awal

الوطنية الفاترة

 

يقول المؤرخ البحريني ناصر الخيري (1293-1344 هـ/ 1876-1925م) في ختام مقدمة كتابه “وأنتم يا ناشئة الوطن أجمع، ويا أدباء بلادنا الكرام، أضع بين أياديكم وأقدم لكم كتابي (تاريخ البحرين [قلائد النحرين في تاريخ البحرين])… وأملي أنكم ستتقبلون بإخلاص وطني هدية أخيكم ومواطنكم الذي كرّس شطرًا من نفيس أوقاته وهجر كثيرًا من لذاته، مكدًّا مجدًّا حتى أبرز لكم هذه المجموعة النفيسة… رجاؤه الوحيد ومكافأته منكم في عمله أن توفوا في المستقبل الوطنية الصحيحة بمعناها الصحيح” 

لقد طبع كتاب ناصر الخيري طباعة محققة، من قبل جهة حكومية هي مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية، وتمّ تدشينه في حفل رسمي في فندق الريجنسي في كانون الأول/ ديسمبر 2014 وبعد أسابيع تمت مصادرة النسخ وسُحب من السوق، وتمّ حل مجلس إدارة المركز. 

لماذا ما زال إلى اليوم يرفض الوطن هذه الهدية؟ لماذا يضيق نَفَس الوطن عن الاحتفاء بهذه (المجموعة النفيسة) من أوراق ناصر الخيري التي تبلغ 437 صفحة مخطوطة بيده؟ لماذا عصي على هذا الوطن أن يحقق أمل هذا المؤرخ البحريني في قبول كتابه؟ 

لقد خرج هذا الكتاب خائفًا يترقب من موطنه منذ لحظة الانتهاء من كتابته ووفاة مؤلفه في العام 1925، واختفى  ثمانين عامًا، لا أحد يعرف مصيره، حتى تمّ العثور عليه في الكويت. لا شك أنه يتمنى أن يعود إلى موطنه، لكن ما زال هذا الوطن يتأبّى عليه، يبدو أننا لم نوفِ الوطنية الصحيحة بعدُ بمعناها الصحيح كما رجانا (الخيري) فلم نستحق بعدُ أن يكون هذا الكتاب في وطننا غير المنجز.

كان ناصر الخيري شاهدًا على تاريخ الأحداث المفصلية في البحرين في الربع الأول من القرن العشرين، الأحداث التي تبلور من خلالها المفهوم القانوني للبحريني، نقرأ كتابه اليوم باعتباره شاهدًا على هذه الأحداث وشاهدًا على صلتها بأحداث 2011، فالأسباب التي جعلت مخطوطة كتابه تُرحل خارج البحرين، هي نفسها التي مازالت تمنع كتابه أن يعود إلى البحرين، لقد كتب عليه النفي القسري الطويل كما ما زال يكتب على أبنائه النفي والإبعاد والإسقاط من المواطنة.

يحمل الرجاء والأمل اللذين كتب بهما (الخيري) مقدمته التاريخية، التوتر السياسي الذي عاشه في تلك اللحظة المفصلية من ولادة البحرين الحديثة، لقد عاش توتر ما أطلق هو عليه “فاتحة عصر سياسي” ابتدأت في 1904، وبلغت ذروتها في 23 أيار/ مايو 1923 حين وقف بتكليف من المقيم السياسي، يقرأ ترجمته لخطاب العزل التاريخي على أعيان البلاد وجميع مكوناتها: آل خليفة، القبائل السنية، الشيعة البحارنة، الأجانب. كان خطابًا يُعلن نشأة مُستأنفة للبحرين، أزيح فيها عيسى بن علي ونظام (الحكم القبلي) حيث الإقطاع والفداوية والقضاء الشرعي، ونُصب فيها حمد بن عيسى ونظام (حكم القبيلة) حيث الإدارات الحديثة للدولة والقضاء المدني والبلدية وإدارة تسجيل الأراضي.

وقف ناصر الخيري مع الإصلاحات كمثقف عصري، أراد لوطنه أن يدخل عصر الحداثة، ووقف أيضًا مع هذه الإصلاحات كموظف في البلدية المتصلة بدار الاعتماد البريطاني، شكلت هذه المعية إشكالية وطنية بالنسبة له، فقد كان عضوًا في النادي الأدبي بالمحرق ويحمل رؤية ثقافية مختلفة وموقعًا وظيفيًّا مختلفًا، أراد أدباء النادي القريبون من عيسى بن علي وابنه عبدالله بن عيسى من ناصر الخيري أن يكون معهم إلى جانب العائلة الحاكمة المعارضة للإصلاحات، وأراد هو شيئًا آخر، وقد عبرت رسالته الشهيرة عن ذلك “ومن مثل هذى [هذا] كنت أخشى على أصحابنا أهل النادى وأعارضهم وأنهاهم عن التطرف فيما لا طائل منه. ولكن هدى الله بعضهم يحسبون الناصح لهم فاتر [فاترًا] في الوطنية عديم الإخلاص لها”. لقد تحمل (الخيري) التشكيك في وطنيته، ووصفها بأنها وطنية فاترة في نظر من عارضوا الإصلاح السياسي، وترك لنا (قلائد النحرين) هدية، لتكون حَكَمًا على إخلاصه، وشاهدًا على محنته في وطنه الذي لم يُنجز بعد وطنيته الصحيحة، ليكون جديرًا بإعادة توطين (قلائد النحرين) ضمن أرشيف تاريخه.

قدرنا أن نتعلم الوطنية من مثقف لم يعرف أصلًا يرجعه إلى قبيلة، فقد كان من (الموالي)، وهذا جعله متحررًا من ثقل الانتماء القبلي، وثقل تمثيل مصالح هذا الانتماء وأعرافه وتقاليده الذي تجسّد في موقف القبائل الرافض للإصلاحات في العشرينيات.

لقد كرر(الخيري) مشتقات كلمة (وطن) أربع مرات في الفقرة الختامية لمقدمة كتابه، وكأنه يوصينا قبل أن يغلق درسه الأخير، أن نحقق مشروع الإصلاح السياسي الذي شارك في صنعه في العشرينيات، وأرّخ له، ورأى فيه مشروع وطن لولادة البحريني، البحريني الذي ليس مجرد نوستالجيا وذاكرة وانتماء وحنين وتاريخ وثقافة، بل البحريني المحمي بالقانون والمُنصف بالحقوق، والمعترف به في الدستور، البحريني الذي تمنحه الدولة مساواة كاملة في الحقوق والواجبات، هذه هي (الوطنية الصحيحة)  التي تحدث عنها ناصر الخيري.

يا ناصر، نعتذر إليك.. 

تسعة عقود من كتابك، ونحن لم نوفِ الوطنية التي تطلعت إليها، تسعة عقود من كتابك ولسنا قادرين أن نتقبل هديتك، لا رجاؤك منا تمكنا أن نوفيه ولا أَمَلُك قادرين أن نستقبله.

هذا الكتاب قراءة في الأحداث التي عايشها ناصر الخيري، والصراعات التي كان شاهدًا عليها، والتحولات التي كان جزءًا من الجدل حولها.

علي أحمد الديري

24 أيار/ مايو 2017

مدينة ويندزر

أونتاريو، كندا



لماذا تكره السلطات البحرينية صعصعة بن صوحان؟ ولماذا يحبّه شعب البحرين؟

اضغط هنا للاستماع للحلقة

د. علي أحمد الديري

لقد كان صعصعة بن صوحان منفيًّا للشام في زمن عثمان بسبب ثورته، ومطالبته بالإصلاحات، وفي مرات أخرى، كان مبعوثًا من قبل الإمام علي (ع) وقد التقى بمعاوية مرات كثيرة. وتحكي كثير من الأخبار المدونة في كتب التاريخ عن هذه اللقاءات والحوارات الكثيرة بين معاوية وصعصعة. وقد وردت قصة في كتاب الذهبي “سير أعلام النبلاء”-وهو من الشخصيات الكبيرة وأحد تلامذة ابن تيمية- يقول فيها إنّ صعصعة بن صوحان وفد على معاوية، فخطب، فقال: “إن كنت لأبغض أن أراك خطيبًا”، قال: “وأنا إن كنت لأبغض أن أراك خليفة”¹. أي إنّ معاوية يكره أن يرى صعصعة خطيبًا، وكأنه يقول له: لسانك طويل وتتحدث دائمًا بما يغيظ الحاكم، ولا تسكت عن الحق، ولديك بلاغة مزعجة، فأنا أبغض ذلك فيك. فكيف رد عليه صعصعة بن صوحان بخطابه وبلاغته؟ قال له إنّه أيضًا يبغض أن يراه خليفة. وهذا كلام كبير وفيه بلاغة رائعة جدًّا.

تجد السلطات البحرينية في خطاب صعصعة بن صوحان ما وجده معاوية فيه؛ خطاب مزعج للسلطة، مطالب بالحق، لا يسكت عن الظلم، ويريد الإنصاف للآخرين والعدالة لهم، وهي لا تريد أن تسمع هذا الصوت. أمّا شعب البحرين، فهو في الجانب الآخر، يبغض أن يرى معاوية خليفة، وأن يرى من يمثل نهج معاوية يتسلّط على الآخرين ويظلمهم، ويستأثر بالسلطة، ولا يسمح بمشاركتها، ويحوّلها إلى ملك عضوض. هذه الذاكرة التي تربط شعب البحرين بصعصعة تربطه بخطابه أيضًا، وهو شعبٌ يقدّر صعصعة بن صوحان كخطيب شحشح، متمكن، قوي، وبليغ؛ إنه ليس بليغًا في تركيب الكلمات فقط، إنما تكمن بلاغته بقدرته وجرأته على أن يقول للحاكم الفاسد “أبغض أن أراك خليفة” وحاكمًا وصاحب سلطة.

نلاحظ هنا استخدام كلمة “البغض” أو “الكره”، إذ لا يوجد ما يفسّر أفعال الحكومة البحرينية اليوم من منع لزيارة هذا المقام، والمسجد، والقبر. فلا مصلحة مادية هناك، أو بئر نفط، أو موقع استراتيجي تريد أن تنشئ فيه مشروعًا اقتصاديًّا كبيرًا. لا يوجد ما يدفع السلطة البحرينية لأن تغلق هذا المكان أو توعز إلى التكفيريين والمتعصبين كي يقوموا بتخريبه أو نشر مقالات تشكك في أن هذا المكان قبر لصحابيّ أو تابعي أو شخصية ذات مقام كبير. لا يوجد ما يفسر ذلك غير البغض والكره والحقد. لقد أصبحت هذه أمور من ضمن مهمات الخطاب الحقوقي الذي يسعى لإيقاف الكراهيات وتقليلها ومحاربتها وفضحها، أنا شخصيًّا لا أجد سببًا يفسّر ذلك غير الكراهية.

الكراهية هنا مبنية على أسباب عقائدية، وأسباب أخرى تتعلق بموضع هذا القبر، والمقام والشاهد، في منطقة عسكر الشهداء، التي كان يسكنها البحارنة الذين تعرضوا سابقًا لاضطهادات ولعمليات ترحيل من مساكنهم، وبقي هذا الشاهد شاهدًا على أنهم كانوا هنا. فالسلطة ترفض وجود أي علامة تشير إلى تواجد سكان أصليين في هذا المكان، إذ إنها تتبنى فكرة “بلاد بلا عباد”؛ أي أن هذه المنطقة كانت بغير سكان، وهي التي جاءت، وفتحت وعمرت. ولا أدري كيف يمكن أن يكون هناك فتح من دون وجود بشر في هذا المكان.

ما تقوم به هذه السلطة يُحركه  خطاب الكراهية، فلا يعوز السلطات البحرينية أن تبحث عن مُسوّغ. مثلًا، إذا كانت هذه السلطة لا تؤمن أن هذا المقام هو قبر، فليكن شاهدًا أو مقامًا. هناك مسوغات شرعية لهذا الأمر، فالشيخ علي الطنطاوي، مفتي الديار المصرية، وأحد كبار علماء الأزهر، يقول إن المسلمين ابتكروا فكرة المشاهد والمقامات لكي يتذكروا هؤلاء الصحابة والتابعين والعلماء، وهو يعطي أمثلة على ذلك فيقول إن السيوطي عاش في القاهرة ودفن فيها، ولكن أهل أسيوط أقاموا له في أسيوط مقاما. وصعصعة بن صوحان كذلك، فهو قد دفن بعسكر أو أقيم له مقاما ومشهدا هناك لأنه من أهل البحرين، ومن قبيلة عبد القيس. يمتلك أهل البحرين مشاعر اعتزاز كبيرة به وبأخيه زيد بن صوحان ولهذا بني له مقامًا.

يقدّم الشيخ الطنطاوي مثالًا آخر كالإمام الحسين، والسيدة زينب، ورأس الإمام الحسين، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تقول إن هذه المقامات تعطي مكانة لهؤلاء الأشخاص المسلمين، ولا تتعارض مع الشرع. فلا يوجد أي مسوغ لأن تقوم السلطة بحملة كراهية كي تغلق هذا المكان أو أن تصادره غير الحقد والكراهية والتحامل وإثارة الفتن بين أبناء الدين الواحد، والمجتمع الواحد، والوطن الواحد. 

ومن الأمثلة الأخرى مقام، وشاهد، ومسجد الصحابي أبو أيوب الأنصاري وهو الذي يسمى السلطان أيوب في تركيا. وهذا المكان ليس قبره إنما مقامه، وله قصة كبيرة في فتح القسطنطينية. هذا الشاهد كان بمثابة إلهام روحي كبير أعطى المسلمين الأتراك قوة هائلة لفتح القسطنطينية لذلك أنشئ هذا المسجد الذي لا يزال مقدسًا عند الأتراك. وجرت العادة أن أي حاكم تركي يقصد هذا المقام بعد انتخابه، وحين يلقي الرئيس  خطابا مهما ومصيريا بالنسبة للأمّة يزور المقام.  ولا نستطيع القول تاريخيًّا إن هذا المقام هو قبر لأبي أيوب الأنصاري، ولكنه تأسس استنادًا إلى قصة وحلم. تعتبر الذاكرة التركية والمسلمين اليوم أن هذا المكان هو مكان أبو أيوب الأنصاري. فكيف يمكن لنا أن نفرّط بمقام الصحابي صعصعة بن صوحان، هذا المكان التاريخي الرائع، لأحقادٍ وكراهيات غبية.

نعود لمجلس معاوية بن أبي سفيان الذي نعثر فيه على قصة أخرى بطلها صعصعة بن صوحان، وتعيننا على الإجابة على سؤال هذه الحلقة. تقول القصة: تكلم صعصعة عند معاوية بكلام أحسن فيه، فحسده عمرو بن العاص فقال: هذا بالتمر أبصر منه بالكلام، قال صعصعة: أجل أجوده ما دق نواه ورق سحاه وعظم لحاه والريح تنفجه والشمس تنضجه والبرد يدمجه، ولكنك يا ابن العاص لا تمرًا تصف ولا الخير تعرف، بل تحسد فتقرف.

فقال معاوية لعمرو: رغمًا لك! فقال له عمرو: أضعاف الرغم لك وما بي إلا بعض ما بك² كان ابن العاص يريد أن ينتقص من مقام صعصعة بن صوحان، فقال له إنه يعرف بالتمر أحسن مما يعرف بالكلام. وهنا يشير بقوله إلى عبد القيس الذين سكنوا البحرين واستوطنوها واشتغلوا في الزراعة والنخيل وتركوا حياة البدو وأصبحوا متحضرين؛ والشخص الذي يعطي للغزو والسلب قيمة كبرى يعتبر هؤلاء أهل تمر وينتقص منهم ومن مقامهم. وما زال أهل البحرين يفتخرون أنهم أهل تمر وأهل نخل، والنخل يعرفهم.

وجوابه هنا كان في منتهى البلاغة، فوصف له معرفته وبلاغته مشيرًا إلى أنه يجيد الوصف والبلاغة والكلام، ويمتلك خبرة عريقة جدًّا بالتّمر والنخل، في حين أن ابن العاص لا يعرف أن يصف التمر، أي أنه لا يمتلك الخبرة، ولا المهنة، ولا يعرف اللغة، ولا البلاغة، ولا الخير لكنه حسود ومقرف. فقال معاوية إن صعصعة قد رغم أنف ابن العاص، فأجابه ابن العاص  إنّه قد رغم أنف معاوية في التراب أكثر، وإنه ما ذاق إلا شيئًا من أضعاف الإذلال والترغيم في التراب الذي أصاب معاوية. هكذا هو صعصعة بن صوحان؛ يستخدم اللغة دائمًا للانتصار للحق، وإسكات الظالمين، لذلك لا تحبه السلطة التي تريد إسكات الآخرين، والمعارضة ولا تريد أن يكون في هذا البلد من يستخدم الكلام ببلاغة وإنصاف من أجل الانتصار للحق.

شعب البحرين يحب صعصعة لأنّه كان امتدادًا لبلاغة الكلام المنتصرة للحق وامتدادًا للحق نفسه، وليس امتدادًا للكلام المزيف وليس امتدادً للانتصار للحاكم ذي الملك العضوض. ما زالت البحرين وأهلها أهل تمر وبلاغة وشعر وخطاب، فمساجدهم ومخطوطاتهم وكتبهم تشهد على ذلك.

لذلك نتحدث عن حرب في الذاكرة، فالسلطة لا تريد ذاكرة للبلاغة والانتصار للحق، ولا تريد لهذا المقام أن يذكّر أهل البحرين أنهم أبناء صعصعة بن صوحان، بل تريد أن تجعل أبناء البحرين أبناء معاوية، بمعنى الحاكم الذي يجهّل الناس، ويجعل الناس يسبحونه ويقدسونه ويشتمون ويسبون من هو في مقام عال كالإمام علي الذي شتمه أهل الشام أكثر من سبعين سنة بأمر من معاوية. هذا نوع من أنواع الكراهية التي تورث البغضاء بدل أن تخلق الألفة التي يجب أن تكون بينهم

__________________

١. الذهبي، سير أعلام النبلاء.

٢.  قاموس الرجال: ج 5 ص 123، وبهج الصباغة: ج 11 ص 270. 



“الترجمة: التلةُ التي نصعد”

اتخذ مركز أوال شعار «التلة التي نصعد» (The Hill We Climb) للاحتفاء بيوم الترجمة العالمي في هذا العام. وكما عودناكم في مركز أوال، فإننا نتخذ في كل عام شعارًا نقارب من خلاله شقا من مفاهيم الترجمة.

شعار هذا العام هو «التلة التي نصعد» (The Hill We Climb) عنوان قصيدة لشاعرة سوداء نحيلة صغيرة اسمها «أماندا غورمان» (Amanda Gorman)، مكونة من 710 كلمة، وقد ألقتها في حفل تنصيب «جو بايدن» (Joe Biden) رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية بتاريخ 20 كانون الثاني/ يناير 2021م.

أثارت هذه القصيدة في ترجمتها جدلًا كبيرًا، بعد أن حاول ناشر ألماني أن يقوم بإسناد مهمة الترجمة إلى مجموعة من الأدباء المتخصصين. وطرحت أثناء هذه المحاولة مجموعة من الأسئلة كان أبرزها: «هل يمكن للأبيض أن يترجم معاناة الأسود؟ وهل يمكن للأبيض أن يترجم قصيدة تتحدث عن تجربة السود؟ أم هل يليق أخلاقيًّا أن نستعين بمترجم أبيض، في حضور المترجمين السود؟ هل يمكن أن يكون المترجم الأبيض أمينًا على ترجمة جرح الأسود؟ هل يمكنه أن ينصت إلى عمق هذا الألم الذي تحمله كلمات الأسود؟

التلة في قصيدة (أماندا) تُشير إلى مبنى الكونغرس الأمريكي، السلطة التشريعية في البلاد، ويبلغ ارتفاع المبنى مع التلة التي أقيم عليها 221 مترًا. صعود هذه التلة، هو بمثابة المشاركة في النظام السياسي، والهيئة التشريعية، ونظام الدولة ودستورها. خاض الأسود تجربة مريرة، ليصعد إلى هذه التلة، ويكون في مصاف الأبيض فوقها، عنوان القصيدة يُشير إلى هذا الصعود.

شُيِّد هذا البناء في العام 1793م، والأكيد أن العمال الذين شيّدوه في ذلك الوقت كانوا من العبيد السود؛ لم يصعدوا التلة حينئذٍ ليشاركوا في التشريع، ليحميهم من ظلم الأبيض، بل ليُسيّدوا البيض. لكن مكر التاريخ وتحولاته جعل هذه التلة مكانا لكل الألوان، ما بُني على أيديهم هو الذي حررهم وضمن لهم حقوقهم، والقصيدة تشير إلى ذلك.

اخترنا هذا الشعار لنشير أولًا إلى الجدل الحاصل حول ترجمة هذا القصيدة، وهو جدل نافع ومفيد، يفتح نقاشات حول مفهوم الترجمة.

كما أن هذا الشعار يشير إلى أن الترجمة ليست عملية تبديل كلمات ولا بحث عن مرادفات، إنما تقع في قلب الصراع، وفي قلب المعاناة.

هذا الشعار يؤكد أن الكلمات تحمل جرحنا الوجودي الناطق، وهذا ما شرحناه في شعارنا في العام السابق «الترجمة شق كلام»، والشق هنا يحمل معنى المشقة، وليس معنى «الفتحة» فقط، وهي جرح كذلك؛ ويشير إلى أن الترجمة هي جرح في الوجود، وليست فقط جرحًا في الفم الذي نتكلم منه ونترجم من خلاله. هذه القصيدة هي تعبير عن هذا الوجود. والشاعرة أثناء إلقائها القصيدة كانت تمثّل جرح العرق الأسود، والبحث عن مترجم ينصت إلى هذا الجرح هو كالبحث عن طبيب ومعالج على هيئة مترجم.

الترجمة تحمل المعانى والألم والمشقة، لذلك فضلنا ترجمة العنوان «التلة التي نصعد» على ترجمة «التلة التي نتسلق» لأن الصعود فيه المشقة والمعاناة، والاستخدام القرآني للصعود يشير إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ (سورة الأنعام، الآية 125)، كما أن المعجم العربي دائمًا ما يقرن الصعود بالألم وتنفّس الصعداء بعد أن يزول هذا الألم.

الترجمة بقدر ما تكون ناطقة ومتحدثة ومعبرة، تمتلك القوة، قوة الصرخة الموجودة في النص الذي قيلت فيه، والكامنة في الجرح الذي نطق بهذا النص.

مركز أوال للدراسات والتوثيق


أن تترجم يعني أن تعبر الحدود التي تفصل بين اللّغات والثّقافات والهُويات وتردم الهُوّة بينها. أن تترجم يعني أن تُشيّد جسراً تتعارف عنده الثقافات وتُعرّفُ عن نفسها وتتصالح مع هُجنتها بأن تؤسس لمفاهيم الاختلاف والحوار والانفتاح والتنوع.

أن تترجم يعني أن تعمل في الخفاء والعلن، أن تَصِلَ المجهول بالمعلوم بأن تشدّ رحالك مُسافراً في المجاهيل؛ أن تتفاوض، أن تقاوم، أن تفض النزاعات، لتتمكن في النهاية من «صعود التلّة» لتُشرِفَ على مشهدٍ جديد، فضاء معنى جديد لا ينشغل بثنائيّة الهامش والمركز وينفلت من قبضة الذات والآخر.

قصيدة «التلة التي نصعد» كشفت عن محنة الترجمة تحديداً بوصفها موضعاً للمفارقة، ولعلّ واحدة من أشهر المفارقات هي تعريف الترجمة الجيدة بأنها تلك التي لا يستطيع القارئ معرفة كونها ترجمة.

أي بعبارة أخرى، تثبت الترجمة قيمتها بالتخفي؛ بالانصياع لتوقعات ثقافة بعينها والرضوخ لنزعتها العِرقية التي لا ترغب باستقبال الاختلاف الثقافي ولا التعامل معه.

إنها شكل من أشكال العنصرية «المُقنّعة»، بتعبير شتراوس، تلغي التنوع الثقافي وتمحو كونيّة الأثر الإنساني وشموليته وتتمركز حول ذاتها ناسفةً فعل الترجمة بوصفها فن تخطي الحدود.

برأيي أن محاولة الأبيض للتعرف على «جرح» الأسود تمثل خطوة مهمة لنبذ العنصرية وللتقرّب من الآخر المختلف ولتبديد الظلام على اعتبار أن الجرح، بتعبير جلال الدين الرومي، هو الموضع الذي يدخل منه النور.

خالدة حامد تسكام

مترجمة وأستاذة جامعية/ بغداد


دائمًا ما يكون النص المترجم موضع انتقاد وتعليق وتقييم على يد كثيرين ممن قد ينصفون المترجم أو لا ينصفونه. لكن لا يمكن أن ننكر جهده وتخبطه بين لغتين وثقافتين، ناهيك عما يكون الكاتب قد صبّه في النص من شخصيته ومن نفسه ومن لسانه.

يقع المترجم في معظم الأحيان في شراك تحليل المقاصد والمعاني الخفية، فلا يدري هل يحتفظ بهويته أثناء الترجمة، أم هل يبتعد عنها ويحاول أن يضع نفسه مكان الكاتب.

وللأمانة، لا توجد قاعدة محددة لذلك، إنما يبقى ذلك رهنًا بما يريده المؤلف أو الناشر.

كثيرة هي الصعاب التي ينبغي على المترجم أن يتجاوزها، فعليه أن ينقل النص من لغته الرئيسة إلى لغة أخرى، محافظًا على اتساقه، ومضمونه، وملتزمًا بخلفيته، ومراعيًّا شخصية المؤلف، ومحاولًا أن يفهم المضامين الموجودة بين السطور.

لقد عملنا في مركز أوال على ترجمة عدد من الكتب، كان أبرزها «مجموعة أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية»، التي تتألف اليوم من ستة مجلدات مترجمة لوثائق بريطانية عن البحرين، يعود أقدمها إلى العام 1820م.

إن اختلاف اللسان، والثقافات، والعادات، أوجب علينا محاولة فهم البحرين كما رآها البريطانيون، كي نتمكن من مطابقتها مع لساننا وثقافتنا. كانت كأنها إعادة ترجمة لنص مترجم أساسًا. فالبحرين دولة عربية ذات لسان عربي، ترجمها البريطانيون في وثائقهم إلى الإنجليزية، ونحن أعدنا ترجمتها من جديد إلى اللغة العربية.

تحديات الترجمة كثيرة، وكل مترجم يجد منها زاوية مختلفة وجديدة، تفرضها طبيعة النص وطبيعة مؤلفه، وتصبح هذه التحديات تلة يجهد المترجم في صعودها ليصل إلى قمة يستطيع أن يرى منها النص بشكل أكثر وضوحًا وشمولًا.

رؤى شمس الدين

مترجمة / لبنان


ترجمة النصوص الأدبية تشبه المثل الإنجليزي الشهير

Put yourself in my shoes 

«ضع نفسك في حذائي»

بشرط امتلاكنا مقاس القدم ذاته.. سيكون «حذائي» وستكون «نفسك» لكنها التجربة المشتركة بيننا..

حشر القدم الكبيرة في الحذاء الصغير تضخم من المعاناة وانتعال القدم الصغيرة للحذاء الكبير يسخف من التجربة.

دعاء إبراهيم

مترجمة / البحرين


Words travel worlds, bridging distances and building civilizations and none of this could have been made possible without the bearers of words, the messengers and travelers: translators.

To translate is to be entrusted with a message, carefully carrying it along a challenging trek laced with hurdles and an arduous climb to the hilltop.

There is a widely adopted notion that a translation of worth is one whose translated nature is rendered invisible to the reader.

This cloak of invisibility is often thrown over translators as well, rendering them forgotten instruments and nameless soldiers, literally “lost in translation”.

However, when speaking of Amanda Gorman’s poem, The Hill We Climb, a debate has emerged pushing the translator into the spotlight.

Upon looking into this debate, one can conclude that it is rather a debate over trust in whether the translator has the ability to convey this culturally significant work in another language based on the translator’s background, race, culture or lived experience.

In such cases, one can argue that choice of the translator could hold as much significance as the message behind Gorman’s poem and her voice as a young, outspoken woman of color, given that black women are often systematically marginalized. This begs the question: Does the visibility and identity of the translator matter?

Yes, it does matter because context matters, and “who translates” here could be seen as part of the context. As words are not mere letters on a page; words have memories and a history of their own. And in the words of Anthony Burgess: “Translation is not a matter of words only: It is a matter of making intelligible a whole culture.”

Batoul Assi

Translator from Lebanon


للتحميل بصيغة PDF: الترجمة التلةُ التي نصعد
نسخة الهاتف

ملائكة الحمد: الشهيدان مصطفى ومحمد

حُماة الباب الأخير
شهادات من ساحة الفداء في الدّراز خلال الفترة
(20 يونيو 2016 / 23 مايو 2017)

 

 

 

الفصل‭ ‬الخامس‭:‬‭ ‬شهداء‭ ‬الباب‭ ‬الأخير
ملائكة الحمد: الشهيدان مصطفى ومحمد


 

في‭ ‬أحداث‭ ‬2011،‭ ‬أثناء‭ ‬اعتصام‭ ‬دوار‭ ‬اللؤلؤة،‭ ‬رأى‭ ‬ابني‭ ‬محمد‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬امرأة‭ ‬جليلة‭ ‬القدر‭ ‬يشع‭ ‬منها‭ ‬النور،‭ ‬قدمت‭ ‬له‭ ‬قميصين،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬استلمهما،‭ ‬بل‭ ‬أخته‭ ‬الصغرى‭. ‬سألنا‭ ‬رجل‭ ‬دين‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬هذا‭ ‬الحلم،‭ ‬فقال‭ ‬لنا‭: ‬‮«‬لو‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬أخذ‭ ‬القميصين‭ ‬لكان‭ ‬استُشهِد‮»‬‭. ‬مرّت‭ ‬السنوات،‭ ‬ونسينا‭ ‬موضوع‭ ‬الحلم‭. ‬ويبدو‭ ‬أنّ‭ ‬أوان‭ ‬شهادته‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬حان‭ ‬آنذاك،‭ ‬فقد‭ ‬ادُّخِرت‭ ‬له‭ ‬لوقت‭ ‬أعظم‭.‬

تتذكّر‭ ‬والدة‭ ‬الشهيدين‭ ‬محمد‭ ‬ومصطفى،‭ ‬وتروي‭ ‬لنا‭ ‬سيرة‭ ‬ابنيها‭ ‬المتعطّشين‭ ‬للشهادة‭. ‬تكمل‭:‬

عندما‭ ‬استُشهِد‭ ‬مصطفى،‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬محمد‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬الذي‭ ‬رأيت‭ ‬الحلم،‭ ‬فكيف‭ ‬يستشهد‭ ‬أخي؟‮»‬

وعندما‭ ‬قرأ‭ ‬وصيّة‭ ‬مصطفى،‭ ‬انكسر‭ ‬كثيرًا‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬كيف‭ ‬لم‭ ‬يذكرني‭ ‬أخي‭ ‬في‭ ‬وصيّته؟‮»‬‭ ‬

لم‭ ‬أتمكّن‭ ‬من‭ ‬إجابته‭ ‬حينذاك‭. ‬

عند‭ ‬لحاق‭ ‬محمد‭ ‬بأخيه‭ ‬بعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬شهرين،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬سُمح‭ ‬لنا‭ ‬بالذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة،‭ ‬جلست‭ ‬عند‭ ‬قبره،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬‮«‬الآن‭ ‬أستطيع‭ ‬إجابتك‭ ‬على‭ ‬السؤالين‭: ‬

لم‭ ‬يذكرك‭ ‬أخوك‭ ‬في‭ ‬وصيّته‭ ‬لأنّك‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يلحق‭ ‬به‭..‬

أما‭ ‬عن‭ ‬حلمك‭ ‬بالشهادة،‭ ‬فقد‭ ‬كانا‭ ‬قميصين‭ ‬وليس‭ ‬قميصًا‭ ‬واحدًا‭. ‬الأول‭ ‬له،‭ ‬والثاني‭ ‬لك‮»‬‭.‬

بين‭ ‬استشهاد‭ ‬مصطفى‭ (‬18عامًا‭) ‬واستشهاد‭ ‬محمد‭ (‬22‭ ‬عامًا‭) ‬شهران‭ ‬إلا‭ ‬يومًا‭ ‬واحدًا‭. ‬ارتدى‭ ‬مصطفى‭ ‬قميص‭ ‬شهادته‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬مارس‭/‬آذار،‭ ‬وارتدى‭ ‬محمد‭ ‬قميص‭ ‬شهادته‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬مايو‭/‬أيار‭ ‬2017‭. ‬

كان‭ ‬كلّما‭ ‬دخل‭ ‬عليّ‭  ‬يحدّث‭ ‬عن‭ ‬الشهادة،‭ ‬وكنتُ‭ ‬ألمح‭ ‬بريق‭ ‬عيونه‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬ماضٍ‭ ‬على‭ ‬خطى‭ ‬أخي‭ ‬يا‭ ‬أمي‭..‬‮»‬‭ ‬

يومان‭ ‬وأكون‭ ‬عندك‭! ‬

أتى‭ ‬إليّ‭ ‬مصطفى‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬أمي،‭ ‬سحبوا‭ ‬جنسية‭ ‬الشيخ‮»‬‭. ‬قلت‭: ‬‮«‬وماذا‭ ‬ستفعل‭ ‬أنت؟‮»‬‭ ‬قال‭: ‬‮«‬سأذهب‮»‬‭. ‬قلت‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬ستفعل‭ ‬إن‭ ‬ذهبت؟‮»‬‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬أنا‭ ‬ذهبت،‭ ‬وغيري‭ ‬ذهب،‭ ‬واجتمعت‭ ‬الحشود‭ ‬عند‭ ‬بيت‭ ‬الشيخ،‭ ‬سنتمكن‭ ‬من‭ ‬حماية‭ ‬الشيخ‭ ‬إذا‭ ‬هجموا‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬أضاف‭: ‬‮«‬يومان‭ ‬وأكون‭ ‬عندك‮»‬‭. ‬ فقلت‭ ‬له‭: ‬‮«‬في‭ ‬أمان‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‮»‬‭. ‬

ذهب‭ ‬مصطفى‭ ‬ومر‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭.. ‬الثاني‭.. ‬الثالث‭..‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬الرابع،‭ ‬دخل‭ ‬علي‭ ‬محمد،‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬سوف‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬الدراز‮»‬،‭ ‬فقلت‭: ‬‮«‬وماذا‭ ‬ستفعل‭ ‬هناك؟‮»‬‭ ‬قال‭: ‬‮«‬سأذهب‭ ‬مع‭ ‬الشباب‭ ‬المعتصمين‭ ‬لنحمي‭ ‬الشيخ‮»‬‭. ‬قلت‭: ‬‮«‬فليكن‭ ‬الله‭ ‬معك‮»‬‭. ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬كأخيه‭: ‬‮«‬يومان‭ ‬وأكون‭ ‬عندك‮»‬‭. ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬‮«‬في‭ ‬أمان‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‮»‬‭. ‬

ومنذ‭ ‬خروجهما،‭ ‬لم‭ ‬يعودا‭ ‬إليّ‭ ‬ليكونا‭ ‬عندي،‭ ‬اختارا‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬فصار‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬يوم‭ ‬عنده،‭ ‬وقميص‭ ‬صدق‭.‬


للتحميل بصيغة PDF

ساحات على مقاسات أحلامنا

محمد ناصر*

انطلقت فكرة هذا المشروع بعد أيامٍ من هجوم قوات الأمن البحرينية على ساحة الفداء؛ الحدث الذي فرض أهمية حفظ وتوثيق وأرشفة التجاوزات والتغييرات التي طرأت على الساحة. ولأن الساحة هي فضاءٌ مكاني، كان خيار مركز أوال للدراسات والتوثيق[1] بأن نتجه الى تدوين ذاكرة المكان التي تحتل حيزاً من اهتمامات المركز البحثية والتوثيقية. فبعد تجربة تدوين قصص الجدات ومعلمات القرآن واصدار مجلة أرشيفو[2] المتخصّصة بحفظ الاعمال الأرشيفية من مهن وحرف وصور، يسعى أوال ان يكون بيتاً للذاكرة، يحكي قصص التاريخ المفقود ويجعله شاخصاً أمامنا.

والغوص في ذاكرة المكان له متعة خاصة اذ انها تنزع من الاماكن جموديتها وتضخ فيها النبض لتسرد قصتها بلسان من سكنها وتجوّل في أرجائها. فكيف اذا كان المكان عبارة عن ساحة عامة؟ قد يرى البعض ان وظيفة الساحات الاساسية تكمن في كونها مساحات ضرورية في المدن لتوزيع حركة السير وتقاطعات الشوارع، لكنها سرعان ما تطورت لتحمل أسماء محطات سياسية واجتماعية، وغدت تشكل إرث هذه المدن وذاكرتها. فهل لكم ان تتصوروا بيروت، على سبيل المثال، من دون ساحة الشهداء وتمثال المرأة التي تحمل مشعل حرية وتحضن شهيدًا يظهر من خلفها وآخر سقط أرضًا (من نحت الفنان الإيطالي مارينو مازاكوراتي)؟ ماذا عن القاهرة وميدان التحرير الذي تزيّن زاويته مكتبة مدبولي، وساحة 14 جانفي في تونس التي يحرس جانباً منها تمثال للرئيس الحبيب بورقيبة جالسًا على حصانه، وميدان التحرير في العراق، وساحة المرجة في دمشق والسبع بحرات التي دمرتها الحرب في حلب؟

احتضنت‭ ‬‮«‬ساحة‭ ‬الفداء‮» ‬‭ ‬فعلاً‭ ‬سياسياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام

تستجلب زيارة هذه الساحات قصص من مكث فيها وحوّلها الى عريضة تحمل أفكاره ومطالبه وآماله، فتصبح ذاكرتها مزيجًا من أحداث وصور وعبارات لغوية وأحجار اسمنتية وخيم تظلّل تحتها من اراد ايصال صوته عاليًا. كما ان الاحداث التي تحصل في هذه الساحات تشكل جزءً من تاريخ الشعوب الحقيقي وغير المدون.

فماذا تكون ساحة الفداء؟ وكيف تحولت من مجرد حيّزٍ مكانيّ في قرية الدراز[3] البحرينية إلى ساحة احتضنت فعلًا سياسيًا واجتماعيًا على مدى أكثر من عام؟ في 20 حزيران من العام 2016، أعلنت المحاكم البحرينية إدانة آية الله الشيخ عيسى قاسم[4] على خلفية قضية دينية (تتعلق بفريضة الخمس)، وأسقطت السلطات جنسية سماحته. ومنذ اللحظة الأولى لانتشار هذا الخبر، بدأت القصة، وتحولت الساحة من مجرد مساحة مكانية إلى ساحة للذاكرة الجماعية، فاختزنت التفاصيل كافة من التجمهر الأول إلى تحمل حرارة الشمس القاسية في البحرين، إلى البرد القارس شتاءً والصيام في شهر رمضان وإحياء ليالي القدر والاحتفالات في الأعياد وإقامة العزاء.

هذه البقعة الجغرافية، التي أسفرت أحداثها حتى لحظة الهجوم الأخير في 23 أيار من العام 2017 عن اعتقال أكثر من ثلاثمائة شاب وارتقاء خمسة شهداء، ظلّت ولّادة وحفلت بقصص كثيرة لم تنتهِ، ولكي تكتمل عناصر الرواية، خضنا في مركز أوال للدراسات والتوثيق رحلة جمعنا فيها شهادات مرابطين عايشوا الحدث، من رجال ونساء وشباب وعلماء، جمعوا بين دراستهم ونضالهم على مدى 337 يوم.

لم يكن من اليسير بالنسبة لنا أن نجمع شهادات في بلدان مختلفة (حيث يقيم الرواة الذين عايشوا الحدث)، عبر عدد من الوسائل، وتجاوز مجموعها مائة ساعة من التسجيلات، فشكّلت نواة العمل بعد أن تمّ تفريغها. وانطلقنا في الكتاب المُكوّن من 21 شهادة، لنورده في خمسة فصول ترسم لنا قصة حماية الباب الأخير الذي يمثل كل وجودهم وانتمائهم وارتباطهم بوطنهم ومعتقداتهم في ساحة الفداء .

هذا العمل، القائم على تحويل الشهادات الشفوية إلى وثائق، يوثّق حدثًا هامًا صنعه الشعب البحريني، وهو من الأدوات التي تحفظ  قصص الشعوب وتاريخها بعيدًا عن الرواية الرسمية، الممهورة بتوقيعات وطوابع تحفظ التاريخ الرسمي الثقيل، الساعي دائمًا لنقل القصة وفقًا لسرديته الخاصة.

حماة الباب الأخير هو عمل توثيقي لحفظ ذاكرة مكانٍ قد لا تتمكن من رؤيته، لكنه يتسلل إلى روحك، فتواكب وأنت تسمع قصصه الأحداث كلها بتفاصيلها الصغيرة التي ستصبح جزءً من تاريخك. كما انها تشكّل مفصلًا هامًا، ليس في إرث هذه الساحة فقط، بل في إرث المناضلين والشعوب وساحات النضال في العالم أجمع، تلك التي تُشَكل ماضينا وتصوغ مستقبلنا.


[1]  مركز أوال للدراسات والتوثيق مؤسسة بحرينية أنشِئت في لندن في شباط / فبراير من العام 2012، وهو يُعنى بقضايا الخليج بشكل عام والبحرين بشكل خاص ويهدف إلى حفظ الذاكرة البحرينية ومواكبة الأحداث المستجدة أولًا بأول. من أبرز إصداراته  موسوعة “أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية ١٨٢٠-١٩٧١”.

[2] مجلة أرشيفو نشرة فصلية تصدر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، وتُعنى بقضايا الأرشيف، وتنطلق من البحرين إلى الخليج إلى العالم العربي وخارجه. وتغطي عددًا من المجالات منها المشكلات التي تواجه الأرشيف، وطرق حفظ الأرشيف، والتعريف بأصحاب الأرشيف الأهلي ومراكز الأرشيف الرسمي، والتعريف بالمدوّنات والمواقع الإلكترونية المهتمة بالوثائق والأرشيف من بين موضوعات أخرى. صدر منها 12 عددًا حتى الآن، وهي متوفرة أيضًا بشكل رقمي على مدونة أرشيفو عبر الإنترنت.

[3] قرية الدراز من أكبر قرى البحرين إذ يتجاوز عدد سكانها 20 ألف نسمة، وهي قرية تضرب بجذورها في عمق التاريخ القديم، كما كانت في واجهة الأحداث في البحرين إذ إنها إحدى أبرز المناطق التي شهدت احتجاجات  منذ حراك 14 فبراير / شباط 2011. شكّلت  الدّراز مصدر أرق للسلطات البحرينية مع توافد البحرينيين إليها للاعتصام في ساحة الفداء منذ اللحظة الأولى لسماعهم خبر إسقاط جنسية الشيخ عيسى قاسم، وحتى الهجوم الأخير من قبل قوات الأمن البحرينية لفض الاعتصام.

[4] هو آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم من بلدة الدراز غرب العاصمة المنامة، يمتلك أكبر قاعدة شعبية في البلاد وتعتبره الغالبية الشيعية في البحرين قائدًا لها، وله  عدد من المواقف الوطنية، وهو يحظى بشعبية كبيرة في عموم الخليج  والمنطقة.  شارك آية الله قاسم كعضو في المجلس التأسيسي لوضع دستور للبحرين في العام 1971. ومع بدء قيام المجلس التأسيسي لوضع دستور دولة البحرين، ترشح له وفاز بأعلى الأصوات. وفي العام 1971، رشح نفسه للمجلس الوطني  إلى أن تم حلّه، وكان من أبرز مؤسسي جمعية التوعية الإسلامية في العام 1971. يُنظَر إليه باعتباره الأب الروحي للبحرينيين. من أبرز أقواله: ” “معركة كربلاء قائمة بطرفيها اليوم وغدًا في النّفس…في البيت…في كل ساحات الحياة والمجتمع ويبقى النّاس منقسمين إلى معسكر مع الحسين ومعسكر مع يزيد. فاختر معسكرك”.


*المدير التنفيذي لـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق»

رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

تدوين التاريخ الشفهي… مقاومة لرواية السلطة

تهاني نصار*

لا يطرح «حماة الباب الأخير: شهادات من ساحة الفداء بالدّراز» سؤال الإشكالية الأهم: «ماذا عن مملكة البحرين والبحارنة؟»، وإن كان يحاول الإجابة على غيره وبوضوح. لا يعرف كثيرون خارج «الخليج» الفارق بين «البحريني والبحراني». ما يتحدّث عنه الكتاب هو «البحراني» تحديداً وقبل أي شيء. قد يسأل بعضهم عن سبب استعمالي لكلمة «بحارنة» ههنا عوضاً عن «بحرينيين/بحرينيون».

بحسب كتاب «القبيلة والدولة في البحرين» (1975) للكاتب اللبناني فؤاد إسحاق الخوري، إنّ «البحراني/ البحارنة» لها مدلول لغوي واجتماعي يرجع إلى السكان الأصليين لجزر البحرين، بينما ترمز كلمة «البحريني/البحرينيون» إلى ظهور المدينة الحديثة التي أنشأتها القبائل الغازية لجزر البحرين أواخر القرن الثامن عشر وما تلقفه آل خليفة في سيطرتهم على الجزر (يمتد تاريخ هذه القبائل إلى عدّة قبائل، لكن أبرزهم آل خليفة الذين تسيدوا المشهد السياسي).

يحاول النظام البحريني -يومياً- السيطرة على ذاكرة البلد عبر تغيير الحقائق وتأطير الأحداث، خاصة في السنوات الأخيرة التي يسعى فيها لقمع المعارضة بكل الوسائل المتاحة. من هنا تأتي المحاولات -ولو الخجولة- للحفاظ على التاريخ الشفهي في المنطقة، والتي بمعظمها -وللأسف- غربية. عربياً، يمكن الحديث عن بعض المؤسسات الفاعلة في حفظ الذاكرة الشفهية، كـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق».

لطالما كان التاريخ لعبة الطرف المُهيمن على حيزٍ جغرافي ما. يُسْرَدُ التاريخ حسب رواية المنتصر التي قد تختلف كثيراً عن حقيقة الماضي والأحداث الحاصلة. في كتابه «الاستشراق» (1978)، يقول المفكر والمنظّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: «إن تاريخ المنطقة يكتبه المُحتل لا الشعب الخاضع للاحتلال». تناول هذه العلاقة بين توثيق التاريخ والقوة، الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي في قوله: «التاريخ مُلكٌ للمنتصر» في مقدمته لكتاب «الفلسطينيون: من فلاحين إلى ثوار» (1979) للباحثة ورائدة التاريخ الشفهي الفلسطيني روزماري صايغ. لكن مقابل التاريخ الرسمي الذي يكتبه المسيطر على الأرض، هناك نوع من أنواع المقاومة لسكان هذه الأرض الأصليين الذين يعرفون بلادهم حق معرفة، فيرفضون رواية التاريخ الرسمية عبر تناقلهم وتوارثهم لتاريخهم الشفهي.

يعتبر التاريخ الشفهي صوت الناس الذي يجري تجاهله – عن قصد- عند كتابة التاريخ الرسمي. يروي هذا التاريخ البديل، الأحداث تبعاً للأشخاص الذين خاضوا التجربة وكانوا جزءاً أساسياً من الحدث. قد يبدو بديهياً الحديث عن أهمية التاريخ المقاوم لدى السكان الأصليين للقارة الأميركية الذين واجهوا الإبادة، أو الأفريقيين الذين تعرضوا للاحتلال والاضطهاد، أو الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني ورواياته عن تاريخ فلسطين القديم وحرب النكبة وقضم الأراضي.

«البحراني/ البحارنة» لها مدلول لغوي واجتماعي يرجع إلى السكان الأصليين

هنا يأتي دور «مركز أوال» الذي تأسّس في عام 2012 ليتخصّص في مشروع حفظ الذاكرة البحرينية (والبحرانية ضمناً، ذلك أن المركز يروي تاريخ الطرفين حكماً)، بدايةً عبر توثيق المستندات الورقية والإلكترونية، ثم توسّع ليشمل تدوين وحفظ التاريخ الشفهي لشخصيات ومناسباتٍ وأحداث بحرينية. يتيح المركز هذه الوثائق وغيرها من المواد الأرشيفية للباحثين والمتخصّصين بهدف دراستها وإنتاج معرفة جديدة تضاف إلى هذا المجال. في «حماة الباب الأخير»، يوثق المركز المواجهات التي بدأت في منتصف عام 2016 بين السلطة والمعتصمين في ساحة الفداء في منطقة الدراز؛ المنطقة التي يسكنها الشيخ عيسى قاسم، زعيم المعارضة البحرينية القوي؛ بعدما حاكمته السلطات الحاكمة وأسقطت عنه الجنسية. يروي الكتاب التصعيد العنيف الذي حصل خلال الهجوم الأخير، ما أدى إلى اعتقال مئات الشبان واستشهاد عدد منهم. ما يميّز هذا العمل هو حفظه لذاكرة الساحة كفضاء جغرافي، عبر قصص من التاريخ الشفهي لأشخاصٍ عايشوا الأحداث التي مرّت على الساحة خلال فترة زمنية تعادل السنة تقريباً.

تعتبر ساحة الفداء، بما حصل داخلها من تظاهرات ومعارك، فضاء (مكانيّاً) مقاوماً للسلطة المهيمنة، حسب ثنائية المكان والفضاء بالنسبة إلى المفكر الفرنسي ميشال دو سارتو. فهي «مكان الفعل» أو «مكانٌ مُمارس» من قبل الناس الذين حوّلوها من مجرّد مكان جامد إلى فضاء غنيّ بحركة الأشخاص المعارضين وخطاباتهم وممارساتهم الدينية والاجتماعية. بدأ الاعتصام في شهر رمضان، فكان الإفطار وتوزيع الطعام وصلاة الجماعة في الساحة. تحوّلت الساحة إلى منصّة لإحياء مناسبات دينية عدة، كاستشهاد الامام علي وإحياء ليلة القدر وقيام صلاة العيد وليالي عاشوراء. في المقابل، قامت قوات الأمن بالتضييق على المعتصمين أولاً، ثم حصارهم والاعتداء على الساحة واعتقال الشبان. لم يفوّت النظام البحريني فرصة لخرق الاعتصام وفرض سيطرته على الساحة. أطلقت قوات الأمن البحرينية الرصاص أكثر من مرة، وهاجمت بالآليات العسكرية والمدرّعات الساحة، فسقط الشهداء.

إنّ تدوين وتوثيق أحداث معركة ساحة الفداء يُسهمان في حفظ التاريخ الحديث للشعب البحريني بعيداً عن الرواية الرسمية التي يعيد تركيبها النظام الحاكم ويقدمها للإعلام وفقاً لمصالحه. كما أنّ الاهتمام بذاكرة المكان الذي يخضع لتغييرات كثيرة مع الزمن، يفتح المجال أمام دراسات مشابهة، تحمي الشعوب وتاريخها من العبث به.


*باحثة في التاريخ الشفهي الفلسطيني وأستاذة جامعية

رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

«مركز أوال» يوثّق ذاكرة «الدرّاز»: يوميات الغضب والفِداء

عبدالرحمن جاسم

لا يعرف كثيرون خارج البحرين، عن الوضع الحقيقي الذي مرّت ولا تزال تمرُّ به تلك البلاد الوادعة، الجالسة على كتف الخليج. يأتي كتاب «حماة الباب الأخير: شهادات من ساحة الفداء بالدرّاز» (مركز أوال للدراسات والتوثيق)؛ واحداً من تلك الأصوات القوية التي تروي ما حدث في إحدى المواجهات الحاسمة في تاريخ ذلك البلد الصغير. هو صراعٌ بين «شرعية» السلطة الحاكمة المستمدّة من عائلة إقطاعية/ ملكية تحكم بالحديد والنار، وبين معارضة اختارت السلمية كأسلوب مواجهة، على غرابة ذلك الاختيار وابتعاده عن طقوس المنطقة وفولكلورها المسلّح.

الحكاية التاريخية هي أنَّه في عام 2016، أعلنت السلطات البحرينية إسقاط الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم المرجع الديني، والمفكر الرئيسي للثوار البحارنة، والمرشد لجمعية «الوفاق» البحرينية، المعارض الأبرز والقوي لنظام الملك حمد بن خليفة. يومها، انطلق على مدار عامٍ تقريباً، اعتصامٌ مفتوحٌ في منطقة «الدرّاز» حيث يقطن قاسم. على مدى عامٍ كامل، مارست السلطات البحرينية، جميع أنواع السلوكيات التي تشابه إلى حدٍّ كبير ــ بحسب الكتاب ـــ سلوكيات العدو الصهيوني في التعامل.

إذ يروي الكتاب بالتفصيل كيفية «حصار» الناس، والحواجز العسكرية المسلّحة، وطرق الاعتقال ووحشيتها وقسوتها التي لا تشبه سلوك الشرطة المعتاد، في التعامل مع مواطنيها: «أخرجونا من بيت الشيخ، وأمرونا بالوقوف في مواجهة الحواجز الإسمنتية التي تحيط بالبيت، وبعد وقت أمرونا أن نلتفت إلى الخلف ونقابل «الحوش». وهنا رأينا المشهد الكربلائي: الشهداء والمصابون ملقون على الأرض ودماؤهم تجري. وعلى الرغم من اصطفاف سيارات الإسعاف على طول الشارع، لم يتم إسعاف أحد من الشهداء أو المصابين. وما إن قلت نعم، حتى بدأ بصفعي على وجهي وأسناني وركلي في كل الجهات». تتوالى شهادات المشاركين والمشاهدين وحتى الشهداء في تلك المواجهات. يتناول الكتاب في فصوله الخمسة، خمس جنباتٍ للحدث: المرابطون عند الباب الأخير، المذكرات من ساحة الباب الأخير، الاقتحام الذي حدث، رجال الدين ومواقفهم (وهم بداخل الساحة وفي قلب المواجهة)، وأخيراً شهداء الباب الأخير.

تبرز في العمل الرمزية العالية واستخدام كلمة وفكرة «الباب الأخير» التي توضحها مقدمة الكتاب بلغةٍ عالية: «لماذا الباب الأخير؟ لأنه الرمز الأخير لهذا الوجود الذي انتهكت أبوابه كلها برعونة مستبدّة: باب حريته وباب حقوقه وباب عقيدته. الرمز الديني هو آخر الأبواب التي يقيم – حتى المستبد- لها وزناً ويتجنّب الاصطدام المباشر بها. ظنّ البحرينيون أن السلطات لن تتجرأ على هتك هذا الباب الأخير بما يمثله من رمزية خاصة». المهارة نفسها في استخدام «قوة الرمز» وسحره من خلال العناوين الفرعية في الكتاب. ففي كل فصلٍ، نجد عناوينَ تشدّ القارئ. مثلاً، نجد «الشهيد محمد كاظم زين الدين: رائحة العطر الأخير» أو «محمود عطية: يوميات الحرّ والبرد والمطر والمداهمات والوفاء والذاكرة الثرية»، «الشهيد محمد الساري: وهل أوثق من سبب بينك وبين الله»، أو «الشهيد محمد العكري: أمسك الباب»، الجملة التي تذكّر بجملة hold the door من مسلسل «صراع العروش» الشهير؛ وهذه المهارة تذكّر بـ«صنعة» تقديم صورةٍ متكاملة، مرئية، بصرية، مكتوبة بحرفةٍ عالية.

في عام 2016، أعلنت السلطة إسقاط الجنسية عن الشيخ عيسى قاسم، ما أدّى إلى اعتصام سلمي مفتوح قوبل بالعنف

إحدى نقاط قوّة الكتاب أيضاً، أنه يسجل بدقة ما يرويه الشهود لما حدث يومها، فيصبح القارئ، جزءاً من المواجهة. هناك حرفة التصوير العالية للمشهدية: «خلف مبنى جمعية التوعية الإسلامية، يوجد مدخلٌ بسيطٌ محاصر بأسلاك شائكة وحواجز إسمنتية؛ وقبله بأمتار، وُضعت نقطة أمنية، وبعده بأمتار، تمركزت سيارة أمن، فكان الدخول من خلاله مجازفة، على مستوى السلامة الشخصية لأنه قد يتعرض لجروح أو غيرها، وكذلك على مستوى الوضع الأمني، لأنه قد يتعرض للاعتقال». إذاً هو تصويرٌ متكامل، كما لو أننا أمام شريطٍ سينمائي. هذا النوع من التسجيل قلّما نجده في كتابٍ عربي، إلا في بعض كتاب تسجيل «الذاكرة الشفهية» للشعوب، وهي قليلةُ للأسف. يروي الكتاب في تلك الفصول ما يمكن اعتباره، واحدةً من التجارب الرئيسية للثورة البحرينية، ويقدّم نوعاً من «القراءة» الخاصة ليس لما حدث فحسب، بل أيضاً لطريقة تفكير وسلوك تلك المعارضة «السلمية» لربما الوحيدة في العالم العربي.

طبعاً واحدة من نقاط الانتقاد الرئيسية للكتاب، أنه ليس موجّهاً إلى القارئ العربي عموماً، بل هو نوع من «حفظ الذاكرة» أو «الحوار» الداخلي بين المعارضين البحارنة أنفسهم. مثلاً ليس في مقدمته أي «شرح تفصيلي» لما حدث في تلك المواجهات. صحيحٌ أن هناك ملحقاً في ختام الكتاب يفصّل تقريباً باليوم أحداث تلك السنة، لكنه يبدو موجهاً إلى جمهورٍ معين مرتبط بمحورٍ معين. إذ تجاهل المواقف «العالمية» واكتفى بجانبٍ وإطار محدديْن (كرجال الدين الشيعة المعروفين، أو مواقف محور المقاومة مما يحدث). ضرورة حضور «الملخص التاريخي» رئيسية، خصوصاً لمن لا يعرف تاريخ البحرين الحديث وما يحدث فيه هذه الأيام خارج رواية السلطة البحرينية الحاكمة، وهم كُثر للغاية. كانت مقدمةٌ أولى تشرح البعد التاريخي، السياسي، والجغرافي لما يحدث لتحلّ هذه المشكلة.
في المحصّلة، هو كتابٌ شديد الأهمية لقارئ يريد أن يعرف ما حدث لـ «إحدى أكثر الثورات سلمية في التاريخ المعاصر».


رابط المقال الأصلي

لتحميل المقال بصيغة PDF

تصنيف موضوعي للوثائق البريطانية يقدمه «مركز أوال» في سلسلة من 5 كتب

مرآة البحرين (خاص): سلسلة جديدة من تاريخ البحرين في الوثائق البريطانية يطلقها مركز أوال للدراسات والتوثيق. السلسلة التي جاءت في 5 إصدارات تستعرض موضوعات محددة لمساعدة المهتمين والمراكز البحثية في الوصول للوثائق بشكل أسرع.

وسبق للمركز أن قام بإصدار مجلدات تتضمن ترجمة موسعة للوثائق البريطانية التي تمتد من العام 1820 حتى العام 1942، إلا أنه يرى أن كلفة المجلدات العالية أو عدم القدرة على التعاطي مع الوثائق بسبب تصنيفاتها المتنوعة وشمولها لعدد كبير من الموضوعات المختلفة، قد يعرقل عمل الباحثين والقراء.

وكان المركز قد أطلق أبريل من العام 2019 ستة مجلدات ضخمة يحوي كل منها ما يقارب 500 صفحة، تتضمن مئات الوثائق البريطانية التي تخص الشأن البحريني في مجالات مختلفة.

ويعلّق المركز لموقعنا «من هنا ارتأينا كمركز معنيٍّ بالتوثيق والأرشفة أن نصدر سلسلة أخرى من المشروع نفسه والوثائق نفسها، ولكن مرتبة بشكل آخر، وتكون أصغر من حيث حجم الإصدار وليس من حيث حجم الوثيقة».

وعن المعيار الذي تم على أساسه اختيار تصنيفات الكتب، يوضح المركز أن مجموعة أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية مصنفة وفق الفترات الزمنية المتعاقبة من العام 1820 حتى العام 1942م، ولم تلحظ بشكل دقيق التصنيف الموضوعي البحت.

ويضيف «عمدنا إلى توزيع الوثائق في هذه السلسلة إلى مجموعة من الموضوعات. فالمعيار الذي اعتمدناه في اختيار تصنيفات هذه الكتب هو الموضوع لا التسلسل الزمني، وذلك من خلال جمع الوثائق التي تندرج ضمن عنوان واحد من المجلدات الستة، وإصدارها في سلسلة مصغرة».

وعما تتضمنه السلسلة يقول المركز «الوثائق الواردة في هذه السلسلة هي وثائق تاريخية خاصة بالبحرين من الأرشيف البريطاني، تتضمن مجموعة من التقارير المطولة، والمراسلات، والبرقيات المصنفة ضمن موضوعات محددة».

وتضم السلسلة الجديدة التي أطلقها المركز بشكل رسمي الجمعة (2 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) خمسة كتب، عناوينها ترد على الشكل الآتي: “البحر هو التاريخ”، “هبة اللؤلؤ”، “الإصلاح المذعون”، “ميناء المنامة”، و”مجلس العزل”، وسيعمل المركز على استكمال هذه السلسلة بمزيد من الموضوعات التي تهم الباحثين والقراء، وتفتح الطريق أمامهم للوصول إلى هذه الوثائق.

وعن المنهج الذي اتبعه المركز في ترجمة تلك الوثائق، يقول إنه عمل على ترجمتها من الأرشيف البريطاني ترجمة كاملة من دون أي اجتزاء، أو استنساب، أو تحريف. مضيفا «أما السلسلة الحالية فهي نسخة مصغرة عن المشروع، لذا فإنه من المؤكد أن الوثائق الموجودة في هذه السلسلة هي ترجمة كاملة طبق الأصل عن الوثائق الإنجليزية».

وفي الوقت الذي أكد فيه المركز أنه أضاف ما تحتاجه الوثائق من توضيحات، وتصويبات، وإضافات على شكل هوامش، إلا أنه تعامل مع مضمون الوثيقة بأمانة كاملة.

وعن ما يمكن لكتاب «مجلس العزل» أن يطلع القراء عليه يقول المركز «يتضمن هذا الكتاب الوثائق المتعلقة بعزل حاكم البحرين في ذلك الوقت عيسى بن علي، وتأسيس الدولة الحديثة في العام 1923».

ويضيف يقدم الكتاب مجموعة كبيرة من العرائض المطالبة بالإصلاحات، ونماذج الظلم التي تعرض لها البحرينيون، بالإضافة إلى مذكرات وتقارير شاملة حول الأوضاع السياسية في البحرين في تلك الفترة.

ويتميز هذا الكتاب بأنه يحتوي وثائق تثبت التاريخ الذي ما زال محط خلاف حتى اليوم، وتوضح الكثير من الحقائق المرتبطة بتلك الفترة الزمنية الانتقالية في البحرين.

الرابط الأصلي 

كتيب تعريفي بسلسلة “وثائق البحرين في الأرشيف البريطاني” 

مثقفون يناقشون كتب الباحث البحريني علي الديري في بيروت

الميادين: نظم مركز أوال للدّراسات والتوثيق حفل توقيع لكتب الباحث والمؤلف البحريني د. علي الديري :”من هو البحريني؟” و”إله التوحش” الصادرين عن المركز، و”بلا هوية” الصادر عن مرآة البحرين، في مكتبة أنطوان في أسواق بيروت بحضور عدد من المثقفين والإعلاميين والنشطاء.

 الحفل قدمته الزميلة وفاء العم التي أشارت إلى أنّه “انطلاقًا من الأسئلة التي طرحتها أماسيل، ابنته التي لم تتجاوز الاثني عشر ربيعًا (عند كتابة “بلا هوية”)، استطاع الديري أن يحول مسألة إسقاط الجنسية إلى معالجة لقضية الهوية، من يصنعها ومن يهدمها”. ولفتت إلى أن “أماسيل أخرجت الديري من حالة المفكر إلى الأب ونقلت أسئلتها من فلسفة الكلمات ودلالاتها إلى الأب الذي يبحث عن إجابات يقدمها لابنته ولأبناء المنفيين”.

DSC_4243

وأضافت العم أن “المعضلة الأساسية التي تشهدها البحرين” تكمن في “أن تجد نفسك فجأة بلا هوية، خارج الجماعة، وخارج الوطن”، مضيفة “أن تكون بلا هوية أو أن تُنتَزَع هويتك قسرًا هي بذاتها عملية توحش، سواء كانت تصب في التوحش العقائدي أو في التوحش السّياسي اللّذين نشهدهما، والهدف دائًما هو السّلطة”.

ولفتت العم إلى أن كتب الديري شاهد على مرحلة تحول في مسيرته، من الكتابة الفكرية الجامدة إلى الكتابة الحركية، حيث يمكننا أن نلحظ تغيرًا بين ما قبل انتفاضة العام 2011 وما بعدها، وما قبل المنفى في كندا، وما بعده.

بعدها، تتالت شهادات الحضور، مع الإعلامية نور بكري التي أشارت إلى حادثة لفتتها فقالت “استخدمت مصطلح “بحراني”، باعتبارها النسبة اللغوية إلى البحرين، ولكن الدكتور الديري اعترض، وطلب تعديلها إلى “بحريني”، نظراً إلى الحساسيات التي باتت الكلمة تفرضها”.

DSC_4259

وأضافت أنّه نجد في كتاب “من هو البحريني؟”، “توضيحًا للفرق بين المصطلحين، وكيفية تغيّر دلالات كلمة “بحراني”، لتحمل مضامين سياسية وطائفية وتثير الحساسيات، بعدما كانت تشير إلى السكان الأصليين للبحرين”،  وقالت إنّ “سؤال “من هو البحريني؟”، الذي يجيب عليه الكتاب الأخير للكاتب الذي يقدم إجابات على سؤال يطرح نفسه بقوة هذه الأيام: لماذا يبدو سهلاً إسقاط الجنسية في البحرين؟”

بعدها كانت شهادة رئيس منتدى البحرين لحقوق الإنسان باقر درويش، الذي رأى أن “كتاب “من هو البحريني؟” هو الوسيلة التي استطاع بها الكاتب أن يصفع قرار إسقاط جنسيته”.

DSC_4269

وخلال الجلسة، وجهت الزميلة راميا ابراهيم سؤالها للكاتب د. علي الديري عن الجمهور الذي يوجه إليه هذه الكتب، وعما إذا كان متورطًا في قضية صراع سلطة؟، شارحة أن هذا السؤال بديهي ويطرح نفسه في الأزمة البحرينية بين المعارضة والسّلطة حاليًا.

DSC_4272

وأجاب الدكتور الديري بأن “هدفه الأساسي في كتبه كمن في دراسة النّصوص التي أسّست لما يمثل هذا الكل أو الأنا، أي هذا القتل وهذا التّكفير وهذا الهدر لإنسانية الإنسان وحقه في الوجود”، مضيفًا أنها “قضايا تخص الوطن، ولست أستطيع تحديد ما إذا كنت متورطًا في ذلك، غير أني أتحصن بأدوات علوم الإنسان الحديثة من السّقوط في أي فخ طائفي أو معرفي أو عرقي”، موكلًا المهمة إلى التاريخ بالقول: “وكفى بالتاريخ شاهدًا”.

من جانبه رأى الدكتور حسين رحال أنّ “المثقف الملتزم هو الذي يدافع عن قضايا شعبه، وأن صراع المعارضة البحرينية والمثقفين البحرينيين حاليًا هو من أجل البقاء على قيد الحياة والمشاركة الرمزية ضد العنف الرّمزي الذي يُمارس ضدهم، والمتمثل في النفي وإسقاط الجنسية، بعد أن مورس ضدهم العنف المادي”، لافتًا إلى أن “تجربة الديري تبرز أنه على المثقف الملتزم أن يدفع ثمن أي من التزاماته”.

DSC_4238

وأشارت الإعلامية تغريد الزناتي إلى أن هذه الكتب، لا سيما كتاب “من هو البحريني؟” دفعتها إلى التّساءل بشأن مفهوم المواطنة الفكري، لافتة إلى أن “هوية المواطن تقع بين مفهومين: مفهوم المواطنة (أين وُلدنا؟ أين نعيش؟ أين أرضنا؟ أين أهلنا؟) وبين السجلات الرسمية النائمة في أدراج مكاتب الوزارات والحكومات”. وأضافت أنّ “مفهوم المواطنة تحول في البحرين إلى سَند يمتلكه الإنسان بحسب الأفضلية، وبحسب التقلبات السياسية أو المصالح الإقتصادية. هنا مواطنون فقدوا “ورقة الهُوية” لأسبابٍ سياسية، لاختلافات في الآراء والقناعات، وبسبب ممارساتِهم الفكرية. هنا أيضاً من نال “ورقة الهُوية” نفسها لنيل حقوقٍ لم يقُم أصحابُها بواجباتهم أصلاً لاستحقاقها. وكانت الهوية هدية لهم..”

DSC_4290

وقالت نحن “نحمل مسؤولية الإضاءة على أوضاع عامة الشعب، بعيداً عن مالك القوة صاحب الجلالة، بعيداً عن القصة التي يرويها الملك بما يخدم مصالحه وسياسة بطشه”، واستشهدت بقول للكاتب في مقابلة له على قناة الميادين “التعريف القانوني ليس مكتوباً على ورق، بل هو مكتوب بالدم” لتختم “هذا هو البحريني، شخصٌ ينشد الحرية، ويوسّع مجالَها العام بسلميتِه، ويغذي أرضَها بدماء شهدائِه، ويظلُ يحلمُ بوطنٍ حرٍ ومواطنة تحفظُ كرامته”.

وأعربت الدكتورة خولة مطر عن سعادتها “للقدرة البحثية العميقة التي نجدها في كتب الدكتور علي الديري والجهد الذي يسد الفراغات الناقصة في المكتبة البحرينية”،  مضيفة أنّه “حوّل الظّروف الصعبة إلى فرصة، وهو ما نحتاجه سواء في البحرين أو في المنطقة العربية ككل”. وشدّدت على “ضرورة أن يقرأ الجميع هذا الكتاب لأنه يشكل مرحلة مهمة من تاريخ البحرين غير معروفة حتى للبحرينيين أنفسهم”، وختمت بالقول إن “مثل هذه المشاركات ستصنع رجال ونساء المستقبل الذين سيصنعون التراث الحقيقي للبحرين”.

DSC_4317

من ناحيته، لفت محمد العصفور إلى أنّ انشداده إلى الكتاب انبعث من “معالجته لهذا التزاحم على حق الوجود الذي همّش البحراني حتى أنتج سؤالاً من هو البحريني، البحريني الذي كان مكان السخرة ومكان العسف من قبل الحاكم ومن قبل محازبيه، وجعل السخرة مظهرا مِن مظاهر طبقنة المجتمع وجعل السكان الأصليين في الدرجة الأخيرة في الوطن”.

DSC_4307

واستحضر العصفور في مداخلته كتاب القبيلة والدولة في البحرين، فقال إنّ “كتاب من هو البحريني يشبه ولا يماثل كتاب القبيلة والدولة، لفؤاد إسحاق الخوري، لكن كتاب خوري كتاب اجتماعي محض، كانت أدوات صاحبه أكاديمية اجتماعية صرفة وليست أدوات متطورة كالتي نملكها اليوم. أما كتاب الدكتور الديري فينطوي على سعة في المعرفة وتنوع في الأدوات، ويقوم على قراءة علمية وثيقة لوثائق الأرشيف البريطاني”.

رابط الموضوع

في حفل أقيم بمكتبة أنطوان… الناقد البحريني علي الديري يوقع كتبه في بيروت

مرآة البحرين: أقام مركز أوال للدّراسات والتوثيق حفل توقيع لكتب الناقد والمؤلف البحريني الدكتور علي الديري، مساء يوم أمس الجمعة 9 فبراير/شباط 2018، في مكتبة أنطوان بأسواق بيروت، وذلك بحضور عدد من الإعلاميين والمثقفين والنشطاء.

ووقّع الديري خلال الحفل كتابي “من هو البحريني؟” و”إله التوحش” الصادرين عن مركز أوال، كما وقّع أيضا كتاب “بلا هوية” الصادر عن مرآة البحرين، وجميع هذه الكتب صدرت من بيروت خلال العامين الماضيين، بعد انتقال المؤلّف إلى منفاه في كندا.

حول كتاب «بلا هويّة» قالت مقدّمة الحفل الإعلامية البحرينية وفاء العم، إن الديري “استطاع أن يحوّل مسألة إسقاط الجنسية إلى معالجة لقضية الهوية، من يصنعها ومن يهدمها، انطلاقًا من الأسئلة التي طرحتها أماسيل، ابنته التي لم تتجاوز الاثني عشر ربيعًا” حينئذ. ولفتت إلى أن “أماسيل أخرجت الديري من حالة المفكر إلى الأب ونقلت أسئلتها من فلسفة الكلمات ودلالاتها إلى الأب الذي يبحث عن إجابات يقدمها لابنته ولأبناء المنفيين”.

وأضافت العم أن “المعضلة الأساسية التي تشهدها البحرين” تكمن في “أن تجد نفسك فجأة بلا هوية، خارج الجماعة، وخارج الوطن” مضيفة “أن تكون بلا هوية أو أن تُنتَزَع هويتك قسرًا هي بذاتها عملية توحش، سواء كانت تصب في التوحش العقائدي أو في التوحش السّياسي اللّذين نشهدهما، والهدف دائًما هو السّلطة”.

ولفتت العم إلى أن كتب الديري شاهد على مرحلة تحول في مسيرته، من الكتابة الفكرية الجامدة إلى الكتابة الحركية، حيث يمكننا أن نلحظ تغيرًا بين ما قبل انتفاضة العام 2011 وما بعدها، وما قبل المنفى في كندا، وما بعده.

وفي مداخلة لها عن كتاب “من هو البحريني؟”، قالت الإعلامية نور البكري إننا نجد في الكتاب “توضيحًا لافتا للفرق بين مصطلح بحريني وبحراني “وكيفية تغير دلالات كلمة “بحراني”، لتحمل مضامين سياسية وطائفية وتثير الحساسيات، بعدما كانت تشير إلى السكان الأصليين للبحرين”،  وأنّ “سؤال “من هو البحريني؟”، الذي يجيب عليه الكتاب الأخير للكاتب يقدم إجابات على سؤال يطرح نفسه بقوة هذه الأيام: لماذا يبدو سهلاً إسقاط الجنسية في البحرين؟”

وخلال الجلسة، وجهت الإعلامية راميا ابراهيم سؤالها للكاتب عن الجمهور الذي يوجه إليه هذه الكتب، وعما إذا كان متورطًا في قضية صراع سلطة؟ شارحة أن هذا السؤال بديهي ويطرح نفسه في الأزمة البحرينية بين المعارضة والسّلطة حاليًا.

وأجاب الدكتور الديري بأن “هدفه الأساسي في كتبه كمن في دراسة النّصوص التي أسّست لما يمثل هذا الكل أو الأنا.. أي هذا القتل وهذا التّكفير وهذا الهدر لإنسانية الإنسان وحقّه في الوجود” مضيفًا أنها “قضايا تخص الوطن، ولست أستطيع تحديد ما إذا كنت متورطًا في ذلك، غير أني أتحصن بأدوات علوم الإنسان الحديثة من السّقوط في أي فخ طائفي أو معرفي أو عرقي”، خاتمًا “وكفى بالتاريخ شاهدًا”.

من جانبه رأى الدكتور حسين رحال أنّ “المثقف الملتزم هو الذي يدافع عن قضايا شعبه، وأن صراع المعارضة البحرينية والمثقفين البحرينيين حاليًا هو من أجل البقاء على قيد الحياة والمشاركة ضد العنف الرّمزي الذي يُمارس ضدهم، والمتمثل في النفي وإسقاط الجنسية، بعد أن مورس ضدهم العنف المادي”، لافتًا إلى أن “تجربة الديري تبرز أنه على المثقف الملتزم أن يدفع ثمن أي من التزاماته”.

وأشارت الإعلامية تغريد الزناتي إلى أن هذه الكتب، لا سيما كتاب “من هو البحريني؟” دفعتها إلى التّساءل بشأن مفهوم المواطنة الفكري، لافتة إلى أن “هوية المواطن تقع بين مفهومين: مفهوم المواطنة (أين وُلدنا؟ أين نعيش؟ أين أرضنا؟ أين أهلنا؟) وبين السجلات الرسمية النائمة في أدراج مكاتب الوزارات والحكومات”، وأضافت أنّ “مفهوم المواطنة تحول في البحرين إلى سَند يمتلكه الإنسان بحسب الأفضلية، وبحسب التقلبات السياسية أو المصالح الاقتصادية. هنا مواطنون فقدوا “ورقة الهُوية” لأسبابٍ سياسية، لاختلافات في الآراء والقناعات، وبسبب ممارساتِهم الفكرية. هنا أيضاً من نال “ورقة الهُوية” نفسها لنيل حقوقٍ لم يقُم أصحابُها بواجباتهم أصلاً لاستحقاقها. وكانت الهوية هدية لهم..”

الزناتي استشهدت بتصريح للكاتب في مقابلة له على قناة الميادين بأن “التعريف القانوني ليس مكتوباً على ورق، بل هو مكتوب بالدم” لتختم “هذا هو البحريني، شخصٌ ينشد الحرية، ويوسّع مجالَها العام بسلميتِه، ويغذي أرضَها بدماء شهدائِه، ويظلُ يحلمُ بوطنٍ حرٍ ومواطنة تحفظُ كرامتِه”.

من جانبها أعربت الدكتورة خولة مطر عن سعادتها “للقدرة البحثية العميقة التي نجدها في كتب الدكتور علي الديري والجهد الذي يسد الفراغات الناقصة في المكتبة البحرينية”،  مضيفة أنّه “حوّل الظّروف الصعبة إلى فرصة، وهو ما نحتاجه سواء في البحرين أو في المنطقة العربية ككل”. وشدّدت على “ضرورة أن يقرأ الجميع هذا الكتاب (من هو البحريني) لأنه يشكل مرحلة مهمة من تاريخ البحرين غير معروفة حتى للبحرينيين أنفسهم”، وختمت بالقول إن “مثل هذه المشاركات ستصنع رجال ونساء المستقبل الذين سيصنعون التراث الحقيقي للبحرين”.

وتقدّم رئيس منتدى البحرين لحقوق الإنسان، باقر درويش، بمداخلة عن كتاب “من هو البحريني” قال فيها “إنَّ إعادة كتابة الحقائق التاريخية التي تشتغل السلطة على تزويرها هي من وسائل الاحتجاج الثقافي السلمي، خصوصا وأنَّ الحكومة عمدت إلى تقويض سلطة المثقف الملتزم في البحرين”.

وأضاف “كتاب من هو البحريني هو منجز معرفي هام وأحد أفعال الاحتجاج الثقافي السلمي، وسينافس في القادم من الأيام كتاب القبيلة والدولة لفؤاد الخوري، وهو الوثيقة التي صفع بها الديري قرار إسقاط جنسيته” حسب تعبيره.

درويش تحدّث عن تجربته مع قراءة الكتاب بقوله “كنت وأنا أقرأ صفحات الكتاب أتمنى ألا تنتهي” وأردف “هذا الكتاب هو تتمة لمشروع أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية، نحن بحاجة إلى مزيد من هذه الدراسات التي تسلط الضوء المعرفي على الزوايا المسكوت عنها أو الحوادث التاريخية التي عمدت الحكومة إلى تشويهها وتزويرها”.

ولفت محمد العصفور إلى أنّ انشداده إلى الكتاب انبعث من “معالجته لهذا التزاحم على حق الوجود الذي همش البحراني حتى أنتج سؤال من هو البحريني، البحريني الذي كان مكان السخرة ومكان العسف من قبل الحاكم ومن قبل محازبيه، وجعل السخرة مظهرا مِن مظاهر طبقنة المجتمع وجعل السكان الأصليين في الدرجة الأخيرة في الوطن”.

واستحضر العصفور في مداخلته كتاب القبيلة والدولة في البحرين، فقال إنّ ” كتاب من هو البحريني يشبه ولا يماثل كتاب القبيلة والدولة، لفؤاد إسحاق الخوري، لكن كتاب خوري كتاب اجتماعي محض، كانت أدوات صاحبه أكاديمية اجتماعية صرفة وليست أدوات متطورة كالتي نملكها اليوم، أما كتاب الدكتور الديري فينطوي على سعة في المعرفة وتنوع في الأدوات، ويقوم على قراءة علمية وثيقة لوثائق الأرشيف البريطاني”.

وتلت المداخلات مجموعة من الأسئلة وجّهها المشاركون للدكتور الديري الذي وقّع كتبه  في ختام الحفل للحضور.

الدكتور علي الديري1

الدكتور علي الديري2

الدكتور علي الديري4

رابط الموضوع