أم السادة
سيرة معلمة القرآن الحاجة خديجة علي حسن العكري 1942
عائلة العكري
تنتمي أصولي من جهة الأب وجهة الأم إلى عائلة العكري، أبي الحاج علي بن حسن بن منصور بن محمد العكري وأمي الحاجة فاطمة بنت محمد بن منصور بن محمد العكري، جدي الحاج محمد بن منصور العكري كان لديه مجموعة من مصائد السمك (حضور) في سترة.
تفرع عن الجد الأكبر منصور بن محمد العكري المتوفي عام 1865 (تاريخ تقريبي) ولدان هما محمد وحسن، من عائلة محمد جاء خالي منصور (ت 1984)، وأمي فاطمة (ت 1983) وخالاتي: خديجة وسلامة ومريم، ومدينة (ت 1949)، وعليا (ت 2006) ورضية. ومن عائلة حسن جاء أبي وعمومي: عبدالله ومكي وعلي (1989)، وعبدالحسين (ت 1944) وحسن (ت 1979).
كان عمي الحاج حسن قد اشتغل في بيع الأراضي في بداية حياته، ثم أخذ يتاجر في النامليت، يأخذهم للبصرة لإعادة تدويرهم، وحين سافرت مع أبي للعراق، قال لي حين نزلنا في ميناء البصرة، انظري هنا يعمل عمك، كنت متعلقة بعمي، أستقبله من بعيدا بالجري إليه، ترك حسرة في قلبي يوم نام ولم يستيقظ (ت 1979).
أما عمي الآخر، فهو الحاج عبدالحسين حسن منصور العكري، فقد فجعني وأنا صغيرة، كنت للتو خارجة من المعلم، شاهدت والدي يبكي بحرقة والناس تمسك به وهو في حال انهيار، قيل لي إن عمك توفي في عز قوته وهو ابن الأربعين عامًا. كان عمي قوي البنية، يقطع على حمارتيه قريته الديه مارًا بتوبلي متجهًا إلى بحر قرية العكر، هناك (يباري) حظور العائلة بعد وفاة عمه حجي محمد بن منصور العكري، يعود محملاً حمارتيه بخيرات البحر ويبيعها في القرية.
أكن محبة خاصة إلى خالي منصور ]جد المهندس عبدالنبي العكري[، فهو من اشترى لي أول كتاب في حياتي، وهو كتاب ملا عطية، تأثرت كثيرًا بشخصيته، لا أعرف أين تعلم الكتابة، لكني رأيته يكتب اللطميات ويؤديها في القرى والمنامة. يقطع القصبة ويغمسها في الحبر، أتابع حركته وهو يلصق الحرف بالحرف ليخلق الكلمات، كان لديه خزانة لكتبه، أحببتها وصنعت مثلها لي.
عبر ابنة خالي الحاج منصور، توطدت العلاقة العائلية بين عائلة العكري وعائلة مطر، تزوجت فاطمة (ت 2007) ابنته من الحاج إبراهيم علي مطر (ت 2000)، وتزوج ابن خالي الملا الأستاذ حسن (ت 2015) من مكية علي مطر (ت 1977).
كان الحاج أبوعلي مطر معروفا بقلبه العطوف على أبناء القرية وحريص على حل الخلافات وتقديم المساعدات، عاش يتيمًا وربته عمته، عرف مرارة اليتم منذ كان عمره عشر سنوات، فوطّن قلبه ليكون أبًا للجميع.
الحاج إبراهيم علي مطر (ت 2000)
تزوج فاطمة بنت منصور العكري، كان الحاج أبو علي معروفا بقلبه العطوف
على أبناء القرية وتقديمه للمساعدات وبناء المؤسسات الدينية.
بدأ حياته عاملاً في المزارع، لكنه ببصيرته عرف كيف يصبح مالكًا لها، عمر أراضي كثيرة كادت تموت، وبنى مشاريع، وفتح للناس فيها باب رزق للعمل والكد، فنمت بين يديه خيرات كثيرة، أفاض بها على الجميع.
كان بيت مطر مقابل لبيتنا، وأبناء فاطمة ظلوا يلعبون في بيتنا: علي مهدي وخليل وحميد. أتذكر الليالي الساحرة التي كنا نحسب فيها النجوم ونحكي الحكايات الجميلة ونتبادل أخبار القرية قبل أن ننام في ليالي الصيف فوق أسطح بيوتنا المتقاربة.
قبل وفاة الحاج إبراهيم مطر بأيام، أخذت أولادي لزيارته، أردتهم أن يكونوا شاهدين على حياة هذا الرجل الاستثنائي؛ ليعرفوا أن في الحياة القريبة منهم نماذج تستحق أن يُحتفى بها وتُروى قصصها، أردتهم أن يروه ليحكوا قصته لأبنائهم.
وعبر الابنة الأخرى لخالي منصور أيضًا، حدثت المصاهرة مع عائلة الدعيسي، فقد تزوجت ابنته مكية من الحاج عبد علي الدعيسي (أبو عيسى)¹. أحببت ابنة خالي كثيرًا، فهي تشاركني في دمعتها الساكبة على أبي عبدالله الحسين، عرفتها عابدة تقية لا تترك الدعاء، أتأسى على موتها (ت 2012) الذي فجعني لكني أتسلى عنه برؤية بناتها.
الحاج منصور محمد منصور العكري (ت 1984) جد المهندس عبدالنبي العكري،
والدكتورة فريال الدعيسي كان لشخصيته حضور في سيرة أم السادة
وقد أحضر لها أول كتاب (الجمرات الودية) ترك تأثيراً في ذائقتها الحسينية.
أتذكر ابن خالي الشيخ محمد علي منصور العكري، كان حريصا عليَّ منذ كنت معهم في المعلم، يلفتني دومًا إلى الستر والحجاب، كذلك أحببت في ابن خالي الملا الأستاذ حسن (ت 2015) (والد المهندس عبدالنبي العكري) ثقافته وخلقه ومنطقه.
هكذا جمعت عبر الحب والمصاهرة والتأثر في سيرتي بين فرعي عائلة العكري، أحبهم جميعًا وأسعد بزياراتهم لي، وأرى في أولادهم قرة عين لي عن الماضين من آبائهم وأمهاتهم.
الحزن الشجي
مفطورة على محيط يجدد الحزن بالكلمة الشفيفة والصوت الرخيم والطور الفجيع، يتفنن في سُلم الحزن الموسيقي، تمكّن مني هذا الحزن المقيم، فتمكلني بحماسة وشغف، ارتقيت على هذا السلم، قبل أن أحفظ سلم الحروف الهجائية. أنا بنت الحزن الشجي، بنت جمرته المتقدة، تفتحت حواسي على صوت أبي الشجي يترنم أبيات الملا أحمد بن محمد بن رمل الإحسائي البحراني (1889 – 1955):
بـــــــــالله أنشـــدك مــــــــــــاي شربتـــه يا دفــــــــــــان
بخيت قبره لو دفنت حسين عطشان
بـــــــــــــــالله يــــــا دفــــــــــــــــــان أرد أنشدك رد عليّه
عطشـــــــــــــــان خويـــــــــــــه لو شرب قطرة ميّــــه
كتاب (المنظورات الحسينية) للشيخ كاظم منظور الكربلائي، طبعة دار الكتب العراقية بالكاظمية، الطبعة الثانية 1949 م.
لقد أصدر الشيخ كاظم منظور سلسلة من الكتب تحمل عنوان (منظورات) كنواحة الحسين، ونواحة القاسم.
اقتنت أم السادة هذه السلسلة عبر أبيها.
رحت أتخيل هذا القبر المتعطش لبخة ماء، أي عطش هذا الذي يتغنى )بن رمل( به، شعرت أني منذورة لصاحب هذا العطش، كأن صوت أبي يرش في حواسي محبة منعشة لهذا القبر، صرت ألتفت نحو كل صوت يحمل ناعية كربلائية، أخزّنه في طبقات صوتي.
أردد مع أبي طور ملا حسن، وهو ينشد:
يا الذي عفت الوطن ونزلت وادي كربلا
شوف خوية الراس شايب جيت الك ومنحله
صارت طفولتي تتقافز على مقامات سلم الحزن وأطواره، رحت أتعقب أطوار ملا حسن الباقري، وسيد محمد صالح العدناني، وملا حسن ولد ملا منصور، أصبحت أمنيتني أن أكون قارئة الإمام الحسين، أردت أن أكون خادمة في منبره المقدس. وجد أبي أن ابنته صارت تجيد أطوار كبار القرّاء المعروفين، حتى إنه بين الهزل والأمنية كان يقول لي: آه لو خُلقتِ رجلًا.
زيارة كربلاء
كنت بنت سبع سنوات حين أخذني أبي إلى كربلاء على ظهر المراكب الهندية الكبيرة، مازلت أذكر أسماءها: بربيتا، دريسا، دارا، دامرا. في إحدى السفرات هبت عاصفة قوية، كدنا نهلك فيها، دعونا الله بالحسين، فكان لنا باب نجاة في الدنيا كما هو لنا بوابة نجاة في الآخرة.
هناك فتحت عيني على مواقع المعركة، التل الزينبي، نهر العلقمي، مخيم الحسين، قبور أنصار الحسين، ضريح العباس، مشهد الحسين. ذهبت إلى سامراء ووقفت على قبر حفيد الحسين، وزرت باب المراد وسلمت على الجواد. تفتح لي التاريخ وصرت أعاينه لاحقًا في كتب المقاتل وكراسات النواعي، أقرأها وكأني في خيمة حزني بين خيم الحزين المثكولة.
تفتحت لي من هناك آفاق الدنيا التي فُطرت عليها، صار ما يجري في التاريخ يجري في دمي، تشبعت بغبار معركة كربلاء وما عدت قادرة على أن أجد نفسي خارج أحداثها، تبدأ صباحاتي وأنا في سريري بالسلام على الإمام الحسين: السلام عليك يا غريب كربلاء، أسلّم على الحسين وأسلّم نفسي إلى دموع تفيض بالبكاء، اعتادت بناتي هذا المشهد، فما عادوا يسألوني ما بك، يعرفون أن كتلة مشاعري معجونة بتربة كربلاء، ويعرفون أني موهوبة لها.
نخلة العباس
للعباس ونهر العلقمي مكانة خاصة في خارطة كربلاء المرسومة في قلبي، كل ما يتعلق بالعباس ينحفر في ظهر قلبي، العباس ظهر الحسين، والحسين في قلبي، ينكسر قلبي كلما تذكرت العباس كيف كسر ظهر الحسين بمقتله. حين استوطن أجدادنا بنو عبد قيس البحرين، عرفهم نخلها وإليهم ينسب هذا المثل (عرف النخل أهله)، نحن حفدتهم نُعْرَف ونُعَرّف بالنخلة.
منذ زياراتي المبكرة لكربلاء تعرفت إلى نخلة مقابلة لمشهد العباس، جعلتها علامة بيني وبينه، عشقتها؛ لأنها تقابله وغبطتها لأنها تشم عنفوانه وإباءه، رأيت في شموخها أثرًا من شموخه «آثاركم في الآثار »، تتغذى من أرض بطولته، وتشرب من معين صفاء بصيرته.
أقف عادة عندها وأهمس في نسغها الضارب في التاريخ والأرض، أحدثها وأحكي لها وأتغزل في جمالها وجيرتها. حين لا أتمكن من زيارتها، أوصي الزوار أن يحملوا سلاماتي وأشواقي لها، وأطلب منهم تفقدها، وأن يطمئنوني على حالها.
حمامة الحرم
في إحدى زيارتي للنجف، بعد أن أنهيت الصلاة، نزلت حمامة من قبة الإمام، اقتربت مني، وجدت نفسي أخاطبها: إيه يا حمامة، من هو في قدرك، تعيشين جوار إمام الفصاحة والبلاغة والإنسانية، لماذا تنزلين إلينا من أعلى القبة، لو كنت مكانك ما برحت هذا المكان، يا حمامة ليتني حمامة، أريد أن أعيش هنا جوار هذه القبة والشرفات، خذيني معك أيتها الحمامة لأحلق في هذه السماء المقدسة بهالة علي.
لقد عبّرت لهذه الحمامة بكل ما يجيش في صدري، خلعت عليها مشاعري وهواجسي وما يضطرب بي من شوق لعلي، قرأت لها كل ما في صدري. القلب الذي لا يستطيع أن يقرأ على حمامة ما هو مسطور في قلبه، لا يمكنه أن يقرأ على الناس ما هو مسطور في الروايات عن الحسين.
الزيارة الجامعة
حفظت هناك نصوص زيارة الإمام الحسين بمجرد سماعها، تعلقت بالزيارة الجامعة، وجدت فيها آفاق علوم آل محمد، وتحققت من خلالها أن ما لديَّ قد فتحه الله لي بآل محمد، كما يقول نص الزيارة «بكم فتح الله وبكم يختم … آتاكم الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين طأطأ كل شريفٍ لشرفكم، وبخع كل متكبرٍ لطاعتكم».
لقد تعلق قلبي بهذه الزيارة حتى إني صرت أحتفظ لي من كل مشهد أزوره بريشة من ريش الحمام الذي يسكن فوق قبب مشاهدهم الشريفة. أعتبر هذه الريشة أثرًا من الآثار التي تخصني كما ورد في الزيارة الجامعة «وآثاركم في الآثار، وقبوركم في القبور. فما أحلى أسماءكم».
لقد فتح الله لي بالحسين وأهل بيته في هذه الزيارة كل شيء، وما تلاه تفاصيل لهذا الفتح الجامع. هناك على مفترق الطرق المؤدية للضريح، تعلمت الأطوار العراقية، فتميزت بها من بين الملايات بالبحرين، طور (النصّاريات) مثلا تعلمته هناك من كبار السن حين كانوا يتحلقون عند الحرم على طريق الصاغة، وهم يرددون: زينب ردت من الشام جابت رؤوس أهاليها.
عريش المعلمة
سألت أمي هل من تذهب للمعلم تصبح قارئة (ملاية)؟ قالت لي: نعم، فقلت لها خذيني للمعلم. خرجت من تجربة المعلم الأولى بسبب تعرضي للضرب من أحد الأولاد، فجلست في البيت وأنا ابنة أربع سنوات، وأخذتني خالتي مدينة (ت 1949) معها إلى معلمة في النعيم، فقد كانت متزوجة من علي جاسم التيتون (ت 1971)، فعرفت هناك تهجي الحروف خلال أسبوع، لكني لم أواصل لصغر سني، عدت بعد سنتين إلى المعلم نفسه في الديه عند المعلمة المعروفة أم جاسم مريم بنت إبراهيم الوكيل² (ت 1988)، تعود أصولها إلى سيهات بالقطيف.عُرفت بالجدية والصرامة، وكرّست حياتها التي بلغت ثمانية وتسعين عامًا لتعليم القرآن.
معلمة أم السادة، مريم بنت إبراهيم الوكيل (ت 1988) المعلمة الأولى في قرية الديه،
تولت تعليم القرآن بعد وفاة زوجها معلم القرآن الحاج عبدالله بن جاسم المزعل (ت 1939).
من أحفادها الشاعر يوسف حسن، والمحامي أحمد جاسم، والتربوي أمير قاسم.
يتجمع أطفال القرية في عريش البرستج، ندخل عبر بابه المقابل لجهة الجنوب ذلك هو المعلم، مدرستنا المفتوحة على الطبيعة، بين غرفة المعلم وغرفة ابن المعلمة فتحة تُغلقها في الشتاء وتفتحها في الصيف، حين يحضر زوج ابنتها ملا كاظم من سيهات نشاهده جالسًا في الزاوية، وأتذكر في هذه اللحظات ابن خالي الشيخ محمد علي العكري، وهو معنا في المعلم يقول لي: تغطي (استري وجهك).
صرتُ سريعًا ابنة المعلمة المفضلة، وهي من جهة أخرى أدركتْ تميزي، ولخوفها عليَّ من الحسد جعلتني لا أقرأ أمام )الوليدات(، تبقيني لوحدي تُقرِّئُني بعد خروجهم، فتح الله بصيرتي، كنت أشعر أن القرآن يفتح لي، كأن حروفه مطبوعة في قلبي. ذات مرة اعترض عليها ابن ابنتها الذي أصبح فيما بعد الملا أحمد، قال لها أنا ابن بنتك، ولا تقدميني عليها في الدرس، فنهرته.
مريم المستمريمانية
أتذكر أنها ذات مرة امتحنتنا في قراءة بيت شعر صعب الحروف: يا مريم المستمريمانية يا شمس المتشمسمسانية. نجحت في قراءته، ومازلت قادرة على إعادتها بسرعة.
تميزت معلمتي بشخصيتها الشديدة، في إحدى المرات خرج الأولاد من درسها بسبب حريق كبير شبّ في كرباباد، وحين عادوا تولت الجميع بالعصا، ولم تفرق بين الأولاد والبنات. مع هذه الشدة أحببتها حبًا جعلني لا أختم ختمة من دون أن أهديها لها حتى هذا اليوم. مازلت أحمل ألمًا بداخلي على ما فعله بعضهم بحصرها التي علمتنا فوقها القرآن، لقد تخلصوا منهم بإلقائها في البحر، لو كنت أدركتهم لعلقتهم في بيتي احتفاء بها وبذكرها وبالدروس القرآنية التي تُليت عليها.
كنا نخدم معلمتي حبا وطاعة فيها، ونغني لها: «كلنا أوليدات أم جاسم كلنا لا فرق الله بيننا ».أتذكر بأنني ذهبت لأجلب لها )مشموما( من المزرعة، فركض ورائي كلب وتمكن من تمزيق ملابسي، تخلصت منه وأنا أبكي، لكني لم أتخلص من المشموم، هدأت حين تمكنت أن أضعه في يد معلمتي.
من طرائف شقاوة الأطفال، إننا حين نخرج من المعلم، كنا نغني:
يمعلمه هدينا ذابت مصارينا
يــــــــــــــمعلــمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه دوري دوري
يـــــــــــــــــــــــــــــت حــــــــــــــــــــزة هجــــــــــــــــــــــــــــوري
يمعلمـــــــــــــــــــــــــــــــة فرشــــــــــــــــــي المـــــــدة
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت حــــــــــــــــــــــــــــــــــــزة الهـــــــــــــــــــــــدة
يــــــــــــــــــــــــــــا معلمـــــــــــــــــــــــة فري الخاتـــم
يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت حـــــــــــــــــــــــــــــــزة المآتــــــــــــــــــــــــم
معلمة القرآن
حفظت القرآن خلال ستة أشهر، وتعلقتُ به تعلقًا خاصًا، انتقلت بعدها لتعلم قراءة المنتخب الطريحي ووفاة النبي (ص). وصرت لاحقًا معلمة للقرآن، بعد أن خصص لي أبي غرفة لتعليم القرآن، وبقربها باب يدخل منه (الوليدات) ويخرجون.
منحني (المعلم) صديقة عمر، هي خديجة بنت حجي إبراهيم الأعضب (ت 2017)، كنا معًا نتعلم القرآن ونتعلم خياطة النقدة والرسم، فتحت كل منا (معلما) خاصا بها، وكل منا صارت ملاية لها شأن وصوت جميل، أفتقدها كثيرًا بعد رحيلها، وأشعر أني خذلتها بتركها ترحل وحيدة بعد أن عاشت معي كل هذا العمر بحلوه ومره.
بيتنا مفتوح على بحر الديه، والغرفة التي خصصها لي والدي لتعليم القرآن أيضًا كانت مفتوحة من الجهة الأخرى على فناء البيت، يجلس الوليدات على القاعودية، وهي كرسي مصنوع من سعف النخيل، وأجلس أنا في مواجهة لهم في يدي إبرة النقدة، يدي تعمل وعيوني ترقبهم، حين يخرج أحدهم عن نظام الدرس أوجه له كلمات تنبيهية، وحين يبالغ أحدهم في التقصير أو الإخلال باحترام آداب المعلم، أرفع له عصاتي وقبل أن تهوي عليه، تأتي عليَّ الضحكة، فيبطل مفعول العصا، ويبدأ مفعول الضحك، هكذا كان حالي مع وليداتي، حبي لهم أصلب من عصاتي، الرحمة المنسابة من كلمات القرآن تتغشاني وأنا معهم، فتصيبهم وتصيبني.
حفظت أم السادة القرآن خلال ستة أشهر، وتعلقتْ به تعلقًا خاصًا.
صارت معلمة قرآن منذ الخمسينيات، بعد أن خصص لها أبوها غرفة
خاصة مطلة على البحر، وبقربها باب يدخل منه (الوليدات) ويخرجون.
انتقل معي المعلم إلى بيت الزوجية حين انتقلت إلى بيت زوجي سيد جواد العلوي، أحاطني برعايته واهتمامه، وكان من حظي أنه بنى لي بيتًا في البحر، كان أول بيت يوضع في البحر في منطقة كرباباد، خصص لي غرفة لتعليم القرآن، ظلت منارة لأجيال كثيرة من الوليدات، ولم أغلقها إلا في السنوات الأخيرة حين صارت صحتي لا تعينني على التعليم، حاولت قبل ذلك أن أتقاعد، لكن الحروف المطبوعة في قلبي ما كانت تستجيب لذلك، فغلبني حب تعليم كلمات الله على حب الاستراحة.
قبل سنوات، أخذني أولادي لتوديع بيت أبي وغرفتي التي بدأت تعليم القرآن فيها، بكيت بمرارة على أعتابها، تذكرت وليداتي وأبي وبحرنا وهوى القرآن الذي سكن في هذا المكان، ما كنت قادرة على تقبل أن بيت طفولتي ومدرستي سيُهدم وأنا حية أشاهد ذلك، قاسية تلك اللحظات.
راديو مطر
مغرمة أنا بالعراق وما فيه، تشدني مقامات الصوت والأطوار، أجد مصدرها في الحزن والفرح واحدًا، لاحقًا حين كبرت، أدخل أخي الراديو إلى بيتنا، كان بحجم (المسند) وقد احتال لإدخاله البيت باستخدام اسم حفيد خالي حجي منصور، وهو علي بن الحاج إبراهيم مطر، قال إن الراديو هدية منه، فما كان لأحد أن يعترض، صار يديره من غرفته الشمالية المطلة على البحر، فتصلني مقامات الأغاني العراقية وصوت الإذاعة، أظن أنها شكلت جزءًا من ذائقتي وحساسيتي في اختيار الطور والطبقة الصوتية. هكذا أشعر دوماً أنني مدينة دوماً بشكل مباشر أو غير مباشر لخالي منصور وامتدادته.
البحر واللؤلؤ
جيرتي مع البحر جعلتني أعشق كل ما في بطنه وذاكرته، شاهدت عودة سفن الغوص على ساحل بيتنا، وكيف يهرع لهم الطواويش، تبدأ تحيتهم: الله بالخير، ويتشكرونهم السلامة، ثم يذهبون إلى النوخذة، أستحضر الآن صورة الطواش حجي عبدالحسين بن جعفر³ (ت 1994) يزن اللؤلؤ وأنا واقفة إلى جوار العريش أسترق النظر، أرى كيف تتناثر اللآلئ بين يديه فوق الميزان، دخلت في هذه المشهد الأخاذ، فاستولى جمال اللؤلؤ على قلبي، صرت مصابة بعشقه وعشق حتى الصدف الذي يتكون فيه. أطلبه وأقتنيه ضمن أشيائي الثمينة التي أضعها في علبة خاصة في صندوقي (المبيت). حتى اليوم أتصفح موسوعة اللؤلؤ أطالعها بين الحين والآخر، وأقرأ عن تفاصيل اللؤلؤ ونموه وتكونه وصدفه وعالمه العجيب.
أظل أرقب البحر دومًا، لا تشبع عيوني منه، من عتبة بيتنا، أرى عودة الغواصين، وأسمع أصواتهم وهم (ينهمون) على المحامل بعد فصل الشتاء أثناء صيانتهم لسفنهم استعدادا لموسم الغوص، وأرقب كذلك سفن المسافرين بين الدمام وفرضة المنامة.
كان يصلني صوت (نهمهم من البحر)، وما لا يصلني ينقله لي أبي لاحقًا:
اوه يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال
يـــــــــا خوي بان الجفا وادموع عيني همل
حيــــــــــــــــــــــران خليتنــــي فــــي بـــــــــــاد غربه همل
ويــــــــن العهــــــود التـــــــــي بينـــي وبينك جرت
وانجــــــان سامع خطيـــــــــــه من لساني جرت
لتشوف دمعي جرى وامصيبتي ما جرت
في طفولتي اعتدت رؤية البحارة في منتصف الليل، يدخلون البحر، يحملون بأيديهم (قنبارة) تضيء لهم الطريق، وهي عبارة عن شعلة مصنوعة من سعف النخل مشدودة بحبل، كان منظرها جميلاً وسط الظلام الدامس، ما كان البرد ولا الحر يمنعهم من السعي وراء أرزاقهم. وكم كان بديعًا أيضًا رؤيتهم وهم عائدون محملين بالأسماك، يبيعونه على أهل القرية صباحًا.
بفضل ظاهرة المد والجزر على سواحلنا، اتخذنا من البحر ملاعب طفولتنا، نظل نلعب في أرض البحر في الجزر حتى تتحول أجسادنا إلى (طفو) أسود، و(الطفو) في التداول الشعبي هو الرماد الأسود المتبقي من النار.
أحب أن أعيش محاطة بالبحر وسفنه، اقتنيت لي مجسمين خشبيين من سفن البحر (بانوشين)، أظل أتأمل فيهما وأستعيد ذاكرتي المشرعة على أشرعتهم البيضاء، وهي في حركة ذهاب وإياب نشطة وسط هذا الخليج المليء بحره بالخيرات والكنوز. عثرت مرة على ميزان حساس من مقتنيات جدي، يبدو من النوع المستخدم للؤلؤ، كنت فرحة به، أخذته لنبع الماء لأغسله، لكني بمجرد أن وضعته على ناصية النبع، فقدته في لمح البصر وأنا أبحث عن شيء يعينني على تلميعه، ظللت أبكي فترة طويلة وحملت أسى بداخلي، مازلت كأني فقدته للتو لشدة تعلقي بكل ما له صلة بالبحر واللؤلؤ والسفن.
سنوات الجريش
ست سنوات من الحرب العالمية الثانية وما تلاها، عاش خلالها الناس الفقر والعوز، كنت صغيرة حينها يلبس الناس الخيش (الشوال). عمل أبي في فرضة المنامة في تموين المواد الغذائية من رز وسكر وجريش، هذا ساعدنا كثيرًا أيام القحط أو ما عرف بأيام الجريش. دفع العوز الناس لطلب المساعدات، راح بعضهم يمشي مسافات طويلة من شارع البديع حتى المنامة. الجوع كافر لابد من قتله، كنت أسمع طرق الباب كثيرًا، يطلب الطارق أي شيء يسد جوعه ولو كانت جريشة خام.
حين يعتذر الأهل للطارق بقولهم «الله يعطيك » كان بعضهم يرد غاضبًا «ربي يأخذني». ليس سهلاً على أهالي البحرين رد فقير أو الاعتذار عن مساعدته، لكنها الحرب حين تشتد والجوع حين يجعلك كافرًا بقيم العطاء والبذل. كون أبي يعمل في الفرضة حفظ لنا ماء وجهنا، يأتي لنا بالرز والسكر، لكن هذا لا يعني أن نأكل دون الالتفات لغيرنا، كانت أمي ترفع صينية الطعام من بين أيدينا، فهناك عائلة علي الذي ترك أولاده وزوجته دون رجعة، تقول هذا لكم وتلك للقلوب الجائعة المكسورة. من عرف أيام الجريش تلك يستحيل عليه أن ينام وجاره جائع أبدًا.
عاشت أم السادة جارة للبحر، من عتبة بيتها كانت ترقب عودة الغواصين.
تُحب أن تعيش محاطة بالبحر وسفنه، اقتنت لها مجسمين خشبيين من سفن البحر (بانوشين)،
تظل تتأمل فيهما وتستعيد ذاكرتها المشرعة على أشرعتهم البيضاء،
وهي في حركة ذهاب وإياب نشطة وسط هذا الخليج المليء بحره بالخيرات والكنوز.
لولوة البصري
أحببت أطوار الملالي الرجال، لكني لا أستطيع أن أذهب في طريقتهم حتى النهاية، فأنا مضطرة إلى مجاراة الطريقة النسائية وأطوارها، وهنا لابد أن أذكر الملاية بنت حجي حسن، لولوة البصري، تأثرت بطريقتها كثيرًا، حتى صرت أشبهها، كانت خالتي تقول لا ندري من التي تقرأ، هل هي لولوة لو خديجة، لشدة التطابق والجودة في الصوت.
صديقة المعلم والعمر خديجة بنت حجي إبراهيم تأثرت بأسلوب الملاية سعدة يوسف مزعل (ت 1998) وتميزت في وسطها وصارت مطلوبة بقوة في المجالس النسائية.
سيد النوح
من مجلس أستاذه الشيخ عبد الحسن آل طفل، خلف سوق جدحفص، كان يصل صوت السيد جعفر الكربابادي (1929 – 2009) إلى بيتنا على شاطئ (الديه)، يعبر الصوت النخيل وبيوت أهل جدحفص والديه، بيوتهم المنخفضة البسيطة، أجلس فوق سطح بيتنا وأنا بنت اثنتي عشرة سنة، أصيخ لإيقاع طوره، وهو يُنشد شكاية زينب للحسين يوم الأ ربعين، من الجمرات الودية:
لو ردت يحسين أفصّل لـــــــــــك مصايـــــــــــــب هالسّفر
يــــــــوم ما يمكــــــــــــــــــــن أعدّد يـــــــــــــــــا شهيـــــــــــــــــــــــد ولا شهـــــر
ذاب جسمي امْن السّرا وانعمت عيني مْن السّهر
هضمنــــــــــــــــي ابن زيــــــاد يَبـــــــــــن امّـي وشهرني ابْكوفته
قدرة التمثيل في طور السيد جعفر تمكنت مني، وجدته يُحضر لي زينب شاخصة في طوره، كأنها واقفة تشتكي لإخوانها الحسين والعباس ما أصابها.
على الرغم من تميز خطباء مدرسة آل طفل: الملا أحمد بن يوسف أبوالعيش والشيخ حسن الباقري، إلا أني وجدت في صوت السيد ندبًا حزينًا لا يُشبه أي ندب، صرت أترقب وقت مجلسه طوال سنتين لأصعد سطح منزلنا، هناك كانت مدرستي المفتوحة على البحر والفضاء وكربلاء وصوت سيد الندب.
يكتب الله لي أن أتزوج ابن عمه، السيد جواد العلوي، فانتقلت إلى كرباباد، صار بيتي مقابلاً لبيت السيد، وصار صوته ملاصقًا لداري، مكنتني هذه الجيرة من تشبع طوره أكثر، أتقنت تقليده ولازمني طوال فترة خدمتي لمجالس الإمام الحسين، صرت معروفة بأني أفضل من يجيد هذا الطور، حتى جملة الاعتراضية بين الأبيات أحببت تقليدها، صارت بمثابة المفاتيح لمخاطبة المستمع لإدارة تلقيه وصياغة الفاجعة في قلبه.
تسميه أم السادة (سيد النوح)، من مجلس أستاذه الشيخ عبد الحسن آل طفل، خلف سوق جدحفص،
كان يصل صوت السيد جعفر الكربابادي (1929 – 2009) إلى بيت أبيها على شاطئ (الديه)،
تجلس فوق سطح البيت وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، تصيخ لإيقاع طوره، حتى تمكنت منها.
للسيد جعفر مكانة خاصة في قلبي، ولعائلتي حفاوة في بيتهم، أتذكر وقفته في تعزيتي، في مقبرة حلة العبد الصالح، وأنا بجوار قبر زوجي، آنس وحشة فقدي وشعرت كأنه يقدم تحيته التقديرية لمكانتي المتميزة بين ملايات المآتم الحسينية. حين جاءتني بناتي يعظمن لي الأجر في وفاة السيد جعفر، وأنا التي أُصاب بالغم والحزن الشديد في وفاة ملالي منبر أبي عبدالله، ذُهلت ووجدت نفسي من غير شعور أنعاه بأبيات الملا عطية التي علمني كيف أقرأها وكأني أجسّد المصيبة.
المجلس الأول
كنت ابنة ثماني سنوات، خريجة معلم (أم جاسم)، أنهيت دراستي، بقي عليَّ أن أشق طريقي لأتصدر منصة (الملايات)، صرت أحضر (مأتم نساء الديه) أشاهد القارئات المحترفات ولا أتجرأ على الاقتراب من منصتهن، أحاكي في قلبي طريقتهن، حتى سُمح لي بقراءة الحديث، وهي المرتبة الأولى، وتُعد بمثابة التمهيد للملاية كي تبدأ قراءة القصيد، أتذكر أني كنت قارئة حديث للملاية الكبيرة زوجة شيخ إبراهيم المبارك سعدة يوسف مزعل (ت 1998)، إنها من كبار قارئات البحرين، شاهدتها قبل وفاتها بسبع سنوات في النعيم، ترجلتُ سريعًا من السيارة ونزلت إليها تلقيتها بالأحضان، قلت لها هل تذكريني، أنا قارئة الحديث في مجلسك وقد تدربت على يدك، أحب هذا الاعتراف بالفضل لمن هم أهل الفضل عليَّ.
صرت أترقى في السلم، حتى جاءتني امرأة اسمها العبده بنت عبد النبي تطلب مني أن أقرأ لها مجلسًا كاملاً، نذرته لفاطمة الكبرى بنت الحسين في مأتم سلامة المعروف في جدحفص، وافقت مباشرة، كنت في الثامنة عشرة من عمري، جئت لأمي فرحة أبشرها، كانت فخورة بي ومتعجبة ومازلت أحفظ ملامح وجهها الفرحة، وكأنها تقول لي ألم أخبرك أن المعلم يجعل منك قارئة. إنه بمثابة الفتح الأول لي لدخول هذا العالم، تذكرت حينها نص الزيارة الجامعة «بكم يفتح الله»، وشعرت كم أنا مدينة لأهل البيت بهذا الفتح، صارت قلوب الناس تهفو لي، يستقبلوني من بعيد بترحاب ومحبة، ويضعون أيديهم على رأسي وكتفي طلبًا للبركة الممنوحة لي من أهل البيت، فلولا فتحهم ما كان لي كل ذلك، بل إن ذلك صار ممتدًا لبناتي، فحين يزورون المناطق التي يعرفوني فيها يُبجلون ويقدرون ويقولون لهم كأننا نرى فيكم أمكم أم السادة.
أتذكر هنا أن (أم حجي جاسم) استمعت مرة لي في المدينة المنورة في رحلتنا لأداء العمرة، فصارت تطلبني كل عام لقراءة مجلس (زفاف فاطمة الكبرى) في جد الحاج، وتقيم مأدبة كبيرة.
كذلك صرت مطلوبة لقراءة الفواتح في النعيم وجدحفص وجد الحاج والمقشع والمنامة ورأس الرمان وغيرها.
كانت أم السادة تدّخر ما تجنيه من مال تعليم القرآن لاستنساخ المجاميع،
تعاملت مع كثير من النسّاخين المعروفين في توبلي وجدحفص والنعيم،
ولعل أكثر من نسخ مخطوطاتها، هو ملا أحمد مرهون.
بناتي الست
تعلمت بناتي الست القراءة الحسينية من خلال استماعهم لي، يحضرن معي المجالس، ويسمعوني أحاينًا بالبيت أقرأ وحدي مجلسا كاملاً من دون حضور أحد، بل حتى أبنائي الأولاد يعيشون هذا الجو وأحدهم وهو سيد أحمد أصبح مختصًا بأطوار الزنجيل، ودومًا يعود لي يستشيرني في قصائده وألحانه. أنا أجد نفسي في عالم القراءة الحسينية، موهوبة لهذه الخدمة، وهي تشغل كل وقتي وحياتي، مؤمنة أنه بقدر ما تهب نفسك لها تهبك الإبداع والتميز ومحبة الناس، ولقد أعطتني هذه الخدمة ما يُشعرني بالسعادة والرضا.
كانت الملاية (حباب) تثني على طريقة قراءتي (القصيد) حين تجتمع في مأتمها كبار الملايات، في وقت متأخر طوال ليالي عشرة محرم، لقراءة مجلس خاص، وفيه تستعرض كل واحدة مهاراتها وسط حضور متميز ومتنافس.
لقد فتح الله بأهل البيت لي تميزًا في الذوق واللحن والطور في قراءة (لمرد) و(اللطميات) حتى صارت قارئات مأتم بيت خميس ومأتم (حباب) يتسابقن في احتكار ما أبدع فيه ويتقاسمنه بينهم، لتختص كل واحدة منهم بقراءته في نفس المجلس كل عام، حتى إن بعض القارئات تختلق أسبابا خاصة، لتبرر حاجتها للاستفراد بطور ما، من هذه اللطميات التي أتذكرها، لطمية (حنا ظهره لابنه وصاح)، و(عايف أمك وحيده بلا ولي)، و(هذا العليل ينادي دسمع يجابر)، و(جاسم يجاسم روح يا بعد الروح).
الآن وبعد أن بلغت الخامسة والسبعين، لم أعد قادرة على استرجاع قوة صوتي وصفائه، وحين أشتاق له أطلب من بناتي إعادة قراءة ما كنت أصدح به من أطوار.
أقول لبناتي ووليداتي، لتتعلموا أصول القراءة: ضعوا قلوبكم في المقروء، اقرأوا بها، اقرأوا وكأنكم تعيشيون واقعة كربلاء، هذا ما تعلمته منذ زيارتي الأولى لكربلاء، وهذا ما أود أن أعلمه لمن يريد أن يقرأ على يدي. تركت في قرية (المقشع) أسلوبًا في القراءة التصويرية صار متبعًا، وهي أني أستخدم عبارة (كأني بزينب أو الحسين) أقولها وقلبي مفتوح على مشهد كربلاء، أريد من خلالها أن أستحضر المشهد والموقف لآخذ المستمع إليه.
جيرة أم السادة مع البحر جعلتها تعشق كل ما في بطنه وذاكرته، استولى جمال اللؤلؤ على قلبها،
فصارت مصابة بعشقه وعشق حتى الصدف الذي يتكون فيه.
تطلبه وتقتنيه ضمن أشيائها الثمينة التي تضعها في علبة خاصة في صندوقها (المبيت).
-
الحاج عبد علي عيسى الدعيسي (-1935) أحد الشخصيات التجارية العصامية، معروف بورعه وتدينه وتواضعه، وأياديه البيضاء على الجميع، وشعاره في الحياة «من صدق مع الناس شاركهم في أموالهم». لم يتجاوز السابعة حن توفي والده الذي كان شريكاً لمدة ثلاثن عاما مع حجي منصور العكري وحجي عبدالحسن العكري في مصائد سمك (حظور) بسرة. في بداية الأربعينيات تحت ملاحظة حجي منصور العكري الذي سيكون عمه بعد زواجه من ابنته (مكية) انتقل لكسب رزقه في سوق الخضار عند ابن عمه إبراهيم، وزوج ابنة عمه صالح الدرازي، ظل ست سنوات يعمل صبيا مقابل مائة فلس، يشري بها في نهاية اليوم احتياجات قوت والدته وأخته ليعود بها مشياً عبر الطريق البحري من المنامة إلى قريته الديه. في العام 1946 منحه الدرازي (فرشة) للعمل فيها مستقلاً مكافأة له، فأخذ يوظف خبرته في الاستيراد المباشر من الهند عر شركة مهدي منديل، صار منافساً واعداً بعد أن ثبّت لقب الدعيسي على أوراق الشحنات المستوردة. بدأ شراكته التجارية مع ابن قريته الحاج سعيد فخر، في العام 1967 واستمرت حتى 1971. أخذ بعدها يشق طريقه نحو هولندا وأوروبا وأستراليا، لاستيراد الفواكه والمثلجات من الدجاج والأجبان واللحوم، فصار اساً معروفاً، يتعاقد معه مطار البحرين ومستشفى قوة الدفاع وشركة طيران الخليج. يُدير الحاج عبد عي اليوم شركته مع أبنائه تحت اسم )شركة عبد علي الدعيسي القابضة(. كان الحاج عبد علي عصاميا في تجارته وتعلمه، عرف التجارة بحسه الفطري وملاحظته وعرف القراءة والكتابة بحذقه من غير معلم منتظم. أحب الأوقات لديه تلك التي يقضيها بين تلاوة القرآن وقراءة الدعاء من مفاتيح الجنان وضياء الصالحين وزيارة أضرحة الأئمة والأولياء من أهل البيت عليهم السلام.
-
كانت مريم بنت إبراهيم الوكيل المعلمة الأولى في قرية الديه، تنتمي إلى عائلة ثرية تعيش في مدينة سيهات بمحافظة القطيف، وقد تولت تعليم القرآن بعد وفاة زوجها معلم القرآن الحاج عبدالله بن جاسم المزعل في العام 1939، رفضت الزواج بعد وفاته، وكرّست حياتها لتعليم القرآن، مارست العاج بالقرآن والدعاء وكتابة المحو بماء الورد في صحون المعدن، لشفاء المرضى. كان من تلاميذها الأستاذ أحمد سلمان رضي والحاج محسن الخر، والشيخ محمد علي العكري، والحاج مي عي حسن العكري، والحاجة خديجة علي حسن العكري، كما علمت بناتها وأبناءها جاسم وصالحه و زينب وزهراء وعبد الرضا. من أحفادها الشاعر يوسف حسن، والمحامي أحمد جاسم، والتربوي أمر قاسم. توفيت في العام 1988 بعد حياة مديدة أوقفتها على تعليم القرآن.
-
الوجيه الحاج عبدالحسن أحمد بن جعفر (1994 – 1910) أحد رجالات منطقة جدحفص وضواحيها، كان طواشاً يستقبل الغواصين فور عودتهم من رحلة الغوص على سواحل القرى المجاورة. يُعد من وجهاء البلد، وعُن مختارا لمدينة جدحفص، ولديه صلاحية رسمية للتوقيع على جوازات السفر لأهالي جدحفص والديه وقرى شارع البديع وغيرها. وكان عضوا في البلدية و كذلك في مجلس الأوقاف الجعفرية، وعمل على إحداث إصلاحات اجتماعية وفض نزاعات الأهالي، ومعروف عنه أنه اقرح إطاق اسم الإمام الصادق عى المدرسة الابتدائية بالمنطقة لفض نزاع نشأ بن الأهالي حول التسمية. يُعد من أوائل أصحاب حملات الحج المسجلة تسجيلا رسميا في الدولة في الخمسينيات أو قبلها، وكان مرشدوها ممن أصبحوا قضاة في المحكمة الجعفرية، كالشيخ عبد الأمير منصور الجمري والشيخ منصور الستري والشيخ سليمان المدني والشيخ محمد صالح العريبي. وهو أول من افتتح محطة بترول في جدحفص في الستينيات، بعد أن كان له محل لبيع الكروسن. وعُرف كذلك بأنشطته التجارية في سوق الخضار والفواكه بالعاصمة المنامة، وكان يؤجر المحلات والجلسات على الباعة لمدد طويلة ويزود بعض وزارات الدولة بالمؤن الغذائية.