كتاب التوحش: هل الوحش سني؟

مداخلة على هامش استضافة صالون عصمت الموسوي لكتاب نصوص متوحشة

هامش على كتاب التوحش: هل الوحش سني؟

علي أحمد الديري

 

 لماذا عالجت في كتابك نصوصًا سنيّة؟ ولم تعالج نصوصًا شيعيّة؟

إنّه السّؤال الأكثر إلحاحًا عليّ من قبل القرّاء، منذ أعلنت عن صدور الكتاب، ويبدو أنّه مطروح عليّ أكثر مما هو مطروح على كتابي، وهو يحمل طابعًا شخصيًّا، أو هكذا أتلقاه، وبشكل أكثر وضوحًا، وجدت في السّؤال تهمة، وكأن من يطرح السؤال يتهمني بالطائفية في معالجة خطاب التكفير، هل تريد أن تقول: إن خطاب التكفير خطابًا سنيًّا، وأنّ الشيعة مبرؤون من ظاهرة التكفير؟

سأجيب على السّؤال في نقاط خمس:

النقطة الأولى:

انطلقت في معالجة نصوص التوحش من فرضية تقول: إنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا. لم أنطلق من فرضية أن نصوص التوحش هي نصوص سنية بالضرورة، أو هي نصوص عابرة للمذاهب على قدم المساواة، أو كما نقول اليوم الإرهاب لا دين له ولا مذهب له.

نحن نعرف أن السلطة السياسية العامة في الحضارة الإسلامية كانت سلطة بيد الخليفة الذي يمثل السنة ولا يمثل الشيعة، فظلّ الشيعة يمثلون المعارضة بالنسبة له. كيف واجه الخليفة معارضيه؟ الجواب هو: بإنتاج نصوص تكفرهم وتبيح قتلهم، وهذا الجواب صاغته السلطة السلجوقية صياغة منهجية محكمة عبر المدرسة النظامية وفقهائها، وقد وضع هذه السياسة الوزير (نظام الملك) واعتبر السلاجقة أنفسهم مدافعين عن السنة والإسلام وفق هذه السياسة. هذا هو المعطى التاريخي السياسي، ولا يمكن أن نقفز عليه.

النصوص بناء على الفرضية التي طرحتها تنتمي إلى هذا العالم، أي إلى العالم السني، فالسلاجقة حين جاءوا إلى بغداد استلموا الخلافة العباسية ومثلوها، واعتبروا أنفسهم مدافعين عن الإسلام الذي هو الإسلام السني، لأنه الإسلام العام الذي يمثل عموم الأمة، فالوضع التاريخي يفرض أن يكون النص المتوحش الذي كتب فقهيًّا في حضرة السياسة نصًّا ضد الخصم الذي لا ينتمي إلى هذا العالم السني أو الطائفة السنية، فالموضوع متعلق بمعطى سياسي، أي إنّه وضع سياسي تاريخي موجود وبالتالي عالجته من هذه الناحية.

الفرضية التي انطلقت منها في كتابي فرضية تذهب إلى أن النص المتوحش نص فقهي مُنْتَج سياسيًّا، والمعطى التاريخي الذي اختبرت فيه هذه الفرضية يتعلق بتجربة السلاجقة، لأنّهم قد مثلوا الخلافة العباسية السنية وما تولد عنها فيما بعد من الدولة الزنكية والدولة الأيوبية في مصر وفي القاهرة.

الخلافة أو الأمة التي تتحدث باسم المسلمين في ذلك الوقت، هي خلافة سنية يتحكم فيها السلاجقة الذين لم يكونوا يعرفون العربية ولا يجيدون غير مهارة القتال، مقابلها كان هناك الخلافة الفاطمية بالقاهرة واليمن والشام والقدس، لاتمثل هذه الخلافة عموم الأمة، وهذا ما جعل سياستهم في المواجهة تبتعد عن أدوات التكفير، ليس لديهم نصوص تكفر السني لسبب واقعي، فهم لا يمكنهم أن يكفروا عموم المسلمين، فتلك مسألة غير سياسية وغير عملية.

بحثت لدى فقيه الدولة الفاطمية وهو القاضي النعمان، في كتابه (دعائم الإسلام) وكتابه (أساس التأويل) فلم أجد نصوصًا فقهية تبيح قتل المسلمين المخالفين وذبحهم، وهذا ما وجدته لدى الغزالي وهو فقيه الدولة السلجوقية الذي كتب كتابه (فضائح الباطنية) وكتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) وفي هذين الكتابين نجد نصوصًا متوحشة مرعبة.

 النقطة الثانية:

تتعلق بانطلاقي من مشكلة حديثة، مشكلة معاصرة، وحاولت أن أضع لها إشكالية لفهمها، ألا وهي داعش وأخواتها من التنظيمات والجماعات المتطرفة التي تكفر وتقتل، وهي ظاهرة معاصرة، ومشكلة تجسّد فعل تلك النّصوص.

هذه الجماعات لديها مسميات واضحة وخطاب إعلامي واضح، وخطاب ديني يستخدم نصوصًا تنتمي من الناحية العقائدية إلى المركز، خطابها يقول: إنها تمثل السنة، وإنها تدافع عن السنة، وتنطق باسم السنة، وإنها تريد استعادة الخلافة السنية. أنا أردت أن افهم هؤلاء الذين ينطقون باسم السنة -وإن كانوا لا يمثلون السنة -أردت أن أفهم سياق النصوص التي يمتحون منها ويتأسسون عليها، فذهبت إلى هذه النصوص وفضائها السياسي. كيف لي أن أذهب إلى نصوص شيعية وهم ينطقون باسم نصوص سنية؟! ذهبت إلى نصوص ابن تيمية لأنهم ينطقون باسم هذه النصوص، وذهبت إلى نصوص الغزالي وإن كانوا لا ينطقون باسم الغزالي بصورة مباشرة، لكن النصوص التي أنتجها وصارت ثقافة فقهية عامة، هم يوظفونها وينطقون باسمها ويؤسسون عليها، مثل نصوصه التي تعتبر أن الباطنية مرتدون كفرة يجب على الخليفة قتلهم، وسبي نسائهم، وأخذ أموالهم، وإبطال عقودهم.

المشكلة المعاصرة فرضت عليّ نصوصًا معينة، فهناك نص سياسي صُنّع في السياسة وفي الفقه التراثي، وهذا النص يُولِّد اليوم ظواهر حديثة متطرفة.

خلاصة الفكرة الثانية، أنني أنطلق من مشكلة معاصرة في صياغة إشكالية كتابي (نصوص متوحشة) هي داعش وأخواتها، والإشكالية أن داعش وأخواتها هي وليدة نصوص موجودة في التراث، هذه النصوص ليست من الدين بل متولّدة من السياسية.

 النقطة الثالثة:

هي أنني لا يمكن أن أوسع دائرة البحث بحيث أعوم المشكلة المعاصرة التي أريد تفسيرها، بمعنى أنني لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها الفترات التاريخية كلها، ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها.

هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب الظاهرة، وهو يشبه أن تسأل اليوم رئيس حكومة لبنان: ما سبب مشكلة القمامة لديكم؟ لماذا هي مكدسة في الطرقات العامة؟ فيجيبك: القمامة مشكلة عالمية، وتجد هذه المشكلة في مصر والعراق والهند وو… أو يقول لك: البلاد تعاني من أزمة سياسية ونحن لسنا نعاني من القمامة الحقيقية فقط، فهناك مشكلة القمامة السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. إنها إجابات تصلح للتهرب من السؤال، وأنا لم أشأ أن أجيب في كتابي إجابة تهربية.

لابد من تحديد دائرة البحث كي لا يضيع، فأنا لدي مشكلة معاصرة أريد معرفة جذورها، فلا يجوز أن أعوم المشكلة ضمن مشكلة كبيرة جدا، فلا أجد جوابا لها.

النقطة الرابعة:

كما قلت، السؤال يتضمن في طياته -ولو ضمنيًّا-اتهامًا طائفيًّا، بل إنّ بعضهم قالها صراحة: في معالجتك لنصوص التوحش، كأنك تقول إن التوحش مرتبط بالسنة، وإنك بهذا الكتاب (نصوص التوحش) تعود إلى ما قبل (خارج الطائفة).

حين أستعرض اشتغالاتي المعرفية، أجد أنّني في رسالة الماجستير درست كتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام)، وقدمته كأحد المسهمين في علم تحليل الخطاب، وحين فكرت في المادة المعرفية التي صاغها ابن حزم، لم أكن أفكر في موقفه من الشيعة، ولم أكن أنظر إليه بوصفه عالمًا سنيًّا، بقدر ما قرأته بصفته أحد علماء التراث، لم أشعر أنني بحاجة لعمل توازن طائفي، بحيث أقدم في رسالتي ابن حزم وإلى جانبه عالمًا آخر شيعيًّا، كي أحقق توازنا طائفيا، لم أفكر في هذا أبدًا، لأن الموضوع ليس محاصصة طائفية.

وفي أطروحة الدكتوراه، حين درست مجازات (ابن عربي) بوصفه عالمًا صوفيًّا فريدًا، وفيلسوفًا صاحب تجربة روحية، لم أفكر أن آتي بمتصوف شيعي آخر، لأحقق توازنًا طائفيا، أو أبعد عن نفسي تهمة الانتقاء الطائفي.

حين أختار موضوعي أو بحثي، أحدد مجال الموضوع ونصوصه دون الاستناد إلى قاعدة المحاصصات الطائفية، ما يحدد نصوص الموضوع هي المعرفة، ففي بحثي عن نصوص التوحش حدد موضوعي أبعاد معرفية شرحتها في النقاط السابقة.

 النقطة الخامسة:

هناك نوعان من التكفير كما يقول ابن تيمية، التكفير المطلق والتكفير المعين، الأول تكون فيه فكرتك أو اعتقادك كافرًا، لكنك لست بكافر لأنك لا تقصد أن تقع في الكفر. وفي التكفير المعين، يحكم عليك شخصيا بالكفر، يثبت عليك الكفر وتطبق عليك أحكامه، كما حدث مثلاً مع المفكر (نصر حامد أبو زيد) ومن قبله مع المتصوف (الحلاج) ومع الفيلسوف (السهرودي).

درست في كتابي التكفير المعين، أي التكفير الذي يقود إلى اعتبار الجماعة مرتدين ويجب قتلهم، كما هو الأمر مع الغزالي الذي قال بردّة الفاطميين، وإنّ على الخليفة قتلهم وقتل نسائهم، وكما هو الأمر مع ابن تيمية الذي قال شيعة (كسروان) مرتدون وكتب فيهم رسالة فقهية قادت إلى تشريع ذبحهم وتهجيرهم.

هناك نصوص تكفيرية عند الشيعة، بمعنى التكفير المطلق، مثلا قولهم: من لا يؤمن بكذا فهو كافر، ولكن هذا التكفير لا يترتب عليه تقتيل، أي لا يوجب تقتيلا. التكفير عند الشيعة مجرد تكفير عقائدي، متعلق بالمماحكات العقائدية، وبالحقيقة حاولت أن أبحث عن نصوص تكفيرية تقتيلية في المذهب الشيعي، فلم أجد، لكنّني لا أنفي ذلك بالمطلق، وإذا كان هناك باحث يستطيع أن يجد ذلك فليقم بهذه المهمة، وسيكون قد سدّ نقصًا في بحثي.

عن الكاتب