عن صراع الجماعات

عن صراع الجماعات في البحرين والخليج

يُظهر التحليل الاختباري الذي أجراه الباحث على عينة تمثيلية وطنية من 500 منزل عشوائي، أن الآراء السياسية وسلوك البحرينيين العاديين لا تُحدد استناداً إلى الاعتبارات المادية، بل إلى الموقف المُحدد مذهبياً للفرد كعضو في المجموعة السياسية.

  قراءة: عزيزة السبيني*

  يستقرئ الكاتب جستن غينفلر في كتابه “صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج” الصادر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، المشهد السياسي في البحرين منذ الإصلاحات البريطانية في عشرينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة.وكان جستن قد قدم إلى البحرين في العام 2009، لإجراء دراسة ميدانية حول الصراع بين الجماعات، ودراسة مكونات المجتمع البحريني.بداية، أنشأ جستن مدونة دوّن فيها مقالات وملاحظات حول الوضع السياسي والاقتصادي في دول الخليج عموماً، ومملكة البحرين على وجه الخصوص، حيث باتت – أي المدونة جزءاً من تاريخ انتفاضة 14 شباط/ فبراير2011. ثم بدأ عمله الأكاديمي الذي كان نتاجه الكتاب الذي نقوم بمراجعته. والكتاب ليس العمل الأحدث بين أعمال العلوم السياسية والاجتماعية المتخصصة في البحرين، لكنه الأكثر جرأة في استقصاء وتفسير الواقع المتأزم في البحرين ودول الخليج، بانقلابه على نظرية الدولة الريعية، التي ظلّت تسود هذا الفهم على مدى أكثر من ثلاثين عاماً.
البحرين: أول دولة في مرحلة ما بعد النفط
يبدأ الكتاب بمقدمة تاريخية حول اكتشاف النفط والغاز في البحرين، وحول إمكانية نفاده، الأمر الذي استدعى البحث عن موارد أخرى لتحقيق التوازن الاقتصادي، وبقدر ما تخالف البحرين وصفها كدولة ريعية، ليس على أساس افتقارها للموارد، بل لعدم قدرتها – ومنذ فترة طويلة – على تحويل هذه الموارد إلى نتاج يستفاد منه اجتماعياً وسياسياً. كما لم يدم فيها طويلاً أفق الثروة النفطية اللامحدودة، كذلك لم يدم أفق الانسجام الاجتماعي المتولّد عن مدّ اقتصادي متنامٍ، وعدم الانسجام هذا أدى –حسب المؤلف- إلى انتفاضة الرابع عشر من شباط/ فبراير 2011، التي شكّلت إطاراً يمكن من خلاله رؤية الحلقة الأخيرة من تاريخ سياسي مضطرب.وبالرغم من تركيز المؤلف الأولي على مملكة البحرين، إلا أنه يسعى إلى دراسة فئة أكبر من الحالات التي لا يشكّل فيها هذا الأرخبيل الصغير في المياه الضحلة في السعودية إلا أفضل مثال معاصر.هذه الفئة يطلق عليها المؤلف اسم الدولة الريعية الفاشلة، (دولة ثرية ذات مستويات تاريخية من حيث إيرادات الموارد، لكنها غير قادرة على شراء الإذعان السياسي لمواطنيها).ويُظهر التحليل الاختباري الذي أجراه جستن على عينة تمثيلية وطنية من 500 منزل عشوائي، أن الآراء السياسية وسلوك البحرينيين العاديين لا تُحدد استناداً إلى الاعتبارات المادية، بل إلى الموقف المُحدد مذهبياً للفرد كعضو في المجموعة السياسية الداخلية أو الخارجية. بل أكثر من ذلك، هو يكشف كيف أن الأرباح المادية التي تجمعها الدول الريعية لا توزع بطريقة محادية سياسياً، بل تهدف بشكل رئيس إلى مكافأة الموالين-كما يُظهر السجل المعاصر للسياسة في الخليج- ومملكة البحرين ليست الدولة الخليجية الوحيدة التي تشهد على مايبدو انهياراً لانفاق الثروة مقابل الإذعان المفترض تطبيقه في المجتمعات الريعية، بل في عموم دول الخليج العربي ولكن بنسب متفاوتة.
التعبئة السياسية على أساس الجماعات في البحرين ودول الخليج 
قسّم جستن غينلفر كتابه إلى ستة فصول، اختلفت فيها المحاور التي ناقشها لكنها تصب جميعها في الإطار المفاهيمي للجماعات المكوّنة للمجتمع البحريني، ومفهوم الدولة الريعية.تحدث في الفصل الأول عن التعبئة السياسية على مستوى الجماعات في الدول العربية الخليجية، متحدياً أربعة عقود من الحكمة الواردة عن نظرية الدولة الريعية، وقدم حججاً على دور المؤسسات السياسية والاقتصادية التي لا تساهم في منع التنسيق السياسي الشامل، بل تفضل أنواعاً محددة من التعاون السياسي الجماعي، وهو التعاون القائم على أساس الانتماء العرقي أو الديني، أو القبلي، أو حتى الإقليمي، وهو ما يضع سياستها في إطار (المجموعة المنسوبة)، التي لا تتنافس فقط في الحصول على مخصصات إضافية من أرباح الدولة، بل تتنافس للسيطرة على النظام السياسي.وفي هذا السياق يطرح غينفلر السؤال الذي يؤرق حكام المجتمعات الريعية، وهو كيفية تحقيق التوازن الأمثل بين الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وبمعنى أدق، كيف يمكن تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستمتاع الخاص والتصرف الحر بالثروة المتأتية مباشرة من الموارد، والتحرر من المساءلة الشعبية عبر الإرضاء الاقتصادي من خلال التوزيع.ومن الحلول المختلفة لهذه المعضلة الريعية، استراتيجية التجزئة السياسية، التي تكافئ فيها الدولة، طبقة من المواطنين المؤيدين، وتستثني على نحو غير متناسب الطبقات الأخرى. وبهذه الطريقة، لا تبدد الفوائد الريعية، لكنها تركز على دائرة محدودة، وهي الدائرة الداعمة لضمان استمرارية النظام، وهذا ما يعزز النزاع داخل المجتمع، بين السنة والشيعة، أو بين التشكيلات القبلية، أو غير ذلك من التجمعات الاجتماعية الأخرى. وهنا ذهبت الأسر الحاكمة في الخليج إلى أساليب مختلفة لتضخيم الفروق بين هذه الجماعات، وتمثّل مملكة البحرين النموذج الأمثل لاستمرارية التقسيم المجتمعي الموجه.
 الفاتح والمفتوح: العلاقات السنية- الشيعية في البحرين
يقدم الكاتب في الفصل الثاني لمحة تاريخية عن أرخبيل البحرين المكون من 33 جزيرة، والواقع على بعد 15 ميلاً من الساحل الشرقي للسعودية في الخليج، وهو بحسب المؤلف، الموقع المثالي لدراسة التأثير المدمر للتعبئة السياسية على أساس الجماعات، وعلى العمل الاعتيادي للدولة الريعية. كما يتناول بالتفصيل كيف وصل آل خليفة إلى الحكم، بالاعتماد على كتاب فؤاد خوري (القبيلة والدولة في البحرين)، ومذكرات (تشالز بلغريف) وهو ضابط الانتداب البريطاني الذي شغل منصب المستشار الشخصي لحاكم البحرين بين عامي (1926-1957).وبرغم عدم وجود ما يمكن اعتباره هجوماً مباشراً على آل خليفة في الكتابين المذكورين، إلا أنهما ممنوعان من التداول بسبب تعارضهما مع الرواية الرسمية لتاريخ البحرين والتي عمل النظام بقوة على ترسيخها، وحجب تفاصيل تاريخ البحرين ما قبل النفط، من أجل إعادة صياغة هوية الدولة بعيداً عن جذورها الشيعية، وهذا ما يفسّر ظاهرة (التجنيس السياسي) للسنة العرب وغير العرب، التي تساهم في القضاء على الأغلبية الديمغرافية التي يمثلها البحارنة، الأمر الذي  سينعكس على تاريخ البلد وهويته الثقافية، وأسس المواطنة، وشروط الخدمة في الحكومة والأجهزة العسكرية.وقد التقى الباحث جستن من أجل دعم دراسته البحثية عشرة زعماء سياسيين ورجال دين بحرينيين، أربعة منهم يقضون حالياً مدة حكمهم في السجن على خلفية أدوارهم في انتفاضة الرابع عشر من شباط منهم (سامي قمبر، وعيسى أبو الفتح، خليل المرزوق، عبد الهادي الخواجة، وغيرهم…)، وتوصل في بحثه إلى تحديد التصور المعياري للعلاقات بين المواطن والدولة بطريقة منهجية، وهي أن حالة البحرين تعطي الحق في التشكيك بفكرة مفادها أن فرض الضرائب والمطالبة بالتمثيل السياسي يجب أن يكونا متلازمين في الممالك العربية على طريقة الاقتصاد التأسيسي في أوروبا في القرن الثامن عشر!.
 الدين والسياسة في البحرين
يتناول المؤلف في الفصل الثالث التقسيم الطائفي في البحرين بين السنة والشيعة، وهذا التقسيم يبدو واضحاً في الممارسات اليومية لكل طائفة، وكذلك في الاحتفالات الدينية، وخاصة، عند الطائفة الشيعية في ذكرى عاشوراء، لكن هذا التقسيم ليس مقتصراً على الناحية الدينية، بل يطال الجانب السياسي الذي عجزت فيه البحرين عن إيجاد تعاون سياسي بين الطائفتين، وفي الوقت نفسه، استهدفت الداعين إلى تحرك مشترك من أجل معالجة المظالم المشتركة، كالفساد واستغلال الأراضي ونقص المساكن، والتجنيس غير المقبول وانعدام المساءلة السياسية.وقد حدد المؤلف سببين للنزوع إلى السياسة في الدولة الخليجية يتخطيان الاقتصاد، وهما: التنافس في المجموعة النسبية (مسألة كيفية وجوب تقسيم الأشياء داخل المجتمع بين السنة والشيعة)، والدين بحد ذاته في مسألتين، الأولى: في تاريخ الإسلام الفعلي والخلافة المتنازع عليها، والثانية: وضع الدين في خدمة السياسة.
 الدلالات المنهجية لاختيار البحرين موضوع البحث
يحدد المؤلف في الفصل الرابع أسباب اختياره البحرين، لتكون أرضية اختبار تجريبي لدراسة صراع الجماعات في الدولة الريعية، فالبحرين تمثل للمؤلف حالة فريدة وفقاً لمستوى الانقسام الجماعي الذي بدأ بالانتشار سواء بشكل خارجي نتيجة لمصادقة تاريخية، أو بشكل ذاتي النشوء كنتيجة لعوامل تخصيصية استثنائية، تاريخية على وجه الخصوص (سكان شيعة، وقبائل سنية)، شارحاً بالتفصيل طريقة المسح الفعلي، الذي قدم من خلاله أول صورة مباشرة موثوق بها للديموغرافيات الطائفية في البحرين منذ مسحها في العام 1941.وفي الفصل الخامس يبدأ بدراسة أنماط توفير السلع العامة والخاصة، وتحديداً فيما يتعلق بالتوظيف الحكومي، كما أنه يقيّم الأدوار النسبية للاقتصاد في مقابل ديناميات الجماعة في تحديد التوجهات والسلوك السياسي. وفي هذا الإطار يستخدم بيانات المسح على المستوى الفردي لاختبار مواقف المواطنين تجاه الدولة، كذلك تصرفاتهم السياسية إن كانت موالية لها أو ضدها، وهذا كله ينضوي بشكل أساسي تحت مستوى الرضا المادي، بحسب فرضية الدولة الريعية، أو أنها تتأثر بالانتماءات والتوجهات الدينية والطائفية.في الفصل السادس والأخير، يدعو الباحث إلى ضرورة مراجعة الإطار الموجود للدولة الريعية في البحرين، ويرى أن المنافع المادية لا تستخدم لشراء أنصار سياسيين جدد بل لمكافأة الأنصار الموجودين- وبحسب قوله فإن “الإذعان السياسي المتزايد على المستوى الفردي هو بالتالي سبب رئيسي للحصول على مكافآت اقتصادية أكبر من الدولة، وليس نتيجة لذلك، كما يرى منظرو الريعية”.إن غرابة المشهد السياسي في البحرين، وتعقيداته، وتركيبته الديموغرافية، هي التي جذبت المؤلف للقيام ببحثه الميداني، مقدماً من خلاله أدلة عملية وإطاراً نظرياً جديداً لفهم مواقف المواطنين العاديين الذين يشكّلون المجتمع البحريني. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن تطبيق دراسات هذا البحث الميداني على أي دولة ريعية، في حال توافرت فيها ظروف مماثلة للانقسام السياسي؟.

عن الكاتب