ديوان أبي البحر الشيخ جعفر الخطي

قامت «مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري» بدولة الكويت مشكورة بإصدار الطبعة الأولى لهذا الديوان، وكانت قد طلبت منَّا تحقيقه ليقدّم ضمن إصدارات الدورة الثامنة «دورة علي بن مقرّب العيوني» المقامة في دولة البحرين، في أكتوبر 2002، لتناغم هذا الديوان مع إصدارات تلك الدورة المخصصة تقريباً لمنطقة إقليم البحرين.

وقد مضى ما يقرب من أربعة عشر عاماً على ذلك الإصدار، ونظراً لنفاد نسخه، والطلب الملحّ من قبل الباحثين وقرّاء الأدب لتوفيره؛ رأينا أن نعيد إصداره في طبعته الثانية، عبر مركز أوال للدراسات والتوثيق الذي يحمل بيته الشعري الحميم شعاراً:

     آه وقلّ على أوال تأوهي                        فإذا جننت بها فغير كثير

وتكمن أهمية الديوان في أنه يقدّم صورة متعددة الأبعاد للحياة بكل مفرداتها في فاتحة القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي للمنطقة الشرقية في الجزيرة العربية ـ إقليم البحرين ـ، فضلاً عن تقديمه لمحات عن حياة صاحبه، وصورة للمدن التي زارها، وأقام فيها، ومن بينها، «شيراز» و«إصفهان» وغيرهما.

كما إنّ الديوان يوضح التفاعل العلمي والمثمر الذي كان قائماً في تلك الفترة.

ومما دعانا إلى هذا الإصدار كذلك حرصنا على إعادة الذاكرة لقراءة شعر «أبي البحر» قراءة جديدة لباحثينا.

ووجدنا في شعر هذا الشاعر الصدق والأصالة والإخلاص، والعناية بتحريك الجو الأدبي خاصة في مجال الشعر، والعمل على النهوض به من كبوته ليسير في طريق التقدّم والازدهار والتطوّر، بعد عصور من الانحسار الفكري، والتقهقر الأدبي، الذي درج مؤرخو الأدب على تسميته بعصر الجمود والانحطاط.

وكانت البحرين تعيش منذ القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي بوادر نهضة علمية أخذت في التنامي والتطوّر حتى غدت أحد المراكز العلمية والفكرية في المنطقة ذات الطابع الديني التقليدي.

وترعرع «الخطي» في فضاء ثقافي تبرز فيه الكثير من الظواهر الإيجابية والمشرقة التي تتكئ على خلفية مرجعية تراثية كبيرة، وهذا الاستناد على تلك الثروة الأدبية خاصة في مجال الشعر أدّى إلى تقوية عود الشعر والخطي خاصة، فغذّى فكره، وصقل موهبته، وأخصب شاعريته، بما أتاحه له من اطلاع على تلك التركة الأدبية المتألقة في عصور الازدهار الأدبي، فأمدته بزخم قوي، ومتانة في اللغة وقوة في الأسلوب، وتسلّح في الرؤية.

وانعكس ذلك على نتاجه الفني فعالج العديد من القضايا العاطفية، والمواقف الاجتماعية ذات الطابع الإنساني الذي انكمش حجمها، وتضاءل عطاؤها لدى شعراء العربية في ذلك العصر.

ولقد عاش الشاعر حياة البؤس والعوز، وضيق ذات اليد، وتنقّل بين القطيف والبحرين وغيرهما. وظلّ عزيز النفس، شديد الاعتزاز بالذات وبكونه شاعراً. ودفعه ذلك إلى شعر المديح وطلب النوال، دون إراقة ماء الوجه، ومن خلال ذلك ومن خلال مواقف الغربة والبعد عن الأهل والوطن برزت الذات الشاعرة في صور متعددة، تعبّر عن عواطف صادقة، وتجارب إنسانية عميقة.

وتمثل محور الذات من خلال المشاعر الخاصة بها في أحوالها المختلفة؛ في حالات الأسى والحزن، وفي حالات الفرح والبهجة، كما تجلّت من خلال الفخر بالنفس، وما يتعلّق بها من أخلاق وقيم، وما أنتجته من شعر.

كما تجلّت الذات الشاعرة من خلال عواطفها تجاه محيطها؛ ابتداءً من دائرتها الأسرية، وانفتاحاً على محيطها الاجتماعي، وما تضمّه من شرائح متعددة كالأصدقاء، ومن خلال تجاوبها مع مواقف الحياة، كما ظهر الوطن بمفرداته وأبعاده المختلفة من خلال مشاعر التوق والحنين، ومن خلال التغني بجماله، ووصف طبيعته.

واقتضى ذلك تقسيم الديوان إلى قسمين: القسم الأول وهو عبارة عن دراسة شبه نظرية لشعر الخطّي، كما عرضنا لعصره في جوانبه السياسية والثقافية، وألقينا ضوءاً على مسيرته؛ فعرضنا لاسمه، ونسبه، ومراحل حياته بما فيها مرحلة القطيف ثم مرحلة البحرين، ثم التنقل والأسفار، وأخيراً إلقاء عصا الترحال بوفاته في «شيراز».

ونظرنا في نتاجه الأدبي، وقدّمنا قراءات في شعره؛ بدأناها بقراءة «الغنوي» راوية الخطي، تلتها قراءة الشاعر نفسه وما أبداه من آراء في مفهوم الشعر وأغراضه، وعوامل جودته والتي لها علاقة بالموهبة الحقيقية، كما إن تلك الجودة لا تتعلق بالقديم والجديد، في نظره وإنما بنوعية ذلك الشعر، وهو لا يرى أفضلية القدماء على المحدثين، ولا يرضى بتزييف الشعر أو التطفل على حياضه. كما بيّن ضرورة الانعتاق من أسر القدماء، مع رغبة ملحّة في التجديد هذا مع الاعتزاز بذلك التراث الشعري، وكثيراً ما كان يشير إلى فحول شعراء العربية من جاهليين وإسلاميين وأمويين وعباسيين بقدر كبير من الإرشاد والإعجاب.

كما قدّمنا قراءة لمعاصري الخطي ومن تلاهم حتى العصر الحديث، ويأتي على رأسهم «ابن معصوم» في كتابه «سلافة العصر»، تلتها قراءة «الحرّ العاملي» في كتابه «أمل الآمل»، ثم قراءة محمد أمين فضل الله المحبي في كتابيه «خلاصة الأثر»، و«نفحة الريحانة»، ثم قراءة الشيخ يوسف بن أحمد البحراني في كشكوله، وبلغت عدد القراءات ثماني عشرة قراءة، آخرها قراءة تقي البحارنة وعنوانها « أبو البحر جعفر بن محمد الخطي».

ختمنا تلك المقدمة بالحديث عن الديوان ومخطوطاته، ومصادر التحقيق الأساسية والمساعدة، وأبوابه، وطبيعة عملنا في تحقيق الديوان.

أما القسم الثاني وهو الرئيسي فعرضنا فيه أبواب الديوان وأقسامه وما حوته من أغراض شعرية كما وردت في المصادر المعتمدة، وما تضمنه من مديح ورثاء وغزل وحنين ووصف وهزل ومواعظ، ومن كتب ورسائل وأغراض أخرى فرعية كالاعتذار والعتاب، وقمنا بتفسير المفردات الغريبة فقط كي لا نثقل الديوان.

وألحقنا ذلك بفهارس للقوافي وأخرى للتراجم الواردة في متن الديوان، وفهارس للأعلام الواردة عرضاً، وفهارس للأماكن.

لقد كنّا مُحقِقَين اثنين، تعاونّا في تحقيق الديوان، وحلّ ما اعتاص من أموره في وقت قصير نسبياً.

والآن، وفي هذه الطبعة الثانية التي تصدر، وأنا أفتقد وجوده الحميم في حياتي، فقد رحل رفيق دربي وشريك حياتي وألق وجودي إلى عالم الخلود، وآثر جوار ربه الكريم، الدكتور عبد الجليل منصور العريض ـ رحمه الله وأسكنه واسع جنانه ـ فأستأذنه في القيام وحدي بعبء النشر والتصحيح، وأستسمحه عذراً ـ وكذلك القارئ الكريم ـ على أية أخطاء ترد، فهي خارجة عن إرادتي، فأنا ما زلتُ أعيش هول فاجعة رحيله المبكر، وغيابه المفاجئ، وقمت بهذا العمل وسط أجواء نفسية مليئة بالأسى والحزن والكآبة ووحشة الغياب، لكن لا بدّ من السير ومواصلة الطريق، وفاءً وعهداً.

أعتذر ثانية، ولتنعم بوجودك في ملكوت الخلود، وفي عالم الصفاء والنقاء الذي تؤثره.

الكتاب متوفر على متجر:
نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
أمازون