ‬مجموعات‭ ‬دينية‭ ‬ومسلّحة،‭ ‬وصار‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬التنظيمات‭ ‬السياسية‭ ‬يتم‭ ‬عبر‭ ‬البوابة‭ ‬الدينية،‭ ‬والطائفية‭ ‬بوجه‭ ‬الخصوص‭.  ‬

ثانياً‭:‬‭ ‬التقاء‭ ‬مصالح‭ ‬فلول‭ ‬النظام‭ ‬العراقي‭ ‬السابق،‭ ‬والمشروع‭ ‬القاعدي‭ ‬العابر‭ ‬للحدود،‭ ‬والإحساس‭ ‬المستبد‭ ‬بالخسارة‭ ‬التاريخية‭ ‬للسلطة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأقلية‭ ‬السنيّة‭.‬

فالإحباط‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬سنّة‭ ‬العراق‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬تعرّضوا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬انتكاسة‭ ‬تاريخية‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬وتداعياته‭ ‬اللاحقة‭ ‬دفع‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬لناحية‭ ‬تبني‭ ‬خيارات‭ ‬راديكالية،‭ ‬إذ‭ ‬نجحت‭ ‬خطة‭ ‬الزرقاوي،‭ ‬جزئياً‭ ‬على‭ ‬الأٌقل،‭ ‬في‭ ‬إشعال‭ ‬نزاع‭ ‬طائفي‭ ‬سني‭ ‬شيعي‭ ‬وانعكاسه‭ ‬على‭ ‬أوضاع‭ ‬السنة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬الكبرى‭ ‬والعاصمة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭. ‬فقد‭ ‬هرب‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬العوائل‭ ‬السنيّة‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬بعد‭ ‬انفجار‭ ‬العنف‭ ‬الطائفي‭. ‬وبحسب‭ ‬برقية‭ ‬أميركية‭ ‬في‭ ‬أيلول‭ (‬سبتمبر‭) ‬2007‭ ‬فإن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬أحياء‭ ‬بغداد‭ ‬تسكنها‭ ‬الآن‭ ‬أغلبية‭ ‬شيعية‭ ‬واضحة،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬فشلت‭ ‬فيه‭ ‬الحكومة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬اعتماد‭ ‬سياسة‭ ‬إدماج‭ ‬وطني‭ ‬شامل،‭ ‬وبذلك‭ ‬تمكن‭ ‬داعش‭ ‬‮«‬من‭ ‬استغلال‭ ‬الحس‭ ‬المتنامي‭ ‬بالتغريب‭ ‬والاضطهاد‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬السنة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ . ‬

لا‭ ‬بد‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬إلاشارة‭ ‬إلى‭ ‬الأثر‭ ‬التدميري‭ ‬لمشروع‭ ‬المحاصصة‭ ‬الطائفية‭ ‬الذي‭ ‬اقترحه‭ ‬الحاكم‭ ‬المدني‭ ‬الأميركي‭ ‬بول‭ ‬بريمر‭ ‬والذي‭ ‬أسس‭ ‬لتقسيم‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬دويلات‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬طائفي‭ ‬وقومي‭. ‬وقد‭ ‬خضعت‭ ‬الطبقة‭ ‬السياسية‭ ‬الحاكمة‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الوصفة‮»‬‭ ‬الكارثية‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬العراق،‭ ‬ومزّقت‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وقوّضت‭ ‬أسس‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تكريس‭ ‬النزوع‭ ‬الطائفي‭ ‬التقسيمي،‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬ثم‭ ‬أضفى‭ ‬عليه‭ ‬الاحتلال‭ ‬الاميركي‭ ‬مشروعية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اعتماده‭ ‬كنظام‭ ‬للحكم‭. ‬والأخطر‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬أنه‭ ‬دفع‭ ‬النخبة‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية‭ ‬السنّية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حاكمة‭ ‬قبل‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬9‭ ‬إبريل‭ ‬2003‭ ‬إلى‭ ‬اعتناق‭ ‬خيارات‭ ‬راديكالية‭ ‬والاندماج‭ ‬في‭ ‬تنظيمات‭ ‬سلفية‭ ‬متطرّفة‭ ‬تكفيرية‭ ‬وطائفية‭.‬

في‭ ‬النتائج،‭ ‬أصبح‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬يضم‭ ‬عناصر‭ ‬مسلّحة‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬العراقي،‭ ‬سنيّة‭ ‬بدرجة‭ ‬أساسية،‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬تحت‭ ‬أوامر‭ ‬صدّام‭ ‬حسين‭. ‬يذكر‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬العقيد‭ ‬حجي‭ ‬بكر‭ (‬وإسمه‭ ‬الحقيقي‭ ‬سمير‭ ‬الخليفاوي‭)‬،‭ ‬والعقيد‭ ‬أبو‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬البيلاوي‭ (‬وإسمه‭ ‬الحقيقي‭ ‬عدنان‭ ‬اسماعيل‭ ‬نجم‭)‬،‭ ‬والعميد‭ ‬محمد‭ ‬الندى‭ ‬الجبوري‭ (‬الملقب‭ ‬بالراعي‭)‬،‭ ‬والعميد‭ ‬ابراهيم‭ ‬الجنابي،‭ ‬والعقيد‭ ‬عدنان‭ ‬لطيف‭ ‬السويداوي‭ (‬أبو‭ ‬مهند‭)‬،‭ ‬والعقيد‭ ‬فاضل‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العفري‭ (‬أبو‭ ‬مسلم‭)‬،‭ ‬والعقيد‭ ‬فاضل‭ ‬العيثاوي‭ (‬أبو‭ ‬الياس‭)‬،‭ ‬والعقيد‭ ‬عاصي‭ ‬العبيدي‭ ‬والعقيد‭ ‬مازن‭ ‬نهير‭ ‬والمقدم‭ ‬نبيل‭ ‬عريبي‭ ‬المعيني‭ (‬أبو‭ ‬عفيف‭)‬،‭ ‬والمقدّم‭ ‬محمد‭ ‬محمود‭ ‬الحيالي‭ (‬أبو‭ ‬بلال‭)‬،‭ ‬والمقدّم‭ ‬ميسر‭ ‬علي‭ ‬موسى‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬الجبوري‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬ماريا‭ ‬القحطاني‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬شرعي‭ ‬عام‭ ‬جبهة‭ ‬النصرة‭ ‬‭.‬

وقد‭ ‬عاد‭ ‬هؤلاء‭ ‬وعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الضباط‭ ‬والجنود‭ ‬السنّة‭ ‬بأسلحتهم‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم‭ ‬بلا‭ ‬مصير‭ ‬ولا‭ ‬أفق‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬نتيجة‭ ‬قانون‭ ‬‮«‬اجتثاث‭ ‬البعث‮»‬،‭ ‬والتقى‭ ‬معهم‭ ‬ساخطون‭ ‬من‭ ‬الإسلاميين‭ ‬السنّة‭ ‬العراقيين‭ ‬وكوادر‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬،‭ ‬لينتهي‭ ‬بهم‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬قوة‭ ‬مسلّحة‭ ‬وازنة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشكّلوا‭ ‬القيادة‭ ‬العسكرية‭ ‬لتنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭. ‬وينقل‭ ‬أحد‭ ‬أبناء‭ ‬الضباط‭ ‬البعثيين‭ ‬قصة‭ ‬انتقال‭ ‬والده‭ ‬الى‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬بما‭ ‬نصّه‭:‬

‮«‬والدي‭ ‬هو‭ ‬برتبة‭ ‬لواء‭ ‬ركن‭ ‬قوات‭ ‬خاصة‭ ‬وكان‭ ‬يعمل‭ ‬مدرباً‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬انتمى‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬منذ‭ ‬7‭ ‬سنوات‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬الموصل،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متديناً‭ ‬كباقي‭ ‬زملائه‭ ‬الضباط‭ ‬الذين‭ ‬يدرِّبون‭ ‬معه‭ ‬تنظيم‭ ‬الدولة،‭ ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬سقط‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬تفرّغ‭ ‬والدي‭ ‬لقراءة‭ ‬الكتب‭ ‬الدينية‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬وتأثرنا‭ ‬جميعاً‭ ‬بممارسات‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬الطائفية‭ ‬ليتغير‭ ‬منهجه‭ ‬من‭ ‬قومي‭ ‬وعلماني‭ ‬إلى‭ ‬سلفي‭ ‬وأصولي‭. ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬سبقه‭ ‬بعض‭ ‬أصدقائه‭ ‬الضباط‭ ‬باﻻنضمام‭ ‬للتنظيم‭ ‬مما‭ ‬شجعه‭ ‬على‭ ‬ذلك‮»‬‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬تلفت‭ ‬إليه‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬ضباط‭ ‬وعناصر‭  ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬تحوّلوا‭ ‬إلى‭ ‬التدين‭ ‬باتجاهه‭ ‬السلفي،‭ ‬كونهم‭ ‬وجدوا‭ ‬فيه‭ ‬ملاذاً‭ ‬آمناً‭ ‬ومخرجاً‭ ‬لأزمة‭ ‬الهوية،‭ ‬والدور،‭ ‬والمصير‭ ‬الذي‭ ‬عانوا‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭.‬

وبرغم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬احتمالية‭ ‬الصدام‭ ‬بين‭ ‬أنصار‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬والاسلاميين‭ ‬المحليين‭ ‬والاجانب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬نجح،‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يطمس‭ ‬الخلفيات‭ ‬الفكرية‭ ‬لقادته‭ ‬الكبار،‭ ‬وأن‭ ‬يتظاهر‭ ‬بعضهم‭ ‬بالتحوّل‭ ‬نحو‭ ‬الاسلام‭ ‬السلفي‭ ‬لتحقيق‭ ‬التوافق‭ ‬التنظيمي‭ ‬والانسجام‭ ‬الفكري‭ ‬داخل‭ ‬التنظيم‭. ‬يعيد‭ ‬هذا‭ ‬الإجراء‭ ‬الماكر‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬الخلاف‭ ‬الذي‭ ‬نشب‭ ‬حول‭ ‬مسيحية‭ ‬قائد‭ ‬حزب‭ ‬البعث،‭ ‬ميشيل‭ ‬عفلق،‭ ‬إذ‭ ‬جرت‭ ‬معالجة‭ ‬الخلاف‭ ‬بدعوى‭ ‬تحوّله‭ ‬إلى‭ ‬الاسلام،‭ ‬وكتابته‭ ‬عن‭ ‬الاسلام‭ ‬وعروبة‭ ‬الرسول‭ ‬محمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وآله‭ ‬بطريقة‭ ‬تمجيدية‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬ترض‭ ‬الإسلاميين‭ ‬الأمميين‭..‬وحديث‭ ‬عفلق‭ ‬عن‭ ‬البعث‭ ‬السنيّ‭ ‬بطريقة‭ ‬مواربة‭. ‬

ثالثاً‭:‬‭ ‬فشل‭ ‬الدول‭ ‬السنيّة‭ ‬وكذلك‭ ‬جماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السنّي‭ ‬بصورة‭ ‬عامة،‭ ‬وفي‭ ‬المجال‭ ‬السلفّي‭ ‬الوهابي‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬‮«‬نموذج‮»‬‭ ‬يعوّض‭ ‬الخسارة‭ ‬المعنوية‭ ‬التي‭ ‬تكبّدها‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود،‭ ‬وينسحب‭ ‬الفشل‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬اختراق‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تواجد‭ ‬فيها‭. ‬

رابعاً‭:‬‭ ‬الخطاب‭ ‬الجهادي‭ ‬الوهابي‭ ‬الجاذب‭ ‬لجماعات‭ ‬عديدة‭ ‬كانت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬تعويضي‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬دينية‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬مرجعية‭ ‬محدّدة‭ ‬ينتج‭ ‬فيها‭ ‬هويته،‭ ‬ورؤيته،‭ ‬ودوره‭. ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يشكّك‭ ‬في‭ ‬إخلاص‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬للعقيدة‭ ‬الوهابية‭ ‬الأصلية‭ ‬وتجسيده‭ ‬لتعاليمها‭..‬مع‭ ‬اندلاع‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬‭ ‬و«داعش‮»‬‭ ‬وخروجه‭ ‬للعلن،‭ ‬تكشّفت‭ ‬حقيقة‭ ‬الجذور‭ ‬الفكرية‭ ‬لكل‭ ‬منهما،‭ ‬وتبيّن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬هو‭ ‬تنظيم‭ ‬سلفي‭ ‬وهابي‭ ‬خالص،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬بين‭ ‬صفوفها‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬تلاوين‭ ‬مذهبية‭ ‬سنيّة‭ ‬متنوّعة‭.‬

خامساً‭:‬‭ ‬الضرب‭ ‬في‭ ‬الخواصر‭ ‬الضعيفة‭ ‬والرخوة،‭ ‬ففي‭ ‬العراق‭ ‬لعب‭ ‬على‭ ‬الورقة‭ ‬الطائفية،‭ ‬بوصفها‭ ‬ورقة‭ ‬رابحة‭ ‬في‭ ‬مشرق‭ ‬عربي‭ ‬منقسم‭ ‬على‭ ‬ذاته‭ ‬طائفياً‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬انهيار‭ ‬أسس‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭. ‬عليه،‭ ‬اختار‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬مقاتلة‭ ‬الشيعة‭ ‬وليس‭ ‬القوات‭ ‬الأميركية،‭ ‬ما‭ ‬شجّع‭ ‬حكومات‭ ‬خليجية‭ ‬وكثيراً‭ ‬من‭ ‬المشايخ‭ ‬الوهابيين‭ ‬على‭ ‬دعمه‭ ‬وتمويله‭. ‬وفي‭ ‬سوريا،‭ ‬تمدّد‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭ (‬الرقّة،‭ ‬دير‭ ‬الزور‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭) ‬ودخل‭ ‬في‭ ‬معارك‭ ‬مع‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلّحة‭ ‬المنافسة‭ ‬له‭ ‬مثل‭ (‬جبهة‭ ‬النصرة،‭ ‬والجبهة‭ ‬الاسلامية،‭ ‬والجيش‭ ‬الحر‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭  ‬حماية‭ ‬ظهره،‭ ‬وتمهيد‭ ‬الأرض،‭ ‬وترسيخ‭ ‬الأقدام‭ ‬مقدّمات‭ ‬واجبة‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭. ‬وبخلاف‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتوقّع‭ ‬كثيرون،‭ ‬فإن‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلّحة‭ ‬لم‭ ‬تفقده‭ ‬شعبيته‭ ‬بل‭ ‬ضاعفت‭ ‬من‭ ‬أعداد‭ ‬أنصاره‭ ‬ومقاتليه‭.‬

سادساً‭:‬‭ ‬امتلاك‭ ‬التنظيم‭ ‬لإمكانيات‭ ‬ضخمة‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬التبرعات‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬رسمية‭ ‬أو‭ ‬شعبية‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬خليجية‭ ‬محدّدة‭ (‬السعودية‭ ‬وقطر‭ ‬والكويت‭ ‬والامارات‭) ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬استراتيجية‭ ‬تضم‭ ‬حقول‭ ‬نفط‭ ‬وغاز،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬وضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬أموال‭ ‬الدولة‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬وكذلك‭ ‬فرض‭ ‬الأتاوات‭ ‬بعناوين‭ ‬شتى‭ (‬الزكاة،‭ ‬الجزية‭..‬الخ‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬سيطرته‭ ‬على‭ ‬مخازن‭ ‬سلاح‭ ‬وعتاد‭ ‬بكميات‭ ‬كبيرة‭ ‬ومتطوّرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا‭.‬

سابعاً‭:‬‭ ‬استغلال‭ ‬الانقسامات‭ ‬الداخلية‭ ‬والتناقضات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭. ‬إن‭ ‬وجود‭ ‬انقسامات‭ ‬سياسية‭ ‬ودينية‭ ‬حادّة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬يمدّ‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬‮«‬داعش‮»‬،‭ ‬ويعزّز‭ ‬من‭ ‬شعبيته،‭ ‬وإن‭ ‬صراعاً‭ ‬إقليمياً‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬النفوذ‭ ‬يوفر‭ ‬فرصاً‭ ‬ذهبية‭ ‬للتنظيم‭ ‬لتوظيفه‭ ‬لخدمة‭ ‬أهدافها‭ ‬عبر‭ ‬الانحياز‭ ‬لهذا‭ ‬الطرف‭ ‬وذاك،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تقديم‭ ‬نفسه‭ ‬كقوة‭ ‬مرجّحة‭ ‬لأهداف‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭. ‬ولا‭ ‬ريب،‭ ‬أن‭ ‬النزاعات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭ ‬جرى‭ ‬استغلالها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلّحة‭ ‬عموماً‭ ‬ومن‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬وسمح‭ ‬له‭ ‬بالتمدد‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬وجود‭ ‬أطراف‭ ‬مستعدّة‭ ‬للدعم‭ ‬وتوفير‭ ‬الغطاء‭ ‬والصمت‭ ‬إزاء‭ ‬ارتكابات‭ ‬التنظيم‭. ‬وليتخيّل‭ ‬المرء‭ ‬لو‭ ‬توافقت‭ ‬الدول‭ ‬الإقليمية‭ ‬وبدعم‭ ‬دولي‭ ‬جماعي‭ ‬على‭ ‬إغلاق‭ ‬الحدود‭ ‬ومنافذ‭ ‬العبور‭ ‬والتسلل،‭ ‬وطرق‭ ‬الإمداد‭ ‬حول‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬ماذا‭ ‬ستكون‭ ‬النتيجة؟‭ ‬

ثامناً‭: ‬فشل‭ ‬أم‭ ‬تفشيل‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬الاعتدال‭ ‬السني‮»‬‭ ‬كان‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬ولادة‭  ‬تيارات‭ ‬راديكالية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الاسلامي‭. ‬كان‭ ‬سقوط‭ ‬تجربة‭ ‬حكم‭ ‬‮«‬الاخوان‭ ‬المسلمين‮»‬‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بفعل‭ ‬أرتكابات‭ ‬الجماعة‭ ‬القاتلة‭ ‬يضاف‭ ‬اليها‭ ‬مخطط‭ ‬إعادة‭ ‬انتاج‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬بأموال‭ ‬سعودية‭ ‬إماراتية‭ ‬وتواطؤ‭ ‬من‭ ‬‮«‬العسكر‮»‬‭ ‬أسقط‭ ‬الامكانية‭ ‬النظرية‭ ‬لولادة‭ ‬بديل‭ ‬يمثّل‭ ‬‮«‬الاعتدال‭ ‬السني‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬التكفيريين‭ ‬للانضواء‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬راديكالية‭ ‬وعنفية‭. ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬استيعاب‭ ‬خطر‭ ‬التكفيريين‭ ‬من‭ ‬التنظيمات‭ ‬السلفية‭ ‬سواء‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬واستقطاب‭ ‬الحماس‭ ‬الشعبي‭ ‬السنيّ‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تطوير‭ ‬تجربة‭ ‬حكم‭ ‬دينية‭ ‬ديمقراطية‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السنيّ‭. ‬بكلمة‭ ‬مكثّفة،‭ ‬أفضى‭ ‬انهيار‭ ‬تجربة‭ ‬الاخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬إلى‭ ‬صعود‭ ‬السلفية‭ ‬المتطرّفة،‭ ‬بل‭ ‬وعزّز‭ ‬من‭ ‬جنوح‭ ‬جماعة‭ ‬الاخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬نحو‭ ‬التسلّف‭ ‬والتطرف‭ ‬والعنف،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬شيطنة‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إسلام‭ ‬سياسي‭ ‬سنّي‭.‬

لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إلفات‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬وهي‭: ‬أن‭ ‬صعود‭ ‬السلفية‭ ‬الجهادية‭ ‬في‭ ‬شكلها‭ ‬الدموي‭ ‬ممثلاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬نجاح،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬إحباط‭ ‬واسع‭ ‬يترجم‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الانزياح‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خروج‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭. ‬نتائج‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعية‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬2014‭ ‬وصعود‭ ‬التيار‭ ‬العلماني‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الاسلاموي‭ ‬تشي‭ ‬بتحوّل‭ ‬تدرّجي‭ ‬في‭ ‬المزاج‭ ‬الشعبي‭. ‬فقد‭ ‬بلغ‭ ‬اليأس‭ ‬وانعدام‭ ‬الثقة‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬الاسلاميين‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القبول‭ ‬بعودة‭ ‬‮«‬الفلول‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬رجال‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ولاحقاً‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬وجرت‭ ‬محاولة‭ ‬مماثلة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

تاسعاً‭:‬‭ ‬العامل‭ ‬المذهبي‭. ‬فمن‭ ‬زاوية‭ ‬مذهبية‭ ‬صرفة‭ ‬تلامس‭ ‬عصباً‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الشعبي‭ ‬السني،‭ ‬أن‭ ‬المسلم‭ ‬السنّي‭ ‬شهد‭ ‬هزيمة‭ ‬الدول‭ ‬السنيّة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬نظيره‭ ‬الشيعي‭ ‬يحقق‭ ‬الانجاز‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدولة‭ (‬سقوط‭ ‬الشاه‭ ‬وقيام‭ ‬جمهورية‭ ‬إسلامية‭) ‬بأمواجها‭ ‬الثورية‭ ‬الاقليمية‭ ‬والدولية،‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الحركات‭ (‬حزب‭ ‬الله‭) ‬وكان‭ ‬انتصار‭ ‬تموز‭ (‬يوليو‭) ‬2006‭ ‬على‭ ‬الكيان‭ ‬الاسرائيلي‭ ‬وجيشه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقهر،‭ ‬فجّر‭ ‬أزمة‭ ‬كامنة،‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬الوهابي‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬عبّر‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فتاوى‭ ‬ومقالات‭ ‬ومواقف‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬طائفية‭. ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الاعجاب‭ ‬بالصمود‭ ‬العسكري‭ ‬الذي‭ ‬أظهره‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬المعركة،‭ ‬ولكن‭ ‬الخلفية‭ ‬المذهبية‭ ‬التي‭ ‬تربى‭ ‬عليها‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬جعلتهم‭ ‬يتصرفون‭ ‬بطريقة‭ ‬مناقضة‭. ‬

في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬أن‭ ‬حلم‭ ‬الفرد‭ ‬الوهابي‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الانتصار‭ ‬سنيّاً‭ ‬وليس‭ ‬شيعياً‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يكمن‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬المواقف‭ ‬الراديكالية‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬المشايخ‭ ‬والأتباع،‭ ‬لأن‭ ‬الانتصار‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬شعبية‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬وأمينه‭ ‬العام‭ ‬حسن‭ ‬نصر‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والاسلامي‭. ‬ولذلك،‭ ‬كانت‭ ‬الأزمة‭ ‬السورية‭ ‬بمثابة‭ ‬المكافأة‭ ‬التي‭ ‬انتظرها‭ ‬المجتمع‭ ‬الوهابي‭ ‬طويلاً‭ ‬كي‭ ‬يسحب‭ ‬الرصيد‭ ‬الشعبي‭ ‬من‭ ‬حزب‭ ‬الله‭..‬

كان‭ ‬المأمول‭ ‬من‭ ‬‮«‬الربيع‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬أن‭ ‬يملأ‭ ‬الفراغ‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬السنّي،‭ ‬عبر‭ ‬قيام‭ ‬حكومات‭ ‬شعبية‭ ‬وذات‭ ‬طابع‭ ‬إسلامي‭/‬سنيّ،‭ ‬وكان‭ ‬ينظر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬السنة‭ ‬والغرب‭ ‬عموماً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬جماعة‭ ‬‮«‬الاخوان‭ ‬المسلمين‮»‬‭ ‬بديلاً‭ ‬سنيّاً‭ ‬مرجّحاً‭ ‬لملء‭ ‬الفراغ‭ ‬ذاك،‭ ‬ولكن‭ ‬الأخطاء‭ ‬الفادحة‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬فيها‭ ‬الجماعة‭ ‬ومؤامرات‭ ‬النظام‭ ‬السعودي‭ ‬وأنظمة‭ ‬عربية‭ ‬وخليجية‭ ‬على‭ ‬اسقاط‭ ‬الرئيس‭ ‬الاخواني‭ ‬محمد‭ ‬مرسي‭ ‬وباقي‭ ‬التجارب‭ ‬الاخوانية‭ ‬أوجد‭ ‬فراغاً‭ ‬جديداً‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السنّي،‭ ‬فتحوّل‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬سنيّة،‭ ‬ونجح‭ ‬هو‭ ‬وبسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬في‭ ‬ملء‭ ‬الفراغ‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يحظى‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬بقبول‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السنيّ‭ ‬رغم‭ ‬ارتكاباته‭ ‬الدموية،‭ ‬فالتراكمات‭ ‬السابقة‭ ‬أوصلت‭ ‬إلى‭ ‬خيارات‭ ‬هلاكيّة‭.‬

عاشراً‭:‬‭ ‬انتكاسة‭ ‬خطاب‭ ‬العولمة‭ ‬كأحد‭ ‬تظهيرات‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأميركية‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وعلى‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بوجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬بوصفها‭ ‬مركزاً‭ ‬حيوياً‭ ‬لمصالح‭ ‬الغرب،‭ ‬وتداعيات‭ ‬الانتكاسة‭ ‬على‭ ‬مسائل‭ ‬الهوية،‭ ‬والنزوع‭ ‬المتعاظم‭ ‬نحو‭ ‬الاستقلال،‭ ‬ومقاومة‭ ‬مشاريع‭ ‬الاغتراب‭ ‬الثقافي،‭ ‬والتصدي‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬الهيمنة‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية‭ ‬والاقتصادية‭..‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬ولادة‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬‭ ‬جاءت‭ ‬كرد‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬العسكري‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والخليج‭ ‬عقب‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬1990‭ ‬وماتلاه‭ ‬من‭ ‬اتفاقيات‭ ‬دفاع‭ ‬استراتيجي‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬ثنائي‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ودول‭ ‬الخليج‭ ‬وشملت‭ ‬قواعد‭ ‬عسكرية‭ ‬أميركية‭ ‬دائمة‭ ‬على‭ ‬أراضيها،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬نشأ‭ ‬كرد‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الاحتلال‭ ‬العسكري‭ ‬الأميركي‭ ‬للعراق‭ ‬في‭ ‬إبريل‭ ‬2003‭. ‬

قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬التنظيمات‭ ‬معنيّة‭ ‬بتحقيق‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوطني‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬تفكّر‭ ‬فيها‭ ‬وتعمل‭ ‬عليها‭ ‬حركات‭ ‬التحرّر‭ ‬عبر‭ ‬العالم،‭ ‬ولكن‭ ‬ثمة‭ ‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬تبعث‭ ‬بها‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬‮«‬القاعدة‮»‬‭ ‬و«داعش‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬الدولة‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مبدأ‭ ‬استقلال‭ ‬الدولة،‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الشعوب،‭ ‬وعليه‭ ‬قدّمت‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التنظيمات‭ ‬نفسها‭ ‬كبدائل‭ ‬لملء‭ ‬الفراغ‭ ‬الخطير‭ ‬في‭ ‬الدول،‭ ‬ورسمت‭ ‬لنفسها‭ ‬مساراً‭ ‬محدّداً‭ ‬لجهة‭ ‬بناء‭ ‬كيانات‭ ‬بديلة‭ (‬إمارات‭ ‬دينية‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬أولية‭ ‬ودولة‭ ‬ـ‭ ‬خلافة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬نهائية‭).‬

لقد‭ ‬أمدّت‭ ‬العولمة‭ ‬التنظيمات‭ ‬الجهادية،‭ ‬وتنظيمات‭ ‬أخرى‭ ‬عارضت‭ ‬مشاريع‭ ‬الهيمنة‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وناضلت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬قضايا‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني،‭ ‬بكل‭ ‬أدوات‭ ‬التعبئة‭ ‬والتجنيد‭ ‬والحشد‭ ‬لجهة‭ ‬الانقضاض‭ ‬على‭ ‬خطاب‭ ‬العولمة‭ ‬ومشروعها‭. ‬ولذلك،‭ ‬سعت‭ ‬التنظيمات‭ ‬الى‭ ‬تظهير‭ ‬هويتها‭ ‬عبر‭ ‬أدوات‭ ‬العولمة‭ ‬الاتصالية‭ (‬أدوات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بدرجة‭ ‬أساسية‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬‮«‬استنقاذ‮»‬‭ ‬أفراد‭ ‬خضعوا‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬خطاب‭ ‬العولمة‭ ‬ثم‭ ‬جرى‭ ‬‮«‬تجنيدهم‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬آخر‭ ‬لتجربة‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الحنين‭ ‬الماضوي‭ (‬نوستالجيا‭)‬‮»‬‭.‬

في‭ ‬النتائج،‭ ‬تحوّل‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬المنقذ‮»‬‭ ‬و«المخلّص‮»‬‭:‬

أولاً‭:‬‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬ناضلوا‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المجال‭ ‬السني‭ ‬لإعادة‭ ‬إحياء‭ ‬الهوية‭ ‬الممزقة‭ ‬نتيجة‭ ‬تشابك‭ ‬عوامل‭ ‬سياسية‭ ‬وثقافية‭ ‬وعولمية‭ ‬وإمبريالية،‭ ‬واستعادة‭ ‬المبادرة‭ ‬التي‭ ‬سرقت‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬السنيّة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬دول‭ ‬متماهية‭ ‬مع‭ ‬المشروع‭ ‬الغربي،‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬هدم‭ ‬سقف‭ ‬التوقعات‭ ‬المأمولة‭ ‬لدى‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬حين‭ ‬جاءت‭ ‬الفرصة‭ ‬المناسبة،‭ ‬أعني‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭.. ‬

ثانياً‭:‬‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬عملوا‭ ‬داخل‭ ‬المجال‭ ‬الوهابي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ترسيخ‭ ‬المفاهيم‭ ‬الدينية‭ ‬وفق‭ ‬التفسير‭ ‬الوهابي‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬عليه‭ ‬الدولة‭ ‬السعودية،‭ ‬فكان‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬بمثابة‭ ‬الملاذ‭ ‬الآمن‭ ‬لتوقعاتهم‭ ‬المحبطة،‭ ‬وصانع‭ ‬الأحلام‭ ‬الوهابية‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬بالغة‭ ‬الحساسية‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬رهان‮»‬‭ ‬يمكن‭ ‬التعويل‭ ‬عليه،‭ ‬وازداد‭ ‬الرهان‭ ‬رسوخاً‭ ‬لدى‭ ‬المقاتلين‭ ‬السعوديين‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬بعد‭  ‬صدور‭ ‬الأمر‭ ‬الملكي‭ ‬في‭ ‬3‭ ‬شباط‭ (‬فبراير‭) ‬2014‭ ‬بتجريمهم،‭ ‬إذ‭ ‬بات‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬مركز‭ ‬الاستقطاب‭ ‬ومأوى‭ ‬المنبوذين‭ ‬من‭ ‬التنظيمات‭ ‬المسلّحة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬المدعومة‭ ‬من‭ ‬السعودية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلت‭ ‬الأخيرة‭ ‬عنها،‭ ‬ثم‭ ‬تحوّل‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬خيط‭ ‬الأمل‭ ‬الذي‭ ‬يعقده‭ ‬التيار‭ ‬الوهابي‭ ‬العام‭ ‬عليه،‭ ‬لتحقيق‭ ‬الوعد‭ ‬المؤجّل‭. ‬

سوف‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬الرؤى‭ ‬الدينية‭ ‬وتجسيداتها‭ ‬الميدانية‭ ‬لدى‭ ‬‮«‬داعش‮»‬،‭ ‬أنه‭ ‬يمثّل‭ ‬الوراث‭ ‬التاريخي‭ ‬والشرعي‭ ‬لجيل‭ ‬الجهاديين‭ ‬الذي‭ ‬تربى‭ ‬على‭ ‬تعاليم‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب،‭ ‬والمتناسلين‭ ‬منه‭ ‬مثل‭ ‬جيش‭ ‬‮«‬إخوان‭ ‬من‭ ‬طاع‭ ‬الله‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أنشأه‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬بن‭ ‬سعود‭ ‬ثم‭ ‬قضى‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬تحقيق‭ ‬حلمه‭ ‬بإقامة‭ ‬دولة‭ ‬باسمه‭.‬

وفي‭ ‬محاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬جمع‭ ‬مكوّنات‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬مؤسس‭ ‬الوهابية‭ ‬والجيل‭ ‬المؤسس‭ ‬وفهم‭ ‬العلاقة‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬بغاياتها‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬بالتجربة‭ ‬الوهابية،‭ ‬سوف‭ ‬نحاول‭ ‬قراءة‭ ‬أهم‭ ‬المفاصل‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬أرست‭ ‬علاقة‭ ‬متينة‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬جماعة‭ ‬مغلقة‭ ‬تعتصم‭ ‬بأيديولوجية‭ ‬الفتح‭.‬

اقرأ أيضًا: 

الكتاب متوفر على متجر:
نيل وفرات (ورقي والكتروني)
جملون
أمازون