ما بعد الشيوخ

ما بعد الشيوخ .. تحوّلات ديمقراطية في دول الخليج؟

 

بخلاف ما قد يشي به عنوان الكتاب، لا يقصد المؤلف حدوث ثورات في الممالك الخليجية، أو اختفاء الأنظمة الحالية كلياً، وإنما انهيار شكل الحكم فيها، العشيري المطلق، وحلول نظم ديمقراطية على الطراز الغربي مكانها.

قراءة: نور بكري*

 قد يبدو الحديث عن سقوط نظام خليجي أو انهيار الحكم في ممالك الشيوخ خلال عامين، أشبه بضرب من التنبؤ، على بعد أيام من حلول سنة جديدة، ولكن أستاذ التاريخ والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، كريستوفر ديفيدسون، يحرص في مقدمة كتابه “ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية” (مركز أول للدراسات، الطبعة الرابعة، 2015)، على التّأكيد أنه لا يهدف إلى تأدية دور كرة بلورية تتنبأ بالمستقبل.

ديفيدسون، وهو متخصّص في دراسات الشرق الأوسط في جامعة درهام في المملكة المتّحدة، يرصد العام 2018 موعداً لانهيار الممالك الخليجية، ويبدو على يقين من حدوث تغييرات مهمة جداً فيها. وبعد حوالى 4 سنوات على الإصدار الأول لكتابه باللغة الإنكليزية، يوضح أن الكثير من المتغيرات حصلت في البلاد العربية في أعقاب ما سمّي بـ”الربيع العربي”، ولكنه يؤكد أن الكثير من النقاشات التي طرحها في بداية العام 2013 أثبتت اليوم صحتها.

انخفاض أسعار النفط، وأزمات الائتمان، والتلاعب بالممتلكات، والحملات الإرهابية والطائفية المتفشية، كلها أحداث ساهمت في تعزيز رؤيته، ومنحته القوة الداعمة لإنهاء مخطوطته، كما يقول.

لم يكن المؤلّف بعيداً عن أجواء الممالك الخليجية، إذ عاش سنوات في مدينة رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان مهتماً بدراسة سياسة القبائل، والدين الإسلامي، واللّغة العربية. ولعلّ توقعه بالكارثة المالية الاقتصادية الَّتي ضربت مدينة دبي في العام 2009، قبل وقوعها بأشهر عدة، يمنح توقعه الراهن زخماً أكبر، وربما مصداقية لدى جمهور واسع من القراء.

صاحب كتاب “الإمارات العربية المتحدة: دراسة في الاستمرار والبقاء”، أراد من إصداره الأخير إيصال أفكار الكتاب إلى شريحة أكبر وأكثر نقدًا من القراء. ولعله أول عمل أكاديمي يتوقّع انهيار الأنظمة السياسية الملكية في الخليج، ما جعله فعلاً أحد أكثر المؤلّفات البحثية إثارة للجدل في العالم، إذ صنّف على رأس قائمة مجلة “فورين بوليسي” لأفضل 20 كتاباً عن الشرق الأوسط في العام 2012، كما حظي بإقبال عربي واسع، فنفدت جميع نسخه في غضون شهر من إصداره بالعربية، وفي الوقت نفسه، أثار جدلاً واسعاً بعد تساؤل نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، ضاحي خلفان، عن دور المعارضة البحرينية في تمويله، والادعاء أنه مليء بالشتم والسبب والغيرة والحسد.

الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى عن مطبعة “هيرست”، ومن ثم مطبعة جامعة “أكسفورد”، كُتبت عنه الكثير من المراجعات والمقالات في الصحف الدولية والعربية، مثل صحيفة “الإيكونومست”، وصحيفة “الإندبندنت”، و”الغارديان”، واقتُبِسَت بعض أقسام الكتاب، ونشرتها مجلتا “فورين أفيرز” و”فورين بوليسي”، كما جاء في مقدمته.

قد يوحي عنوان الكتاب للقارئ أنه أمام رواية محتملة من وجهة نظر المؤلف عن سقوط الأنظمة الخليجية للدول الست؛ البحرين، السعودية، الإمارات، عمان، قطر، الكويت، على غرار ما حدث في تونس ومصر وليبيا، ولكنّ ديفيدسون يبدو أكثر واقعية في طرحه، حين يشير إلى أنّ مشايخ الخليج قد لا يواجهون مصير معمر القذافي في ليبيا أو حسني مبارك في مصر. صحيح أنه لا يعتقد أن هذه الدول مختلفة بشكل جوهري عن غيرها، لكنه يتحدث هنا عن عامل النفط وعوامل أخرى سمحت بتمدد فترة السقوط المتوقع.

بخلاف ما قد يشي به العنوان المباشر للكتاب، لا يقصد المؤلف حدوث ثورات في الممالك الخليجية، أو اختفاء الأنظمة الحالية كلياً، وإنما انهيار شكل الحكم فيها، العشيري المطلق، وحلول نظم ديمقراطية على الطراز الغربي مكانها، وحصول تحركات لانتخاب رؤساء حكومات، وحصر صلاحيات الشيوخ، كما صرّح في أكثر من مقابلة ومقالة. ففي رأيه، سيتعذّر على مشايخ الخليج الدفاع عن أنظمة حكمهم القائمة منذ سنوات طويلة، ذلك أنهم اشتروا الوقت والمحتجين في غير دولة بأموال النفط، ولكن هذه الأنظمة قد تتفكّك في وقت أقرب مما يعتقد الكثيرون، فالظروف التي كانت الدول العربية تمرّ بها، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، ليست بعيدة اليوم عن الممالك الخليجية، والمال الذي يعد الركيزة الأساس لبقائها، آخذ في النفاد، كما الوقت، ولن تدوم الثروات الهائلة لفترة أطول.

“تنبؤ” ديفيدسون يأتي حاسماً، انطلاقاً من اعتقاده بأنّ النفط والغاز سينضبان لا محالة. وعندها، لن تتمكن دول الخليج من استثمار الأموال في استمالة المواطنين، فالبلاد التي تنتج نحو 19 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي في النفط الخام، ونحو 8 في المئة من الإجمالي العالمي من الغاز الطبيعي، كانت تعتمد على هذين المصدرين في تنمية المسارات الاقتصادية فيها، ثمّ عملت على تنويع قواعدها الاقتصادية، للتخفيف من شدة تعرّضها لتقلبات أسواق النفط الدولية، ولخلق فرص توظيف للكثافة السكانية المتسارعة النمو، وتذليل الضغوطات المتزايدة، كما يقول. ولكن جهودها في هذا السياق، لم تصل غالباً إلى نتيجة، “في ظل اندفاع الممالك الخليجية كافة تقريباً إلى نقطة يتجاوز فيها إنفاق حكوماتها العائدات النفطية المتدنية”.

الإنفاق الحكومي الذي بات حالياً يسبب ضغوطاً على الممالك الخليجية، كان أحد أسباب بقائها حتى اليوم. ففي رأي ديفيدسون، لا يزال توزيع الدولة للثروة يشكل الدعامة الأساسية لبقاء الحكم الملكي، ويرى في هذا السياق أن سخاء هذه الدول الريعية الحديثة، وفّر للأسر الحاكمة والحكومات فيها “شرعية باعثة على السعادة”، مستمدة من الرفاه الاقتصادي وتوفير الرعاية الاجتماعية، ويتأتى معظمها من عائدات الامتيازات النفطية في المنطقة، أو من الإيجارات التي ولّدتها أنشطة ما بعد النفط.

هذا الأسلوب المعتمد لتخدير الشعب، وضمان قدر معيّن من القبول السياسي لديه، يتوقع ديفيدسون أن يترك أثراً عميقاً ونهائياً، بعد أن تفقد معظم الممالك قدرتها على زيادة الرواتب، ويضطر كثير منها إلى خفض المعونات المالية وغيرها، في ظل تراجع احتياطات النفط والغاز، وارتفاع أنماط الاستهلاك المحلي للطاقة فيها، والازدياد السريع في عدد السكان.

كما أن “دول الرفاهية”، وبعد جفاف مصادر التمويل، ستواجه معضلة في استراتيجيتها الخارجية التي تقوم على بناء قدرات دفاعية عسكرية، والإنفاق الكبير على الأسلحة الغربية، وتوزيع بعض الموارد على الدول المجاورة الأقل حظاً على شكل معونات أو أعمال خيرية، وتمويل المتاحف والجامعات والمشاريع الثقافية في الخارج، وغيرها مما يصنفه ضمن السياسات الخارجية المتبعة للحفاظ على البقاء.

وعلى الرغم من مساهمة الاستراتيجيات الداخلية والخارجية المتبعة لكسب الشعبية بين الناس، في استقرار تلك الدول نسبياً، فإن الخبير في شؤون السياسة والتنمية في الممالك الخليجية، يرصد نقاط ضعف عديدة تقوض دعائم الحكم الخليجية، فلا تزال معظم هذه البلاد غير قادرة على مواجهة “البطالة الطوعية” المتفاقمة، بعدما فقدت قدرتها على تحفيز مواطنيها على الحصول على عمل والمساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني.

اجتماعياً، يشير ديفيدسون إلى عوامل عدة قد تطعن في شرعية الممالك لدى مواطنيها، فتنويع القواعد الاقتصادية، دفع البلاد إلى التركيز على المستثمرين الأجانب أو السياح المغتربين، ما ولد إحباطاً واستياءً وسخطاً لدى بعض الفئات الشعبية، الذين باتوا يعتقدون أن الأسر الحاكمة لا تقوم بما يكفي للحفاظ على قيمهم وتقاليدهم الاجتماعية ودينهم، مع بروز مظاهر الاحتفال المبالغ فيه في الاحتفالات غير الإسلامية، وتهميش المناسبات الإسلامية في أحيانٍ كثيرة، والسماح باستيراد الخمور واستهلاكها…

على الصعيد السياسي، يحمّل ديفيدسون غياب أي معنى للأمن الجماعي، أو غياب التعاون الرئيس بين الممالك الخليجية في بعض الحالات، وتفاقم الخلافات فيما بينها، وزراً إضافياً قد يقود إلى تفاقم الفجوات الدبلوماسية، واندلاع العنف، والتدخل في السياسات الداخلية للدول الأخرى، قد يتعداه إلى مرحلة تقوم فيها الدولة بالتحريض على انقلابات عسكرية وتمويلها في محاولة لإعادة هيكلة القوى المجاورة، وفقاً لقوله.

ويعتبر الباحث البريطاني أنّ السياسة التي تنتهجها دول الخليج، في مواجهة المواطنين ومظاهر الاحتجاجات على نظام الحكم، تهدد وجودها وبقاءها، في خضمّ الحملات القمعية واللجوء إلى الاعتقالات السياسية التعسفية في البحرين والكويت، وحتى في الإمارات العربية المتحدة. ويرى أنّ الأكثر خطورة في هذه الفترة، هو استراتيجية تشويه سمعة المعارضة، ذلك أنها تتفاقم، وربما تخرج عن السيطرة، في ظل تحريض كل من البحرين والمملكة العربية السعودية بشكل فاعل على النزاع الطائفي، وتزايد التمييز المذهبي على نطاق واسع، وفرض رقابة إلكترونية صارمة على المواطنين.

تفاصيل كثيرة ومعلومات وحقائق ومراجع استند إليها ديفيدسون في كتابه لدعم حججه، مقدماً صورة عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تربط الممالك الخليجية ببعض الدول الغربية، والعلاقة القائمة بين السلطات والشعب، والبنية الداخلية لهذه البلدان، فنّدها جميعاً في ستة فصولٍ، وضع فيها تصوراً لنشأة هذه الممالك ونموها واستمراريتها، بغية تحديد الضغوطات المعاصرة وإبراز سبب أهميتها في الفترة الحالية، كما يقول، ليخلص إلى نتيجة مفادها أنّ الممالك الخليجية على وشك الانهيار سريعاً، أو على الأقل انهيار معظمها في شكلها الحالي، من دون قدرتها على التعويل على دعم القوى الغربية، التي ستكون “سريعة في تبديل مواقفها والمضي قُدمًا، إذا تطلَّب الأمر ذلك”، ليُترك للشّعوب فرض وقائع مغايرة على الأرض، والمشاركة في تحديد مستقبلها ومصير ثرواتها، والتأسيس لمرحلة “ما بعد الشيوخ”.

*كاتبة لبنانية

رابط الموضوع

عن الكاتب