كتاب دعوة للضحك
سيرة عالم أنثروبولوجيا لبناني في العالم العربي
د. فؤاد إسحاق الخوري*
العنوان الأصلي لهذا الكتاب هو
(An Invitation to Laughter: A Lebanese Anthropologist in the Arab World) للدكتور فؤاد إسحاق الخوري، وقد نُشِرَ للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2007.
الفصل العاشر: الخريجون والعلماء في البحرين
الفصل الحادي عشر: أسرار معلنة
الخريجون والعلماء في البحرين
«كلنا يسعى للمعرفة»
الفصل العاشر
بحثي عن ضواحي بيروت أوضح لي أن الثروة التي تمتع بها اللبنانيون في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولعقدين من الزمن قبل اندلاع الحرب اللبنانية، أتت من الدول الخليجية المنتجة للنفط. فعليًّا، أي عمل عاينته إما اكتسب رأس ماله من الخليج، أو قام ازدهارُه على الأسواق الخليجية. الكثير الكثير من الفنيين اللبنانيين والعمال المهرة ورجال الأعمال والمقاولين والتجار المحترفين والمصرفيين، كلهم بحثوا عن وظائف أو أي فرص أخرى في الخليج، والعديد منهم حصّلوا ثروة. لم تخلق الصناعة أو التجارة أصحاب ملايين كما فعل النفظ، إن كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
شغفي للقيام ببحث في الخليج تعاظم بقوة عندما تعرفت على طلاب من تلك المنطقة. إحدى الطالبات، كانت من البحرين، هند بنت رشيد آل خليفة، دعتني وعائلتي لتناول الشاي في منتجعهم الصيفي في لبنان، في سوق الغرب. لقد كانت أمُّها سيدة مثقفة، فكانت متمكنة جدًّا من الفن، الشعر، التاريخ، الموسيقى الكلاسيكية وعلم الآثار. كما كانت ترعى متحفًا فلكلوريًّا في البحرين. عند انتهاء زيارتنا، التفتُّ إلى هند وقلت : «الآن عرفت أن الرداء الأسود الرتيب الذي ترتديه المرأة العربية بين الناس يخفي وراءه أحيانًا أحجارًا كريمة باهرة».
ردت أمها بلباقة: «إنه حجاب نرتديه جميعًا».
عند التحضير لبحثي في البحرين، قدمت حلقة دراسات عليا تحت عنوان «أنماط التغيير في الخليج»، طرحتُ قضية الموارد المالية الضرورية لمؤسسة فورد، ودرستُ الفارسية في الجامعة الأمريكية في بيروت. في العام 1974، أخذت إجازةً دراسيةً وذهبت أنا وعائلتي إلى البحرين. لم أستفد من اللغة الفارسية التي تعلمتها على نطاق واسع. لقد كان هناك دائمًا جالية فارسية صغيرة، حوالي خمسة آلاف (شخص)، بحسب الإحصاء الوطني عام 1954، وكان جميعهم يجيد اللغتين العربية والفارسية. ومع ذلك فإن تعلم الفارسية ساعدني لأجمع معلومات عن «بيوت العزاء» التي ينظّمها سنويًّا الوجهاء الفرس في عاشوراء، وهي طقوس شيعية تحيي ذكرى موت الحسين في معركة ضد يزيد، الخليفة الأموي الثاني.
خلال بحثي عن البحرين، تبيّن لي أن هناك ثلاث مهارات تفيد في خلق علاقة مع الضيوف الذين أجري مقابلات معهم: إلقاء شعر ما قبل الإسلام، الإلمام بالقرآن والحديث، والإحاطة بأنساب آل خليفة.
شعر ما قبل الإسلام، وأبرزه ما يُعرف بالمعلقات العشر، يتضمن كلمات تختلف بقوة عن اللغة العربية الحديثة، وقليل من الناس يفهمون معاني هذه الكلمات. لقد كان على أي شخص يردد بيتًا من الشعر أن يفسّر معناه، الأمر الذي يعزز مكانته كإنسان متعلم.
يعتقد المسلمون أن القرآن مُعجزٌ بشكل لا يمكن لأي شخص أن يأتي بمثله. لقد نزل بالعربية، ما يجعل لغته معجزةً بشكل يساوي بين، صعوبة الإتقان والفهم الكلي.
لا شيء يؤثر في (الشخص) العربي مثل أن يسمع أجنبيًّا يتحدث العربية الأصلية والكلاسيكية بشكل صحيح. في الوقت نفسه، الكلام المليء بالأخطاء يثير الضحك. فالعرب يحبون أن تقول لهم إن لغتهم صعبة، كما يفترض أن تكون. ولأنها إعجازية، لا يمكن ترجمة لغة القرآن بدقة إلى لغات أجنبية.
في العام 1981، وخلال زيارتي للمملكة العربية السعودية بقصد جمع المال، كنت ضمن وفد الجامعة الأمريكية في بيروت، والذي كان يترأسه عميد كلية الفنون والعلوم الدكتور إيلي سالم ويضم كلًّا من البروفيسور إحسان عباس والبروفيسور محمد نجم. هذا الوفد التقى الأمير فيصل بن فهد، الذي ترأس بعد ذلك مؤسسة الملك فيصل. خلال اللقاء، تطرق النقاش إلى احتمال ترجمة القرآن إلى الإنكليزية، وأصرّ العميد وقتها أن الجامعة الأمريكية في بيروت هي المكان الأنسب لإصدار ترجمة دقيقة للقرآن. عندها بدت حيرة الأمير على اقتراح العميد واضحة. وعندما فهمت أنا في النهاية أن القرآن غير قابل للترجمة، ابتسم الأمير موافقًا وانتقل إلى موضوع آخر كان مقررًا بحثه.
في البحرين، كانت روح العراقة تغلب زيف (المظاهر) العصرية التي تصورها فنادق الهيلتون والشيراتون و(مطاعم) البيتزا هت. انطباعي الأول عن هذا البلد أنه ما زال يعيش العصور القديمة. يبدو أن الشمس العربية الحارقة قد تركت كل شيء هنا نصف مخبوز: وجوهٌ متجعدة، بشراتٌ مدبوغة بشكل كبير، بيوتٌ رمادية، أشجارُ نخيل خضراء داكنة، قواربُ خشبية مكشوفة، شواطئُ رملية ممتدة وسماءٌ مغبّرة. سحر الطبيعة في البحرين وعلى امتداد الصحراء العربية أجمل ما يكون عند الفجر والغسق، عندما تلامس الشمس الأرض بكل رقة. ولا عجب إن صلى المسلمون، الذين يجب عليهم تأدية خمس فرائض يوميًّا، لمرتين فقط، عند الفجر والغسق.
انطباعاتي الأولى تلاشت على أعتاب الفندق الخليجي الفخم حيث قضيت الأسابيع الثلاثة الأولى منتظرًا إصدار تأشيرة البحث، وباحثًا عن شقة أستأجرُها. ومع أن البقاء في فندق قد أرهق ميزانيتي المحدودة إلا أنه حقق لي مكاسب. فالكثيرون من خريجي الجامعة الذكور كانوا يلتقون في حانة الفندق. كانوا يلتقون مرتين في اليوم _ عند الساعة الثانية ظهرًا قبل الغداء، وعند الثامنة مساء بعد قيلولة ما بعد الظهر _ ليشربوا البيرة ويناقشوا أخبارهم اليومية. بيرة هاينيكن كانت معروفة لدرجة أن الفرد قد يظن أنها المشروب الوطني. الرجال الذين يطلقون على أنفسهم لقب خريجين، كانوا يضمون خريجين من الجامعات العربية في مصر، سورية، العراق، الكويت، ولبنان بالإضافة إلى خريجي الجامعات الأمريكية والأوروبية، وكان معظمهم موظفًا في المرافق العامة.
من بين هؤلاء الخريجين كان الاشتراكي والشيوعي والقومي العربي والإخوان المسلمون والبحريني الوطني. كان من ضمنهم أيضًا الساخر واللاأدري والمؤمن والكافر. برغم هذه التعددية العقائدية، كان هؤلاء يتفاعلون فيما بينهم بتفاهم ولطف وبغير تكلف. كما كان واضحًا أن الحصول على درجة (تقدير) يعد مصدرًا للفخر. في العام 1976، وعندما انتهى بحثي، قامت الحكومة ببناء ناد خاص لحملة الدرجات وأسمته نادي الخريجين.
في هذه الجلسات في حانة الفندق، لم يتم توفير أي موضوع. لقد ناقش الرجال الجنس، مع التركيز على جمال مضيفات طيران الخليج، وتحدثوا عن رسو المركبات الفضائية الأمريكية والسوفييتية في المدار، عن تدريب الصقور، وعن رقصات «التويست» و«السواي» وعن موسيقى الجاز والأغاني العربية، عن الروايات الروسية وإجراءات المحاكم. إلّا أن النقاشات الأكثر أهمية وتوقدًا وتكرارًا ركزت على العالم، والسياسة في العالم العربي والبحرين.
وقد خلقت برامج الفضاء الأمريكية والسوفييتية إشكاليةً بين الخريجين. فانقسم الرأي بين ما إذا كانت قدم الإنسان قد وطأت سطح القمر أم لا، وما إذا كان سطح القمر مدنسًا دينيًّا، وموصوفًا على أنه غير نظيف. يعتقدُ المسلمون أن حذاء الإنسان يدنس الأماكن المقدسة، ولأجل ذلك هم يخلعون أحذيتهم عند دخولهم إلى مسجد أو إلى منزل أو عند الوقوف على سجادة الصلاة.
كان بعض الخريجين يجادل أن الصعود إلى سطح القمر لم يكن إلا دعاية أمريكية ووهمًا وعرضًا مسرحيًّا يهدف إلى استعراض التكنولوجيا العصرية. فيما أصرّ الآخرون على أن الصعود إلى سطح القمر كان مثالًا حيًّا على طموح الإنسان في أن يكتشف أسرار هذا الكون.
وسط هذه النقاشات الحامية، برز صوت جدي وحازم: «حسنًا حسنًا، لنفرض فرضًا أن الأمريكيين أرسلوا فعلًا أُناسًا إلى القمر. حالما يتحول القمر إلى هلال، فإنهم سوف يقعون عنه كلهم».
وخلال حديثنا عن إجراءات المحكمة، روى أحدُ الخريجين كيف تمّ اعتقاله لسنتين من دون محاكمة في أحد البلاد المصدرة للنفط، على خلفية أنه كان يعرف من هو تولستوي (الروائي الروسي). المحاكمات في ذاك البلد كانت تجري بشكل جماعي، حيث يكون هناك مجموعة من المدعى عليهم، من الذين لم يرتكبوا أي جرائم تُذكر، ويتم استدعاؤهم جميعًا. وتتمّ محاكمة كل مدعى عليه بشكل منفصل بحضور الآخرين.
أحد المدعى عليهم كان متهمًا بأنه شيوعي، على خلفية أنه ضُبط يقرأ رواية الحرب والسلم لتولستوي، فشرع القاضي باستجوابه:
«أنت شيوعي كافر، ألست كذلك؟».
أجاب المدعى عليه: «لا أنا لست كذلك».
أصر القاضي «نعم أنت كذلك. لقد كنت تقرأ لتولستوي».
«نعم لكن تول…»
«اخرس، أنت رجل كافر.. حين تكونَ ضد الإسلام، فأنت تعادي الأمة».
«حضرة القاضي، تولستوي لم يكن…»
وأصدر القاضي حكمه: «أيها الكافر الفاسق. أنت محكوم عليك بالسجن لسنتين».
في هذه اللحظة، تدخل الخريج البحريني: «حضرة القاضي، طال عمرك… الحرب والسلم لتولستوي كتبت بين عامي 1865 و 1868، أي قبل الثورة البلشفية في العام 1917 بكثير».
«أنت أيضًا تعرف تولستوي! محكوم عليك بالسجن لسنتين أيضًا».
معظمُ الخريجين يتضمن حديثهم إشارات إلى شيوخ آل خليفة، الأمر الذي يدل على أنهم على اتصال بهم. هم يتحدثون عن حاكم البحرين عيسى بن سلمان بمودة واضحة، وكأنهم يعرفونه شخصيًّا لسنوات. هم ينادوه الشيوخ (جمع شيخ) وذلك ليميزوه عن باقي شيوخ آل خليفة.
بالمناسبة، كلمة «شيخ» في البحرين تعني «أمير» في المملكة العربية السعودية. وبحكم كونه موظفًا في القطاع العام، كل خريج يكون محميًّا نوعًا ما من قبل بعض شيوخ آل خليفة، ما دفعني إلى الاستنتاج أن دولة البحرين الصغيرة يحكمها ما يشبه القبيلة من خلال مجموعة من الشبكات المبنية حول أفراد آل خليفة. من هنا، اخترت «القبيلة والدولة في البحرين» عنوانًا لكتابي، فالقبيلة سبقت الدولة كعامل أكثر أهمية في التنظيم من البيروقراطية. وبحسب التشريع الإسلامي، المفهوم أو الفئة التي تسبق أخرى في النص يكون لها قيمة أخلاقية أعلى.
خلال سعيي لبناء علاقة مع الضيوف في المقابلات، تعلمت أن أستعمل التكتيك ذاته الذي يستعمله الخريجون وهو أن أقوم دائمًا بالإشارة إلى شيوخ آل خليفة الذين يتقلدون مناصب هامة في البيروقراطية في أحاديثي.
عند التعريف عن نفسي وعن الغاية من زيارتي، أورد الاسم الكامل للشيوخ مع تحديد نسبهم على وجه الدقة، مثل «الشيخ خالد بن محمد بن عيسى بن علي الكبير».
الشيخ عيسى الكبير كان على رأس سلالة آل خليفة ومؤسسًا للدولة الحديثة في البحرين. لقد حرصت على حفظ سلالة آل خليفة والتي كانت متوفرة مع خريطة البحرين للزوار الأجانب. ولقي هذا التكتيك نجاحًا إلى حد بعيد. ومجددًا فإن ذكر نسب الشيخ كان مصدرًا لفخره على الفور، واعترافًا بضعف الشخص تجاهه.
آل خليفة في البحرين اعتمدوا مجموعة من الأسماء _ حمد، عيسى، علي، خالد، محمد، خليفة، راشد، سلمان، والتي تكررت من جيل إلى جيل. قد يؤدي ذلك إلى الالتباس، هذه هي النقطة تمامًا، لكن هذا الالتباس في الواقع يعزز التفاعل: فهذه الأسماء تخدم الوجاهة كمراجع يتمّ تشاركها خلال الحديث. وهذا الأمر يتكرر في العائلات (الحاكمة) الأخرى في الخليج. في العائلة الحاكمة في السعودية، تتكرر أسماء مثل فيصل، فهد، عبد العزيز، سلطان، تركي، خالد، محمد، سعود، سلمان. العائلة الحاكمة في الكويت تعتمد أسماء مثل سعد، صباح، إبراهيم، جابر، دعيج. في الواقع، هذا النمط والذي أكثر ما يكون ظاهرًا بين عائلات «الأصول»، هو شائع في الثقافة العربية. فالعادة العربية بتسمية الحفيد على اسم جده تميل إلى التركيز على أسماء معينة في عوائل معينة.
البحرين جزيرة صغيرة جدًّا، وسكانها الذين يقل عددهم عن نصف مليون نسمة، يعيش معظمهم في أقصى شمال البلاد والذي تغذيه المياه. معظم البحرينيين يعرفون شيوخ آل خليفة والمسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى بشكل شخصي. ربما لم تسمح لهم الفرصة بالحديث إليهم، لكنهم بكل تأكيد رأوهم. في الأعياد المهمة كعيد الفطر الذي يأتي في نهاية شهر الصوم، رمضان، وعيد الأضحى الذي يأتي بعد الحج، يقوم حاكم البلاد بفتح بيته لاستقبال مريدي الخير. بالتأكيد مجتمع هذا البلد صغير وهناك سوق تجاري واحد في المنامة، كما أن العديد من مكاتب الحكومة الجديدة تتمركز في مبنى واحد.
الألفة والتعاطي غير الرسمي اللذان يربطان بعض الخريجين بالحاكم أو أفراد آل خليفة الآخرين… هذه العلاقات التي يتم الحديث عنها بصوت مرتفع خلال جلسة بيرة «هاينيكن» في فندق الخليج، تتبخر فور التواجد مع أحد الشيوخ أو أي فرد رفيع المستوى من العائلة الحاكمة. في محضر شيخ القبيلة أو الأمير يُظهرُ الناسُ الهدوء والرصانة والصرامة. الشيوخ منفتحون، لكن الوصول إليهم صعب. لطالما كان هناك مسافة تفصل العائلة الحاكمة عن عامة الشعب، فقراء كانوا أم أغنياء. هو الانفتاح الذي يقوم بعض المفكرين الخليجيين بالخلط بينه وبين الديموقراطية. لكن الديموقراطية – تُعرّف على أنها المرجع غير العنيف الذي يدير الأزمات، والتي بموجبها تكون الحكومة مسؤولة أمام الشعب من خلال إعلام حر وحياة سياسية وأحزاب سياسية وانتخابات حرة. هذه الديموقراطية ليست الانفتاح ذاته. وكغيرها من مظاهر الديموقراطية، مثل الانتخابات، الاقتراع العام أو الاستفتاءات، الانفتاح يمكن أن يعمّ بالطبع في الأنظمة الاستبدادية. على كل حال، الشيوخ والأمراء ليسوا منفتحين عن طيب نفس. صحيح أنهم يقيمون مجالس مفتوحة أسبوعيًّا، وغالبًا ما تكون بعد صلاة الجمعة مباشرة، لكن الذين يريدون أن يحضروا هذه المجالس عليهم أن يعلنوا مسبقًا عن أهداف (الزيارة). ويقومون بذلك عبر مسؤول معروف يلعب دور الوسيط بين الحاكم والشعب. في العام 1975 الضابط الذي تولى هذا الدور كان يوسف بن رحمة الدوسري. يزور الناس مجلس الشيوخ لأغراض متعددة: ليرحبوا بالأمير حال عودته من رحلة خارج البلاد، أو لأداء البيعة لنظامه، أو لطلب مساعدة (في تأمين) مهر العروس، أو إعانة مالية للدراسة في الخارج، أو تمويل لعلاج طبي أو لفتح تجارة جديدة أو حتى لزيارة بلدان أخرى للاستجمام. وطبعًا تنبع قدرة الأمير على منح هذه الهدايا الأبوية من حقيقة أن العائلة الحاكمة تسيطر على الجزء الأكبر من الثروة الوطنية ومن ضمنها الإيرادات النفطية.
ممول بحثي، د. علي تقي، والذي كان على رأس قسم الشؤون الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، نصحني بأن أزور مجلس الشيخ وأقدم احترامي له؛ وهذا ما فعلته. عند مدخل هذا المجلس وقف مدرب صقور مستقيم كالرمح باللباس الملكي الكامل. وأخبروني أن مدرب الصقور القادم من السويد يرمق أي زائر ليرى مدى ولائه. شخصيًّا، اعتقدت أن الرجل لديه عيون أكثر حدة من الصقر. مشينا في القاعة باتجاه الشيخ الذي كان يجلس مقابل المدخل. وبجلسته الملكية على كرسيه، أحنى الشيخ رأسه قليلًا إلى الأمام، مسلمًا بقدومنا. وأثناء انحنائنا أمامه، مشينا لنأخذ أمكنتنا على يمينه. وكانت بعض الكراسي قد أُخذت بعيدًا. وعند مرورنا، همس الدوسري في أذن الشيخ معرفًا عنا فابتسم قليلًا، فيما كان زوار جدد يأتون وآخرون يغادرون بشكل كان فيه البيت مزدحمًا. وكان هذا الواجب يكتمل في الوقت الذي كان فيه الحاكم يضع عينيه على الزائر.
الزوار المميزون كانوا يجلسون على يمين الشيخ، وكلما كنتَ أقرب إليه كلما كان مقامك أكبر.
بالنسبة للناس، اليد اليسرى تعتبر نجسة معنويًّا واستعمالها بنظرهم يناسب المرحاض فقط. يتمّ تناول القهوة، والتي كانت تقدم بفناجين صغيرة، باليد اليمنى دائمًا؛ حيث إن تناولها باليسرى يعد إهانة كبيرة.
خادم القهوة يجلس متأهبًا قرب الضيف ويقدم له القهوة بشكل مستمر حتى يهزّ الأخير الفنجان معبرًا عن اكتفائه. لكن إذا تناول الضيف القهوة لأكثر من مرتين أو ثلاث فإن هذا التصرف يعد غيرَ لائق، وهذا أقل ما يقال. أما الذين لا يحبون القهوة أو لا يريدونها لأسباب صحية أو غير ذلك، يمكنهم أن يأخذوا مشروبات غازية؛ ويعتبر واجب الزيارة قد تمّ في كلا الحالتين.
سواء كانوا في الحكومة أو خارجها، يقدم شيوخ آل خليفة دعمهم لنظام الحكومة بطرق كثيرة ومختلفة. فهم الجهاز الذي يتطلب الوفاء ويحافظ على البيعة. هم يؤثرون على التوظيف، وخاصة في المشاريع التي ترعاها الدولة. كما أنهم يتدخلون بإدارة الأعمال، يراقبون حركة الناس ويتابعون أمورهم الخاصة: مَنْ تزوج مَنْ، مَنْ وظف مَنْ، مَنْ دفع الرسوم، مَنْ ذهب إلى الجامعة، أين سيتم علاج المرضى. هذه الأمور والعديد من الأسئلة الأخرى باتت معلومات ذات صلة بممارسات السلطة. لقد كانت المعلومات المفصلة التي يمتلكها شيوخ آل خليفة عن الناس شاملة بشكل لافت.
وكالشيوخ، كان شيوخ آل خليفة يعقدون اجتماعات أسبوعية في مجالسهم التي كانت في السوق في العاصمة، المنامة، أو في بيوتهم. وكان الناس الذين يحضرون هذه المجالس الخاصة يتبادلون النظرات والأخبار والأسئلة والاستفسارات بحرية. كانوا يناقشون المرض، الصحة، التعليم، التاريخ، الدين، الزواج، الطلاق، الجنس، النساء والسياسة. لقد كانت هذه المجالس منبرًا يُزود الشيوخ بمعلومات عن زوارهم.
عند سؤاله لماذا هو غير متحمس لوجود تعليم حديث في المدارس التبشيرية والتي بدأت عملها في البحرين في نهاية القرن التاسع عشر، أجاب الشيخ عيسى ابن علي آل خليفة فورًا: «مجالسنا مدارسنا».
المجلس الذي كنت أحضره في معظم الأوقات كان مجلس الشيخ خالد بن محمد آل خليفة، الذي كان وزيرًا للداخلية. لقد كان مرجعًا فيما يتعلق بتاريخ آل خليفة، مولعًا بحماس بصيد الصقور ومعجبًا بشدة بالقبلية والثقافة القبلية. كان مسلمًا مخلصًا، لكن اعتزازه كان واضحًا بمعارضة أبي لهب المهووسة للإسلام خلال مراحل تطوره الأولى. لقد كان أبو لهب متعصبًا لقبيلته، وعدوًا أساسيًّا لمحمد، حيث قاتل المسلمين في حياته وتعهد بقتالهم في آخرته.
خلال أحد مجالس الشيخ خالد، تركز النقاش على النسبة المتزايدة لزيجات المسنين البحرينيين من نساء مصريات صغيرات في السن. سجلات المحكمة في منتصف السبعينيات (من القرن الماضي)، والتي اطلعتُ عليها، أظهرت ارتفاعًا واضحًا في نسب الطلاق والزواج الثاني والزواج من نساء صغيرات (بحيث يتعدى فارق العمر بين الزوجين الأربعين سنة). عندما دخلت مجلس الشيخ خالد، والذي يغصّ برجال من جميع الأعمار، وقف الشيخ مرحبًا بي كالعادة: «يا هلا بالدكتور». أجلسني بقربه وعرّفني على زواره، وبعدما تناولت القهوة التفت إليّ قائلًا: «كنا نناقش مسألة زواج الرجال من نساء صغيرات في السن». ثم أشار إلى رجل طويل جدًّا ذي جذور أفريقية وتابع: «هذا الشرطي المتقاعد ذي الخمسة وستين عامًا يريد الزواج من امرأة مصرية عمرها ثمانية عشر عامًا، وهو متزوج لمرتين ولديه أكثر من عشرة أولاد. قل لي هل هذا سليم طبيًّا، أن يتزوج رجل بهذا السن من امرأة صغيرة في السن كهذه؟».
مستشعرًا معارضة الشيخ خالد لهذا الزواج، أجبت قائلًا: «الحب بيد الله ! بيولوجيًّا، تنتهي خصوبة المرأة عند عمر الخمسين كمعدل عام، بينما تبقى خصوبة الرجل لوقت أطول، حتى عمر السبعين. لكن الزواج لا يعني إنجاب الأطفال فقط، فهو بالإضافة إلى ذلك يُعتبر مسألة شراكة وتفاهم متبادل وأذواق متماثلة وتوجيه قيّم. الزواج من فتاة صغيرة جدًّا في السن يساوي الزواج من ابنة. إنه زواج من جيل آخر. باختصار، مع مرور الزمن هو ينضج إلى حدّ الوقوع وهي تنمو كبرعم».
صاح الشّيخ خالد: «اسمع، اسمع».
لكن الشرطي المتقاعد لم يتأثر بالنقاش وقال بدون تردد: «أيها الشيخ خالد، أقسم بالله العظيم أنني سأتزوجها ما دام الغصين يدخن».
خلال بحثي، كان عليّ أن أجمع بين الناس من مختلف الأطياف والألوان، لكن الخريجين بقوا المجموعة المرجعية. لقد ساعدوني حتى أستقر (في ذلك البلد) ودعوني إلى حفلاتهم الخاصة، كما سهلوا لي تواصلي مع المسؤولين وساعدوني في الاطلاع على البيانات الأرشيفية وإقامة إحصاء شامل لأربعين موقعًا. وفوق كل ذلك، قدموا لي الصحبة. الثقافة العربية المملة والكئيبة كما تبدو خلال النهار، تمّ تعويضها بأنشطة نابضة بالحياة غالبًا ما تُعقد في الليل في بيوتهم الخاصة. لقد كانت تشبه إلى حد كبير فساتين النساء: عباءة سوداء في الظاهر، لكنها تخفي تحتها النسيج الحريري الملون.
وكلَيلة السبت في الدول المسيحية، كانت ليلة الخميس في البحرين مناسبة للاستجمام والتسلية. بعض البحارنة يقيمون حفلات نخيل بحيث يشربون ويحتفلون بعيدًا عن أعين المجتمع. بعضهم يُسلي ضيوفه في بيته، وبعضهم يذهبون لصيد الأسماك طيلة الليل، فيما بعضهم الآخر (وخصوصا السُّنة) يقيمون جلسات شعر ديني في مدح الرسول وآل قريش الكرام. أما بعض الشيعة فيرتلون مقتطفات من كتب تحكي عن معركة كربلاء إحياءً لذكرى القتل الوحشي للإمام الحسين. شاركتُ في عدد من هذه التجمعات الخاصة واستمتعتُ بهم جميعًا بنسب متفاوتة. من التجمعات التي تركت بصمة لا تُمحى من ذهني، ربما بسبب أولويات بحثي، كان إلقاء الشعر وإحياء كربلاء.
حفلة الصيد التي كنت أشارك فيها كانت تضمّ حسن كمال، وكان يعمل في اختيار الأغاني في محطة الإذاعة، ماجد وهو أستاذ مدرسة، وأنا. كنا نبحرُ في الليل في زورق آلي على طول المياه الضحلة والشعاب المرجانية حيث كانت الأسماك تأتي لتأكل. معدات الصيد كانت بسيطة: خيط طويل، وصنارة، وطُعم. كنا نبرم الصنارة ونرمي الطعم في البحر بعيدًا بقدر ما نستطيع. عند حمل الخيط بين الإبهام والسبابة كنا نشعر بالسمكة وهي تلتقم الطعم فنسحب الصنارة فجأة ونصطادها. هذه الطريقة أغنتني عن المعدات المعقدة التي كنتُ أستخدمها في تقنية أورغين المطوّلة. وعند الفجر كنا نعود إلى «أوال» (كما كان يُطلق على البحرين قديمًا) عبر الشاطئ الرملي الصغير حيث كنا نقيم طقوسنا الصباحية قبل أن نتفرّق إلى بيوتنا.
منتقي الأغاني (حسن كمال)، وهو موسيقي موهوب وكان عضوًا في فرقة خاصة؛ كان يعزف على القيثارة ولديه صوت شجي. الصوت لا يهم، بل هو الإيقاع والأسلوب، فأغانيه كانت تتدفق بشكل طبيعي والمعنى يتجلى في كل مقطع لفظي يطلقه. كان كمال يغني في حفلات النخيل، سمعت كثيرًا عن هذه الحفلات وكنت متشوقًا لأعرف عنها أكثر، لذلك عندما دُعيت إلى واحدة منها عبر صديق مشترك، قبلت الدعوة بسرور. هذه الحفلة على وجه الخصوص كانت تقام كل ليلة خميس في بيت أحد أصحاب المليارات البحرينيين، حيث بدأت عند العاشرة مساء وانتهت عند الثانية من بعد منتصف الليل. حضر الحفلةَ ذكور بحرينيون وإناث غربيات (في أغلب الأحيان كن سكرتيرات ومضيفات طيران).
دخل الضيوف من الباب الخلفي، بينما الباب الأمامي كان يُستعمل في الاحتفالات والمناسبات الرسمية. قادنا مضيفنا، وهو رجل خمسيني طويل، إلى صالة صُفت فيها بشكل دائري كراس موسدة. وأمام كل ضيف كانت طاولة وضعت عليها زجاجات ويسكي «سكوتش» وزبديات ممتلئة بالمكسرات المحمصة. جلسنا وأومأ لنا المضيف بالتخلي عن التعاطي الرسمي، فشجعَنا على تناول الشراب (الذين لا يرغبون بالويسكي كانت تقدم لهم ضيافة أخرى). تناولُ الشراب بالإضافة إلى قضم المكسرات والتحدث بأمور تافهة كان نظام تلك السهرة. لقد تحدثنا عن القهوة والخمر والنساء والويسكي والسفر والمناخ والموضة. وباستثناء بعض رجال الأعمال المعقدين والذين كانوا أقرباء المضيف، كل من كان في الحفلة شارك في أغنية أو عزف على آلة موسيقية بشكل أو بآخر.
وعند الساعة الحادية عشرة تقريبًا، بدأت النساء بالظهور وكان الجو قد أصبح مريحًا بالفعل وازداد عفوية. وبعد ساعة أو ساعتين من الشراب المفرط، بدأ كثير من رجال الأعمال بمغازلة النساء اللواتي بجانبهم، فقام كل جسد، مبتهجًا بروحه، بفعل الشيء الذي يحلو له. بعضهم رقص وبعضهم أقام علاقة وبعضهم قبّل وبعضهم الآخر أطلق تنهدات الإعجاب، صائحًا: «الله، الله، الله». وهذا التعبير يتشابه بشكل عرضي مع التشبيه الذي يُسمع في حلقات التعبد الصوفية، فالعرب دائمًا يذكرون الله في حالات الجذل.
عند الواحدة تقريبًا، دعانا المضيف، الرجال أولًا، إلى العشاء في غرفة محاذية. أطعمة عديدة قُدّمت، وكان أبرزها الخروف المشوي والأرُز. لقد كان تناول الطعام سيد الموقف حيث لم يتكلم أحد، وكان يُتوقع من أي ضيف ينهي طعامه أن يغادر من الباب الخلفي نفسه، عملًا بالآية القرآنية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ”.
غادرتُ المكان بعد الطعام، شاكرًا للمضيف كرمه وحسن ضيافته، ومفكّرًا فيما تعلمت من هذه الليلة البديعة.
الحلقات الدينية السنية والشيعية، والتي كانت تقام أيضًا في بيوت خاصة لكن من دون خمور ومن دون نساء، أنتجت الجو نفسه بين المشاركين: فرح، ارتياح، أرواح متحمسة وتنهدات التقدير التي تزامنت مع تلاوة أسماء الله الكريم، الحي والواجد. حتى الشعر الذي يُنشد في مديح الرسول وصحابته كان يتحول إلى حالات أخرى من الحب أو التأثر أو المودة. فالنصوص تعجّ بالكلمات والعبارات الرومنسية: «القلب يدق على ذكراك»، «وقت المحب قصير»، «شوقي للمحة من وجودك».
في الحلقات الشيعية، كانت العاطفة نفسها تتخللها صرخات المعاناة والحزن، وكان يُعبر عنها خلال مجالس العزاء التي تُحيي ذكرى الإمام الحسين، ابنته فاطمة، وأخته زينب، وأصحابه الذين قُتلوا في كربلاء. أيضًا هنا سمعت كلمات الحب والتأثر، والوفاء والبيعة، وكانت هذه الكلمات مصحوبة بنداءات التلبية وتهديدات الأخذ بالثأر.
لم يكن هناك مشكلة فيما إذا كنت قادرًا على المشاركة النشطة في هذه الحفلات والتجمعات، فبقيت علاقتي العاطفية مع مثل هذه النشاطات سرًّا. ويبدو أن الحقيقة الخالصة القائلة بوجودي في مثل هذه المجالس عززت مكانتي كمراقب ووسعت نطاق شبكة بحثي. الكثير من الناس كانوا سعداء عندما يرونني بينهم: أن تزور، يعني أن تحترم. على سبيل المثال، وبالرغم من أنه كان صعبًا عليّ أن أرتبط عاطفيًّا بهذا الحزن الذي تحول إلى شعائر في مجالس عاشوراء، وجدت نفسي منغمسًا في عملية الملاحظة والتحليل.
أجريت مقابلات مع العديد من العلماء على اختلاف مقاماتهم، لكن أكثر من أعجبني هو المميز، المُلا عيسى، الذي قارب عاشوراء بقوّة واضحة. كان الملالي مادة دسمة لأغراض بحثي، حيث كان يصعب عدُّهم، ينتشرون بين مجتمع المؤمنين، ويتمتعون بحرية أكبر في ممارسة طقوس عاشوراء وتطعيمها أيًّا كانت الأفكار الجديدة التي تعلموها.
في نقاشاتنا الخاصة، سألني المُلّا عيسى ذات مرة عن مواضيع تترواح بين تاريخ العرب والتحكم بالسوق: الأسهم، التمويل، الميزانيات الوطنية وأسعار الصرف. في اليوم التالي، وبلفتة منطقية، جزءٌ لا بأس به من حديثنا كان واضحًا في خطبته.
في المقابل، الملالي رفيعو المستوى، والذين يطلق عليهم اسم «المجتهدين»، كانوا قلةً ويخطبون في المجالس مرةً أو مرتين سنويًّا، كانوا «يُشاهَدون»، وبالتالي كانوا يتكلمون بتحفّظ.
إذًا، كمجموعة، كان للملالي الأقل مستوًى تأثير أكبر على المؤمنين الذين كانوا يتشوقون ليسمعوا عن «معجزات» عاشوراء. إحدى هذه المعجزات كانت تُعزى إلى أبي الفضل العباس حين قتل الملايين من جيش يزيد بن معاوية. فبينما لا يتردد المُلّا الأدنى مرتبة في أن يذكر هذه المعجزة على مسامع الجمهور، يشكك المُلّا الأعلى مرتبة في هذه الحادثة، كما فعل الشيخ جابر من العراق مستندًا على المنطق الصرْف.
يقول: «صحيح أن عدد الجنود الأمويين كانوا يفوقون حملة الإمام الحسين العسكرية إلى الكوفة، لكن على الأغلب بآلاف وليس بملايين كما يعتبر بعض الملالي على نحو خاطئ. إخواني، ليس هناك اقتصاد يستطيع أن يتحمل إعالة ملايين الجنود. أيضًا، حتى ولو كانوا مليون فرخة، لم يكونوا ليُذبحوا في يوم واحد».
كنت مشغولًا طيلة شهر عاشوراء بمراقبة طقوس الشيعة، حتى إن بعض أصدقائي من الخريجين بدأ يناديني الملا فؤاد. كما تطورت صداقة حميمة نوعًا ما بيني وبين الملا عيسى. وبعد عدة لقاءات، أصبحت قادرًا على قراءة جزء لا بأس به من قصص عاشوراء عن ظهر قلب، والتي كانت تُكرر بشكل حرفي عند اجتماع المؤمنين للعبادة، مثل الصلوات عند المسيحيين الأرثوذوكس. كان المُلّا يسعدُ بقراءاتي. وقد اعتدنا على اللقاء مرة في شقتي ومرة في شقته. في بيتي، كان اللقاء يبدأ قبل الغداء ويبقى إلى ما بعده. في بيته، كنا نلتقي بعد الظهر على فنجان قهوة بنكهة القرنفل والهيل. عندما كان يزورني، كانت زوجتي تستقبله بترحيب وتواكبه إلى غرفة الضيوف. أما عندما كنت أزوره، فكانت زوجته تستعلم عن الضيف أولًا، ثم تفتح الباب بعد أن تنزع حبلًا متصلًا بالقفل. بعد ذلك، تبقى على مسافة بحيث أستطيع الدخول من دون أن أرى وجهها. عندما كنت أسمع صوتها كان يزيد فضولي في أن أرى شكلها، فقررت أن أعامل المُلا بالطريقة نفسها، وهي أن لا أدعه يرى وجه زوجتي حتى أرى زوجته.
في زيارته التالية، فتحت الباب واستقبلته، مواكبًا إياه إلى غرفة الاستقبال، وقدمت له القهوة ثم الغداء. يومها، بقيت زوجتي في الغرفة المحاذية، فسألني وهو مستغرب غيابها: «أين العائلة؟»
قلت له: «هنا».
سألني: «هل هم مرضى؟».
أجبته: «كلا، نحن أصدقاء والعلاقة بين الأصدقاء يحكمها التعامل بالمثل. عليك أن لا ترى وجه زوجتي بعد الآن حتى أرى زوجتك».
فضحك المُلّا وهمس ببضع كلمات، وقال مبتسمًا: «ان شاء الله سأراك غدًا بعد الظهر».
عندما زرته في اليوم التالي، استقبلتني زوجته شخصيًّا عند الباب، كان وجهها مغطًى بحجاب أسود سميك. عندما مددت يدي للمصافحة، استغفرت الله وخبأت يدها داخل عباءتها القاتمة. النساء المسلمات التقليديات في المجتمع العربي يعتقدن أن مصافحة الرجل تعادل إقامة علاقة جنسية معه؛ لكن على حد تعبير المُلّا، «هي أصبحت ملكه».
مشيت نحو غرفة الضيوف حيث ينتظرني المُلّا. عندما رآني ابتسمَ وقال: «لم يكن ذلك كثيرًا، صحيح؟».
أجبته: «بلى، إنني أرى وجه زوجتك مئات المرات كلّ يوم!».
كنت أقصد الوجه المحجوب. ولم يفهم المُلّا قصدي إلا بعد بضع لحظات فضحك ثم ظل يضحك على تعليقي مرارًا وتكرارًا لأيام عديدة.
علمت من المُلّا عيسى أن معظم الشيعة في البحرين يشاركون في صلاة الجمعة مأمومين بثلاثة شيوخ على وجه الخصوص. تاريخيًّا، امتنع الشيعة، وهم الذين رفضوا سلطة الحكومة في غيبة إمامهم المنتظر، عن إقامة صلاة الجمعة إلا إذا كانوا مأمومين بشيخ يمكن له، من خلال أعماله الصالحة، أن يقوم بدور نائب الإمام المغيّب. لذلك كانت صلاة الجمعة ترمز إلى مدى قبول سلطة النظام الحاكم. ولأنه مع مرور الزمن ظهرت مصلحة كبيرة في تدريب وتجنيد العلماء الإسلاميين، فكرتُ في أن ألتقي واحدًا على الأقل من هؤلاء الثلاثة، فقمت بترتيب لقاء مع الشيخ إبراهيم وذلك عبر عدة اتصالات.
كان الشيخ إبراهيم رجلًا طويلًا، فاتح البشرة، رماديّ الشعر، عسليّ العينين. ومع أنه كان على مشارف الستينات، كان يتمتع بلياقة بدنية، فكان يجلس ويقف بشكل مستقيم ووضعية ممتازة. كان يتكلم العربية بسلاسة مع لكنة فارسية بسيطة، ما أضفى سحرًا على خطابه. أصوله بحرينية، وقد زعم أن أسلافه كانوا يتنقلون ذهابًا وإيابًا بين البحرين والشاطئ الغربي لبلاد فارس لأجيال عديدة. كان بيته تقليديًّا بشكل كلاسيكي، من نوع الحوش، فكان عبارة عن مجموعة غرف بُنيت حول حديقة لتتناسب بشكل مريح مع بنية العوائل الكبيرة الممتدة أو العوائل ذات الزوجات المتعددة. كانت تظهر لمسةٌ من التقشف على أسلوب حياته: ثيابه متواضعة، لكنها ثياب قطنية نظيفة؛ كوفيته بيضاء ناصعة ليس فيها آثار زخرفة أو تطريز. وبعكس الأمراء، كان يلبس الكوفية من دون العقال، وهو ذلك الرباط الدائري الذي يستعمل لتثبيت الكوفية. أرضية غرفة الاستقبال كانت مغطاة بحصيرة قشّ بالية ومطوقة على طول الحيطان بوسائد قطنية سميكة. أما الجدران، فقد كانت عارية إلا من البقع الصفراء التي تسبب بها تسرّب المياه.
حالما جلست إلى يمينه، تم تقديم القهوة، تناولت القهوة بيميني وفتحت نقاشًا حول نوعية القهوة البحرينية المنكّهة بالقرنفل والهال. بعدها، غيّرت الحديث ليتناول طرق تجارة التوابل القديمة عبر الخليج، والتي ربطت الشرق الأقصى بالشرق الأوسط وأوروبا. الحديث عن التاريخ كان طريقة جيدة لفتح نقاش. أشرت إلى أن الصحراء العربية، وهي بيئة بسيطة نسبيًّا، أنشأت مؤسستين معقدتين، العربية والإسلام. وشددت على أن الغاية من زيارتي هو التعرف إلى الإسلام، قوانينه وعقيدته، المؤمنون والعلماء.
قال مؤكدًا: «كلّنا يبتغي المعرفة». وأضاف: «أعرف أنك بروفيسور، وقد سمعت عن غايات بحثك ومعرفتك الكبيرة بالإسلام؛ لذلك لديّ اقتراح: أنت تطرح علي أسئلتك، ثم أطرح أنا أسئلتي».
فيما ركزّت أسئلتي على التنظيم الديني في الإسلام، أسئلته ركزت على موضوعين: فيزيولوجية المرأة، وتواريخ موت المسيح والحواريين والقديسين المسيحيين. لقد كان لديه معرفة كبيرة بأمور تتعلق بفيزيولوجية الإنسان مثل الحيض، الجماع، هزة الجماع، التلقيح، الحمل، الولادة، الرضاعة وطرق منع الحمل كما ناقشتها المصادر الإسلامية. إلا أنه كان يريد أن يعلم فيما إذا كانت معرفته مبنية على العلم.
شرح قائلًا: «أسأل هذه الأسئلة لأن المؤمنين دائمًا يستشيرونني بهذه المواضيع». وقد استشرت طبيبًا حتى أتأكد من أني قدمت له الأجوبة الصحيحة.
اهتمامه بتواريخ موت الشخصيات المسيحية يكمن في أن التقاليد الشيعية تحوّل الحزن إلى طقوس. فهم يقيمون المناسبات على نحو مقدس على مدار ثمانية عشر تاريخًا، إحياءً لذكرى موت أئمة مسلمين معروفين. هم يطلقون على هذه الأيام التحاريم وهي تعني المقدس أو المحظور. وقد كُتبت العديد من الكتب عن هؤلاء الأئمة والطرق التي ماتوا بها. أحد هذه الكتب يتحدث عن موت السيدة مريم العذراء ويفصل في عدد عمليات التشويه التي طالتها وهي غير موجودة في الكتب المسيحية. بالطبع عمليات التشويه ترتبط بعاشوراء التي تُحيي موت الإمام الحسين.
خلال إحدى زياراتي، سألني الشيخ إبراهيم: «أيها الدكتور، ما هو التاريخ الدقيق لموت يهوذا الاسخريوطي؟»
أجبته: «والله، لست أعلم».
سألني: «وعيسى المسيح، متى توفي بالضبط؟»
«والله، لست أعلم.»
«متى توفيت مريم العذراء؟»
«والله، لست أعلم.»
ثم رفع عينيه نحوي، وقال مبتسماّ: «يا دكتور، هل أنت مسيحي أم مسلم؟».
لقد كان الشيخ إبراهيم يعلم جيّدًا أنني مسيحي، لكنه قال كذلك نظرًا لمعرفتي الواسعة بالإسلام وجهلي الواضح بالمسيحية.
أجبته قائلًا: «والله، لست أعلم».
لقد كان يريد أن يعلم التواريخ الدقيقة، وليس فقط الأيام التي نحتفل فيها بهذه المناسبات بشكل تقليدي، مثل يوم الجمعة العظيمة الذي قتل فيه المسيح، أو 15 آب/أغسطس يوم توفيت مريم العذراء.
لقد زرت الشيخ إبراهيم على مدى نحو أسبوعين، وأعجبت بشكل كبير بأسلوبه، بمزاجيته، بمناهجه. لقد علمت من خلال الوثائق الرسمية أنه طلّق وتزوج لمرات عديدة، وأن لديه عددًا من الأبنية السكنية في المنامة. لكن سمعته عن أنه صالح ومستقيم بُنيت على أساس افتراضات أنه كان يعارض الطلاق بشدة ويحيا حياة متقشفة، فقلت في نفسي يا لهذا التناقض.
وقد كان الشيخ شخصًا قريبًا لدرجة أنني قررت أن أواجهه بما اكتشفت. فقلت له: «يا شيخي، يا معلم الفضيلة، جئت إليك لكي أتعلّم عن الإسلام وعاشوراء وعلماء الشيعة، وقد حققت هذا الغرض وأنا ممتن جدًّا لك. لكن، وفي الوقت نفسه، لقد علمت الكثير عنك على الصعيد الشخصي. دعني أطمئنك أوّلًا إلى أنني لو كنت شيعيًّا أعيش في البحرين، لكنت من المصلين خلفك في أيام الجُمُعات. لكن، هناك نقطتان مهمتان تزعجانني، قلت ذلك بطريقة الاعتراف، ففي هذه الحالة، يسعى الواحد إلى الكشف عن أسراره أمام الآخر من خلال الثقة المطلقة.
شعرت في هذه المرحلة أنه تضايق قليلًا، الأمر الذي لم يترك لدي خيارًا غير متابعة كلامي: «عندما كنت أطّلع على سجلات المحكمة عن الطلاق، لاحظت أنك طلّقت لأكثر من مرة. وعلاوة على ذلك، سجل البلدية يظهر أنك تملك عددًا من الأبنية السكنية والتي يتم تأجيرها. لكن من المعروف بين مؤيديك أن لديك موقفًا حازمًا ضد الطلاق، وأنك تعيش حياة متقشفة».
ضحك الشيخ (هذه كانت المرة الأولى التي كنت أراه فيها يضحك) وقال: «أسأل نفسي الأسئلة ذاتها. نعم لقد طلّقت لعدة مرات، لكنني كنت أُبقي دائمًا على أربع زوجات حتى أعدل بينهن».
لقد كان واضحًا أنه يفسر الآية: “فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً”. لقد تزوج ليس رغبة في أن يكون لديه زوجات متعددة، لكن بقصد أن يختبر قدرته على السعي نحو العدل وإقامته.
المسلمون الذين يعارضون تعدد الزوجات، يصرون على أنه من الصعب جدًّا، إن لم يكن مستحيلًا، أن تعدل بين أربع زوجات، خصوصًا إذا كان العدل يفرض أن تعطى كل زوجة حصصًا متساوية من الطعام، اللباس، البيوت، المجوهرات، الجنس، وفوق كل هذا، العاطفة. وإذا تحول الحب إلى تصنع في الحب، يضمن العدل خلق فرصة جيّدة. بناءً على هذا الفهم، طلاق امرأة لا يستطيع الزوج أن يعدل بينها وبين الأخريات واستبدالها بمن يستطيع أن يقوم تجاهها بذلك، يصبح طريقة لتحصيل العدل _ ذلك منطقي، أليس صحيحًا؟
وفيما يتعلق بامتلاكه لمبانٍ سكنية، قال الشيخ إبراهيم شارحًا: «يقوم الكثير من المؤمنين الكرام بالتبرع لي، وبدوري، أستثمر وأُعيد التوزيع (على الناس). ما يهم ليس ما أملك _ فالملك لله _ إنما كيف أعيش. لم يقل القرآن إن الإنسان يُحاسب على ما يملك، ففي يوم الآخرة، يُحاسب المرء على أعماله ونواياه – على الطريقة التي صرف فيها ثروته، وليس على امتلاك الثروة».
أسرار معلنة
للنقاش لا للنشر
الفصل الحادي عشر
أحببت البحرين وناسها، وأردت أن أكتب كتابًا يعبّر عن مشاعري تجاه هذا البلد من دون المجازفة بمهنيتي. فقررت، بعد مراجعة المعلومات التي جمعتها، الكتابة عن بزوغ هذه الجزيرة الصغيرة، التي أصبحت دولة مستقلة معترفًا بها بشكلٍ كامل من قبل المجتمع الدولي عام 1971، أي قبل ثلاث سنوات من زيارتي لها. ظننت أنه يمثّل تحدٍّ للنظريات السياسية إظهار كيف أنّ القبيلة، على صِغَر مجتمعها، من الممكن أن تتصرّف كدولة _ أو بموازاة ذلك، كيف يمكن للدّولة أن تتصرّف كقبيلة. لذا، إنْ كانت القبيلة شكلًا بسيطًا من أشكال التنظيم السياسي نشأ في باكورة التاريخ الإنساني، والدولة تركيبة معقّدة ظهرت في تاريخنا المعاصر، فلمَ لا يمكن لكليهما التكيّف، لا بل الاندماج في ظل نظام حكم واحد لتُساند كل منهما اﻷخرى؟
شعر الكثير من اﻷشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بالبهجة إزاء تحقيق الاستقلال غير أن قلقًا شديدًا كان ينتابهم في الوقت نفسه من إدارة الدولة الجديدة الصغيرة. وكنت مقتنعًا بأنّ سردي لتاريخ البحرين، المفعم باللآلئ والقرصنة والنفط، ونشأتها كدولة حديثة سيثيران إعجاب عدد كبير من القرّاء. ولعلّ الحكومة البحرينية ستشتري نُسخًا من الكتاب لوهبه للنخبة والزائرين. وقد لازمتني هذه التّوقعات أثناء إجرائي بحوثًا يتطلّبها الكتاب مع عناية بالغة بالتفاصيل حتّى أنهيت المسودة الأولى منه في شهر حزيران/ يونيو عام 1978 في جامعة أوريغون، حيث كنت أحاضر عن الشرق الأوسط، لفصلٍ دراسي. وكانت جامعة شيكاغو برس، التي تولّت نشر كتابي عن ضواحي بيروت، قد وافقت على نشر كتابي عن البحرين. لكن قبيل تسليم المسودة النهائية، أردت التأكّد من ألّا يتضمن أي شيء يُعتَبر إهانة للبحرينيين أو إساءة لهم. لذلك راسلت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي استضافتني في 1974 _ 1975، وتلقيت دعوة للعودة إلى البحرين لمناقشة هذا الموضوع. وعند وصولي، رحّب بي بيل بيري، بحماسه المعتاد، وهو مغترب بريطاني كان مستشارًا لوزير شؤون العمل. وأعلمني بأنّ الوزير طلب منه قراءة الكتاب أولًا، ومن ثمّ تقديم تقرير عن محتواه، الذي أنجزه في عشرين صفحة تقريبًا. ثمّ أردف قائلًا: «كان الردُّ إيجابيًّا لدرجة أن الوزير يودّ أن تصبح أحد مستشاريه ولهذا أعدّ لك ولعائلتك مسكنًا مجهّزًا بالأثاث».
أن أكون مستشارًا! كان العرض مفاجئًا لي. وبعد يوم كامل من النظر في الأمر، قرّرت رفضه. إذ كنت أحب عملي في الجامعة ولم أكن مستعدًّا لاستبداله بوظيفة في المجال السياسي ولم أكن راغبًا في ذلك. وعقب بضعة أيام، التقيت بالوزير وتبادلنا وجهات النظر حول مواضيع مختلفة. وجدت اللقاء سارًّا جدًّا ولكن لم يتم ذكر كتابي بأي شكل، أو الغاية من زيارتي المزعومة للبحرين، أو المنصب الذي عُرض عليّ. فاعتبرت عدم تعليقه على الكتاب علامة على قبوله، فتابعت نشره كما هو. وفي العام 1980، تمّ نشر كتاب «القبيلة والدولة في البحرين: تحول السلطة الاجتماعية والسياسية في الدولة العربية» باللغة الإنكليزية. وفي غضون شهر من نشره، كان يُباع في مكتبة العائلة في المنامة.
وقد خصّصت الإهداء في الكتاب لشخص رمزي، يمثل البحرينيين، واسمه «دانة»، فاسم دانة مشهور عند الإناث في البحرين ويعني لؤلؤة بيضاء صغيرة مستديرة بشكلٍ مثالي. ويكمن سحرها بصغر حجمها وجمالها وعدم غلاء سعرها. لذا، سرّني أنّ أحد أبناء أخوتي، نضال، اختار هذا الاسم لابنته.
وقررت أن أنشر الكتاب بالعربية بعد أن شجعتني التقييمات النقدية الإيجابية التي لاقتها النسخة الإنكليزية، فعمل على ترجمته دبلوماسي بحريني يدعى عبد الرحمن كمال، وكان يمتلك مطبعة، على أمل أن يتم نشر الكتاب هناك. وعند انتهائه، سلّم وزارة الإعلام نسخة منه، والتي لم ترد، لا إيجابًا ولا سلبًا. أدرك كمال أنّ هذا السكوت علامة على عدم الرضى وبالتالي قرّر الانسحاب من المشروع. ومن الواضح أنّه أدرك المعنى المضمر لامتناع الوزارة عن التعليق أكثر منّي. إذ كان تحليلي مغايرًا، فإنّني شبّهت الوضع بحال العروس عند تلقّي عرض زواج، فيكون سكوتها علامة على رضاها. وفي تلك الأثناء، قدّم المعهد العربي للتنمية عرضًا لترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ونشره.
ظهر الكتاب بنسخته العربية في العام 1983، وتمّ منع نشره في البحرين غير أنّ مبيعات الكتاب كانت جيّدة إذ تمكّن البحرينيّون من شرائه في لندن وباريس وبيروت وجنيف والكويت. وتأكّدت من مصادر موثوقة من أنّ كل بحريني ملم بالقراءة والكتابة أقدم على قراءة الكتاب، ما يكشف الغطاء عن النجاح الباهر الذي حقّقه تسويقه، إذ ربما ساهم قرار البحرين بحظر نشر الكتاب في زيادة انتشاره. ولكن تملّكني الفضول لمعرفة سبب منع نشر كتاب كان قد حصل على قبول الوزارة مسبقًا. وفي العام 1983، استغليت الفرصة للذهاب إلى البحرين بعد عرض من الجامعة الأمريكية في بيروت لإلقاء سلسلة من المحاضرات هناك عن إمكانية التطور التعليمي، وفي الوقت نفسه رحت أستكشف عن أسباب منع كتابي من النشر. وعند وصولي إلى المطار في البحرين، رحب بي مسؤول الهجرة كمؤلّف كتاب «القبيلة والدولة في البحرين»، قائلًا: «أهلًا بكم في بلادكم». فشعرت بالارتياح لاكتشاف أنّه على الرغم من كون كتاب فؤاد الخوري محظورًا، إلا أن الكاتب لم يكن كذلك.
استعنت بأصدقائي من خريجي الجامعة الذين حصل معظمهم على وظائف إدارية عليا في الحكومة، لتدبير لقاء مع مسؤول وزارة الإعلام. فوفقًا لما تمّ إبلاغي به، كان على استعداد لمناقشة أسباب منع الكتاب من النشر بالإضافة إلى إمكانية مراجعته سعيًا إلى الحصول على موافقة رسمية لنشره. وكان اللقاء معه سارًّا إذ كان شابًّا والحديث معه مؤنسًا للغاية. فقد وصف الكتاب بأنّه «مثير» ووعدني بإعادة النظر في الموافقة على نشره. بيد أنّه من الممكن أن يحمل لفظ «مثير» معنيين متضاربين، فإمّا يكون «مثيرًا للاهتمام» أو «مثيرًا للإعجاب»، أو على النقيض من ذلك، «مثيرًا للفتن». فسألته مازحًا: «مثيرًا للإعجاب أو للفتن؟» وضحك كلانا.
تطرّقت إلى بعض القضايا التي تناولها الكتاب، التي اعتقدت أنّها قد تكون مثيرة للجدل، عازمًا أكثر فأكثر على اكتشاف اﻷسباب. فذكرت أصل عائلة آل خليفة، الذي يعود إلى قبيلة بني تغلب قديمًا، والذي قرنته بأربعة تجار لؤلؤ في الكويت. ومن ثمّ أشرت إلى النزاع الذي، بناءً على وجهة نظري، قد ينشأ بين رئيس الوزراء، أخي الحاكم، وولي العهد، ابن الحاكم، الذي كان وزيرًا للدفاع آنذاك. وفي نهاية المطاف ذكرت استنتاجاتي حول أرجحية قيام الشيعة بثورة، والمظاهرات التي نُظّمت في الخمسينيات نتيجةً لنهضة القومية العربية، وحلّ البرلمان الوطني في مطلع السبعينيات. وقد عقّب المسؤول على تعليقاتي بسلسلة معقّدة من لفظ «آه»، مظهرًا من خلالها السرور والندم تارةً والانزعاج والتعجّب تارةً أخرى.
وبما أنّ محاولتي لاكتشاف سبب حظر الكتاب من مسؤول وزارة الإعلام باءت بالفشل، فقد لجأت إلى شيخ من آل خليفة الذي كان وزيرًا سابقًا للداخلية، وكنت قد أجريت معه مقابلات مطوّلة عن تاريخ العائلة الحاكمة. استقبلني بابتسامة عريضة عند مدخل قصره المطل على البحر. وأثناء ارتشافنا للقهوة المشبّعة بالهال، ذكرت موضوع الكتاب المحظور. فردّ قائلًا: «ولكن كثيرين قرؤوا هذا الكتاب».
فقلت شارحًا: «أجل ولكنّه محظور».
فالتفت ليرى غروب الشمس في بحر البحرين الهادئ قائلًا: «انظر إلى جمال فنون الله في خلقه».
كان المشهد أخّاذًا فعلًا.
وعند توديعه لي، ضغط على يدي بحرارة، وقال: «إنّ الكثير ممّا يتناوله الكتاب، من إضرابات عن العمل وتظاهرات واضطراب اجتماعي وتمرّد الشيعة وحلّ البرلمان، أمورٌ نتحدث عنها ونناقشها ولكن لا ننشرها. هي أسرار معروفة يدركها الناس ولكن لا يكتبون عنها في العلن».
وفي الواقع، تلك الموضوعات هي كل ما يدور حوله الكتاب. لم يُكشَف لي أبدًا عن السبب الملموس والمقنع من منع نشر النسخة العربية منه. كان أفضل جواب أحصل عليه هو ما قاله لي وزير الإعلام: «إنّ هذا الكتاب يحوي أشياء وأشياء».
شكّل حظر النسخة العربية من كتابي عن البحرين تمهيدًا لما بعد ذلك. إذ تمّ حظر الكثير من كتبي ومقالاتي اللّاحقة باللغة العربية، ومنها: «إمامة الشهيد وإمامة البطل، والعسكر والحكم في البلدان العربية، والسلطة لدى القبائل العربية، والذهنية العربية: العنف سيد اﻷحكام». والجدير ذكره أنّ جميع الدول العربية باستثناء لبنان والكويت ما قبل العام 1990 فرضت حظرًا على الإصدارات العربية لكن لم تهتم أي منها بحظر الإصدارات الإنكليزية منها.
وتحت ذريعة التنظيم الذاتي، قررت مؤسسة الفكر العربي المعاصر، التي صرفت مبلغًا لا بأس به من المال لترجمة كتابي «من القرية إلى الضاحية» في أوائل الثمانينيات، تأجيل نشره لأجل غير مسمّى. ولكن لماذا؟ لأنّ الكتاب، كما وضّح لي مدير المؤسسة، «يستعرض حدودًا طائفية جديدة يُفضَّل أن تبقى في سبات»، و«سبات» كان اللفظ الذي استخدمه بالتحديد لتوصيف الحال. وكان هذا أيضًا سرًّا علنيًّا. ففي حين كان اللبنانيون يخوضون حربًا طائفية دموية، كانت الكتابة عن الطائفية أمرًا «محظورًا».
تمّ حظر كتاب إمامة الشهيد وإمامة البطل بنسخته Imams and Emirs، بسبب عنوان الإصدار العربي. اخترت له هذا العنوان لكي أسلّط الضوء على المقاربة النسبية التي يتّخذها الكتاب. إذ يتمّ تداول موضوع التنظيم والاعتقاد الديني بالنسبة إلى الطوائف الإسلامية المختلفة، بدءًا بالسُّنّة والشيعة والعلويين والدروز والإباضية وصولًا إلى الزيدية، بالإضافة إلى الأيزيديين والمسيحيين الموارنة. إذ يستخدم الشيعة الاثنا عشرية والمذاهب اﻷخرى المتشعّبة من التشيّع مصطلح «الإمام الشهيد» كاختزالٍ دالٍّ على معارضتهم للحكومة الدنيوية، لا سيّما حكومة يُديرها السُّنّة، بينما يستخدم السُّنة مصطلح «الإمام البطل» للتأكيد على الفتوحات وسيادة الشريعة على الحكومة. وقد اعتُبر العنوان مثيرًا جدًّا للجدل، حتّى إنّ مجلّة أسبوعية عربية قدّمت مديحًا ونقدًا رائعًا للكتاب من دون أي ذكر لعنوانه، فتّمت الإشارة إلى الكتاب فقط بالقول إنّه «آخر إصدارات فؤاد إسحاق الخوري» (حتّى إنّ صورة الكتاب المُرفقة بالمقال أظهرت العنوان الفرعي فقط في حين تمّ محو عنوان الكتاب).
ومن الجدير ذكره، أنّني قبل نشر الكتاب هذا أرسلته إلى الكثير من العلماء من طوائف دينية مختلفة للحصول على تعليقاتهم. فشجّعني الكثير منهم على نشر الكتاب، وكذلك فعل، في الواقع، جميع طلّابي _ خرّيجو الجامعة الأمريكية في بيروت _. واقترحت عليّ إحدى الخريجات المسلمات نشره على أن لا يقرأه إلّا القليل من العرب! ولم يُبدِ إلّا اثنان فحسب من زملائي تحفظهما على نشره. وكان أحدهما مسيحيًّا نبّهني من احتمال تعرّض حياتي للخطر في حال نشرته، بينما نصحني الآخر المسلم بالقول إنّه: «لا يمكن للمسيحي أن يفهم الإسلام حقًّا، على الرغم من أنّه، هو نفسه، تخصّص في الدّراسات الإسلامية على يد مستشرق إسلامي مسيحي في جامعة غربية، علمًا أنّه لم يكن قد قرأ الكتاب بعد.
وكنت قد عرضت مسبقًا الكثير من الأفكار التي يحويها الكتاب على شريحة واسعة ومتنوعة من الجمهور. ففي عام 1983، ألقيت سلسلة من ثلاث محاضرات في جامعة شيكاغو برعاية جمعية دعم المحاضرات التذكارية باسم لويد فالرز. وفي العام 1984، قرأت بحثًا في معهد الأنثروبولوجيا الملكي في لندن خلال مؤتمر نظّمه إيرنست غيلنر وشركاؤه حول «النزاع الطائفي». وحاضرت أيضًا عن جوانب مختلفة يتداولها الكتاب في كلية الدراسات الشرقية الإفريقية في جامعتي لندن وجورجتاون عام 1983، وفي جامعتي كامبريدج وأوكسفورد عام 1985، وفي كل من ألباني، نيويورك، وبلومنغتون، إنديانا عام 1987.
وبدفع من النقد والتعليقات الإيجابية من قبل زملائي الغربيين وبعض العلماء، قرّرت أن أختبر بعض المواضيع التي اعتقدت أنها قد تكون «مثيرة للجدل» في أبحاث عرضتها في مؤتمرات عُقدت في الكويت في العام 1983 وفي تونس واسطنبول في العام 1985. ولهذه الغاية، اخترت فصلًا من الكتاب عنوانه «التوافق بين التنضيد الديني والاجتماعي في الإسلام»، الذي يشدّد على أنّ «العقيدة الدّينية»، أي فهم الجانب الإلهي، هي بالفعل انعكاس للحقائق الاجتماعية. فقلت في تلك الأبحاث إنّ القيود السلوكية التي تُفرّق المسلمين عن غير المسلمين في الدولة الإسلامية، هي عينها التي تُفرّق القوي عن الضعيف والرجل عن المرأة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدّينية.
وقد طُبع البحث ونُشِر في الكويت، غير أنّي لم أحظَ بحق عرضه. وعند سؤالي عن سبب عدم منحي ذلك، كان رد ممثّل إحدى المنظمات مجرّد قلب شفته السفلى، أي إشارة إلى قول «لا أعرف». في حين علّق آخر بالقول: «ولماذا تهتم؟ فأنت تُعامل مثل كبار الشخصيّات (VIP) (في جناحٍ منفصل) على أي حال». وفي تونس، اضطر رئيس الجلسة إلى التدخّل لوقف تهجمٍ لفظيٍ تعرّضت له، ولم يكن يتعلق بالبحث على الإطلاق. أمّا في اسطنبول، فقد طُلب منّي تحديد الاستراتيجية الكامنة وراء كتابة بحثٍ مماثل. فأجبت قائلًا إنّي لم أقم إلّا باستكشاف ظاهرة ثقافية مثيرة للاهتمام باللغة العربية أولًا ومن ثمّ بالإنكليزية. ولم يكن هناك سوى نقد واحد حاقد، كان شخصيًّا للغاية وقد كتبه مستجد من جامعة تكساس في دالاس. ولكن بشكل عام، كل المراجعات النقدية الأخرى حملت طابعًا إيجابيًّا، ومدحت المقاربة الشاملة، والنسبية، والموضوعية للكتاب وكذلك دقّة التوثيق فيه. ومع ذلك، تمّ حظر النسخة العربية في العالم العربي.
وعقب نشر كتاب إمامة الشهيد وإمامة البطل، تمّت استضافتي في تلفزيون لبنان. وتمّ عرض المقابلة أكثر من مرّة. وبعد فترة وجيزة من تلك المقابلة، دار نقاش لمدّة ساعتين بيني وبين شخصية قيادية دينية في لبنان مشهورة بوجهات نظرها الأصولية. سُعدت بانفتاح هذا الشّخص ورغبته في الخوض في المواضيع الأكثر حساسية وجدلًا في الكتاب، لا سيّما الدين والقومية والأسس الاجتماعية للطّائفية والدين كنظام اجتماعي. إجمالًا، أثنى على عملي بتعليقاته الإيجابية. ولكن عندما سألته: «كيف ستشعر إذا نشرت ما دار بيننا من نقاش؟» فأجاب بدون أي تردّد: «هذا اجتماعٌ خاص». نعم، الحريّة في الثقافة العربية كالشرف والنساء والأسرة، كلّها أمورٌ سرّية تنتمي إلى الحياة الخاصّة. فعندما يريد الفرد أن يفصح عن ما يكنّه في نفسه وعقله إزاء القضايا الملحّة ممارسًا حرّيته يرمق بنظره فوق كتفه ويبدأ كلامه، مردّدًا المصطلح الشهير «بيني وبينك».
إنّ حرية التعبير عن الرأي ليست «حقًا عامًّا» في العالم العربي. إذ يقف «الحر» في وجه «التقيد» و«الاستعباد» _ ما يعني التّحرر من أي تسلّط. ويتمّ التعبير عن هذه الحرية باليمن وعمان بحمل الخنجر (أو السلاح الرشاش كما شاهدت مؤخرًا في منطقة قريبة من صعدة، شمال اليمن). غير أنّ البلوش المحليين واليهود «المرتبطين» بالقبائل الحامية لا يحملون الخناجر ولا حتى السلاح. وعند بداية اندلاع الحرب اللبنانية، شدد الإمام المفقود موسى الصدر على أنّ: «السلاح زينة الرجال الأحرار». وما يعبّر عن هذا الاعتقاد بكل وضوح، هو الانتشار غير المسبوق للأسلحة على أنواعها المختلفة بين أيدي عناصر الميليشيات اللبنانية والفلسطينية، صغارًا كانوا أم كبارًا، خلال الحرب اللبنانية وكذلك بين أيدي العراقيين كما ظهر بعد غزو بلادهم من قبل قوات التحالف في العام 2003.
لذا، نتيجة للتأكيد الشديد على «العدل» في الإسلام، أظن أنّه إذا ما كان للديمقراطية أن تنبت بذورها في الدول العربية، فلا بدّ أن تكون مرتبطة بمفهوم العدل أكثر من أيديولوجيا الحرية المحيّرة.
(أظن أنه إذا كانت بذور الدّيمقراطية ستنبت في العالم العربي، فلا بد لها من أن يفوق ارتباطها بمفهوم العدل، ارتباطها بأيديولوجيا الحرية المحيرة.
- فؤاد إسحاق الخوري (1935-2003)، أنثروبولوجي وباحث لبناني، حاصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوريغون في الولايات المتحدة الأميركية، وعمل أستاذاً في الجامعة الأميركية في بيروت، كما في عدد من الجامعات العالمية. أجرى دراساتٍ عدةٍ تميزت ببعدها الميداني إلى جانب البعد التحليلي عن الجماعاتِ الدينية والمذهبية والإثنية في لبنان واليمن والبحرين والعالم العربي، وكذلك في غرب أفريقيا.