الفصل الرابع من كتاب من هو البحريني:
اضطرابات النجادة والفرس ومجلس عزل عيسى بن علي 1923م
كتاب من هو البحريني ؟
بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904- 1929م
كيف بدا الموقف السعودي من الإصلاحات البريطانية في البحرين، في العشرينيات من القرن الماضي؟ وكيف أثر في الصراع بين الجماعات العرقية المختلفة؟ كيف حسمت حادثة السوق قرار تنفيذ الإصلاحات؟ وكيف حسمت قرار عزل عيسى بن علي؟ لماذا ظل عيسى بن علي مستسلمًا لعناده تجاه الإصلاحات؟ ما ملامح الخارطة التي رسمها خطاب المقيم السياسي للقوى المتصارعة في البحرين غداة عزل عيسى بن علي؟
كان ملك السعودية عبد العزيز بن سعود معارضًا لإصلاحات العشرينيات، ولم يكن يريد لها أن تتم، نزل في ذلك الوقت في المنطقة الشرقية، ليراقب ما يحدث في البحرين، وستوثّق المراسلات في تلك الفترة مواقف ابن سعود ومحاولات البريطانيين التواصل معه لوضعه ضمن التفاهمات، إضافة إلى وضع الموقف السعودي ضمن تحليلات ما ستذهب إليه هذه الإصلاحات من نجاح أو إخفاقات، وهو ما يدل على نفوذ السعودية المبكر في البحرين.
يضع البريطانيون وآل خليفة السعودية في اعتبارهم دائمًا، عند قيامهم بأي تغييرات أو إجراءات سياسية جوهرية تتعلق بشكل الحكم في البحرين أو بإصلاحه، وذلك بسبب محاولاتها السابقة للاستيلاء على البحرين، في أحداث تاريخية، تعود إلى بداية القرن التاسع عشر، وقد تمكن آل سعود بالفعل من الاستيلاء على البحرين في السنوات 1802، 1809، 1811م، وقد كانت هذه المحاولات حاضرة حتى العشرينيات.
نجدة أم نجد؟
نعثر في كتاب ابن بشر «عنوان المجد في تاريخ نجد» وهو الكتاب الذي يؤرخ للدولة السعودية الأولى، على مادة تاريخية ت توضّح السياق السياسي لمحاولة الدولة السعودية الأولى إخضاع آل خليفة لهم، يقول ابن بشر في حوادث العام 1802م: «وفي هذه السنة في عاشوراء سار سلطان بن أحمد صاحب مسكة البلد المعروف في عمان في كثير من المراكب والسفن، ونازل أهل البحرين، وأخذه من أيدي آل خليفة واستولى عليه: ثم إن آل خليفة ساروا إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود واستنصروه فأمدهم بجيش كثيف من المسلمين فساروا إلى البحرين، فضاربوهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا وأخذوه من يد سلطان المذكور وقتل من قومه ما ينيف على ألفي رجل».
حين غزا سلطان عمان البحرين، لجأ آل خليفة إلى آل سعود فأنجدوهم، وخلصوهم من الغزو العماني، لكن التحالفات السياسية القبلية في هذه المنطقة كانت تتغير سريعًا وباستمرار في تلك الفترة، وتُحوّل بحسب المصالح الآنية لا الاستراتيجية، كانت مصلحة عائلة آل خليفة في ذلك الوقت تتمثل في التحالف مع بني سعود والاستعانة بهم ضد العُمانيين، لكن الأمر سيكون على العكس من ذلك فيما بعد، إذ إن قيام آل سعود بتحرير البحرين من قبضة العُمانيين، سيجعلها تحت سلطتهم، وسيعتبر آل سعود أن تحرير البحرين من الغزو العُماني، يعطيهم الحق في البقاء فيها وفي تعيين وكيل أو حتى حاكم يمثل سلطتهم فيها.
كتاب “عنوان المجد في تاريخ نجد”
وعليه، سيتطوّر التدخّل السعودي في العام 1809م: «وفيها تحقق عند آل سعود أن آل خليفة أهل البحرين والزبارة يقع منهم بعض المخالفات، فخاف أن يقع أكبر من ذلك، فأرسل إليهم جيشًا واستعمل عليه أميرًا محمد بن معيقل، ثم أتبعه بعبد الله بن عفيصان، واجتمعوا ونزلوا عند الزبارة المعروفة عند البحرين، فأقاموا فيها قريب أربعة أشهر حتى رجع سعود من الحج. فلما رجع من الحج أرسل أمراء ذلك الجيش إلى آل خليفة وأمروهم يفدون على سعود وساقوهم كرهًا. فألفوا عليه في الدرعية».
طريق الإذلال
ساق ابن سعود حكّام آل خليفة كرهًا إلى الدرعية بسبب مخالفاتهم، ليؤدبهم ويُريهم كيف أن سلطته تمتد إلى البحرين. تتواصل هذه الأحداث في عام 1810م، ويخبرنا ابن بشر أن في الوفد كان الأمير سلمان بن أحمد بن خليفة وأخوه عبد الله وعبد الله ابن خليفة وأبناؤهم، وبعض أعوانهم، ورؤساء رعيتهم. كان الوفد كبيرًا ومن الواضح أن ابن سعود كان يريد أن تصل رسالة تأديبية رادعة، وأن يقرر واقعًا جديدًا: «فلما قدموا عليه في الدرعية قرر عليهم سعود ما حدث منهم، ثم اعتقل رؤساءهم، وردًّ أبناءهم وبقية الرعية إلى بلادهم، وكان سعود لما قبض عليهم أخذ جميع خيلهم ونجائبهم وغير ذلك من الشوكة لهم في البحرين، والزبارة».
لم يكتف ابن سعود بذلك، بل أمر فهد بن عفيصان أن يعبر إلى البحرين، فنقل أبناء آل خليفة أكثر أموالهم ونسائهم في السفن، وهربوا وقصدوا من كان يحتلهم وهو صاحب مسكة سعيد بن سلطان: «فاستنصروه وأرسلوا إلى العجم، وبني عتبة، واستصرخوهم. وكانت مراكب النصارى [البريطانيين] عند سعيد في مسكة فاستعانوهم فأقبل جموع عظيمة في مراكب كثيرة».
هكذا، كانت التحالفات سريعة التغير والتقلب، استعان آل خليفة بالعُمانيين ليتخلصوا من استيلاء آل سعود على البحرين، ويخلصوا رهائنهم المسجونين في الدرعية. استمرّت الأحداث حتى العام 1811م. يقول ابن بشر عن هذا العام: «لما رجع سعود من الحج في المحرم، وأطلق آل خليفة أهل البحرين والزبارة، وأذن لهم بالرجوع إلى بلدهم، ووعدوه بالسمع والطاعة وعدم المخالفة».
مع أن آل سعود كانوا في ذلك الوقت يحكمون نجد والدرعية وما حولها فقط، إلّا أن هذه الحادثة التاريخية تثبت أن أعينهم كانت على البحرين، وأن شوكتهم امتدت إليها، فكيف حين تمكنوا في الدولة السعودية الثالثة من بسط نفوذهم على جميع أراضي الجزيرة العربية ووصلوا إلى القطيف وإلى الأحساء وعموم المنطقة الشرقية وصار بينهم وبين البحرين بحر وخارطة سياسية جديدة. صار بإمكان السعودية أن تمد أيديها إلى البحرين بسهولة، وهذا مثّل رعبًا حقيقيًّا لآل خليفة في ذلك الوقت، فلم يكن بمقدورهم أن يتجاوزوا ابن سعود أو يتجاهلوه في أي تغيير استراتيجي في البحرين.
يعرف البريطانيون أن الإصلاحات في البحرين تخدم الشيعة على وجه التحديد، ويتطلع الشيعة في المنطقة الشرقية أيضًا إلى إحراز حقوقهم على غرار ما يحدث في البحرين، فهم يعانون تحت سلطة الحكم الوهابي، مكرهين وخاضعين بالقوة، ويعاملون كرعايا من الدرجة الثانية وليس كمواطنين، لم يرد ابن سعود في المجمل أن تجري إصلاحات في البحرين تعدل من وضع الشيعة وترفع عنهم الظلم وتجعلهم في مصاف مساوٍ مع بقية المكونات القبلية الأخرى، فذلك يفتح عليه عيون شيعة المنطقة الشرقية.
كوكس مع ابن سعود
في رسالة سريّة بعثها المقيم السياسي (تريفور) إلى وزير خارجية حكومة الهند، تقول: «من المؤكد أنّ اتخاذ الحكومة قرار القيام بأي عمل في البحرين، سيراقبه عن كثب الفرس والعرب، والسُّنة منهم بشكلٍ عام، وخصوصًا ابن سعود، الذي ألمح مؤخرًا في اجتماعه مع السيد بيرسي كوكس (Percy Cox) إلى موقف شيخ البحرين المزعج تجاه معتمد سياسي عدائي، ما يشير بوضوح إلى الموقف الذي قد يتّخذه كسنيّ متشدد إزاء سياسة إصلاحية قوية تصبّ في مصلحة الشيعة في البحرين».
هناك قوى إقليمية تراقب الإصلاحات والتغييرات السياسية في البحرين، منذ بداية القرن العشرين، وهذا ما عايشناه بوضوح في حراك العام 2011م، الذي ما يزال للسعودية دور كبير فيه. جميع القوى في الإقليم ظلت في ذلك الوقت تراقب ما يمكن أن يحدث في البحرين، وهو ما يؤكد أن ما يجري في البحرين حتى لو كان حدثًا داخليًّا، فسيكون محط اهتمام الإقليم، فالفرس كانوا يراقبون، وكذلك قبائل السُّنة في الخليج، وتحديدًا ملك السعودية عبد العزيز ابن سعود.
وضع ابن سعود ثقله كقوة في موضوع البحرين، وخلال اجتماع بين ابن سعود وبيرسي كوكس، الشخصية الأكثر تأثيرًا فيه [ابن سعود]، بدا الأخير منزعجًا من المعتمد السياسي البريطاني في البحرين آنذاك، وهو الميجر ديلي، صاحب مشروع الإصلاحات السياسية التي يقف ابن سعود ضدها.
عيسى بن علي آل خليفة
حاكم البحرين من 1869 إلى 1923م
تقول رسالة بُعثت قبل فرض الإصلاحات وعزل عيسى بن علي بشهر: «وعلى ضوء الاهتمام الذي أولاه ابن سعود مؤخّرًا للشؤون البحرينية، وهو ما أبلغه المقيم في «بوشهر» إلى حكومة الهند، لذا سيكون من دواعي سرور جلالته متابعة أي نية محتملة للتدخّل بالقوّة في البحرين بحيث يرتّب المفوّض الأعلى في بغداد مسألة مراقبة ابن سعود».
تحذر المراسلات البريطانية من ابن سعود وتدعو إلى مراقبته، ووضعه في الاعتبار عند القيام بأي تغيير أو إجراء أي إصلاح في البحرين، فقد يتسبب ذلك في دخوله البحرين أو تدخله في البحرين، وهو الأمر الذي حدث فعلًا بعد نحو 90 عامًا من ذلك الوقت خلال انتفاضة 14 شباط/ فبراير 2011م، حين دخلت القوات السعودية إلى البحرين لمنع تنفيذ الإصلاحات السياسية التي كان سيُتّفق عليها بين المعارضة والعائلة الحاكمة.
كان البريطانيون يدركون تمامًا، وهم يشرعون في فرض الإصلاحات في أيار/ مايو 1923م، إنها «ستؤدي هذه التدابير إلى [مواجهة] معارضة الشيوخ السُّنّة وابن سعود لنا».
الوهابيون وليس الفرس
تختتم برقية بريطانية باستنتاج مثير، وتحذير شديد، تقول فيه: «إننا إذا لم نتخذ إجراءات رادعة وقوية وإصلاحية ولم نثبت أنفسنا بقوة في هذه الجزيرة ونفرض هيبتنا، فإن من سيخلفنا فيها إذا غادرنا ليس الفرس، بل الوهابيون، يعني ستصبح البحرين تابعة للسعودية، في الاحتمالَين الأخيرَين، ينبغي أن ننسحب على نحوٍ لائق، ولن يخلفنا الفُرس بل الوهابيون».
كانت القوى المؤثرة في الإصلاحات موضع نقاش ومراقبة وتحليل من قبل البريطانيين. تقول برقية أخرى تعود إلى أيار/ مايو 1923م: «غادر ابن سعود إلى الرياض، ويتبيّن من تقارير المعتمد السياسي أنّ القصيبي معنيّ بالاضطرابات الثانية التي حصلت بشكلٍ مباشر، ويُعتقد أيضًا أنّه من المستحسن تخليص البحرين منه وتحميله رسالة إلى ابن سعود تتناول الشكوى من سوء تصرّفاته».
القصيبي هو ممثل ابن سعود في البحرين، وهو أحد التجار المعروفين وله كلمة مسموعة في أوساط النجادة، ظل في ذلك الوقت يحرك الأحداث باتجاه ما يريده ابن سعود، وهذا ما سنجد أثره الواضح في أحداث سوق المنامة وقتئذٍ.
لقد أدخل ابن سعود الرعب في نفس الحاكم الجديد الشيخ حمد بن عيسى، فأصبح يشعر بالخطر الذي يتهدده من كل جهة، «أمّا الصعوبة الكبرى التي سيواجهها حمد فهو الرعب الذي بثّه ابن سعود في داخله وفي كلّ مكانٍ على الساحل العربيّ، مع الإشارة إلى أنّ الخليج، ولا سيما الدواسر في الكويت وغيرهم من المضطهدين، سيتحوّلون بالتأكيد إلى جانب ابن سعود».
ليس الدواسر فقط من سيقفون ضد الإصلاحات وضد الحاكم الجديد بل الجهات الأخرى التي ستفقد امتيازاتها وهم آل خليفة من أهل الحاكم والسُّنة «وسيزيد الأمر من تعاطف المسلمين السُّنَّة، خصوصًا أنَّ الإصلاحات تستهدف امتيازات السُّنَّة بالتحديد».
حمد بن عيسى بن علي آل خليفة
الحاكم الجديد والابن الأكبر لعيسى
(1872 – 1942م)
من الواضح أن البريطانيين كانوا يضعون في الاعتبار الموقف السعودي وخطورته في البحرين، وكيف أنه يمكن أن يقوِّض هذه الإصلاحات، لذلك سيتطلب الأمر من الحكومة أن تكون حازمة وقوية في هذا الخصوص، وأن تفرض هيبتها وشخصيتها، وعليها أن تبدو أنها قادرة على إحداث ما تريده من تغيير في البحرين، لتثبت أنها تابعة سياسيًّا وسياديًّا لسلطتها.
يكشف هذا الوضع أن أي تغيير سياسي في البحرين، محكوم بالموقف السعودي، فإذا كانت هناك قوى تستطيع أن تجابه هذا الموقف وتفرض إصلاحات في البحرين سيكون هناك إصلاحات، وإذا انعدمت هذه القوى فلا يمكن للبحرين أن تمضي في أي إصلاح.
أن ينظر إلى الوضع السياسي في البحرين على أنّه شأن داخلي هو أقرب إلى النظرية أو الوهم، وتثبت أحداث العشرينيات أن ما وقع في 2011م وما زال يقع كان أمرًا متوقّعًا، وليس وليد هذه اللحظة التاريخية.
اضطرابات الفرس والنجادة
كما بدأت أحداث عام 1904م شرارة بسيطة في سوق المنامة، ثم كبرت وأدّت إلى إصدار مرسوم البحرين الملكي 1913م (Order in Council for Bahrain) فإن أحداث العام 1923م أيضًا، تدحرجت من عراك عارض في سوق المنامة إلى إسقاط نظام الحكم الإقطاعي. لكن في العمق يجب أن ننظر إلى الحادثتين على المستوى الأبعد، حيث سياق الحاجة إلى الإصلاح في البحرين الذي يعود إلى العام 1897م في وقت الانتعاش التجاري وتدفق الأجانب على البحرين، ورأينا كيف تأكدت هذه الحاجة في 1904م. هكذا تُعجّل الأحداث في التغيير، عبر اتصالها بسياق عميق فيه تتكون معالم المشاريع التغييرية الكبرى.
يضع المقيم السياسي (نوكس) تدابيره التي اتخذها في سياق الإصلاحات: «يشرفني أن أرسل إليكم طيًّا تقريرًا سرديًّا بشأن إجراءاتي الأخيرة في البحرين بهدف المضي قدمًا في تنفيذ الإصلاحات المذكورة في المراسلات».
يقول تقريره: «إنّ الاضطرابات قد خرجت عن سيطرة بلديّة المنامة، وإنّ البحرينيين السُّنّة يتهجّمون على البحارنة. بدا من المرجّح أن يصبح هناك اشتباكات سنيّة-شيعيّة في الجزيرة كلّها. ولكن في الحقيقة، أدّت هذه الحادثة إلى أعمال تعذيب ومعاقبة طبّقها أصحاب الأراضي والممتلكات السُّنّة على المستأجرين البحارنة».
قادت الاضطرابات إلى أعمال عنف ضد البحارنة باعتبارهم المستضعفين في ذلك الوقت، والطبقة الأدنى، أي الحلقة الأضعف، لكن هذا لا يعني أن المحرك طائفي أو ديني، فهذه الاضطرابات أخذت طابعًا سياسيًّا وطابعًا دينيًّا وطابعًا عرقيًّا أيضًا. فمن حيث الطابع العرقي كانت الاضطرابات قد وقعت بين النجديين العرب وبين الفرس، ودينيًّا بين سُنَّة وشيعة، وسياسيًّا بين الطبقة صاحبة الامتيازات والقوّة والطبقة المحرومة والمستضعفة.
واكبت التقارير البريطانية الحدث وسجّلت تفاصيله أولًا بأول، يتحدّث الملحق الأول لتقرير إصلاحات البحرين، بالتفصيل عمّا حدث في يوم 10 أيار/مايو، وهو مكتوب من قبل الميجر ديلي: «اندلعت صباح اليوم العاشر [من هذا الشهر] اضطرابات جديدة على نطاقٍ واسع. وقد حمل عبد الله القصيبي ومحمد شريف إلى الوكالة الرواية التالية، التي توافق كلاهما على [صحتها]».
يظهر حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي مع عائلته وإلى اليسار الشيخ خليفة بن أحمد الغتم مع الرائد ديلي عام 1923م.
حادثة السوق
تقول شهادة الطرفين الموثّقة في التقرير: «قيل إنّ فتى يخدم القصيبي سرق ساعةً من منزله، ثمّ أخبر خادمٌ آخر القصيبي بأنّه رآها معروضة للبيع في متجر أحد الفرس، وقد طلب [الخادم] إعادتها. ردّ الفارسي بأنّه اشتراها من الفتى مقابل «روبية» واحدة، من دون وجود مبرّر للشكّ بأنّها مسروقة، وقد دفع «روبيّتَين» لتصليحها. [وافق] الفارسي على إعادتها بشرط تعويضه عن المبلغ الذي دفعه. عندئذٍ توجّه عبد الله القصيبي بنفسه مع اثنين من النجديين إلى المتجر، وطلب إعادة الساعة من دون مقابل. احتدم الجدال، وأجبر القصيبي صاحب المتجر على الذهاب معه إلى محمد شريف. يُقال إنّ رجال القصيبي أمسكوا [بالفارسي] بقسوة. حاول محمد شريف تهدئة الفارسي ودفع شخصيًّا «الروبيات» الثلاث المطلوبة. غادر القصيبي، وتمّ تسوية المسألة على ما يبدو. وبعد وقتٍ قصير جدًّا، وصل فارسيان إلى مكتب محمد شريف وهما ينزفان بقوة [جرّاء] جروحٍ بالخنجر، وقد ذكرا أنّ اثنين من النجديين تسبّبا بها».
تبدو الحادثة بسيطة، ويمكن احتواؤها، إلا أن ما جرى هو أنها تحوّلت إلى حدث كبير، بسبب السياق السياسي المحتدم وقتها، الذي كان يمكن أن تشعله أي شرارة. كان البحارنة غائبين عن مسرح هذه الأحداث، ولم يكونوا طرفًا في هذه القضية، لكنّ آثارها امتدّت إليهم، لأنهم يصنفون دينيًّا شيعة مثل الفرس، ومن جهة أخرى فإن البحارنة هم من كان وراء الإصلاحات السياسية التي بدأت تأخذ حيّز التنفيذ، والفرس كانوا أيضًا يريدون هذه الإصلاحات لأنهم سيستفيدون من إصلاح الوضع القضائي لحماية أنفسهم وحماية تجارتهم، ولأنّهم لا يثقون في القضاء التابع للحاكم ولا في إدارته السياسية، والناس حينئذٍ منقسمون بين من يريد أن يبقى تابعًا لسلطة الشيخ القضائية، وبين من يريد أن يكون تابعًا لسلطة الوكالة البريطانية القضائية، وعليه تشكل مسرح الحدث بين محور من يريد الإصلاح بالكامل ومحور من يريد المحافظة على الوضع كما هو.
رواية الخيري
تطور الحدث إلى تسييل الدماء، تمامًا كما جرى في حدث عام 1904م، اشتعلت النزعة القومية عند النجديين ومن جانب آخر اشتعلت عند الفرس أيضًا. تمترس الجميع خلف قوميته، والغلبة كانت للنجديين الذين بدوا أكثر عنفًا وعدوانية، كما سجلت الشهادات، وفي هذه الحادثة حُمّل القصيبي المسؤولية، وكان اللاعب الأكبر فيها. امتدّ الحدث إلى مناطق البحرين كلها، بدأ في المحرق وفي الحد، خرجت السفن المحملة بالأسلحة والنجادة من المحرق ومن البديع وقصدت المنامة.
يتحدث المؤرخ ناصر الخيري عن هذه الحادثة بتأثر بالغ: «على إثر حوادث جنونية أخلّت بالنظام وهدّدت الأمن العام، قام بها بعض من لا خلاق له من رعاع الجاليات الأجنبية (فرقتي النجادة والعجم) بدأت منهم الحادثة صغيرة وانتهت فاجعة كبيرة».
يشير الخيري إلى طبيعة الجفاء البدوي في الشخصية النجدية وهو يتحدث عن المسلحين الذين توجهوا بمراكبهم من المحرق نحو المنامة: «حاول العقلاء ردعهم ومنعهم عن هذه المظاهرات العدائية التي لا تروق في أعين الحكومة الإنجليزية الحامية للبحرين، ولكن أنى لأولئك الجفاة أن يفهموا لتلك العبارات معنى ما».
كتاب “قلائد النحرين في تاريخ البحرين” للمؤرخ ناصر الخيري
على عكس الكتابات المعاصرة المنحازة لرواية العائلة التي تحاول أن تبرر وتدافع عمّا قام به النجادة، نجد (الخيري) لا يتحرج من وصفهم بالجفاة والجناة: «لو تمكن أولئك الجناة من النزول من السفن ودخول البلدة كغزاة لانسفكت في البحرين ذلك اليوم دماء زكية غزيرة، ولعظمت المصيبة على عموم أهل البحرين».
ولا يفوت الخيري وهو يؤرخ لحادثة المراكب المسلحة أن يشير إلى ما تكشفه من خلل في حكومة الشيخ عيسى، أدى إلى تبديلها «وكأن الدولة البريطانية قد ساءها أن يقدم هؤلاء على العبور من المحرق بهذه المظاهر العدائية شاكي السلاح، مع وجود هيئة حكومة الشيخ عيسى في المحرق كاملة، وثبت لديها من هذا ومن سوابق أخرى قد أحصتها وتيقنت عدم صلاحية حكومة الشيخ عيسى، وأن الحالة تقضي بتبديل نظام الحكم في البلاد، وإيجاد حكومة منظمة محترمة من الجميع».
إلى سلطان نجد
تدخلت الوكالة البريطانية وأوقفت هذه التحركات، واستدعي عبد الله القصيبي وتمّ تهديده، وتبليغه بخطورة ما يحدث، وحُمّل المسؤولية، من قبل الوكالة البريطانية ومن قبل الحاكم أيضًا وأبناء الحاكم لأنهم يدركون أن تصاعد هذه الأحداث ليس في مصلحتهم، ولكنهم كانوا يخافون الإساءة لعبد الله القصيبي، كونه يُمَثِّل سلطان نجد، فكانوا يحاولون أن يتحركوا من خلف الوكالة البريطانية.
الوكالة السياسية البريطانية حوالي عام 1900م
بلغ الأمر أن تُوَجِّهَ الوكالة البريطانية رسالة إلى سلطان نجد، تُحَمِّلُ فيها وكيله تبعات ما حدث. يقول المقيم السياسي في هذه الرسالة :«صديقي، لا يخفى على سعادتك أنّ مدينة المنامة قد شهدت مؤخرًا التفشي المؤسف للتعصّب الديني الذي أدّى حتمًا إلى خسائر فادحة في الأرواح بين النجديين والفرس. فوجدت من الضروري أن أقوم بزيارة إلى هذه الجزر، مستفسرًا عن مصدر هذه الاضطرابات وساعيًا إلى التفاهم على ألّا يتكرر سقوط ضحايا كهؤلاء الضحايا المفجوعين».
عادة ما يقدّم البريطانيون خطابهم إلى سلطان نجد بـ (صديقي)، و(صاحب السمو)، بخلاف خطاباتهم إلى حاكم البحرين. هناك يتعامل البريطانيون مع قوة يحترمونها ويعتبرون أنها تتوفر على قدر من الندية التي ينبغي وضعها في الاعتبار.
ثم بعد ذلك تقرر الرسالة من هو المعتدي: «يؤسفني أن أحيطكم علمًا أنّ التقارير التي تلقيتها تثبت من دون أي شك أنّ النجديين كانوا هم المعتدون، وأنّ وكيلكم، عبد الله القصيبي، قد قام بادّعاءات غير منطقية ناسبًا فيها لنفسه وظائف القنصل، ما سبّب لي القلق لبعض الوقت لأنّه لم يثر هذه الاضطرابات فحسب، بل أقدَم عليها. وبعد أن مضى بها قدمًا بطريقة غير لائقة وجبانة على حدٍّ سواء، شوّه سمعة سموك الحسنة، كما يمكن لأي شخص تافه أن يفعل. أحمّل هذا الرجل، بالدرجة الأولى، مسؤولية دماء مثيري الشغب البائسين والمضلَّلين هؤلاء، وكنت قد تعاملت معه بقسوة، لولا أنّه نال ثقتكم على الرغم من أنّه لا يستحقها».
يحمّل المقيم السياسي عبد الله القصيبي المسؤولية الكاملة عمّا حدث بشكل واضح وصريح، ويحاول أن يضع سلطان نجد في سياق أن القصيبي هو من يتحمل هذه المسؤولية، وأن البريطانيين لا يعتبرون أنه قام بذلك على أساس أنّه يمثّل السلطان السعودي، إنما يعتبرون أن ما قام به تصرف شخصي لا يمثل السلطان ولا يليق أن يمثله، أرادت الحكومة البريطانية أن تحيّد سلطان نجد، وأن تضعه خارج المسؤولية عن هذه الأحداث، وهذا التحديد يراعي السياق السياسي وحساسيته، فاتهام ابن سعود بأنه وراء هذه الأحداث وبأن ممثله كان يتحرك بوازع منه كان سيعقد المسألة أكثر، مع أنهم يعرفون أن ابن سعود له دور كبير كما تشير رسائلهم، خصوصًا وأن القصيبي والنجادة والدواسر هم القوى البشرية التي تمثّل مصالح ابن سعود في البحرين، وأنهم جميعًا اصطفّوا في المحور الذي يمثّله ابن سعود في البحرين، المحور الذي لا يريد للإصلاحات أن تتم.
لوم صاحب المسند
رسّخت هذه الحادثة ضرورة إجراء الإصلاحات وعجّلت في حسمها، وتجاوزت التردّدات السياسية التي كانت تسود الموقف؛ أصبح تنفيذ الإصلاحات ملحًّا لكي يتم تثبيت الأمن وإنهاء الاضطراب. سعى البريطانيون في التقرير نفسه إلى أن توجّه رسالة من الحاكم عيسى بن علي يطلب بنفسه تنحيته عن المنصب، من دون أن يبدو ذلك مفروضًا عليه، وذلك حفاظًا على ماء وجهه، وقد ألح البريطانيون عليه وعلى أبنائه لإقناعه بذلك: «أعطيت الابنين [حمد وعبد الله] مسودّة رسالة للشيخ عيسى للنظر فيها، كي يوقعها إذا ظنّ أنّه مستعد لذلك. لقد جرى حديث مسبق حول هذه الرسالة، واقتُرح تحضير رسالتين، واحدة للعامّة تُعلن تنحّيه وتسليم شؤون البلاد إلى الشيخ حمد، وأخرى سريّة تحتوي على تأكيدٍ من الشيخ عيسى أنّه لن يتدخّل في إجراءات الشيخ حمد الإصلاحيّة ولن يتصرّف ضدّها».
يربط مؤرخون محليون عزل عيسى بن علي بموقفه السلبي من حادثة السوق، ووقوفه إلى طرف النجادة وقوفًا يجعله طرفًا في الأزمة بدل أن يكون حَكَمًا فيها. هذا ما نقرؤه في رواية التاجر مع إضافة تفصيل جديد يتعلق بمشاركة الدواسر بمركب من البديع وهم ينشدون الأناشيد الحربية متوجهين إلى المنامة: «والظاهر أنّ الحكومة الوطنية لها ضلع في تشجيع الحزب النجدي ومساعدتهم ضد العجم، وهو مؤكد عند الوكيل السياسي، وعليه بنى حكمه بعزل الشيخ عيسى؛ لأن ثاني يوم من الحادثة المذكورة أقبلت السُّفن من المحرق ناشرة البيارق والأعلام مشحونة بالرّجال والسّلاح وهم ينشدون الأناشيد الحرّبية كأنهم ماضون لخوض معركة حربية، ورئيسهم عبد الله القصيبي، وهم أهل نجد ومن آزرهم ضد العجم. ثم جاءت الحملة الثانية من البديع وأهلها من الدواسر ناشرين الأعلام متقلدين بكامل العدّة والسلاح وينشدون الأراجيز الحربية قاصدين بحملتهم الفتك بحزب العجم».
وتوجّه ناصر الخيري بروحه النقدية، بتقريع شديد لسلوك (صاحب المسند) أي مسند الحكم، في وقوفه إلى جانب فريق النجادة ومجاملته لهم، الأمر الذي سبَّب العبث بالأمن والإخلال بمسؤوليات الحاكم في حفظ الأمن والحياد: «وما ذلك إلا بسبب مجاملة حكومة الشيخ عيسى لفرقة النجادة مجاملة توجب لوم صاحب المسند، وتسبب الطعن في نظرياته غير الصائبة، إذ ليس من شأن الحاكم أن يجامل فريقًا دون آخر إلى حدّ أن يقف مكتوف اليدين أمام ما يتخذه الفريق من الإجراءات العدوانية ضد الآخرين، مع تيقنه أن تلك الإجراءات سوف تنتج نتائج وخيمة جدًّا أقلها سفك الدماء والعبث بالأمنية العمومية التي هي من أول مسؤوليات الحكام».
لم يسلم عيسى من تقريع أقرب المقربين إليه والمتطابقين مع سياسته ممن يمثلون جهازه التنفيذي، فقد وجّه الشيخ قاسم بن مهزع رسالة تقريع إليه لخضوعه لرسالة العزل «أفترضى بخمسة أسطر من موظف تنخلع من ملكك؟! ولكنني أفوض أمري إلى الله، ومئات من نصائحي أضعتها، على أنني أدين الله جل جلاله بموالاتك في ولايتك، وعزلك. ثم الآن أنصحك أيضًا بالمداراة واجتماع الكلمة مع ولدك الذي استخلفته بنفسك، ولا تتحامق ولا تعتب».
خطاب التنازل السري
حرص البريطانيون أن لا يظهر في الخطاب العام ما يشير إلى تنحية الشيخ عيسى بن علي أو ما يسيء إليه أو يكسر هيبته، لذلك طلبوا أن يكون تعهده بأن لا يتدخل في الحكم في خطاب سرّي.
يقول المقيم السياسي عن زيارته للشيخ عيسى بن علي: «وشرحت بعد ذلك أنّ التعليمات المتعلّقة بإصلاحات البحرين قد صدرت عن وزارة الشؤون الخارجيّة في لندن، وكانت غير متوقّعة أبدًا ومفاجئة للمعتمد البريطاني في البحرين ولي وللمقيم السياسي السابق، العقيد (تريفور). وفي الحقيقة، لديّ رأي مكتوب بخط اليد من المقيم السابق يقول فيه إنّه لا يعتقد أنّ أيّ مبادرات للإصلاحات قد تحدث في البحرين بشكل جدّيّ قبل انتهاء موسم اللؤلؤ، وأنّ هذا الأمر قد يؤول إلى اتّخاذ الخطوات اللّازمة».
أبلغ المقيم السياسي عيسى بن علي بأن قرار عزله وقرار تنفيذ هذه الإصلاحات قد اتّخذ من وزارة الشؤون الخارجية في لندن وأن جميعهم قد تفاجؤوا بسرعة اتخاذ القرار. فقبل أن يصدر هذا القرار كان هناك تردد، ورغبة بأن يتمّ الإصلاح عبر الشيخ عيسى، وبقناعة منه، غير أن الوضع قد تغير، وصار الأمر بيد المقيم السياسي: «وإنّ الصلاحيات كانت ستُمنح على الأرجح سواءٌ أرغب بالأمر أم لا، وإنّني موكّل من حكومة الهند أن أتقدّم بطلب منحي هذه الصلاحيات بشكل رسمي».
هكذا أُبلغ بأن الموضوع يعتبر منتهيًا، وأن عليه تنفيذ هذا الطلب، فكان ردّ الشيخ عيسى بن علي قبل يومين من تنفيذ قرار عزله: «يمكنكم قتلي أو طردي ولكنّني لن أتقاعد طالما أنا على قيد الحياة». ظل مستسلمًا لعناده، فكان لا بدّ من القوة «ولهذا الغرض، يجب أن أحصل على الصلاحية لإحالته إلى التقاعد بالقوة ما إذا رفض الرجل العجوز والعنيد التنازل في اللحظة الأخيرة».
كان عنيدًا، لكن عناد شيخ القبيلة الحاكم المتسلّط، لا عناد المدافع عن استقلاله أو استقلال بلاده أو عناد صاحب قضية عادلة.وقد عزّز من عناده تعنّت زوجته وشحنها له ورغبتها في تنصيب ابنها عبد الله وليًّا للعهد. وعلى الجانب الآخر كان هناك موقف القبائل السُّنية التي تجمعها به مصالح الوضع القائم، ومصالح العائلة الحاكمة وعدم رغبتها في التغيير، كما أن عزله سيعد انتصارًا للبحارنة الذين طالما كرهوه لاضطهاده وظلمه لهم.
كل ذلك كان يعزّز من عناده الشخصي لا من موقفه العام من قضية وطنه، وقد أكد بهذا أن عناده عناد المناهض للإصلاحات وليس عناد المتمسك بمبدأ، عناد من لا أمل منه في إجراء الإصلاح والتطوير، وهو ما جعلهم يذهبون إلى حسم الموضوع بالقوة والفرض.
خطاب العزل
احتاج التاريخ في البحرين لهذا الكم الهائل من الأحداث والمراسلات والمناوشات والضغوط والمراسيم منذ العام 1904م، لكي يصل إلى نقطة الحسم في العام 1923م: عزل الحاكم الذي تربّع على عرش البلاد منذ جاء به البريطانيون حاكمًا في 1869م، حتى أنهوا حكمه القاسي معزولًا بخطاب تاريخي، ألقاه المقيم السياسي بنفسه.
تكمن قوة هذا الخطاب في قدرته على عزل ليس الحاكم فقط، بل نظام الحكم الذي مثّله عيسى بن علي، بكل ما يعنيه من شكل الدولة القبلية، الذي سمّاه صاحب الخطاب المقدّم ستيوارت جورج نوكس بشكل (اللاحكم). هو عزل لمرحلة تاريخية هي مرحلة الإقطاع، وتأسيس في الوقت نفسه لنظام جديد. أنجز خطاب العزل هذا أساس الشكل الأول للدولة الحديثة، ضمن نظام حكم مركزي وسلطة واحدة، بدلًا من السلطات المتعددة التي مثلها شيوخ الإقطاع.
بدأت حركة هذا الخطاب مع حوادث العام 1904م في البحرين، حيث مبنى الوكالة الألمانية وسوق المنامة، هو ليس وليد لحظة واحدة أو حدث واحد، بل حصيلة تاريخ طويل من تدافع الأحداث والجدالات والمفاوضات والتحرّكات والمحاولات السياسية، فضلًا عن فرض الإصلاحات والإجراءات والتغييرات من جانب واحد، في 1923م بدأ هذا الخطاب يتحرّك بتدافع سريع وأخذ يُنجز ما فيه.
ألقى هذا الخطاب المقيم السياسي (نوكس)، حين كان نائبًا لمدة ستة أشهر عن (تريفور) المقيم السياسي الدائم، الذي كان في إجازة. جاء نوكس في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة ودفع حثيثًا نحو البدء في فرض الإصلاحات بالقوة، وتنفيذ القرار البريطاني بتنحية عيسى بن علي، ولخطورة هذا القرار التاريخي، كان معارضوه يعوِّلون على عودة تريفور، المقيم السياسي الدائم، ليعدل عنه، لكنهم فشلوا.
لم يكن (نوكس) غريبًا عن البحرين، فهو خبير بشؤون الخليج، تَنَقَّل بين قنصلياته وقد كان مساعدا أولًا للمقيم السياسي عام 1904م، وعين معتمدًا في البحرين من عام 1910-1911م، كما أنه ناب عن تريفور سابقًا في منصب المقيم السياسي عام 1914م.
مقر المقيم السياسي في الخليج الفارسي في بوشهر
مجلس العزل
تمّ الترتيب لجلسة عزل عيسى بن علي ترتيبًا متقنًا، وذلك لخطورة ما سيترتبُ عليها. انعقد المجلس في 26 أيار/ مايو 1923م، وشمل كلًّا من القبائل، والشيعة البحارنة، وآل خليفة. وظلَّت السفن الحربية البريطانية ترابضُ على سواحل البحرين. إنها تمثل القوة العسكرية الداعمة لخطاب العزل. هكذا توافر للخطاب أن يكون قويًّا بمنطقهِ، ونطاقه، أي نطاق القوة العسكرية التي بلغتها السفن البريطانية.
ماذا قال نوكس في هذا الخطاب الذي أُلقي أغلبه باللغة الإنجليزية، وكان جزء منه باللغة العربية؟
«أيّها السادة الكرام،
لقد تُليَت على مسامعكم للتوّ رسالة الشيخ حمَد التي أعلن فيها لكم أنّه، امتثالًا لأوامر الحكومة البريطانية، تولّى إدارة هذه الجزر بصفته الوكيل المفوَّض من أبيه».
أعلن الحاكم الجديد الشيخ حمد أنه يمتثل لأوامر الحكومة البريطانية بكل وضوح، وأنه الوكيل المفوض من أبيه في إدارة الحكم. لم يكن للشيخ عيسى أي سلطة على ابنه، وتعبير الوكالة هو صياغة بروتوكولية لحفظ ماء وجه الحاكم المعزول وتخفيف المعارضة ضد هذا الإجراء.
«قد يذكر بعض الحاضرين منكم اليوم كيف كان الوضع في هذه الجزر عندما طلبت حكومة جلالة الملك من الشيخ عيسى منذ خمسٍ وخمسين سنة تولّي منصبه. تعرّضت الجزر بعد ذلك إلى حربٍ ضروس واضطرابات وأعمال سلب. قُتِل أبوه الشيخ علي [والد الشيخ عيسى] في قتالٍ وقع [قبل تنصيب الشيخ عيسى] ببضعة أشهر. وعلى مدى خمسة وخمسين عامًا، عمّ السلام والأمن حُكمه، كما أنّه كان صديقًا مخلصًا للحكومة البريطانية، وتنعّمت الجُزُر بالثروة، والسكّان، والتجارة، والزراعة».
يذكّر الخطاب في بدايته عيسى بن علي بأفضال بريطانيا عليه. كأن نوكس يقول له باسم البريطانيين إننا نحن من جئنا بك حاكمًا حين قُتل أبوك وكاد حكم آل خليفة أن يضيع، نحن الذين ثبتنا حكمك ونحن الذين أحللنا السلام هنا، وطالما نحن الذين قررنا متى تأتي فنحن من يقرر متى ترحل.
يوجه نوكس شكرًا بروتوكوليًّا للشيخ عيسى، ويدافع عن الفارق الذي أحدثه البريطانيون في فترة حكمه مقارنة بما سبقها، ثم يبدأ الخطاب الصريح جدًّا، ليحدد ملامح المرحلة بصورة واضحة وحاسمة: «إنّ الأحداث الأخيرة، التي لا أرغب في الحديث عنها حاليًّا، تؤكّد وتشدّد على الدعوة الملحّة إلى الإصلاح الإداري على نحوٍ حديث، وبالتالي، لا شيء مفاجئ في حقيقة أنّ الرجل الذي بلغ الخامسة والسبعين من عمره ليس قادرًا على التجاوب مع هذا المطلب. وعلى مدى بضع سنين، أدّى الحُكم المتساهل والمتسامح للشيخ عيسى -قد يسمّيه البعض سوء الحُكم وأنا شخصيًّا أفضّل تسميته بـ«اللّاحُكم»- إلى تزايد حالات الاستبداد والاستقلالية التي كانت تتجلّى سريعًا بالمصالح المكتسبة والإضعاف الخطير للإدارة».
بحضوره وحضور القبائل، قال نوكس لعيسى بن علي صراحة إن حكمك كان «لاحكم»، أي إنّك لم تكن تحكم هذه البلاد، وإنها كانت من غير نظام، من غير عقل رشيد، لذا وجب التغيير، هذه أسباب تغييرنا إياك. وفي الوقت نفسه، ولتخفيف حدة هذا الخطاب، أراد نوكس أن يحفظ كرامة الحاكم: «ما يزال الشيخ عيسى يحمل لقب شيخ الجُزر، والشيخ حمَد هو مجرّد وكيل له، رغم أنّه الوكيل المفوّض بالكامل من أبيه، وقد تولّى مهمّة صعبة جدًّا وشاقّة».
يتحدث نوكس عن الشيخ حمد ويوضح أنه لم يكن طامعًا بالحكم ولكن الظروف الإدارية تتطلب منه أن يقبل به وأن أخاه الشيخ عبد الله سيقوم بمساعدته. كان الشيخ عبد الله ضد الإصلاحات، لكنه وجد أنه سيخسر الكثير بمعارضته، فحسم أمره وتحوّل ليمثّل مع الشيخ حمد في ذلك الوقت الجناح الإصلاحي في العائلة الحاكمة، المؤيد للرغبة البريطانية في التغيير.
أيها السُّنّة
يتوجه الخطاب بعد ذلك إلى السُّنّة الذين كانوا معارضين للإصلاحات: «إنّ إجراءاتنا اليوم ستؤدي في نهاية المطاف إلى ارتقاء المجتمع السُّني وتقدّمه الخاص. منذ نحو عشرين سنة، وانطلاقًا من حكمة الشيخ عيسى، سلّم [مسؤولية] الإدارة والمسؤولية المباشرة عن الأجانب إلى المعتمد السياسي في البحرين، وكانت حكومتان تعملان فعليًّا جنبًا إلى جنب في البحرين. [إحدى الحكومتين] كانت صريحة وعلانية ونتج عنها تدفّق هائل للأجانب إلى هذه الجُزُر، وأعتقد أنّه لا ينبغي اتّهامي بالمبالغة ما إذا قلت إنّ نسبة الأجانب قد ارتفعت خلال السنوات العشرين الأخيرة إلى 1:20 أجنبي، وثروتهم [ارتفعت بنسبة] 1:100».
أراد نوكس أن يقول للسُّنّة إن مصلحتكم الاستراتيجية تقتضي أن تقفوا مع هذه الإصلاحات، لما ستحقّقه من استقطاب كبير للأجانب في البحرين. يُنَبِّه نوكس السُّنّة أن وجود الأجانب يصبّ في مصلحتهم، فهم مصدر للتعلّم والتطوّر والتجارة.
يوضح ذلك أكثر بقوله: «إنّ المجتمع السُّنيّ وحاكمه كانوا عُرضة للعُزلة والبُعد عن المجتمعات الأخرى، وعلى الرغم من حصول بعض التقدّم بكل تأكيد، إلّا أنّهم بقوا متخلّفين عن الأجنبيّ. آمل بصدق، وأنا واثق من أنّ الشيخين حمَد وعبد الله يشاركانني ذلك بشكلٍ كامل وكذلك المعتمد السياسي، أن تؤدّي تدابير الإصلاحات التي بدأناها اليوم إلى لحاق المجتمع السُّنيّ بالمجتمعات الأخرى».
لقد ثبت تاريخيًّا أن السُّنّة استفادوا فعلًا من هذه الإصلاحات، لقد أنهت بشكل ما تركيبتهم القبلية، ومع تدفق النفط التحقوا بشركات النفط وتعلّموا من خبراتها، متخلين عن عصبيات الانتماءات القبلية، وأخذ بعضهم ينتمي إلى قوى تغييرية، قادت الحراك الوطني في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وما بعدها.
يا سادة آل خليفة
بعد أن وجّه نوكس خطابه إلى السُّنة، يخاطب آل خليفة بكل صراحة: «يا سادة آل خليفة، عند الرجوع إلى الماضي، أخشى أنّه من واجبي تحذيركم أنّ مجرّد وجودكم في الحياة، لا يعني أنه من حقكم العيش على حساب المجتمع، سواءٌ أكان ذلك عبر مخصصات تقتطع من عائدات هذه الجُزُر أو عبر استغلال الفقراء والمساكين. إنّ المثل القائل: «من لا يعمل، لا يأكل» هو شعارٌ جيد، والأفضل لكم تطبيقه على حالتكم».
هذا الخطاب غير مسبوق. فلأول مرة يقول أحدهم لآل خليفة عليكم أن تعملوا، ومن لا يعمل لا يأكل. يقول نوكس لآل خليفة إن الاستغلال البشع الذي كانوا يعملون به عبر نظام السخرة، وسرقة أراضي الآخرين وأموالهم، وفرض ضرائب ظالمة عليهم دون وجه حق، لم يعد مسموحًا به. إن هذا الزمن قد انتهى، وعليكم أن تعملوا لتكسبوا.
«أمّا الذين يجلسون بلا عمل، ينبغي أن يرضوا بمرتّب زهيد فقط من أجل العيش. ومن يرتكب الحماقات سيُحرَم من المال تمامًا وينال العقاب بناءً على ذلك. وفي أيّ حالٍ من الأحوال، ينبغي أن يكون الشيخ حمَد هو الشخص الذي تنتظر منه الفئات كلها المكافأة والعقاب».
أيها الدواسر
يعيد نوكس توجيه خطابه إلى السُّنة وبالأخص رجال قبيلة الدواسر:
«إلى السادة من المذهب السُّنيّ، وبالأخص رجال قبيلة الدواسر، ينبغي عليكم أن تفهموا أنّنا ننوي ترسيخ حُكم هذه الجُزُر بيد شيخ من آل خليفة، وأنّ حقوق الشيخ لا بدّ من تنفيذها بشكلٍ متساوٍ على الجميع بقدر استطاعة الشيخ حمَد، وهو سينال دعمنا الكامل في هذا النوع من المحاولات. وفي كثيرٍ من الأحيان، واجهتم تهديدات من هذا النوع في الماضي بتهديدٍ مضاد يقضي بمغادرة هذه الجُزُر على شكل جماعات، واللّجوء إلى ابن سعود أو آخرين. إذا كنتم تنوون ذلك، فاذهبوا بعون الله. ولكن إذا استسلمتم كمعارضين، فلا تتعجّبوا إن صادرت الدولة أراضيكم وبيوتكم ومنحتها لآخرين غيركم».
يحذر نوكس القبائل السُّنية، خصوصًا الدواسر، من الولاء المزدوج، يشدّد على عدم القبول به في ظل النظام الجديد. يقول لهم إن ولاءكم لا بدّ أن يكون لحكم الشيخ حمد، لآل خليفة، وليس لابن سعود، ولاؤكم يجب أن يكون لهذه الجزيرة ولحاكمها وليس للخارج.
أيها السكان الأصليون
ثم يتوجه بالخطاب إلى السكان الأصليين:
«إلى السادة من المذهب الشيعي لا سيما السكان الأصليون لهذه الجُزُر!
أتمنّى لو أنّكم، على وجه الخصوص، تُدركون أهمية الملاحظات الآتية. إنّ معظم الاضطرابات التي حصلت في السنوات الأخيرة كانت زائفة. وأنا لا أقصد أبدًا عدم وجود مبرّر لشكواكم، ولكن لا يمكنني الموافقة على الرأي [القائل] إنّ سوء الحُكم الحالي هو أكثر استبدادًا أو سفورًا ممّا كان عليه في الماضي. إنّ حالة هذه الجُزُر، وعلامات الثراء الإضافي التي تطالعكم في كلّ مكان تدحض الادّعاء بأنّ سوء الحُكم كان دائمًا وأنّه في تزايد. لقد اعترفنا ببعض المفاسد، وأعلنّا عن نيّتنا لمكافحتها، ولكنّني أريد منكم أن تذكروا أنّ هذا البلد سُنيّ، وتحيط به على هذا الساحل من الخليج مجتمعات سُنيّة قوية ترصد إجراءاتنا باهتمامٍ بالغ ومن دون أدنى ارتياب. لا ينبغي عليكم توقّع المساواة على نحوٍ ملزِم، كما أنّه لا يمكن إلغاء الامتيازات السُّنيّة دُفعةً واحدة، في حال أمكن إلغاؤها أصلًا».
يقول نوكس للشيعة إن البريطانيين قاموا بإصلاحات كثيرة، ما جعل وضعهم ليس كما كان في السابق،وعلى الرغم من تفهمه مطالب الشيعة، وما جاء في عرائِضهم، يقول لهم بلسان السياسي إن عليهم أن يكونوا واقعيين، أنتم في وسط سُنّي وهذه الجزيرة ستُحكم من طرف سُنّي، والامتيازات التي لدى السُّنة لن تلغى دفعة واحدة، إن كان ممكنًا أن تلغى من الأساس.
من هنا، تأتي تاريخية هذا الخطاب، فهو لا يحدّد فقط ملامح المرحلة الجديدة، بل يضع حدودًا لمطامح كل فريق فيها، وهو الأساس أو شكل التسوية التي أُريد من الجميع قبولها، لتستمر مئة عام أخرى.
كذلك يقول نوكس: «وكما أخبركم الشيخ حمَد، سنحاول معرفة إلى أيّ حدّ تُفرَض عليكم الضرائب، بحيث تُجبى الضرائب بشكلٍ متساوٍ لا عشوائي».
بعد أن كانت الضرائب تؤخذ على الشيعة وحدهم، تمّ فرضها على جميع أفراد الشعب بشكل متساوٍ، وهو ما شكّل تحولًا تاريخيًّا كبيرًا.
«إليكم أيّها السادة الكرام، الذين يندرجون قانونيًّا تحت خانة الأجانب ضمن المرسوم الملكي للبحرين، لديّ القليل ممّا أقوله لكم. إن السلطة القضائية على الأجانب ستبقى في المستقبل بيد المعتمد السياسي».
والآن يا حمد
تحدث نوكس لاحقًا عن الإصلاحات المتعلّقة بتجارة اللؤلؤ، وعن النواخذة والقوانين الجديدة التي تخصهم، وفي النهاية وجّه خطابًا صريحًا لا مجاملة فيه، وباللغة العربية، إلى حمد بن عيسى، الحاكم الجديد الذي تمّ تنصيبه:
«والآن أطلب من الشيخ حمد أن يتحملني، بينما أقدم لكم بعض النصائح للمستقبل. ولقد سبق وتكلمت معكم حول هذا الموضوع، لذا فأنا أوجّه لكم الحديث كي يسمعني الآخرون الحاضرون».
وقدم له بعض النصائح ثم أكمل حديثه بذكر قصة:
«والآن يا حمد! سأخبرك قصة سمعتها هنا حول ما جرى في ذلك اليوم في حفل توزيع الجوائز المدرسية الذي يشبه إلى حدٍّ كبير التجمّع الحالي. تسلّم معظم الطلاب جوائز، ما عدا طالبًا واحدًا، ربما لا يستحق أي جائزة، وبدأ هذا الطالب يتذمّر. وخوفًا من أن يُفسِد الحفل، قاده مدير المدرسة إليك وأوضح أنّه بسبب خطأ ما قد نُسي هذا الفتى. عندئذٍ يا حمد! أخرجت ساعة ذهبية من جيبك وقدمتها إلى هذا الفتى الصغير المتذمّر. كما أعطاه فرد آخر من آل خليفة، لا يتفوق عليك في الكرم، 5 جنيهات استرلينية».
انتقد نوكس هذه الحادثة، وكأنه يقول له بأنك تكافئ من يعمل ومن لا يعمل، من يستحق ومن لا يستحق بهذا المستوى من البذخ، ثم أضاف مستنكرًا: «ويبدو ما حصل وكأنّه قصة من ألف ليلة وليلة، أو من أيام الترف التي شهدتها حقبة هارون الرشيد». ولكي يؤكد أن مثل هذه التصرفات غير مقبولة في النظام الجديد، قال له بصراحة صادمة: «والآن أقول لك يا حمد! إنّ تصرّفك في هذه المناسبة كان رديئًا تمامًا».
يذكّر نوكس حمد بانعكاسات الأزمة المالية الدولية وقتئذ، ويحذّره من الإفلاس: «فمن أنت يا حمد، حتّى تكون أفضل منهم؟ لديك عائدات وافرة وطائلة، ولكنّني تفاجأت جدًّا عندما علمت أن هذه العائدات تبلغ قيمتها (روبيّة) واحدة شهريًّا لكلّ فرد من سكان هذه الجزر، ومع ذلك، هؤلاء الرجال والنساء والأطفال كلهم يتطلعون إليك يا حمد».
في نهاية المجلس، ألقى حمد خطابًا قال فيه: «أيها السادة، امتثالًا لأوامر الحكومة العليا، أخذت على عاتقي اليوم مسؤولية حكومة هذا البلد بهدف الحفاظ على كرامة والدي العزيز. ولكي أخدم عائلة آل خليفة وعامة الشعب، سأبذل قصارى جهدي من أجل رفاهية رعايا صاحب السعادة والدي المحترم».
ينتهي هذا الخطاب التاريخي بإعلان الحاكم الجديد امتثاله للنصائح، وامتثاله للقرارات وخضوعه للإصلاحات البريطانية، لتبدأ بعدها مرحلة تاريخية جديدة.
بالإضافة إلى كون هذا الخطاب فاصلًا في التاريخ السياسي للبحرين، ومؤسسًا لمرحلة فارقة، فقد شمل اعترافًا بجميع مكونات المجتمع، وورد فيه لأول مرة مبدأ المواطنة المتساوية، والضرائب على الجميع، والقضاء العادل، والتحول إلى حكومة مركزية تصدر عنها القرارات السياسية والاقتصادية. ستعمل الحكومة البريطانية على تنفيذ الإصلاحات وتحويلها إلى واقع فعلي في البحرين، وسيكون عليها مواجهة المعارضة التي ستتشكّل ضدّ هذا الإنجاز.
الملحق الثالث للتقرير حول إصلاحات البحرين
الخطاب الذي ألقاه فخامة المقدَّم (أس. جي. نوكس)، حامل وسام «نجمة الهند » ووسام «الإمبراطورية الهندية»، المقيم السياسي في الخليج الفارسي، في المجلس المنعقد في البحرين في 26 أيار/ مايو 1923م
أيّها السادة الكرام،
لقد تُليَت على مسامعكم للتوّ رسالة الشيخ حمَد التي أعلن فيها لكم أنّه، امتثالًا لأوامر الحكومة البريطانية، تولّى إدارة هذه الجزر بصفته الوكيل المفوَّض من أبيه. قد يذكر بعض الحاضرين منكم اليوم كيف كان الوضع في هذه الجزر عندما طلبت حكومة جلالة الملك من الشيخ عيسى منذ خمسٍ وخمسين سنة تولّي منصبه. تعرّضت الجزر بعد ذلك إلى حربٍ ضروس واضطرابات وأعمال سلب. قُتِل أبوه الشيخ علي [والد الشيخ عيسى] في قتالٍ وقع [قبل تنصيب الشيخ عيسى] ببضعة أشهر. وعلى مدى خمسة وخمسين عامًا، عمّ السلام والأمن حُكمه، كما أنّه كان صديقًا مخلصًا للحكومة البريطانية، وتنعّمت الجُزُر بالثروة، والسكّان، والتجارة، والزراعة.
لقد كانت البحرين محطّ أنظار الطامعين على جانبَي الخليج الفارسي، وقد اعتُبر حُكم الشيخ عيسى طوال خمسة وخمسين عامًا إنجازًا لا يُستهان به.
يمكنني القول بثقة نيابةً عن هذا المجلس من نبلاء البحرين إنّنا جميعًا نشكره على ما فعله من أجل هذه الجُزُر. ولم يخلّف وراءه عدوًّا أو حاقدًا، ويرغب في قضاء سنوات تقاعده بسعادة بعد العمل والتعب لأعوامٍ طويلة من الحُكم الشاقّ.
إنّ الأحداث الأخيرة، التي لا أرغب في الحديث عنها حاليًا، تؤكّد وتشدّد على الدعوة الملحّة إلى الإصلاح الإداري على نحوٍ حديث، وبالتالي، لا شيء مفاجئ في حقيقة أنّ الرجل الذي بلغ الخامسة والسبعين من عمره ليس قادرًا على التجاوب مع هذا المطلب. وعلى مدى بضع سنين، أدّى الحُكم المتساهل والمتسامح للشيخ عيسى-قد يسمّيه البعض سوء الحُكم وأنا شخصيًّا أفضّل تسميته ب «اللّا حُكم» – إلى تزايد حالات الاستبداد والاستقلالية التي كانت تتجلّى سريعًا بالمصالح المكتسبة والإضعاف الخطير للإدارة. كانت الحقوق تضيع وهو ما يصعب استعادته، وقرّرت الحكومة البريطانية، انطلاقًا من حكمتها وهادفةً للخير للعام، إدخال دم جديد وتدعيم الإدارة. ما يزال الشيخ عيسى يحمل لقب شيخ الجزُر، والشيخ حمَد هو مجرّد وكيل له، رغم أنّه الوكيل المفوّض بالكامل من أبيه، وقد تولّى مهمّة صعبة جدًّا وشاقّة.
أيّها السادة، أنتم على معرفة بالشيخ حمَد أفضل منّي، بصفتي أجنبيًّا. تعلمون أنّه رجل متواضع، وغير مدّعٍ، ولكن لا بدّ من إخباركم أنّه خلال المفاوضات التي سبقت هذا القرار، حاول الشيخ حمد بشكلٍ جريء الإبقاء على والده [في منصبه]، ولكنه وصل إلى السلطة مع أنه لم يكن يسعى إليها. وما دفعه إلى تحمّل هذه المسؤولية على عاتقه وعبء الإدارة، بغض النظر عن بعض التردّد، هو احترام السُمعة الحسنة لأبيه، ومنفعة آل خليفة، ورفاهية المجتمع السنيّ. ويعتمد ]الشيخ حمَد[ إلى حدٍّ كبير على وعد أخيه الشيخ عبد الله بتقديم مساعدة إدارية مخلصة ولا محدودة، وأنا هنا، بصفتي المتحدّث باسم الحكومة، أعِد بأنّ تلك الحكومة ستساعد الشيخ حمَد بكلّ الطرق المشروعة ضدّ أيّ اعتداء خارجي أو عصيان داخلي.
من المحتمَل جدًّا أن ينظر الكثير من الحاضرين اليوم، لا سيما السُنّة، بعين الأسف لغياب حاكم سُنيّ حكم لسنواتٍ طويلة. إنّه لشعور طبيعي جدًّا، وأود التعبير عن خالص أملي، وإيماني على الأغلب، بأنّ إجراءاتنا اليوم ستؤدي في نهاية المطاف إلى ارتقاء المجتمع السنيّ وتقدّمه الخاص. منذ نحو عشرين سنة، وانطلاقًا من حكمة الشيخ عيسى، سلّم ]مسؤولية[ الإدارة والمسؤولية المباشرة عن الأجانب إلى المعتمد السياسي في البحرين، وكانت حكومتان تعملان فعليًّا جنبًا إلى جنب في البحرين. ]إحدى الحكومتين[ كانت صريحة وعلانية ونتج عنها تدفّق هائل للأجانب إلى هذه الجُزُر، وأعتقد أنّه لا ينبغي اتّهامي بالمبالغة ما إذا قلت إنّ نسبة الأجانب قد ارتفعت خلال السنوات العشرين الأخيرة إلى 20 / 1 أجنبي، وثروتهم [ارتفعت بنسبة] 1/100.
أعتقد فعلً أنّني أفهم الحقائق. من جهةٍ أخرى، كانت الحكومة الأخرى، إذا جاز التعبير، تعمل خلف ال «پرده»، كما أنّ المجتمع السُنيّ وحاكمه كانوا عُرضة للعُزلة والبُعد عن المجتمعات الأخرى، وعلى الرغم من حصول بعض التقدّم بكل تأكيد، إ لّ أنّهم بقوا متخلّفين عن الأجنبيّ. آمل بصدق، وأنا واثق من أنّ الشيخين حمَد وعبد الله يشاركانني ذلك بشكلٍ كامل وكذلك المعتمد السياسي، أن تؤدّي تدابير الإصلاحات التي بدأناها اليوم إلى لحاق المجتمع السُنيّ بالمجتمعات الأخرى. سيكون لهم دور فاعل في [البلاد]، وهو حقّهم الطبيعي، وكذلك صوتٌ مهيمن في إدارة هذه الجُزُر بحيث إنّه، وبغض النظر عن الندم الطبيعي، يمكننا التطلّع ببعض الثقة إلى مستقبلٍ سعيد ومشرق للمجتمع السُنيّ.
ينبغي الآن توجيه التحذير الأول إلى من يجمعون عائدات هذه الجُزُر -عائدات الجمارك- فبعد اقتطاع نفقات العمل الضرورية، ينبغي عليهم دفع العائدات كلها إلى الشيخ حمَد وإلى الشيخ حمَد وحده. ولا يُعترَف إلّا بالرسوم التي تحمل توقيعه بشأن الجمارك. إنّ انتهاك هذا القانون يستدعي طرد الطرف المتّهم وتحميله مسؤولية شخصية.
تحذيري الثاني موجّه للقضاة، ينبغي علينا حماية قانون الشريعة ومحاكم الشريعة إلى أقصى حدّ ممكن، ولا رغبة لدينا لتقييد المتقاضين أو من يسعون إلى التحكيم، من اللّجوء بشكلٍ حرّ إلى الشريعة، لكن أي قاض يسمح بتدخّل أو دعم أشخاص مؤثّرين أو تقديم قضاياهم إلى الشريعة عندئذٍ سيُطرَد من مناصبه، سواء أكان شيعيًا أو سُنّيًا. والأشخاص الوحيدون الذين يتمتّعون بصلاحية رفع القضايا إلى الشريعة هم الشيخ حمَد والمعتمد السياسي في البحرين، أو ممثلوهم المعنيّون عادةً. من المتوَقَّع من القضاة أن يكونوا يقظين لهذا النوع من المفاسد، ومواجهة هذه المحاولات عبر تعليق القضايا وإبلاغ الشيخ حمَد أو المعتمد السياسي في البحرين بما هو أكثر تناسبًا أو منفعة مع القضية المعنية. وأكرّر أنّ التواصل الحرّ للمتقاضين أنفسهم مباشرةً مع الشريعة هو أحد الحقوق التي حرّم الله على أيٍّ كان، حتّى أنا، أن يتدخّل فيها.
إنّ المحاولات التي قام بها أشخاص غير مخوَّلين للاستيلاء على السلطة التنفيذية أو القضائية ستعرِّضُهُم للمضايقة والعقاب، لا سيّما المحاولات التي أجراها أشخاص يعتبرون أنفسهم قادة لأيّ جماعة، كما حصل في الماضي.
يا سادة آل خليفة،
عند الرجوع إلى الماضي، أخشى أنّه من واجبي تحذيركم أنَّ مجرَّد وجودكم في الحياة، لا يعني أنه من حقكم العيش على حساب المجتمع، سواء أكان ذلك عبر مخصصات تقتطع من عائدات هذه الجُزُر أو عبر استغلال الفقراء والمساكين. إنّ المثل القائل: «من لا يعمل، لا يأكل » هو شعارُ جيد، والأفضل لكم تطبيقه على حالتكم. ومن يبذل منكم طاقاته من أجل مساعدة الشيخ حمَد في مهمته الصعبة ]المتمثّلة[ في ترقية حكومة هذه الجُزُر إلى مستوى الحضارة الحديثة، سيكافأ بسخاء، ويُمنح فرصًا لممارسة المواهب التي وهبها الله له. أمّا الذين يجلسون بلا عمل، ينبغي أن يرضوا بمرتّب زهيد فقط من أجل العيش. ومن يرتكب الحماقات سيُحرَم من المال تمامًا وينال العقاب بناءً على ذلك. وفي أيّ حالٍ من الأحوال، ينبغي أن يكون الشيخ حمَد هو الشخص الذي تنتظر منه الفئات كلها المكافأة والعقاب، والحكومة البريطانية تعده هنا، وعلى لساني أنا، بتوفير الدعم الكامل له في بسط السلطة بصورة شرعية كاملة. سأحاول أن أحول اهتمامكم إلى التعليم، كما أنّ وسائل كسب عيشكم الكريم كثيرة جدًّا بحيث يمكن للجميع إيجاد أماكن له في الإدارة. وأنا أخشى من عدم أهلية الكثيرين بسبب الإهمال.
إلى السادة من المذهب السُنيّ، وبالأخص رجال قبيلة الدواسر،
ينبغي عليكم أن تفهموا أنّنا ننوي ترسيخ حُكم هذه الجُزُر بيد شيخ من آل خليفة، وأنّ حقوق الشيخ لا بدّ من تنفيذها بشكلٍ متساوٍ على الجميع بقدر استطاعة الشيخ حمَد، وهو سينال دعمنا الكامل في هذا النوع من المحاولات. وفي كثيرٍ من الأحيان، واجهتم تهديدات من هذا النوع في الماضي بتهديدٍ مضاد يقضي بمغادرة هذه الجُزُر على شكل جماعات، واللّجوء إلى ابن سعود أو آخرين. إذا كنتم تنوون ذلك، فاذهبوا بعون الله. ولكن إذا استسلمتم كمعارضين، فلا تتعجّبوا إن صادرت الدولة أراضيكم وبيوتكم ومنحتها لآخرين غيركم، ويمكنني التأكيد لكم أنّ المتقدّمين الراغبين فيها كُثُر. هذه الجُزُر ليست بساتين النخيل في الجزيرة العربية الصحراوية حيث يجوب المالكون حول الصحراء طوال العام ليعودوا لتناول ثمار بساتينهم عند موعد الحصاد. لا أقصد أنّ مجرّد رحيل المالك في [رحلة] عمل إلى بومباي أو الحج أو أي مناسبات أخرى مشروعة تعني أنّ الشيخ سيصادر الأملاك التي يخلّفها وراءه، بل أقصد أنّه سيتمّ التعامل بصرامة مع المتمرّدين. لا نفع لنا من أصحاب الأراضي الغائبين أو الأشخاص ذوي الولاء المزدوج، كما أتخوّف من أنّ ذلك يعني في الشرق معارضة حاكم ضدّ حاكم آخر وخداع كليهما بشكلٍ مستمرّ. وإذا أقمتم في جُزُر البحرين، ينبغي عليكم الامتثال لحُكم البلد، في الوقت الذي تمتلكون فيه أملاككم، ودفع الرسوم الجمركية، ولن نتساهل مع ]وجود[ دويلة داخل الدولة.
إلى السادة من المذهب الشيعي لا سيّما السكان الأصليون لهذه الجُزُر!
أتمنّى لو أنّكم، على وجه الخصوص، تُدركون أهمية الملاحظات الآتية. إنّ معظم الاضطرابات التي حصلت في السنوات الأخيرة كانت زائفة. وأنا لا أقصد أبدًا عدم وجود مبرّر لشكواكم، ولكن لا يمكنني الموافقة على الرأي ]القائل[ إنّ سوء الحُكم الحالي هو أكثر استبدادًا أو سفورًا ممّا كان عليه في الماضي.
إنّ حالة هذه الجُزُر، وعلامات الثراء الإضافي التي تطالعكم في كلّ مكان تدحض الادّعاء بأنّ سوء الحُكم كان دائمًا وأنّه في تزايد. لقد اعترفنا ببعض المفاسد، وأعلنّا عن نيّتنا مُكافحتها، ولكنّني أريد منكم أن تذكروا أنّ هذا البلد سُنيّ، وتحيط به على هذا الساحل من الخليج مجتمعات سُنيّة قوية ترصد إجراءاتنا باهتمامٍ بالغ ومن دون أدنى ارتياب. لا ينبغي عليكم توقّع المساواة على نحوٍ ملزِم، كما أنّه لا يمكن إلغاء الامتيازات السُنيّة دُفعةً واحدة، في حال أمكن إلغاؤها أصلً.
وكما أخبركم الشيخ حمَد، سنحاول معرفة إلى أيّ حدّ تُفرَض عليكم الضرائب، بحيث تُجبى الضرائب بشكلٍ متساوٍ لا عشوائي، وأن تتنعّموا بثمار أعمالكم ولا تتعرّضوا لأيّ نوعٍ من الاعتداءات التي أخشى أنكم كنتم تتعرضون لها في الماضي. وأتطلّع إلى دعمكم المخلص للشيخ حمَد الذي يعدني بحمايتكم من أيّ ظلمٍ أو ابتزاز. لقد اكتشفتم مؤخّرًا أنكم تمتلكون رأيًا، وعلّمكم مستشارون أجانب كيفية التعبير عنه.
احذروا من الصخب غير المنصِف الذي قد يؤدي بكم إلى تدمير المنافع التي تتوقّعونها بشكلٍ معقول من مبايعة النظام الحالي.
إليكم أيّها السادة الكرام، الذين يندرجون قانونيًا تحت خانة الأجانب ضمن المرسوم الملكي للبحرين،
لديّ القليل ممّا أقوله لكم. إن السلطة القضائية على الأجانب ستبقى في المستقبل بيد المعتمد السياسي، على النحو الذي كانت عليه في الماضي. أعتقد أنّ الأمر لصالحكم وأنّكم راضون عن ذلك. الأمر الذي لن يُنكره أحد هو أنّ حكمة الشيخ عيسى بإحالة القضايا الأجنبية إلى المعتمد السياسي، أدّت إلى زيادة عدد الأجانب، وثرواتهم، وأهميّتهم في المجتمع على نحوٍ مدهش. ولا يبدو أنّ الناس سيتدفّقون إلى هنا على النحو الذي يحصل، لو أنّهم كانوا مستائين من الظروف التي يعيشونها. غير أنّ الشيخ حمَد يخوّلني صراحة القول إنّه يرحّب بالتعليقات والانتقادات التي سيصغي إليها جميعها، التي من شأنها أن تزيد الثروة، والراحة، والرخاء العام لمدينة المنامة حيث يهيمن الأجانب عليها ما يدفعم للاعتقاد بأنهم من بنوها.
أيّها السادة، لقد أطلتُ عليكم، ولكن لا يكتمل خطاب في البحرين من دون التحدّث ولو بكلمة عن الموضوع الذي يشغل أذهان من يعيشون في البحرين، [وهو] تجارة اللّؤلؤ. إنّها مصدر ثراء هذه الجُزُر، وهي دافع تدفّق الأجانب إلى هنا بهذه الأعداد، وبناء بيوتٍ جيدة أسّست لازدهار المنامة، ونظافتها، ورخائها.
ولكنّني أعلم، وكذلك المعتمد السياسي، والشيخ حمَد، والقاضي، الشيخ قاسم بن المهزع، وجميعكم تعلمون، وقبل الجميع الغاصة، أنّ [تجارة اللّؤلؤ] هي البقعة الموبوءة من هذه الجُزُر.
جميعنا يعلم أنّ العمل في هذه التجارة هو أقرب إلى العبودية الدائمة، وأنّ الاحتيال، والخداع، والظلم مستفحل فيها، وما الذي يقوم به أيّ منّا للقضاء على هذه الشرور كلها؟ من غير المستحيل تقريبًا إيجاد أشخاص محترمين للعمل في مجلس السالفة، والنواخذة يرفضون باستمرار إصدار حساباتهم، وإذا فعلوا ذلك، فإنّ الغاصة الجهلة لن يفقهوا منها شيئًا. ولكن من يكترث لهذه المعاناة؟ يمكنكم تسجيل الغاصة، ويمكنكم أيضًا إصلاح مجلس السالفة، وسجن النواخذة، وإجبارهم على تقديم الحسابات، ولكن حتّى ذلك لن يكون كافيًا. يجب أن تبدأوا من الفئات الأدنى -الغاصة- وتشجيعهم عبر إيجاد عمل لهم في موسم الركود، وتعويدهم على الادخار كي يستغنوا عن السلف وفوائدها الظالمة، بدلً من تشجيعهم على الإسراف والاتكالية. وأترك لكم، يا من ترغبون بذلك، أن تجدوا سبيلً إلى هذا الأمر. لا يمكن للشيخ حمد والمعتمد السياسي أن يقوموا بالكثير في هذا الشأن، لكن الكرماء العمليّين والحذرين يمكنهم أن يقدموا على الكثير من الأمور.
{ملاحظة: الخطاب يتحول إلى اللغة العربية}
والآن أطلب من الشيخ حمد أن يتحملني، بينما أقدم لكم بعض النصائح للمستقبل. ولقد سبق وتكلمت معكم حول هذا الموضوع، لذا فأنا أوجّه لكم الحديث كي يسمعني الآخرون الحاضرون.
أول نصيحة أقدمها لكم هي: «اخشوا أمرين: الأول هو الله، أمّا الأمر الثاني فهو الخوف». كنت أكاد أعكس الأمر، بالنسبة لله، فهو الرحمن والرحيم والمتسامح والكريم، بينما الخوف هو العدو المكروه.
أمّا النصيحة الثانية فهي «أن تتجنبوا شيئين: الكره والحب». يشكل هذان الأمران صفتَي الرجل الضعيف. إنّ هذا الأخير قد يكون تاجرًا أو شخصًا ذا أعصاب باردة لا يسبب ضررًا أو أذى، لكنه لا يصلح أن يكون حاكمًا.
وأمّا النصيحة الثالثة، فهي تتعلق بالمكافآت والعقوبات، وهما مهمتا الحاكم الرئيستان. وبخصوص هذين الأمرين، اتبع القواعد المعتمدة من قبل السفينة البريطانية الحربية، فلتبقِ أربعًا وعشرين ساعة بين الفعل والعقاب، سواء أكان الأخير تعويضًا أو عقابًا. واختبر نفسك إذا كان قلبك باردًا، وإن لم يكن هذا هو حالك، فانتظر حتى تنقضي أربع وعشرون ساعة أخرى ومن ثمّ عوّض.
والآن يا حمد! سأخبرك قصة سمعتها هنا حول ما جرى في ذلك اليوم في حفل توزيع الجوائز المدرسية الذي يشبه إلى حدٍّ كبير التجمّع الحالي. تسلّم معظم الطلاب جوائز، ما عدا طالب واحد، ربما لا يستحق أي جائزة، وبدأ هذا الطالب يتذمّر. وخوفًا من أن يُفسِد الحفل، قاده مدير المدرسة إليك وأوضح أنّه بسبب خطأ ما قد نُسي هذا الفتى. عندئذٍ يا حمد! أخرجت ساعة ذهبية من جيبك وقدمتها إلى هذا الفتى الصغير المتذمّر. كما أعطاه فرد آخر من آل خليفة، لا يتفوق عليك في الكرم، «5 جنيه استرليني». وبلا شك، أشادت الحشود كم كنت رجلً نبيلً وكريمًا ومحترمًا. ويبدو ما حصل وكأنّه قصة من ألف ليلة وليلة، أو من أيام الترف التي شهدتها حقبة هارون الرشيد.
والآن أقول لك يا حمد! إنّ تصرّفك في هذه المناسبة كان رديئًا تمامًا. فكان سيئًا بحق الفتى نفسه، وبحق الطلاب الآخرين. وفي حال استمرّت مبادئك على هذا النحو، فلن تدوم يا حمد ]في منصبك[ ستة أشهر. لقد عملتُ ثلاثين عامًا مع حكماء قليلي ورفيعي الشأن على حدٍّ سواء، وحتى الآن لم أعرف ولم ألتقِ أبدًا بحكيم لم يكن بحاجة إلى المال من أجل الاحتياجات العامة. ويواجه المعتمد السياسي صعوبة في تلبية الاحتياجات العامة بسبب حاجته إلى المال، وأنا أشعر بعجزٍ بسبب عدم توفر المال. وإنّ فارس والعراق وفرنسا على وشك الإفلاس وألمانيا سقطت في الهاوية. كما حدّت حكومة الهند من مؤسساتها، وطردت موظفيها، وقامت حكومة لندن بالمثل، فمن أنت يا حمد، حتّى تكون أفضل منهم؟ لديك عائدات وافرة وطائلة، ولكنّني تفاجأت جدًّا عندما علمت أن هذه العائدات تبلغ قيمتها «روبيّة» واحدة شهريًّا لكلّ فرد من سكان هذه الجزر، ومع ذلك، هؤلاء الرجال والنساء والأطفال كلهم يتطلعون إليك يا حمد، من أجل الأمور المتعلقة برفع معنوياتهم والصرف الصحي والتقدم. ما الذي ستقوم بتنفيذه من رفع المعنويات والصرف الصحي والتقدم ب «روبية» واحدة للفرد شهريًّا؟ وكم سيفيض كي تقدم الساعات الذهبية و 5 «جنيه استرليني» للفتيان المتذمرين الذين يعملون لمدة قصيرة أو لإهداء أفراد آل خليفة السيارات والمراكب الآلية؟ في كافة الأمور المتعلقة بالإنفاق الخاص، يجب أن تكون بخيلً يا حمد، وعليك أن ترحّب فحسب بمشاريع ستجلب المال من استثمار المال، والمشاريع التي تحقق التقدم العام لشعبك الذي تنفق المال عليه بكلتا يديك.
اذا اتبعت هذه المبادئ الأربعة، وشتمك الناس مثلما يشتمون حكيمًا، اذهب في طريقك من دون خوف. وإذا مدحوك في محضرك، اختبر نفسك واسأل قلبك «أين ارتكبت خطأً يا حمد ». وفي الختام، يا صديقي {وهنا أخذته بيده}، أسأل الله أن يمنّ على حكمكم بالبركة والازدهار.
ملاحظة: رُحّب بهذا الخطاب وبدا الشيخ حمد حقًّا مسرورًا به، على الرغم من أنّه قد يكون مستاءً من بعض هذا الكلام الصريح والعلني. وحتى يوسف بن أحمد كانو، ناقدنا اللاذع، قد تحمّس، وقال إنّه كان ينبغي على حمد أن يقبّل يدي وجبيني للنصيحة التي قدمتها باللغة العربية. اقرأه بأعصابٍ باردة، إذ تبدو الترجمة إلى الإنجليزية سخيفة إلى أقصى الحدود، ولكن يجب على المرء أن يأخذ بعين الاعتبار الشعب البدائي الموجّه إليه هذا الخطاب.