Uncategorized

عبد الوهاب حسين في كتاب «جستن غينغلر»: الفرق بين السنة والشيعة في البحرين هو الفرق بين «الفاتح والمفتوح»

مرآة البحرين (خاص): عبد الوهاب حسين، الذي راهن على خياراته، فرفض كل النداءات بالتوقّف، وخرج في مثل فجر هذا اليوم قبل 5 سنوات، ليطالب بسقوط النظام الحاكم، يحتل حيزّا رئيسيا في كتاب «صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج» للمحلل السياسي الأمريكي «جستن غينغلر»، الذي صدرت نسخته المترجمة مؤخّرا عن مركز أوال للدراسات والتوثيق.

تلمّس «جستن غينغلر» مدى التأثير الذي يلعبه عبد الوهاب حسين، على المسرح السياسي في البحرين، منذ أن التقاه في العام 2009، ولم يغفل أن يشير إلى ما عبّر عنه بتأثيره القوي في انتفاضة التسعينيات. شاء القدر أن تتسارع وتيرة الأحداث ويشهد غينغلر انتفاضة 14 فبراير بينما كان لا يزال يكتب رسالته للدكتوراه، وعليه بدا تأثير شخصية عبد الوهاب  حسين على الكتاب واضحا، خصوصا بعد الدور الكبير الذي أدّاه في 2011.

«الفاتح والمفتوح»

أطلق غينغلر توصيفا سمعه من الأستاذ عبد الوهاب على عنوان فصل كامل من كتابه «الفاتح والمفتوح… حالة العلاقات السنّية-الشيعية في البحرين».

كان الأستاذ عبد الوهّاب قد قال لجستن في مقابلة خاصة في مايو/أيار 2009، ردا على سؤال عن الفرق بين السنّة والشيعة في البحرين، بأنّه الفرق بين “الفاتح والمفتوح”، التعبير الذي وصفه المؤلّف بالتعبير البليغ.

تعليقا على ذلك، يقول جستن في الهامش، إنه لم يكن وليد الصدفة أنّ “الفاتح” سرعان ما ظهر كرمز فعلي للحركة الموالية للحكومة التي يقودها السّنّة التي أثارتها انتفاضة فبراير 2011. مشير إلى اتخاذ مسجد الفاتح قاعدة لانطلاق الاحتجاجات المناهضة للتظاهرات الثورية من قبل السّنّة الموالين للنظام، واستخدامه في تسمية عدّة تيارات سنّية سياسية شعبية جديدة، من أهمّها صحوة الفاتح وائتلاف شباب الفاتح. وحتّى أنّه ظهرت جماعة تدعى مجموعة الفاتح للجهاد الإلكتروني.

«تاريخ معارضة القوى السّنية»

في تفسير الكتاب لافتة الشيخ عيسى قاسم عن معسكر الحسين ومعسكر يزيد، يستخدم جستن عبارة أخرى للأستاذ عبد الوهاب “تاريخ التّشيع هو تاريخ معارضة القوى السّنية”، يعلّق الكاتب على هذه العبارة في الهامش: “نتيجة هذا الرأي بالتحديد، ولرفضه أي مساومة مع الأسرة الحاكمة، تمّ اعتقال عبد الوهّاب حسين والحكم عليه بالسجن المؤبّد في مطلع العام 2011”.

يسترجع غينغلر هذه العبارة مجددا، في استعراضه ما شاهده من طقوس وخطابات خلال إحياء ذكرى عاشوراء في المنامة “تخليد هذه الحلقات المؤثرة من الغدر السّياسي والتّضحية في طقوس سنوية كتلك التي في عاشوراء، مع مسرحياتها المثيرة للعاطفة، والمواكب التي في الشّوارع، وجلد الذّات، يؤكّد أن لا أحد، سواء كان سنيًا أو شيعيًا، سينسى قريبًا درس الأستاذ عبد الوهاب حسين بأن “تاريخ التّشيع هو تاريخ المعارضة ضد القوى السّنية”.

مواجهة السلطة الدينية بالسلطة الدينية

يصنّف الكتاب الأستاذ عبد الوهاب حسين بأنّه من أنصار الانفصال الكلي عن النّظام، وفي إطار مناقشة توظيف جميعة الوفاق ما قيل إنه فتوى من المرجع السيستاني لدعم المشاركة في الانتخابات عام 2006، يعتبر جستن غينغلر أن عبد الوهاب وقادة المعارضة الانفصالية بدأوا ردا على هذا التطوّر بالبحث عن شرعية دينية، أو دعم من سلطة دينية، وهو ما سّماه مواجهة السلطة الدينية بالسلطة الدينية.

يقول غينغلر إن هذا الطرف من المعارضة (عبد الوهاب حسين، عبد الهادي الخواجة، مشيمع، وغيرهم) كان يعاني من  نقطة ضعف استراتيجية هي الاعتماد الديني، ولمعالجة هذا الخلل، يضيف الكاتب “ترك الأستاذ عبد الوهاب حسين دوره القيادي طويل الأمد في حركة حق في وقت ما من العام 2008، لينظّم ما أشير إليه في بادئ الأمر ببساطة على أنّه “الحركة الجديدة”. هذه الحركة، التي أُطلق عليها لاحقًا اسم حركة الوفاء (في ضربة واضحة للوفاق) – الفرق بين اسم الوفاء واسم الوفاق حرف واحد من حيث الكتابة –  ستحاكي الوفاق من حيث التّصميم، مخضعة نشاطها السّياسي لتوجيه سلطة دينية معروفة جيدًا، تتمثّل في الشّيخ عبد الجليل المقداد”.

“وكما سيفسر الأستاذ عبد الوهاب في منزله في قرية النّويدرات، في حين تقتصر حركة حق على كونها حركة سياسية يقودها “الحرس القديم”، يمكن لحركة الوفاء أن تكون “حركة كاملة” -“دينية وسياسية ومجتمعية”- لكونها تحديدًا ذات “أسس قرآنية” على اعتبار أنّها موجهة من قبل زعماء دينيين” «صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج»، ص 185

قواعد اللعب: الاستمالة السياسية

يعتبر غينغلر أن الخشية التي دفعت الأستاذ عبد الوهاب حسين، كتلك السّائدة في خطاب عبد الهادي الخواجة في عاشوراء، وتلك التي كشف عنها السّنكيس في ملاحظته بشأن وجود “طعم لكل سمكة” لدى الحكومة، هي الاستمالة السّياسية.

يشير غينغلر إلى أنّه خلال الحملة الثانية لتسجيل الجمعيات السياسية ماقبل انتخابات 2010، والذي كانت ترفضه حركة حق وحركة الوفاء، واصل زعماء المجموعتين تحديهم الصريح لهذه العملية، على الرّغم من دعوتهم شخصيًا للاجتماع مع وزير العدل الشّيخ خالد بن علي آل خليفة.

يوضّح الأستاذ عبد الوهاب حسين “في بعض الأحيان، ترسل الحكومة رسالة إلى الجمعيات المعارضة [غير المسجلة والمحظورة بالتّالي] بأنّها مستعدة للسّماح لهم باللعب وفقًا لقواعدها، وبأن تصبح مستمالة. ولكن، في حال رفضهم، فإنها ستلعب من دون أي خطوط حمراء، ولن تتوقف عند أي ممارسات غير أخلاقية” في حربها ضدهم. على سبيل ضرب مثال، ادعى أن الملك البحريني “التقى أكثر من مرة” بأرفع شخصيات المعارضة، على وجه التّحديد مشيمع في لندن في العام 2008. ورغب الملك حمد، بحسب وصف الأستاذ عبد الوهاب، “أن يرى إن كانوا مستعدين للحوار”. ولكن، وفقًا لقوله، لم يكن اللّقاء “للحوار بل للاستمالة كما حصل مع الوفاق”.

يتوفّر الكتاب للبيع على موقع أمازون في هذا الرابط

وفي متجر جملون في هذا الرابط

رابط المقال

علي الديري: أردت وضع إصبعي في وجه الوحش الذي يهدّدني

حاورته جنى فواز الحسن

علي الديري، كاتب بحريني شاء أن يضع إصبعه على مكمن الجرح، فكان مصيره النفي والإبعاد عن وطنه الأمّ. سحبت السلطات البحرينية الجنسية من الكاتب والأكاديمي والصحافي بسبب تعبيره عن رأيه بشكل واضح وصريح بلا مواربة، حسب تعبيره.

صاحب كتاب “خارج الطائفة” طرح تساؤلات حول ثنائية الخارج والداخل، الوجود خارج الطائفة وداخل المدينة والدولة والوطن، مدافعاً عن علمانية الفكر. لكنّ إلى أيّ مدى نتمكّن النفاذ فعلياً من مجتمعات تدفعنا إلى مذاهبنا حتّى إن شئنا أن نترك معتقداتنا الدينية للممارسات الخاصة؟

تجربة الديري مؤلمة وموجعة من دون شك، ليس له فقط، بل لمن يشاركه همّ رفع الهوية الإنسانية أعلى من أيّ هوية أخرى. عاد مؤخّراً الديري بمؤلّف جديد  «نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية»  صادر عن (مركز أوال للدراسات والتوثيق)، يناقش فيه الكاتب نصوصاً “متوحشة” من التراث الإسلامي ليحفر في التأريخ بحثاً عن أجوبة لمأساة الحاضر.

كان لموقع (إرفع صوتك) هذا اللقاء مع الكاتب علي الديري حول مؤلّفه الجديد وتجربته الشخصية وما يمكن القيام به لمواجهة “وحش التطرف” الذي يغزو منطقة الشرق الأوسط اليوم.

علي الديري: يجب على المثقف أن يكون خارج الطائفة

ثم سألناه: تعود في كتابك “نصوص متوحشة” إلى التأريخ والنصوص التي يستند عليها نهج التكفير. هل أزمتنا الحالية أزمة نص أو أزمة سلوك – أي لو لم يكن النص موجودًا كمسوّغ للتطرف، هل كان المتطرفون ليجدوا مسوّغاً آخر؟

الديري: نحن أساساً حضارة نص. حركتنا محكومة بمدونة من النصوص هي كتب الأحاديث. نحب بنص ونكره بنص ونتزوج بنص ونأكل ونشرب بنص ونحارب ونسالم بنص. حركات التطرف اليوم تجيد اللعب بالنصوص والنطق بها وإعادة الواقع وما يحدث فيه إلى هذه النصوص. تأمل في أفواه من يأمرون بالقتل ويرسلون مفخخاتهم إلى المختلفين معهم، ستجدها تنطق بنصوص التوحش، تقذفها وفق بوصلة التجاذبات السياسية. لا يمكن لأي جماعة أو حركة أن تنشئ خطاباً جديداً في المجتمع بدون نص يعطي لخطابها مشروعية. نحن أمة من النصوص المسيجة بالتقديس المحمي بالسياسة. الدليل هو النص وما يقتضيه، وتميل مجتمعاتنا حيث يميل طرف النص، ولا دليل خارج النص، والعقل في خدمة النص، والنص مقدم على العقل.

وسألناه: حين ندرك أنّ التطرّف أو التكفير متجذّر في مجتمعاتنا، يصبح بهذا أيضًا جزءا من تراثنا. هل تعتبر هذه النصوص تأريخا أو تراثا؟

الديري: دعنا نسأل هل صار ابن تيمية تأريخا أم ما زال موروثاً ناطقا بكل ما فيه في واقعنا. هذه النصوص ما زالت تراثاً، لم تتحول إلى تاريخ. نحن ورثة ماضٍ لا يمضي، يشبه نهراً يتدفق بالنصوص. تركتنا ثقيلة، وهناك صراع رمزي ومادي حول استملاك هذا التراث. منذ 14 قرناً لم يتوقف جيل من أمتنا عن توريث صراعاته وأنماط حياته. حين يتوقف ذلك ستكون هذه النصوص تأريخاً للتأمل والفهم. نصوص الغزالي في تكفير الباطنية والشيعة ومختلف الأقليات وتقتيلهم وسبي نسائهم مازالت تُوَرّث. ولولا هذا التوريث ما شاهدنا هؤلاء الأبناء يستخدمون هذه النصوص بحرفيتها.

سؤال: في ظلّ صعود التشدّد والنزعة للإقصاء، ما الثمن الذي دفعه علي الديري لتطرّقه إلى الموضوع؟

الديري: حالياً أنا من غير جنسية وخارج وطني، وكتابي ممنوع في بلدي البحرين، وأنا في إعلام بلادي خارج عن طاعة ولي الأمر، وخائن لوطني وغير مسموح لأي وسيلة إعلامية هناك أن تجري حواراً صحفيا معي حول كتابي. ولو كنت هناك، من المؤكد أني سأحاكم وأسجن بتهمة إهانة رموز إسلامية كشيخ الإسلام ابن تيمية، وسيضاف لها قائمة تهم طويلة، لن يكون أقلها التعريض بأهل السنة والجماعة والسلف الصالح.

الديري: حين خرجت عن السلطة السياسية.. تمّ إسقاط الجنسية

سؤال: تتبعت تطوّر المفهوم التأريخي للتطرّف من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية. لماذا لم توسّع دائرة التطرّق لمذاهب وديانات مختلفة كي لا تنهال عليك الاتهامات بمهاجمة الإسلام فحسب؟

الديري: أنا لم أوسع دائرة نصوص التوحش. لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها  الفترات التأريخية كلها. ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها. هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب ظاهرة التوحش. أردت أن أضع إصبعي في عين الوحش الذي يهددني الآن. أردت أن أعري مرجعيته النصية التي يتحدث باسمها وينطق بمسلماتها. صغت فرضية ضد مسلماته التي تنص على أنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا.ً العلماء الكبار الذين عاشوا في بلاط سلطة السلاجقة هم من صاغوا هذه النصوص في سياق الحرب بين الخلافة العباسية الممسوكة بسلطة السلاجقة والخلافة الفاطمية.

سؤال: نسمع دائماً النداءات حول الإسلام الحقيقي وجوهره. ما هو الإسلام الحقيقي من وجهة نظرك، وهل من ضرورة لإعادة فتح باب الاجتهاد لتصويب المفاهيم الدينية؟

الديري: الإسلام الحقيقي يقدم نفسه في صيغة أرثوذكسية مفروضة من قبل سلطة سياسية، بدا في عصر السلاجقة هو إسلام الأشاعرة، أي الإسلام الذي يقدم الأحاديث والروايات ويرفض الفلسفة والتأويل العقلاني على طريقة المعتزلة. وهذا الإسلام تحول إلى سلطة سياسية تنطق باسمه، سلطة السلاجقة بالعراق وفارس وسلطة الزنكيين بالشام وسلطة الأيوبيين بمصر. والإسلام الحقيقي بدا في عصر المماليك هو إسلام السلفية على طريقة ابن تيمية وأحمد بن حنبل، ولم يجد هذا الإسلام سلطة سياسية تتبناه حتى ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملّة محمد عبدالوهاب ورجل الدولة محمد بن سعود، فصارت عقيدة ابن تيمية السلفية عقيدة رسمية للدولة السعودية الأولى. وهي تقدم نفسها اليوم باعتبارها تمثل الإسلام الحقيقي.

سؤال: كيف يمكن محاربة توحش النصوص؟

الديري: يمكن محاربة الوحش في هذه النصوص بتفكيك سياقه السياسي بالدرجة الأولى. نحتاج حركة نقدية تقرأ هذه النصوص قراءة تاريخية، تبين كيف وضعت السياسية هذه النصوص في خدمتها ضد خصومها السياسيين. وهذا ما فعلته في هذا الكتاب (نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) بتفكيك السلطة السلجوقية والزنكية والأيوبية والموحدية والمملوكية. وهذا ما تعلمته من المفكر محمد أركون الذي عمل منذ فترة مبكرة على نزع القداسة عن هذه النصوص وكشف تكوينها السياسي والتأريخي، وهو أول من استخدم مصطلح الأرثوذكسية لوصف السلفيات التي تقدم نفسها تمثل حقيقة الإسلام ضد خصومها.

“جماعات العنف التكفيري “الجذور، البنى والعوامل المؤثرة “

شارك مركز أوال للدراسات والتوثيق في مؤتمر حول التكفير تحت عنوان: جماعات العنف التكفيري “الجذور، البنى والعوامل المؤثرة “ الذي أقيم في فندق “رامادا بلازا بيروت”.
وقد تضمّنت مشاركة المركز عرضاً لآخر إصداراته من الكتب، مثل كتاب نصوص متوحّشة، كتاب ما بعد الشيوخ، وأخيراً كتاب داعش من النجدي إلى البغدادي .


مؤتمر التكفير

مؤتمر التكفير

مؤتمر التكفير

 مؤتمر التكفيرمؤتمر التكفير

مؤتمر التكفير   مؤتمر التكفير

مؤتمر التكفير

الحركة العلمية في البحرين

مقدمة‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية

باتت‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬البحرين‭ ‬عمومًا،‭ ‬وعن‭ ‬تراثها‭ ‬العلميّ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬أمرًا‭ ‬واجبًا،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يضطّلع‭ ‬به‭ ‬المؤرّخون،‭ ‬والمثقفون‭ ‬والمهتمّون؛‭ ‬ليبرزوا‭ ‬ما‭ ‬قدّمت‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬إسهامات‭ ‬علميّةٍ‭ ‬وأدبيّة،‭ ‬ويقفوا‭ ‬على‭ ‬مناهج‭ ‬علماء‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬التصنيف‭ ‬والتأليف،‭ ‬وبخاصّةٍ‭ ‬بعد‭ ‬تخلّي‭ ‬أكثر‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الأمر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حاولنا‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭.‬

وكنتُ‭ ‬قد‭ ‬تطرّقتُ‭ – ‬في‭ ‬مقدّمة‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ – ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬التخلّي‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬التراث‭ ‬العلمي‭ ‬وإهماله،‭ ‬مبرزًا‭ ‬دور‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬تتبعها‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين،‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬ذلك‭ ‬الإهمال،‭ ‬ممّا‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬محو‭ ‬التاريخ‭ ‬العلمي‭ ‬للبلاد،‭ ‬وطمس‭ ‬آثاره‭ ‬من‭ ‬أذهان‭ ‬الناشئة‭.‬

ولستُ‭ ‬أعلمُ‭ ‬كيف‭ ‬فاتني‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام،‭ ‬التي‭ ‬تعوّل‭ ‬عليها‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬تاريخ،‭ ‬وحضارة،‭ ‬وإنجازات‭ ‬علميّة،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك،‭ ‬وكان‭ ‬المرتُجى‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬السيرة‭ ‬ذاتها،‭ ‬فتنشر‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬ما‭ ‬يحقق‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬تعريف‭ ‬العالم‭ ‬الخارجيّ‭ ‬بالبلاد‭: ‬تاريخًا‭ ‬وحضارة‭. ‬

تلك‭ ‬كانت‭ ‬الصورة‭ ‬الورديّة،‭ ‬التي‭ ‬رسمناها‭ ‬لدور‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬أذهاننا،‭ ‬وكنّا‭ ‬نلتمس‭ ‬لها‭ ‬العذر‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬تراث‭ ‬البحرين‭ ‬العلميّ‭ ‬الأصيل،‭ ‬ظانّين‭ ‬بأنّ‭ ‬السبب‭ ‬قد‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬معظم‭ ‬التراث‭ ‬العلميّ‭ ‬البحرانيّ‭ ‬مايزال‭ ‬مخطوطًا،‭ ‬وهو‭ ‬سببٌ‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ – ‬في‭ ‬وهنه‭ – ‬عن‭ ‬بيت‭ ‬العنكبوت،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬تشبّثنا‭ ‬به؛‭ ‬رغبةً‭ ‬في‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬سببٍ،‭ ‬حتّى‭ ‬أذن‭ ‬الله‭ ‬بإنجاز‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬فانكشف‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬ظننّا؛‭ ‬فقد‭ ‬حملته‭ ‬إلى‭ ‬الوزارة‭ ‬بغية‭ ‬ترخيصه‭ ‬للطباعة،‭ ‬محدّثًا‭ ‬نفسي‭ ‬بنشره‭ ‬خلال‭ ‬أسبوعٍ‭ ‬أو‭ ‬أسبوعين،‭ ‬ولم‭ ‬يخطر‭ ‬بالبال‭ ‬أن‭ ‬يظلّ‭ ‬الكتاب‭ ‬حبيس‭ ‬الأدراج‭ ‬في‭ ‬الوزارة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سنة،‭ ‬فلا‭ ‬هي‭ ‬أذنت‭ ‬لي‭ ‬بطباعته،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬منعتني‭ ‬من‭ ‬ذلك‭! ‬وقد‭ ‬باءت‭ ‬جهودي‭ ‬كلّها‭ ‬بالفشل،‭ ‬وأنا‭ ‬أحاول‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬التعطيل‭ ‬والمماطلة،‭ ‬ممّا‭ ‬اضطّرني‭ ‬إلى‭ ‬طباعته‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬خارج‭ ‬البحرين،‭ ‬فلمّا‭ ‬وصل‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬البلاد،‭ ‬سطت‭ ‬عليه‭ ‬وزارة‭ ‬الإعلام،‭ ‬وصادرت‭ ‬نسخه‭ ‬كلّها،‭ ‬ولم‭ ‬تسمح‭ ‬لي‭ ‬بنسخة‭ ‬واحدة‭! ‬دون‭ ‬إبداء‭ ‬سبب‭ ‬المصادرة‭ ‬كذلك،‭ ‬ولم‭ ‬ينجُ‭ ‬من‭ ‬مخالب‭ ‬الوزارة‭ ‬سوى‭ ‬مئتي‭ ‬نسخة،‭ ‬بقيت‭ ‬بيد‭ ‬الناشر،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تطاولتها‭ ‬أيدي‭ ‬القرّاء،‭ ‬فنفدت‭ ‬جميعها‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يكفّ‭ ‬المهتمون‭ ‬عن‭ ‬طلب‭ ‬نسخٍ‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬علموا‭ ‬بقصّته،‭ ‬ونفاد‭ ‬نسخه‭ ‬طالبوني‭ ‬بطباعته‭ ‬طبعةً‭ ‬ثانية؛‭ ‬فالتاريخُ‭ ‬لا‭ ‬يحبّ‭ ‬الطّمس،‭ ‬ولا‭ ‬يحترم‭ ‬طامسيه‭! ‬وها‭ ‬هي‭ ‬ذي‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬عن‭ ‬مركز‭ ‬أوال‭ ‬للدراسات‭ ‬والتوثيق‭ ‬ترى‭ ‬النور،‭ ‬بحمد‭ ‬الله‭ ‬وتوفيقه،‭ ‬بعد‭ ‬ستّة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى،‭ ‬وأنا‭ ‬أضعها‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬القرّاء‭ ‬الأكارم،‭ ‬بإضافاتٍ‭ ‬يسيرة،‭ ‬وتعديلاتٍ‭ ‬طفيفة،‭ ‬راجيًا‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أن‭ ‬يجدوا‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يروي‭ ‬ظمأهم‭ ‬المعرفي‭.‬

نسأل‭ ‬الله‭ ‬العليّ‭ ‬القدير‭ ‬أن‭ ‬يوفقنا‭ ‬لخدمة‭ ‬تراثنا‭ ‬العلميّ‭ ‬الأصيل،‭ ‬إنه‭ ‬سميع‭ ‬الدعاء،‭ ‬قريبٌ‭ ‬مجيب‭.‬

والحمد‭ ‬لله‭ ‬ربّ‭ ‬العالمين

تمهيد

تقاس‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلدٍ‭ ‬بأمرين‭ ‬اثنين‭ ‬مجتمعين‭: ‬أحدهما‭ ‬انتشار‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية،‭ ‬وما‭ ‬يرتبط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬تشييدها،‭ ‬والعناية‭ ‬بها،‭ ‬وتمويلها،‭ ‬والآخر‭ ‬إسهام‭ ‬علماء‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭ ‬في‭ ‬المسار‭ ‬العلمي‭ ‬والثقافي،‭ ‬ذلك‭ ‬الإسهام‭ ‬الذي‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬كثرة‭ ‬العلماء،‭ ‬ووفرة‭ ‬مصنفاتهم‭ ‬العلمية،‭ ‬وتأثيرها‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬العلمي‭.‬

وقد‭ ‬اجتمع‭ ‬للبحرين‭ ‬الأمران‭ ‬معًا،‭ ‬حتى‭ ‬صارا‭ ‬من‭ ‬مميزاتها،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬المؤرخون‭ ‬بدًّا‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬عليهما،‭ ‬والإشارة‭ ‬إليهما،‭ ‬كما‭ ‬نجده‭ ‬جليًّا‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬البلادي‭ (‬1340ه‭/ ‬1921م‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الجو‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬فقد‭ ‬لاحظ‭ ‬أنّ‭ ‬أهمّ‭ ‬ما‭ ‬يميّز‭ ‬البحرين‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬هو‭ ‬‮«‬كثرة‭ ‬العلماء‭ ‬فيها‭ ‬والمتعلمين،‭ ‬والأتقياء‭ ‬الورعين،‭ ‬والشعراء‭ ‬والأدباء‭ ‬والمتأدبين،‭ ‬وخُلّص‭ ‬الشيعة‭ ‬المتقدّمين،‭ ‬وكثرة‭ ‬المدارس‭ ‬والمساجد،‭ ‬وفحول‭ ‬العلماء‭ ‬الأماجد‮»‬‭.‬

وتلك‭ ‬إشارة‭ ‬منه‭ ‬دقيقة،‭ ‬ووصف‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية؛‭ ‬فقد‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬البحرين‭ ‬محل‭ ‬هجرة،‭ ‬تشدّ‭ ‬إليها‭ ‬الرحال؛‭ ‬لطلب‭ ‬العلم،‭ ‬والتفقه‭ ‬في‭ ‬الدين،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬آثار‭ ‬الحوزات‭ ‬العلمية‭ ‬فيها‭ ‬تنبئ‭ ‬عن‭ ‬احتضانها‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬الطلاب‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬محطّ‭ ‬تقدير‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬العريقة‭ ‬في‭ ‬الحلة‭ ‬وغيرها،‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬توفد‭ ‬إلى‭ ‬البحرين‭ ‬الوفود،‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬معضلٍ‭ ‬علميٍّ،‭ ‬حارت‭ ‬فيه‭ ‬الأنظار‭ ‬تارةً،‭ ‬أو‭ ‬تدعو‭ ‬أحد‭ ‬أعلام‭ ‬البحرين‭ ‬المشار‭ ‬إليهم‭ ‬بالبنان‭ ‬لزيارة‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬وإفادة‭ ‬طلابها‭ ‬وعلمائها،‭ ‬بإلقاء‭ ‬الدروس‭ ‬العلمية،‭ ‬أو‭ ‬مناظرة‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬تارةً‭ ‬أخرى‭.‬

ولا‭ ‬بدَّ‭ ‬من‭ ‬الإشارة،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام،‭ ‬إلى‭ ‬أننا‭ ‬عندما‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬البحرين،‭ ‬فإنّما‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬البحرين‭ ‬بحدودها‭ ‬السياسية‭ ‬المعروفة‭ ‬اليوم،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬بأوال‭ ‬قديمًا،‭ ‬مع‭ ‬إيماننا‭ ‬بصعوبة‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة،‭ ‬وبين‭ ‬امتداداتها‭ ‬التاريخية،‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬القطيف‭ ‬والأحساء،‭ ‬فإنَّ‭ ‬الطبيعة‭ ‬الديموغرافية‭ ‬لهذه‭ ‬المناطق‭ ‬الثلاث‭ ‬تبقى‭ ‬واحدة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الفصل‭ ‬بينها،‭ ‬فالمذهب‭ ‬العقدي‭ ‬واحد،‭ ‬واللهجة‭ ‬واحدة،‭ ‬وروابط‭ ‬القربى‭ ‬بين‭ ‬المناطق‭ ‬وثيقة‭ ‬وثيقة‭.‬

وإنّما‭ ‬فصلنا،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬لسبب‭ ‬علميٍّ‭ ‬واحد،‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬أصل‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية،‭ ‬دون‭ ‬امتداداتها،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة،‭ ‬أعني‭ ‬جزيرة‭ ‬أوال،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬العلم،‭ ‬والمركز‭ ‬الذي‭ ‬يؤمّه‭ ‬المتعطشون‭ ‬إلى‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة؛‭ ‬ليتتلمذوا‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬ومشايخها،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬أولئك‭ ‬الوافدين‭ ‬أهل‭ ‬القطيف‭ ‬والأحساء‭.‬

وقد‭ ‬فسحت‭ ‬الحواضر‭ ‬العلمية‭ ‬المعروفة‭ ‬للبحرين‭ ‬مكانًا‭ ‬مميّزًا؛‭ ‬لما‭ ‬وُجِدَ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬طاقات‭ ‬علمية‭ ‬شامخة،‭ ‬تركت‭ ‬آثارها‭ ‬جلية‭ ‬في‭ ‬المسيرة‭ ‬العلمية‭ ‬والثقافية،‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬مساحتها‭ ‬تغصّ‭ ‬بمئات‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬عصر،‭ ‬وقد‭ ‬رفد‭ ‬أولئك‭ ‬العلماء‭ ‬الساحة‭ ‬العلمية‭ ‬الإسلامية‭ ‬بما‭ ‬صنفوا‭ ‬من‭ ‬كتبٍ‭ ‬ورسائل‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬صنوف‭ ‬المعرفة،‭ ‬فصاروا‭ ‬نجومًا‭ ‬تنير‭ ‬الدرب‭ ‬للسالكين‭ ‬طريق‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬وأعلامًا‭ ‬تنحني‭ ‬جباه‭ ‬العلماء‭ ‬لهم،‭ ‬فلا‭ ‬يكاد‭ ‬الباحث‭ ‬يطالع‭ ‬كتب‭ ‬التراجم‭ ‬حتى‭ ‬تكتحل‭ ‬عيناه‭ ‬بأسماء‭ ‬مثل‭ ‬الشيخ‭ ‬المتكلم‭ ‬أحمد‭ ‬ابن‭ ‬سعادة‭ ‬الستراوي‭ (‬قبل‭ ‬672ه‭/ ‬1273م‭)‬،‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الشيخ‭ ‬ميثم‭ ‬البحراني‭ (‬699ه‭/ ‬1299م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬ابن‭ ‬المتوّج‭ (‬820ه‭/ ‬1417م‭)‬،‭ ‬والسيد‭ ‬حسين‭ ‬الغريفي‭ (‬1001ه‭/ ‬1592م‭)‬،‭ ‬والسيد‭ ‬ماجد‭ ‬الجدحفصي‭ (‬1028ه‭/ ‬1618م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬سليمان‭ ‬القدمي‭ (‬1064ه‭/ ‬1653م‭)‬،‭ ‬والسيد‭ ‬هاشم‭ ‬التوبلاني‭ (‬1107ه‭/ ‬1695م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي‭ (‬1121ه‭/ ‬1709م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬السماهيجي‭ (‬1135ه‭/ ‬1722م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬يوسف‭ ‬العصفور‭ ‬البحراني‭ (‬1186ه‭/ ‬1722م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬حسين‭ ‬العصفور‭ (‬1216ه‭/ ‬1801م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬الستري‭ (‬1267ه‭/ ‬1850م‭)‬،‭ ‬والشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬صالح‭ ‬آل‭ ‬طعان‭ (‬1315ه‭/ ‬1897م‭)‬،‭ ‬ومئات‭ ‬غيرهم‭. ‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬اشتهار‭ ‬البحرين‭ ‬بوصفها‭ ‬مركزًا‭ ‬علميًّا‭ ‬متقدِّمًا،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬العدد‭ ‬الجمّ‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬فيها،‭ ‬لجأ‭ ‬الصفويون‭ ‬إليهم؛‭ ‬واستعانوا‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬بدء‭ ‬تأسيس‭ ‬الدولة‭ ‬الصفوية؛‭ ‬كي‭ ‬ينشروا‭ ‬التشيّع‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬إذ‭ ‬استعان‭ ‬الصفويون‭ ‬بفقهاء‭ ‬‮«‬‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬التأسيسية‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬العرب،‭ ‬الذين‭ ‬استُقدِموا‭ ‬من‭ ‬العراق،‭ ‬والبحرين،‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‮»‬‭.       ‬

وللسبب‭ ‬نفسه،‭ ‬أعني‭ ‬العدد‭ ‬الجمّ‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬صار‭ ‬الفقهاء‭ ‬الآخرون‭ ‬يتخذون‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬وسيرتهم‭ ‬دليلا‭ ‬يُسْتَنَد‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬تحريمها،‭ ‬وبخاصة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬محلّ‭ ‬خلاف‭ ‬بين‭ ‬الفقهاء،‭ ‬فما‭ ‬أحلّه‭ ‬فقهاء‭ ‬البحرين‭ ‬فهو‭ ‬حلال،‭ ‬والعكس‭ ‬كذلك،‭ ‬فقد‭ ‬نقل‭ ‬الشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬كتب‭ ‬الشافعية‭ ‬سؤالا‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬إلى‭ ‬المصحف‭ ‬أبدعةٌ‭ ‬هو‭ ‬أم‭ ‬مستحبٌّ؟‭ ‬

وقد‭ ‬بيّن‭ ‬الوجهين‭ ‬الواردين‭ ‬فيه؛‭ ‬إذ‭ ‬قطع‭ ‬ابن‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬بأنه‭ ‬بدعة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬قاسه‭ ‬النووي‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬للفضلاء‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والأخيار،‭ ‬فقطع‭ ‬بأنه‭ ‬مستحبٌّ،‭ ‬ثم‭ ‬علّق‭ ‬الماحوزيُّ‭ ‬على‭ ‬المسألة‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬لم‭ ‬أقف‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬كلامٍ‭ ‬لأصحابنا،‭ ‬إلا‭ ‬أنّا‭ ‬وجدنا‭ ‬مشايخنا‭ ‬الذين‭ ‬عاصرناهم‭ ‬يفعلونه،‭ ‬وليس‭ ‬استحبابه‭ ‬ببعيد؛‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬دخوله‭ ‬في‭ ‬تعظيم‭ ‬شعائر‭ ‬الله‮»‬‭.‬

ولعلك‭ ‬تنبّهت‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الحكم‭ ‬إنّما‭ ‬بناه‭ ‬الماحوزيُّ،‭ ‬وهو‭ ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬يومذاك،‭ ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬السيرة‭ ‬العملية‭ ‬لفقهاء‭ ‬البحرين،‭ ‬الذين‭ ‬عاصرهم،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ليكون‭ ‬لولا‭ ‬وثوقه‭ ‬بعلمهم،‭ ‬وورعهم‭.‬

وقد‭ ‬استند‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬آل‭ ‬طعان‭ (‬1315ه‭/ ‬1897م‭) ‬إلى‭ ‬السيرة‭ ‬العملية‭ ‬لفقهاء‭ ‬البحرين‭ ‬كذلك،‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬حلّ‭ (‬الإربيان‭)‬،‭ ‬حينما‭ ‬ناقش‭ ‬المجلسيَّ‭ ‬في‭ ‬رأيه،‭ ‬ورأى‭ ‬‮«‬أن‭ ‬اعترافه‭ [‬يعني‭ ‬المجلسي‭ ‬صاحب‭ ‬البحار‭] ‬بأنّ‭ ‬أهل‭ ‬البحرين‭ ‬يأكلونه،‭ ‬ويذكرون‭ ‬له‭ ‬خواص‭ ‬كثيرة،‭ ‬مما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الجزم‭ ‬بتحليله،‭ ‬والقطع‭ ‬بدليله؛‭ ‬لكثرة‭ ‬من‭ ‬فيهم‭ ‬حينئذٍ‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬العاملين،‭ ‬والفقهاء‭ ‬الورعين،‭ ‬والمحتاطين‭ ‬والمتوقفين،‭ ‬والممارسين‭ ‬للأقوال‭ ‬والأخبار،‭ ‬والمطّلعين‭ ‬على‭ ‬خبايا‭ ‬تلك‭ ‬الآثار،‭ ‬ولم‭ ‬ينقل‭ ‬عن‭ ‬أحدٍ‭ ‬منهم‭ ‬قديمًا‭ ‬ولا‭ ‬حديثًا‭ ‬التوقف‭ ‬في‭ ‬أكله،‭ ‬ولا‭ ‬المناقشة‭ ‬في‭ ‬حله،‭ ‬بل‭ ‬يعدّونه‭ ‬من‭ ‬المآكل‭ ‬الحميدة،‭ ‬والمطاعم‭ ‬اللذيذة،‭ ‬ويهدونه‭ ‬للبلاد‭ ‬البعيدة،‭ ‬فيكشف‭ ‬عملهم‭ ‬عن‭ ‬حصول‭ ‬السيرة‭ ‬العملية‭ ‬على‭ ‬التحليل،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نعم‭ ‬الدليل،‭ ‬والله‭ ‬يقول‭ ‬الحق،‭ ‬وهو‭ ‬يهدي‭ ‬السبيل‮»‬‭.‬

فأنت‭ ‬ترى‭ ‬أنّ‭ ‬الاعتماد‭ ‬في‭ ‬الفتيا‭ – ‬هنا‭ – ‬إنّما‭ ‬كان‭ ‬اتكاءً‭ ‬على‭ ‬كثرة‭ ‬العلماء‭ ‬والفقهاء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد،‭ ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الاطمئنان‭ ‬لما‭ ‬يحللون‭ ‬أو‭ ‬يحرّمون،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬أنّ‭ ‬أولئك‭ ‬الفقهاء‭ ‬موصوفون‭ ‬بالورع‭ ‬والاحتياط،‭ ‬والممارسة،‭ ‬والاطّلاع‭ ‬على‭ ‬خبايا‭ ‬الآثار‭. ‬

فلا‭ ‬غرو،‭ ‬إذن،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الجزيرة‭ ‬مهبط‭ ‬أفئدة‭ ‬العلماء،‭ ‬الذين‭ ‬آثروا‭ ‬ترك‭ ‬أوطانهم،‭ ‬والهجرة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬البلاد؛‭ ‬يقيمون‭ ‬فيها‭: ‬يؤلفون،‭ ‬ويناقشون‭ ‬أقرانهم‭ ‬من‭ ‬العلماء،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ليكون‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬رأى‭ ‬هؤلاء‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يقنعهم‭ ‬بتلك‭ ‬الخطوة،‭ ‬وقد‭ ‬لفتت‭ ‬هذه‭ ‬الميزة،‭ ‬أعني‭ ‬كثرة‭ ‬العلماء‭ ‬المهاجرين‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬أنظار‭ ‬الأدباء‭ ‬فخلّدوها‭ ‬في‭ ‬أشعارهم،‭ ‬وما‭ ‬سطّرت‭ ‬أقلامهم،‭ ‬ومنهم‭ ‬الشاعر‭ ‬الشيخ‭ ‬جعفر‭ ‬الخطي‭ (‬1028ه‭/ ‬1618م‭) ‬إذ‭ ‬يقول‭:‬

أوالُ‭ ‬سُقيتِ‭ ‬صوبَ‭ ‬كلِّ‭ ‬مجلجلٍ من‭ ‬المُزنِ‭ ‬هامٍ‭ ‬لا‭ ‬يجفُّ‭ ‬له‭ ‬قطْرُ
كأنّكِ‭ ‬مغناطيسُ‭ ‬كلِّ‭ ‬مهذّبٍ فما‭ ‬كاملٌ‭ ‬إلا‭ ‬وفيك‭ ‬له‭ ‬قبرُ

ولا‭ ‬غرو‭ ‬كذلك،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬محطّةً،‭ ‬يستقي‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬استهوتهم‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها،‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬ومثقفين،‭ ‬ما‭ ‬يصقل‭ ‬مواهبهم،‭ ‬ويشحذ‭ ‬أفكارهم،‭ ‬ويطلق‭ ‬لخيالاتهم‭ ‬العنان،‭ ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬لفت‭ ‬انتباه‭ ‬الرحّالة‭ ‬الأسباني‭ (‬كارستن‭ ‬نيبور‭) ‬الذي‭ ‬زار‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬فقال‭ ‬متحدّثًا‭ ‬عن‭ ‬توجّه‭ ‬المثقفين‭ ‬الفرس‭ ‬إلى‭ ‬البحرين‭: ‬‮«‬‭ ‬وبما‭ ‬أنّ‭ ‬المثقفين‭ ‬الفرس‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يفهموا‭ ‬القرآن،‭ ‬يقصدون‭ ‬هذه‭ ‬الجزر‭ [‬يعني‭ ‬البحرين‭] ‬ليتعلّموا‭ ‬العربية،‭ ‬لذا‭ ‬تدعى‭ ‬البحرين‭ ‬جامعة‭ ‬الشيعة‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬اللافت‭ ‬حقًّا‭ ‬إطلاق‭ ‬نيبور‭ ‬مصطلح‭ (‬الجامعة‭) ‬على‭ ‬البحرين‭ ‬كلّها؛‭ ‬وهو‭ ‬أمرٌ‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬تفسيرًا‭ ‬أقرب‭ ‬من‭ ‬ازدهار‭ ‬البيئة‭ ‬العلمية‭ ‬والمعرفية‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬اسمها‭ ‬مقرونًا‭ ‬بالعلم‭ ‬والعلماء،‭ ‬الذين‭ ‬غصّت‭ ‬بهم‭ ‬مدنها‭ ‬وقراها،‭ ‬فليس‭ ‬غريبًا‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬البيئة،‭ ‬ما‭ ‬يُنقل‭ ‬عن‭ ‬اجتماع‭ ‬ثلاث‭ ‬مئة،‭ ‬أو‭ ‬يزيدون‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬البحرين،‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬تعزية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بينهم‭ ‬تنسيق‭ ‬سابق‭ ‬للحضور،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬أنوار‭ ‬البدرين‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬ممّا‭ ‬لاقته‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬غاراتٍ‭ ‬خارجية،‭ ‬وفتن‭ ‬داخلية‭ ‬استهدفت‭ -‬أول‭ ‬ما‭ ‬استهدفت‭ – ‬الوجود‭ ‬العلمي‭ ‬فيها،‭ ‬ذلك‭ ‬الاستهداف‭ ‬الذي‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬ملاحقة‭ ‬العلماء‭ ‬والتنكيل‭ ‬بهم،‭ ‬وإحراق‭ ‬كتبهم‭ ‬ونتاجهم‭ ‬العلميّ،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله،‭ ‬لم‭ ‬تخبُ‭ ‬جذوة‭ ‬الإنتاج‭ ‬العلميّ،‭ ‬بل‭ ‬امتدّ‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرونٍ‭ ‬متتالية،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬وتيرته‭ ‬تقلّ‭ ‬تبعًا‭ ‬لتلك‭ ‬الظروف‭ ‬القاسية،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العلمي‭ ‬لهذه‭ ‬البلاد،‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬تتبّع‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬تحولاته‭ ‬وسيرورته،‭ ‬وانتقاله‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬إلى‭ ‬الضعف،‭ ‬أو‭ ‬العكس،‭ ‬بل‭ ‬وجدنا‭ ‬كثيرًا‭ ‬ممّن‭ ‬أرّخوا‭ ‬للحركة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الإسلامية‭ ‬يتنكّب‭ ‬الطريق،‭ ‬ويتجاوز‭ ‬ذكر‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬رفدت‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬بمئات‭ ‬المصنّفات‭ ‬في‭ ‬شتّى‭ ‬صنوف‭ ‬المعرفة‭.‬

ولعلّ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ (‬عبد‭ ‬الهادي‭ ‬الفضلي‭) ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬تاريخ‭ ‬التشريع‭ ‬الإسلامي‭) ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الإهمال‭ ‬المتعمّد،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونه،‭ ‬أعني‭ ‬الفضلي،‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة،‭ ‬فقد‭ ‬حصر‭ ‬مراكز‭ ‬العلم‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬الفقه‭ ‬الإمامي‭ ‬في‭ ‬النجف‭ ‬والحلة‭ ‬وحلب‭ ‬والشام‭ ‬وكربلاء،‭ ‬متناسيا‭ ‬مدرسة‭ ‬البحرين،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬انعدام‭ ‬القياس‭ ‬بين‭ ‬مدرسة‭ ‬حلب،‭ ‬والمدرسة‭ ‬البحرانية‭: ‬في‭ ‬عدد‭ ‬العلماء،‭ ‬وغزارة‭ ‬الإنتاج‭ ‬العلمي،‭ ‬ومدة‭ ‬حياة‭ ‬كلا‭ ‬المدرستين‭. ‬

وإنه‭ ‬لمن‭ ‬الغريب‭ ‬حقًّا‭ ‬أن‭ ‬ينسبَ‭ ‬الشيخ‭ ‬يوسف‭ ‬العصفور‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬كربلاء،‭ ‬حتّى‭ ‬إنه‭ ‬قَصَرَ‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬الشيخ‭ ‬يوسف،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ – ‬أعني‭ ‬الشيخ‭ ‬يوسف‭ – ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أساطين‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية،‭ ‬هاجر‭ ‬لاحقًا‭ ‬إلى‭ ‬كربلاء،‭ ‬وقد‭ ‬تناسى‭ ‬الفضليُّ‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭ ‬المزبور‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬‮«‬الثروة‭ ‬العلمية‭ ‬للفقه‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فلكه‭ ‬من‭ ‬تفسير،‭ ‬وحديث،‭ ‬ورجال،‭ ‬وأصول،‭ ‬وما‭ ‬إليها‭ ‬لحريٌ‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬يهمل‭ ‬تاريخه؛‭ ‬ليفاد‭ ‬منه‭ ‬علميا،‭ ‬وليكون‭ ‬تقديرًا‭ ‬للجهود‭ ‬الخيرة‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬فيه‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬أحراه‭ ‬بأن‭ ‬يفرد‭ ‬للمدرسة‭ ‬البحرانية‭ ‬مكانًا‭ ‬يليق‭ ‬بما‭ ‬قدّمته‭ ‬من‭ ‬إسهامات‭ ‬علمية‭! ‬

وحتى‭ ‬القامات‭ ‬العلمية‭ ‬الشامخة،‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬وروّجت‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يؤرخ‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬البحرين‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬الهجري،‭ ‬حين‭ ‬التفت‭ ‬زعيم‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية‭ ‬يومئذٍ،‭ ‬الشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي‭ (‬1121ه‭/ ‬1709م‭) ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الثغرة،‭ ‬فبدأ‭ ‬بسدّها،‭ ‬وصنّف‭ ‬كتابيه‭ ‬المشهورين‭: (‬فهرست‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭)‬،‭ ‬و‭(‬جواهر‭ ‬البحرين‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬خَصَّ‭ ‬فيلسوفَ‭ ‬البحرين‭ ‬الشيخ‭ ‬ميثمًا‭ ‬البحراني‭ ‬بترجمة‭ ‬مستقلة،‭ ‬وسمها‭ ‬بـ‭(‬السلافة‭ ‬البهية‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭ ‬الميثمية‭)‬،‭ ‬أمّا‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أمر‭ ‬تراجم‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬متروكًا‭ ‬لعلماء‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬أو‭ ‬فارس‭ ‬أو‭ ‬غيرهما،‭ ‬وبدهي‭ ‬ألا‭ ‬يحيط‭ ‬الأباعد‭ ‬برجال‭ ‬البلاد‭ ‬أجمعين،‭ ‬فما‭ ‬يعنيهم‭ ‬غير‭ ‬تدوين‭ ‬المشهورين‭ ‬منهم،‭ ‬وهم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬اتصال‭ ‬بمراكز‭ ‬العلم‭ ‬الخارجية‭!‬

المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحرين‭: ‬نشأتها‭ ‬وتطورها

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬تبوّأتها‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬والأدوار‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬الخطيرة‭ ‬التي‭ ‬أدّتها‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬القرون‭ ‬المتتالية؛‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬سلطتها‭ ‬تفوق‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬وكانت‭ ‬للعلماء‭ ‬الذين‭ ‬يشرفون‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬كلمة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬الحاكم‭ ‬السياسي‭ ‬نفسه؛‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه،‭ ‬لم‭ ‬يتتبّع‭ ‬الباحثون‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬فلم‭ ‬يقف‭ ‬أحد،‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬اطّلع‭ ‬عليه‭ ‬الباحث،‭ ‬على‭ ‬نشأة‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬أطوارها‭ ‬المختلفة،‭ ‬والأدوار‭ ‬التي‭ ‬أدّتها،‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المباحث‭ ‬التي‭ ‬يجدر‭ ‬بالباحثين‭ ‬الوقوف‭ ‬عليها‭.      ‬

ما‭ ‬المقصود‭ ‬بمصطلح‭ ‬المدرسة؟

لا‭ ‬بدّ‭ ‬قبل‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬تجلية‭ ‬المراد‭ ‬من‭ ‬مصطلح‭ (‬المدرسة‭) ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة؛‭ ‬فقد‭ ‬رأينا‭ ‬بعض‭ ‬الدارسين‭ ‬يدّعي‭ ‬انتشار‭ ‬المدارس‭ ‬بالمئات‭ ‬في‭ ‬قرى‭ ‬البحرين‭ ‬ومدنها،‭ ‬حين‭ ‬جزم‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬فإنك‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬قراها،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مدنها،‭ ‬إلا‭ ‬وفيها‭ ‬مدرسة‭ ‬دينية‭ ‬على‭ ‬الأقل‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬إنّما‭ ‬يصحّ‭ ‬إذا‭ ‬حملنا‭ ‬المقصود‭ ‬بالمدرسة‭ ‬على‭ (‬الكتاتيب‭)‬،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬قرية‭ ‬لتخلو‭ ‬من‭ ‬كُتّابٍ‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الكتاتيب‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬أماكن‭ ‬لتعليم‭ ‬مبادئ‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬أمّا‭ ‬مصطلح‭ (‬المدرسة‭) ‬الذي‭ ‬نعنيه‭ ‬هنا‭ ‬فهو‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الكُتّاب؛‭ ‬إذ‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬المَجْمَع‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬يلتقي‭ ‬فيه‭ ‬طلبة‭ ‬العلم؛‭ ‬يتدارسون،‭ ‬ويبحثون،‭ ‬ويؤلفون‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬صنوف‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬يقودهم‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الفقهاء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرادفًا‭ ‬لمصطلح‭ (‬الجامعة‭) ‬المستعمل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مدن‭ ‬البحرين‭ ‬وقراها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬عملية‭ ‬النزوح‭ ‬الداخلي،‭ ‬حين‭ ‬يضطر‭ ‬الطلبة‭ ‬المتشوقون‭ ‬إلى‭ ‬الاستزادة‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬والعلوم‭ ‬إلى‭ ‬ترك‭ ‬قراهم‭ ‬وبلدانهم‭ ‬الأصلية،‭ ‬والنزوح‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭ ‬المدرسة‭ ‬العلمية‭. ‬

بادئ‭ ‬الأمر

يكتنف‭ ‬البدايات‭ ‬الأولى‭ ‬للمدارس‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الغموض؛‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تشر‭ ‬المدونات‭ ‬التاريخية‭ ‬المعتمدة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أهل‭ ‬البحرين‭ ‬شاخصين‭ ‬يومذاك‭ ‬إلى‭ ‬تأصيل‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬وتدوينها،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬كتب‭ ‬التراجم‭ ‬تفجؤنا،‭ ‬وهي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬الشيخ‭ ‬ناصر‭ ‬الدين‭ ‬راشد‭ ‬بن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬إسحاق‭ ‬البحراني‭ (‬605ه‭/ ‬1208م‭) ‬بوصفه‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬اللغويين‭ ‬القدامى‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬ثمّ‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تلمع‭ ‬أسماء‭ ‬بارزة‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬العلمي،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الشيخ‭ ‬المتكلم‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬سعادة‭ ‬الستراوي‭ (‬قبل‭ ‬672ه‭/ ‬1273م‭)‬،‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الشيخ‭ ‬ميثم‭ ‬البحراني‭ (‬699ه‭/ ‬1299م‭)‬،‭ ‬وغيرهما‭.‬

وإنه‭ ‬لمن‭ ‬البداهة‭ ‬أن‭ ‬نفترض‭ ‬أنّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأعلام‭ ‬لم‭ ‬يولدوا‭ ‬عالمين،‭ ‬وأنّ‭ ‬المستوى‭ ‬العلمي‭ ‬المتقدّم‭ ‬الذي‭ ‬وصلوا‭ ‬إليه‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬نتيجة‭ ‬تراكم‭ ‬الخبرات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬العلمية،‭ ‬وأنّ‭ ‬تلكم‭ ‬الخبرات‭ ‬إنّما‭ ‬كانت‭ ‬تُحْتَضَن‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬مخصصة،‭ ‬يمكن‭ ‬تسميتها‭ ‬بالمدارس‭ ‬العلمية،‭ ‬حيث‭ ‬يدور‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬بين‭ ‬الأساتذة‭ ‬وطلابهم،‭ ‬ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتصوّر‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬البحث‭ ‬بدأ‭ ‬متواضعًا،‭ ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬يقوى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭.‬

ثمّة‭ ‬أسئلة‭ ‬عن‭ ‬المدرسة‭ ‬العلمية‭ ‬البحرانية‭ ‬في‭ ‬بداياتها‭ ‬تلحّ‭ ‬على‭ ‬الباحث،‭ ‬فأين‭ ‬كانت؟‭ ‬وما‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬اضطلعت‭ ‬به؟‭ ‬ولم‭ ‬لم‭ ‬تُشْتهر‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬المرموقة؟‭ ‬

والحقّ‭ ‬أنّ‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬تسعفنا‭ ‬بإجابة‭ ‬عن‭ ‬أيٍّ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬أنّ‭ ‬نشاط‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬ظلّ‭ ‬مغمورًا‭ ‬في‭ ‬بداياته؛‭ ‬وذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬عدّة،‭ ‬لعلّ‭ ‬من‭ ‬أهمها‭:‬

‭(‬أ‭) ‬الوضع‭ ‬الجغرافي‭ ‬للبحرين،‭ ‬فهي‭ ‬جزيرة‭ ‬محاطة‭ ‬بالماء‭ ‬من‭ ‬جهاتها‭ ‬الأربع؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الوصول‭ ‬إليها،‭ ‬والخروج‭ ‬منها‭ ‬صعبا‭.‬

‭(‬ب‭) ‬عدم‭ ‬اتصالها‭ ‬بمراكز‭ ‬العلم‭ ‬المعروفة‭ ‬يومذاك،‭ ‬كمدرسة‭ ‬الحلة،‭ ‬وبغداد،‭ ‬والقاهرة،‭ ‬وغيرها‭. ‬

ولعدم‭ ‬الشهرة‭ ‬والانتشار،‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المراكز‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية‭ ‬نظرة‭ ‬ثانوية،‭ ‬وذلك‭ ‬أمرٌ‭ ‬يمكن‭ ‬تقبّله،‭ ‬وتلمّس‭ ‬العذر‭ ‬للقائلين‭ ‬به؛‭ ‬فالمدارس‭ ‬المركزية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تفوز‭ ‬غالبًا‭ ‬بأكبر‭ ‬الأساتذة،‭ ‬وأشهرهم‭ ‬صيتًا،‭ ‬وإليهم‭ ‬يشدّ‭ ‬طلاب‭ ‬العلم‭ ‬رحالهم،‭ ‬وقد‭ ‬أبرزت‭ ‬الرسالة،‭ ‬التي‭ ‬بعث‭ ‬بها‭ (‬علماء‭ ‬العراق‭) ‬إلى‭ (‬الشيخ‭ ‬ميثم‭) ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬بجلاء،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الشيخ‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم‭ – ‬‮«‬معتكفا‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬العزلة‭ ‬والخمول،‭ ‬مشتغلا‭ ‬بتحقيق‭ ‬حقائق‭ ‬الفروع‭ ‬والأصول،‭ ‬فكتب‭ ‬إليه‭ ‬فضلاء‭ ‬الحلة‭ ‬والعراق‭ ‬صحيفة،‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬عذله‭ ‬وملامته‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأخلاق،‭ ‬وقالوا‭: ‬العجب‭ ‬منك‭ ‬أنك‭ – ‬مع‭ ‬شدة‭ ‬مهارتك‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف،‭ ‬وحذاقتك‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الحقائق،‭ ‬وإبداع‭ ‬اللطائف‭ ‬–‭ ‬قاطنٌ‭ ‬في‭ ‬ظلال‭ ‬الاعتزال،‭ ‬ومخيم‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬الخمول،‭ ‬الموجب‭ ‬لخمود‭ ‬نار‭ ‬الكمال‭..‬‮»‬‭  ‬

فعلماء‭ ‬العراق‭ ‬رأوا‭ ‬النتيجة‭ ‬التي‭ ‬ستؤول‭ ‬إليها‭ ‬حال‭ ‬شيخ‭ ‬البحرين‭ ‬وعالمها‭ ‬يومئذٍ،‭ ‬وهي‭ (‬خمود‭ ‬نار‭ ‬كماله‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬اندثار‭ ‬ذكره‭ ‬ونسيانه،‭ ‬مع‭ ‬اعترافهم‭ ‬بشدة‭ ‬مهارته،‭ ‬وحذاقته‭ ‬في‭ ‬العلوم،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ليكون‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يرضَ‭ ‬بالإقامة‭ ‬في‭ (‬زاوية‭ ‬الخمول‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬عنوا‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬البحرين،‭ ‬كما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬سياق‭ ‬الرسالة،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬المدرسة‭ ‬لتُنْعت‭ ‬بزاوية‭ ‬خمولٍ‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬المشهورة‭.‬

اشتهار‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية

يمكننا‭ ‬القول‭ ‬بأنّ‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية‭ ‬مدينةٌ‭ ‬للشيخ‭ ‬ميثم‭ ‬البحراني،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدورٍ‭ ‬خطير،‭ ‬غيّر‭ ‬به‭ ‬وجه‭ ‬المدرسة‭ ‬العلمية‭ ‬البحرانية،‭ ‬فقد‭ ‬استجاب‭ ‬لرسالة‭ ‬علماء‭ ‬العراق،‭ ‬وسافر‭ ‬والتقى‭ ‬العلماء‭ ‬هناك،‭ ‬وباحثهم،‭ ‬فعرفوا‭ ‬فضله‭ ‬ومكانته،‭ ‬وتتلمذ‭ ‬عليه‭ ‬كبار‭ ‬علمائهم،‭ ‬كنصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي،‭ ‬المشهور‭ ‬بالخاجة،‭ ‬والحسن‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬المطهّر‭ ‬الحلي،‭ ‬المشهور‭ ‬بالعلامة،‭ ‬وغيرهما،‭ ‬فوضع‭ – ‬بسيرته‭ ‬تلك‭ – ‬اسم‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية‭ ‬في‭ ‬واجهة‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية‭ ‬المرموقة‭ ‬يومئذ؛‭ ‬فإنّ‭ ‬مدرسة‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬شيخها،‭ ‬لا‭ ‬غرو‭ ‬تستقطب‭ ‬أنظار‭ ‬العلماء،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬اتفقت‭ ‬‮«‬كلمة‭ ‬أئمة‭ ‬الأعصار،‭ ‬وأساطين‭ ‬الفضلاء‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأمصار،‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬بالعالم‭ ‬الرباني،‭ ‬وشهادتهم‭ ‬له‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الحقائق،‭ ‬وتنقيح‭ ‬المباني‭. ‬والحكيم‭ ‬الفيلسوف،‭ ‬سلطان‭ ‬المحققين،‭ ‬وأستاذ‭ ‬الحكماء‭ ‬والمتكلمين،‭ ‬نصير‭ ‬الملة‭ ‬والدين،‭ ‬محمد‭ ‬الطوسي،‭ ‬شهد‭ ‬له‭ ‬بالتبحر‭ ‬في‭ ‬الحكمة‭ ‬والكلام‮»‬‭ .‬

وتأسيسًا‭ ‬على‭ ‬السمعة‭ ‬الطيبة‭ ‬التي‭ ‬اكتسبتها‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية‭ ‬يومئذ،‭ ‬صار‭ ‬العلماء‭ ‬يفدون‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬أو‭ ‬يراسلون‭ ‬علماءها،‭ ‬ويباحثونهم‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬العلمية‭ ‬المختلفة،‭ ‬كالشيخ‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬الصمد‭ ‬الجباعي‭ ‬العاملي‭ ‬الحارثي،‭ ‬والد‭ ‬الشيخ‭ ‬البهائي،‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬وبقي‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬مشتغلا‭ ‬بالتدريس‭ ‬والتصنيف،‭ ‬والعبادة،‭ ‬والتأليف‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬المُصَلَّى،‭ ‬من‭ ‬توابع‭ ‬بلادنا‭ ‬بلاد‭ ‬القديم،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفي‭ ‬بها‭ ‬لثمان‭ ‬خلون‭ ‬من‭ ‬ربيع‭ ‬الأول‭ ‬سنة‭ ‬984ه‭/ ‬1576م‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬رسالةً‭ ‬إلى‭ ‬ولده،‭ ‬المعروف‭ ‬بالشيخ‭ ‬البهائي،‭ ‬يحرّضه‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬بلاد‭ ‬العجم،‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كنتَ‭ ‬تريد‭ ‬الدنيا‭ ‬فاذهب‭ ‬إلى‭ ‬الهند،‭ ‬وإذا‭ ‬كنتَ‭ ‬تريد‭ ‬الآخرة‭ ‬فاذهب‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬وإن‭ ‬كنتَ‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬الدنيا‭ ‬ولا‭ ‬الآخرة‭ ‬فتوطّن‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العجم‮»‬‭.‬

ولسنا‭ ‬معنيين‭ – ‬هنا‭ – ‬بالأسباب‭ ‬السياسية،‭ ‬التي‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬هجرة‭ ‬الشيخ‭ ‬العاملي‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬وتركه‭ ‬بلاد‭ ‬فارس،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قربه‭ ‬من‭ ‬الشاه‭ ‬طهماسب‭ ‬الصفوي،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تبوُّئه‭ ‬منصب‭ ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬فيها،‭ ‬وإنّما‭ ‬يعنينا‭ ‬اختياره‭ ‬البحرين،‭ ‬دون‭ ‬سواها؛‭ ‬إذ‭ ‬آثرها‭ ‬على‭ ‬المراكز‭ ‬العلمية‭ ‬الشيعية‭ ‬المعروفة‭ ‬يومذاك،‭ ‬كالنجف‭ ‬والحلة،‭ ‬ولسنا‭ ‬نرى‭ ‬علّة‭ ‬لذلك‭ ‬سوى‭ ‬معرفته‭ ‬بالعدد‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬والمتقدّمين‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد؛‭ ‬ممّا‭ ‬أسس‭ ‬جوًّا‭ ‬علميًّا‭ ‬متعمّقًا،‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬شدّ‭ ‬انتباه‭ ‬الشيخ‭ ‬العاملي‭.    ‬

وكذلك‭ ‬هاجر‭ ‬إلى‭ ‬البحرين‭ ‬‮«‬الفقيه‭ ‬العلامة‭ ‬الشيخ‭ ‬مفلح‭ ‬بن‭ ‬حسن‭ ‬الصيمري،‭ ‬وأصله‭ ‬من‭ ‬صيمر،‭ ‬وانتقل‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬وسكن‭ ‬قرية‭ ‬سلماباد،‭ ‬وله‭ ‬التصانيف‭ ‬الفائقة‭ ‬المليحة‭..‬‮»‬،‭ ‬وغيرهما‭.‬

كما‭ ‬أَوْلَى‭ ‬علماء‭ ‬العراق‭ ‬وغيرها‭ ‬التراث‭ ‬العلمي‭ ‬البحراني‭ ‬رعاية‭ ‬واهتماما،‭ ‬فبدأوا‭ ‬يشرحون‭ ‬ذلك‭ ‬التراث،‭ ‬أو‭ ‬يعلقون‭ ‬عليه،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الخاجة‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ (‬672ه‭/ ‬1273م‭) ‬حين‭ ‬شرح‭ (‬رسالة‭ ‬العلم‭) ‬للمتكلم‭ ‬البحراني‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬سعادة،‭ ‬وأثنى‭ ‬على‭ ‬مؤلفها‭ ‬ثناءً‭ ‬عظيمًا،‭ ‬كما‭  ‬سنشير‭ ‬إليه‭ ‬عند‭ ‬دراستنا‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬البحرانية‭. ‬

وقد‭ ‬برزت‭ ‬–‭ ‬بعد‭ ‬مرحلة‭ ‬الشيخ‭ ‬ميثم‭ – ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التراجم‭ ‬ظاهرة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬العلمية‭ ‬البحرانية،‭ ‬لكنّ‭ ‬وتيرتها‭ ‬شرعت‭ ‬تزداد،‭ ‬أعني‭ ‬ظاهرة‭ ‬ابتعاث‭ ‬طلبة‭ ‬العلم؛‭ ‬للأخذ‭ ‬عن‭ ‬علماء‭ ‬العراق‭ ‬وغيرها،‭ ‬‭ ‬حيث‭ ‬يلبث‭ ‬أولئك‭ ‬المبتعثون‭ ‬مدة‭ ‬ثم‭ ‬يعودون؛‭ ‬ليتولوا‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬أُشير‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬المعروفين،‭ ‬أعني‭ ‬الشيخ‭ ‬اللغوي‭ ‬ناصر‭ ‬الدين‭ ‬البحراني‭ (‬605ه‭/ ‬1208م‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬قرأ‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وأقام‭ ‬بها‭ ‬مدة،‭ ‬ثم‭ ‬رجع‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬واستمرت‭ ‬الظاهرة،‭ ‬فرحل‭ ‬عن‭ ‬البحرين‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬المتوّج‭ (‬820ه‭/ ‬1417م‭)‬،‭ ‬وتتلمذ‭ ‬على‭ ‬العلامة‭ ‬فخر‭ ‬الدين‭ ‬الحلّي‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الحلة‭ ‬السيفية،‭ ‬ثمّ‭ ‬‮«‬رجع‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬الغاية‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الشرعية‭ ‬وغيرها‮»‬‭. ‬حتّى‭ ‬وصفه‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬جمهور‭ ‬الأحسائي،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬عوالي‭ ‬اللآلي‭) ‬بـ‭ ‬‮«‬شيخ‭ ‬الإمامية‭ ‬في‭ ‬وقته‮»‬،‭ ‬وبـ‭ ‬‮«‬خاتمة‭ ‬المجتهدين،‭ ‬المنتشرة‭ ‬فتاويه‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬العالمين‮»‬‭. ‬

وبدهي‭ ‬أن‭ ‬تتوثق‭ ‬الصلات‭ ‬حينئذ‭ ‬بين‭ ‬المدرسة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬والمدارس‭ ‬التي‭ ‬ابتُعِثَ‭ ‬إليها‭ ‬الطلاب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬برهنوا‭ ‬لأساتذتهم‭ ‬وزملائهم‭ ‬على‭ ‬مستواهم‭ ‬العلمي‭ ‬البارز،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬مستغربًا‭ ‬البتة‭ ‬إذا‭ ‬تولى‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬مهامّ‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدارس،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬المعروف‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬السيد‭ ‬ماجد‭ ‬بن‭ ‬السيد‭ ‬هاشم‭ ‬الصادقي‭ (‬1028ه‭/ ‬1618م‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬أول‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬علم‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬العلم‭ ‬شيراز‭ ‬المحروسة،‭ ‬وله‭ ‬مع‭ ‬علمائها‭ ‬مجالس‭ ‬عديدة،‭ ‬ومقامات‭ ‬مشهورة‭.‬‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يتولّى‭ ‬علماء‭ ‬البحرين‭ ‬المناصب‭ ‬القيادية‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬وغيره،‭ ‬حتى‭ ‬خارج‭ ‬البحرين،‭ ‬وهو‭ ‬المعروف‭ ‬عن‭ ‬الشيخ‭ ‬صالح‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الكريم‭ ‬الكرزكاني‭ ‬البحراني‭ (‬1098ه‭/ ‬1686م‭) ‬الذي‭ ‬ارتحل‭ ‬إلى‭ ‬شيراز،‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬انتهت‭ ‬إليه‭ ‬رئاسة‭ ‬البلاد‭ ‬المذكورة‭ [‬أي‭ ‬شيراز‭] ‬وقام‭ ‬بالأمر‭ ‬بالمعروف،‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭ ‬فيها‭ ‬أحسن‭ ‬قيام،‭ ‬وانقادت‭ ‬إليه‭ ‬حكّامها،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬رعيتها؛‭ ‬لفضله‭ ‬وتقواه،‭ ‬ونشر‭ ‬العلوم‭ ‬والتدريس‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬يكاد‭ ‬يوجد‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬شيراز‭ ‬إلا‭ ‬وعليه‭ ‬تبليغه‭ ‬بالمقابلة‭ ‬عليه‮»‬‭.‬

القرى‭ ‬والمدن‭ ‬العلمية

انتشرت‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية،‭ ‬فكان‭ ‬الطلاب‭ ‬يشدون‭ ‬رحالهم‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬البلاد،‭ ‬وقد‭ ‬اشتهرت‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬بوصفها‭ ‬أماكن‭ ‬علمية؛‭ ‬لكثرة‭ ‬المدارس‭ ‬فيها،‭ ‬فلا‭ ‬غرو‭ ‬إن‭ ‬لفتت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬أنظار‭ ‬الباحثين‭ ‬فوثقوها،‭ ‬لكنّ‭ ‬توثيق‭ ‬بعضهم‭ ‬ذاك‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬التحرير،‭ ‬فقد‭ ‬شابهُ‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الخلط،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ناشئًا‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬التتبع،‭ ‬أو‭ ‬الانخداع‭ ‬بألقاب‭ ‬مشاهير‭ ‬العلماء‭ ‬المنسوبين‭ ‬إلى‭ ‬مدنهم‭ ‬وقراهم،‭ ‬ومن‭ ‬أولئك‭ ‬الباحثين‭ (‬وليد‭ ‬خالص‭) ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬ورقة‭ ‬بعنوان‭ ‬كمال‭ ‬الدين‭ ‬ميثم‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬البحراني،‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬الازدهار‭ ‬العلمي‭ ‬الواسع‭ ‬أدّى‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬اشتهار‭ ‬قرى‭ ‬بعينها‭ ‬بالعلم،‭ ‬ونسبة‭ ‬علماء‭ ‬كثيرين‭ ‬إليها،‭ ‬وتميزت‭ ‬بيوتات‭ ‬وأسر‭ ‬به‭ ‬هي‭ ‬الأخرى،‭ ‬فمن‭ ‬القرى‭ ‬العلمية‭: ‬بلاد‭ ‬القديم،‭ ‬وجدحفص،‭ ‬وسترة،‭ ‬وسماهيج،‭ ‬والماحوز،‭ ‬والمنامة،‭ ‬وهلتا،‭ ‬والغريفة،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‮»‬‭. ‬وممن‭ ‬عدّدوا‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭ ‬العلمية‭ ‬الباحث‭ ‬البحراني‭ ‬سالم‭ ‬النويدري،‭ ‬الذي‭ ‬عرض‭ ‬في‭ ‬موسوعته‭ (‬أعلام‭ ‬الثقافة‭) ‬لذلك‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬عُرِفَت‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬السابقة‭ ‬بمدارسها‭ ‬الدينية،‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬قرى‭ ‬البحرين‭ ‬ومدنها،‭ ‬كالماحوز،‭ ‬وأبي‭ ‬أصبع،‭ ‬والشاخورة،‭ ‬والقدم،‭ ‬وبوري،‭ ‬وسترة،‭ ‬والمنامة،‭ ‬والمحرق‮»‬‭.‬

والحقّ‭ ‬أن‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا،‭ ‬وكتب‭ ‬التراجم‭ ‬التي‭ ‬ترجمت‭ ‬لعلماء‭ ‬البحرين‭ ‬لا‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬هذان‭ ‬الباحثان،‭ ‬فلم‭ ‬يُعْرَف‭ ‬وجود‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬المنامة،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬المحرق،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬هلتا،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الغريفة،‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬كنّا‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬المدرسة‭ ‬بوصفها‭ ‬مجمعًا‭ ‬علميًّا،‭ ‬يقصده‭ ‬الطلاب؛‭ ‬ليجلسوا‭ ‬إلى‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬غالبًا‭ ‬من‭ ‬الفقهاء،‭ ‬كما‭ ‬حددناه‭ ‬سابقًا،‭ ‬أمّا‭ ‬إذا‭ ‬كنّا‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬الكتاتيب‭ ‬فلا‭ ‬تكاد‭ ‬قرية‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كتّاب،‭ ‬فلا‭ ‬وجه‭ ‬إذن‭ ‬لتخصيص‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬أو‭ ‬المدن‭.   ‬

ولخلو‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬العلمية،‭ ‬واشتهار‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر‭ ‬بها،‭ ‬وجدنا‭ ‬العلماء‭ ‬المشهورين‭ ‬يرحلون‭ ‬عن‭ ‬بلدانهم؛‭ ‬ليواصلوا‭ ‬مشوارهم‭ ‬العلمي،‭ ‬فيدرسون،‭ ‬ويزاولون‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬المشهورة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬المعروف‭ ‬عن‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬السماهيجي،‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬بلاده‭ (‬سماهيج‭)‬،‭ ‬وتتلمذ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي‭ ‬في‭ ‬قريته‭ (‬الماحوز‭)‬،‭ ‬ولمّا‭ ‬اشتدّ‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬عوده،‭ ‬صار‭ ‬مدرّسًا‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ (‬بوري‭)‬،‭ ‬و‭(‬القدم‭)‬،‭ ‬و‭(‬أبي‭ ‬أصبع‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬نصّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بصراحة‭ ‬في‭ ‬إجازته‭ ‬المبسوطة‭ ‬للجارودي،‭ ‬حين‭ ‬ذكر‭ ‬أنّ‭ ‬الجارودي‭ ‬‮«‬قد‭ ‬سمع‭ ‬مني‭ – ‬وقت‭ ‬مهاجرته‭ ‬إلى‭ ‬البحرين،‭ ‬حميت‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬واليها‭ ‬عن‭ ‬الحين،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بمدرستي‭ (‬بوري‭) ‬و‭(‬القدم‭) ‬صانهما‭ ‬الله‭ ‬عن‭ ‬العدم‭ – ‬جملةً‭ ‬وافرة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الحديث‭ ‬وقت‭ ‬الدرس‭ ‬بقراءة‭ ‬الغير‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الكافي‭ ‬أصولا‭ ‬وفروعًا،‭ ‬والتهذيب‭ …. ‬وشيئًا‭ ‬من‭ ‬الفقه‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الشرائع،‭ ‬وشرحيه‭: ‬المدارك‭ ‬والمسالك،‭ ‬والإرشاد،‭ ‬والمختلف‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬أبي‭ ‬أصبع‮»‬‭.‬

ويبدو‭ ‬أنّ‭ ‬الشيخ‭ ‬السماهيجي،‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬بعد‭ ‬رحلته‭ ‬العلمية‭ ‬تلك‭ ‬إلى‭ (‬سماهيج‭) ‬مسقط‭ ‬رأسه،‭ ‬وأسس‭ ‬فيها‭ ‬مدرسة،‭ ‬كما‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬إشارة‭ ‬الشيخ‭ ‬إبراهيم‭ ‬المبارك‭ (‬1399ه‭/ ‬1978م‭) ‬إليها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬حاضر‭ ‬البحرين‭)‬‭.‬

والمعروف‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الشيخ‭ ‬حسين‭ ‬العصفور‭ (‬1216ه‭/ ‬1801م‭) ‬أنه‭ ‬هاجر‭ ‬من‭ (‬الدراز‭) ‬مسقط‭ ‬رأسه؛‭ ‬ليلتحق‭ ‬بمدرسة‭ (‬الشاخورة‭) ‬طالبًا‭ ‬فيها،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬شيخها،‭ ‬بل‭ ‬شيخ‭ ‬البحرين‭ ‬الأكبر‭.‬

وقد‭ ‬ذكر‭ ‬السماهيجي‭ ‬في‭ ‬إجازته‭ ‬مدرسة‭ ‬أخرى،‭ ‬هي‭ ‬مدرسة‭ ‬الشيخ‭ ‬داود‭ ‬الجزائري‭ ‬البحراني،‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬كتب‭ ‬كتبًا‭ ‬كثيرة‭ ‬بيده‭ ‬المباركة،‭ ‬ووقفها‭ ‬مع‭ ‬كتبٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬بخطّه‭ ‬وخطّ‭ ‬غيره،‭ ‬تقرب‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬مئة‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬ببيته‭ ‬بالجزيرة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬نصّ‭ ‬السماهيجي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المشهور‭ (‬منية‭ ‬الممارسين‭) ‬على‭ ‬تلقّي‭ ‬أستاذه‭ ‬الشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ (‬الحجر‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬كتب‭ ‬التراجم‭ ‬بعض‭ ‬مدارس‭ (‬جدحفص‭)‬،‭ ‬ومنها‭ ‬مدرسة‭ ‬الشيخ‭ ‬داود‭ ‬بن‭ ‬شافيز،‭ ‬فإنّ‭ ‬‮«‬مدرسته‭ ‬هي‭ ‬المسجد‭ ‬المسمّى‭ ‬بمدرسة‭ ‬الشيخ‭ ‬داود،‭ ‬الشائع‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬عوامّ‭ ‬عصرنا‭ ‬بمدرسة‭ ‬العريبي‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬مدارس‭ ‬جدحفص‭ (‬مسجد‭ ‬السدرة‭) ‬الذي‭ ‬وصفه‭ ‬العلامة‭ ‬الشيخ‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬كمال‭ ‬الدين‭ (‬1091ه‭/ ‬1680م‭) ‬بأنه‭ ‬‮«‬مدرسة‭ ‬العلم،‭ ‬ومجمع‭ ‬أولي‭ ‬الفضل‭ ‬والحلم‮»‬‭.‬

أمّا‭ ‬الشيخ‭ ‬إبراهيم‭ ‬المبارك‭ ‬فقد‭ ‬ذكر‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ (‬فاران‭)‬،‭ ‬نسبها‭ ‬للشيخ‭ ‬محمد‭ ‬الفاراني،‭ ‬ومدرسة‭ ‬في‭ (‬عالي‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬ينسبها‭ ‬لأحد،‭ ‬وثالثةً‭ ‬في‭ ‬كرزكان،‭ ‬قال‭ ‬إنّه‭ ‬رأى‭ ‬آثارها،‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬مدرسةٍ‭ ‬في‭ (‬سَبْسَب‭) ‬خربت‭ ‬بخراب‭ ‬القرية‭.‬

وقد‭ ‬خلّد‭ ‬الأدباء‭ ‬البحرانيون‭ ‬أسماء‭ ‬بعض‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭ ‬العلمية،‭ ‬التي‭ ‬استمرّ‭ ‬عطاؤها‭ ‬حتى‭ ‬وقتٍ‭ ‬متأخر‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الهجري،‭ ‬ومن‭ ‬أولئك‭ ‬الأدباء‭ ‬الشاعر‭ ‬السيد‭ ‬خليل‭ ‬الجدحفصي‭ (‬1310ه‭/ ‬1892م‭)‬،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭:‬

يا أبا أصبعٍ نعمتِ صباحًا     حيثُ كنتِ المحلَّ للأخيارِ

وسموتِ على قرايا أوالٍ       بسماحٍ ورفعةٍ وفخارِ

وكمالٍ وعزّةٍ وجلالٍ            وبهاءٍ وعفّةٍ ووقارِ

وعلومٍ وحكمةٍ وصلاحٍ        وانتصارٍ للدينِ واستنصارِ

كم تقيٍّ مهذّبٍ أريحيٍّ            طاهر الفرعِ فيكِ زاكي النجار

ما حوت مثلكِ المفاخر إلا       جدّحفصٍ لا نجدُ أو ذو قارِ

والديار التي تقاصر عمّا         قد حوته ذو النثر والأشعار

توبليٌّ لا أبعد الله عنّي            توبليًّا وليت كانت جواري

ما أرى غير ذي الثلاث ديارًا       منبع العلم معدن الأبرار

فعليها الصلاة تترى متى ما     قد تجلّت للناس شمس النهار

ويبدو‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬نالت‭ ‬شهرة‭ ‬فاقت‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬المدارس،‭ ‬فتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬مركزية؛‭ ‬إما‭ ‬لوقوعها‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬البلاد‭ ‬السياسية،‭ ‬أو‭ ‬لوجود‭ ‬المرجع‭ ‬الديني‭ ‬للبلاد‭ ‬فيها،‭ ‬ولعلّ‭ ‬أشهر‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬مدرسة‭ (‬البلاد‭ ‬القديم‭) ‬التي‭ ‬اتّخذت‭ ‬من‭ ‬مسجدها‭ ‬المعروف‭ ‬تاريخيًّا‭ ‬بـ‭(‬المشهد‭ ‬ذي‭ ‬المنارتين‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬يعرفه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬بـ‭(‬مسجد‭ ‬الخميس‭) ‬مقرًّا‭ ‬لها،‭ ‬بوصفها‭ ‬المدرسة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬وفيها‭ ‬تقام‭ ‬مراسم‭ ‬تقليد‭ ‬القضاء‭ ‬وغيره،‭ ‬فلمّا‭ ‬قُلّد‭ ‬السيد‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬السيد‭ ‬عبد‭ ‬الرءوف‭ ‬الموسوي‭ ‬القضاء،‭ ‬والأمور‭ ‬الحسبية‭ ‬‮«‬أُفْرِغت‭ ‬عليه‭ ‬الخِلَع‭ ‬من‭ ‬الديوان،‭ ‬وذلك‭ ‬بالمشهد‭ ‬المعروف‭ ‬بذي‭ ‬المنارتين،‭ ‬من‭ ‬أوال‭ ‬البحرين،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ثالث‭ ‬عشر‭ ‬شهر‭ ‬صفر‭ ‬السنة‭ ‬السادسة‭ ‬بعد‭ ‬الألف‮»‬‭ .‬

ولأهمية‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة،‭ ‬يُنْقَل‭ ‬من‭ ‬يعيَّن‭ ‬في‭ ‬منصب‭ ‬مشيخة‭ ‬الإسلام‭ ‬إليها،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬البلاد‭ ‬القديم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬وجدناه‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬الشيخ‭ ‬سليمان‭ ‬الماحوزي،‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬سكن‭ ‬البلاد‭ ‬القديم،‭ ‬وبها‭ ‬توفي،‭ ‬وكان‭ ‬الأكثر‭ ‬إذا‭ ‬انتهت‭ ‬الرئاسة‭ ‬لأحد‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬القديم،‭ ‬ينقله‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬إليها؛‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬هي‭ ‬عمدة‭ ‬البحرين،‭ ‬ومسكن‭ ‬الملوك‭ ‬والتجّار،‭ ‬والعلماء‭ ‬وذوي‭ ‬الأقدار‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة،‭ ‬حين‭ ‬حاقت‭ ‬بالبلاد‭ ‬القديم‭ ‬الأخطار،‭ ‬وصار‭ ‬تركيز‭ ‬الغزوات‭ ‬عليها،‭ ‬بوصفها‭ ‬عاصمة‭ ‬البحرين‭ ‬السياسية،‭ ‬تخلّت‭ ‬مدرسة‭ (‬البلاد‭ ‬القديم‭) ‬عن‭ ‬ريادتها،‭ ‬وحلّت‭ ‬محلّها‭ ‬مدرسة‭ (‬الشاخورة‭)‬،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬جعل‭ ‬المرجع‭ ‬الديني‭ ‬الأكبر‭ ‬يومذاك،‭ ‬أعني‭ ‬الشيخ‭ ‬حسين‭ ‬العصفور‭ (‬1216ه‭/ ‬1801م‭) ‬من‭ ‬بيته‭ ‬مقرًّا‭ ‬لتلك‭ ‬المدرسة،‭ ‬وقد‭ ‬اجتمع‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬جماعة‭ ‬كثيرة،‭ ‬يطول‭ ‬ذكرهم‭… ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬وقبله‭ ‬عامرةً‭ ‬بالعلماء‭ ‬الأعلام‭ ‬الأنجاب،‭ ‬والمشتغلين‭ ‬والطلاب،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬من‭ ‬الحوادث‭ ‬الكثيرة‭ ‬والخراب‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬تخرّج‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الشيخ‭ ‬حسين‭ ‬هذه‭ ‬عدد‭ ‬كبيرٌ‭ ‬من‭ ‬العلماء،‭ ‬أحصى‭ ‬فاضل‭ ‬الزاكي‭ ‬منهم‭ ‬ثلاثين‭ ‬واثنين،‭ ‬شارك‭ ‬جلّهم‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬العلمية‭ ‬بما‭ ‬صنّفوا‭ ‬من‭ ‬كتبٍ‭ ‬ورسائل‭ ‬في‭ ‬صنوف‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭. ‬

وبعد‭ ‬مقتل‭ ‬الشيخ‭ ‬حسين‭ ‬العصفور‭ ‬سنة‭ (‬1216ه‭/ ‬1801م‭)‬،‭ ‬واضطرار‭ ‬الفقهاء‭ ‬من‭ ‬أولاده‭ ‬وغيرهم‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬البحرين،‭ ‬نقل‭ ‬تلميذه‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬الستري‭ (‬1267ه‭/ ‬1850م‭) ‬المدرسة‭ ‬المركزية‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ (‬الخارجية‭) ‬في‭ ‬سترة؛‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الستري‭ ‬يومئذٍ‭ ‬عالم‭ ‬البحرين‭ ‬الأبرز،‭ ‬وشيخها‭ ‬الأكبر،‭ ‬فاجتمع‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭.

علي الديري: “أخطر حتى من داعش” رحلة مثيرة في نصوص متوحشة

جريدة الجريدة: فكرتان رائجتان اليوم حول نشأة تنظيم «داعش» الإرهابي. «إنه رد على تحديات عصرنا». هذه واحدة من الأفكار التي يدافع عنها أحد أبرز الفلاسفة السياسيين إثارة للجدل في عصرنا فرانسيس فوكوياما. لكن ماذا لو أنها لم تكن كذلك، وكانت «داعش» على العكس تماماً فكرة عميقة الجذور وأبعد زماناً من زماننا بكثير. على الأقل، هذا ما يدافع عنه الناقد د. علي الديري الذي انتهى حديثاً من رحلة بحث غاص فيها في عشرات بل مئات الوثائق والمصنفات التي تمثل ما يمكن اعتبارها نصوصاً مؤسسة للفكر الإرهابي. إنها «النصوص المتوحشة» أو نصوص التوحش التي تستند إليها حركات التطرف كافة في تأصيل فكرها ومنهجها الدمويّ. وهي نفسها عنوان الكتاب الذي دوّن فيه خلاصات هذه الرحلة البحثية الشاقّة والصادر حديثاً (2015) عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية». وحول ذلك يقول الديري: «ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية».

حاول الديري تتبع جذور «داعش» ليس من الآن؛ إنما انطلاقاً من نصوص التكفير في القرن الخامس الهجري (الغزاليّ) مروراً بالقرن السادس الهجري (ابن تومرت) وانتهاء بالقرن الثامن الهجري؛ حيث بلغ التكفير أوج قوّته مع إسلام ابن تيمية. ويجادل بأن هذه النصوص «هي التي تغذي التكفير الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته»، موضحاً «بضغطة زر في يوتيوب يمكنك أن تعثر على دروس  تركي البنعلي وهو يشرح هذه النصوص منذ أن كان في البحرين».

للمزيد حول ذلك التقينا الناقد علي الديري للحوار حول مؤلفه الجديد.

نصوص متوحشة”.. وأفعال كارثية مدمرة، رأينا نتائجها في الوطن العربي، وها هي تفجع المملكة العربية السعودية والكويت وتهدد الدول المجاورة، ما الذي يحدث؟”

في الوقفة الاحتجاجية على الفيلم المسيء للنبي، أمام السفارة الأميركية بالبحرين في 2012، وقف منظر داعش الشرعي تركي البنعلي محاطاً بأعلام القاعدة وتكبيرات الجمهور، وهو يرفع كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول): (عليكم أن تأخذوا إسلامكم من الإمام الجبل الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث صنف هذا الكتاب لما تجرأ عساف النصراني على شتم الرسول).

هذا الكتاب واحد من نصوص التوحش، التي لا نجرؤ على نقدها، بل هي تحظى بحماية ورعاية وترويج، وتعتبر منهجاً فكرياً مشتركاً لحركات متطرفة ولنظام سياسي له سطوته في السياسة الإقليمية والدولية. تفجيرات مساجد الشيعة في الدمام والقديح والصوابر وقبلها في مأتم الدالوة، كلها تمت من خريجي هذا المنهج وأتباعه. والمثقفون والإعلاميون لا يجرأون على قول هذه الحقيقة، بل هم يغمغمون عليها، فيفاقمون من أمراض التوحش في بيئاتهم.

إنها نصوص منسلخة من الإنسانية، يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) على القتل البشع الذي يمارسه (داعش) اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة.

ومن هنا اتخذ كتابك الجديد «نصوص متوحشة» عنواناً، ماذا عن تصدر شعار حركة «داعش» مموهاً، لم اخترت هذا التشكيل عنوانا لكتابك الجديد؟

اللوحة للصديق الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، نشرها على صفحته في الفيسبوك، مع صعود نجم (داعش) ودخوله الموصل، وجدتها تعبر عن مفهوم (نصوص التوحش) تعبيراً فنياً رائعاً، هي تستخدم شعارهم مقلوباً في إشارة إلى أنهم يقرأون النصوص قراءة مقلوبة، ويفهمون شعار الإسلام فهماً مقلوباً، يفهمون الرحمة توحشاً والتوحيد توحداً بمعنى أنهم وحدهم الذين لا شريك لهم في فهم الإسلام وكل ما عداهم مشركون وكافرون ويجب قتلهم ليبقوا وحدهم. في داخل اللوحة ثمة علامة استفهام، وهي تثير تساؤلاً عن الإله الذي يتكلم باسمه هؤلاء والرسول الذي يدعون أنهم يطبقون رسالته.

في مقابل هذا الفهم الساذج المتوحش لـ (لا إله إلا الله)، ثمة الفهم الصوفي العميق في روحانيته، كما في تجربة جلال الدين الرومي مثلاً وهو يقول “من ذا الذي نجا من (لا) – قل لي؟ -هو العاشق الذي رأى البلاء). يقيم الرومي جدلاً روحياً بين (لا)، و(إلا) في (لا إله إلا الله) لكل منهما مقامها الروحي الذي يفتح قلب الإنسان على الكون وكائناته وإلهه.

قبال تجربة العشق، ثمة تجربة التوحش التي جعلت لشعار (لا إله إلا الله) معنى وحيداً هو (جئناكم بالذبح). وجدت في لوحة عباس يوسف هذا العمق المعبر عن كل ذلك.

تطرف الإسلام السياسي

ركزت على حركة “داعش”، أتجدها وفق هذا العنوان الجماعة الإسلامية الأكثر تطرفاً أم تجدها مثالاً يمكن أن نقرأ من خلاله تطرف الإسلام السياسي، أياً كان مذهبه؟

ينطلق كتابي (نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) من لحظة داعش الآن، لكنها ليست موضوع الكتاب، فأنا ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لافقهية.

حاولت قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري}، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.

يتغذى التكفير، الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته، من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي تركي البنعلي، وبضغطة زر يمكنك أن تعثر في اليوتيوب على دروسه وهو يشرح هذه النصوص حين كان في البحرين، والأكيد أن طلابه ما زالوا يواصلون رسالته، وربما أحدهم يعد عدته لتفجير يوم الجمعة المقبل.

بين فكر متشدد تكفيري وفكر يدعو إلى الانفتاح والعقلانية وجدت الصورتان على السواء، ما قضية الأوطان مع الأفكار؟

الوطن هو فعلاً فكرة، فكرة الوطن في زمن الخلافة الإسلامية، ليست هي نفسها فكرة الوطن اليوم بعد أن راح عشرات المفكرين والفلاسفة يصوغون مفاهيم: المواطنة، العقد الاجتماعي، السلطات الثلاث، التعددية، الدستور، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لهذه الأفكار.

ما زلنا نصارع لأجل بلورة الوطن واقعاً حقيقياً نعيش فيه، وأعني المعنى المباشر لكلمة صراع الذي يهدف إلى تحقيق اعتراف، اعتراف بي كمكون للوطن، لا كتابع أو ملحق. أفهم وجود صورتي في قائمة واحدة في يناير 2015 مع منظر(داعش) في صحيفة رسمية في وطني، انتقاصاً من مواطنتي وما أنتمي إليه من طيف سياسي واجتماعي وديني.

وكما دفع روسو وفولتير وغيرهما حياتهم ثمناً لبلورة مفاهيم الدولة الحديثة، فعلينا نحن كمثقفين، وكمثقفين خليجيين خصوصاً، أن ندفع حياتنا ثمناً لتحقيق هذه المفاهيم في أوطاننا التي هي شبه أوطان.

أرثوذكسية السلاجقة

 ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.
هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان ثمة المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة. وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثَّل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

 ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك (الأرثوذكسية) في قراءته التراث الإسلامي و(الأرثوذكسية) في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من السلطة السياسية.
احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوماً أحادياً وقطيعاً لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة.

جريدة الجريدة في حوار عن نصوص متوحشة

رابط الموضوع

نصوص متوحشة: قراءة سياسية لفكرة التكفير

عبد الرحمن جاسم

“لا تتسرعوا في ابداء الحكم، ففي ذلك مقتل”
راينر ماريا ريلكه (شاعر ألماني)

منذ البداية أحسست بأنني مشدود لقراءة كتاب “نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيميه” لكاتبه البحراني د. علي الديري، قبل أي شيء، فتمهيد الكتاب –والذي أنصح الجميع بقراءته- هو “عين” الدكتور علي وروحه التي تبدو معلقة بين الكلمات. إنه يريد منا جميعاً أن نفهم ما هو هدفه الخاص من جراء هكذا “دراسة” .  تبدو الأسباب الشخصية بائنةً للعيان. قد يرى البعض هذا مشكلةً في النص، بل قد يراها بعض آخر أنها “تضعفه” ولكن المدرسة الحديثة في “الأبحاث” ترى أن “رغبة” الشخص “الخاصة” في “كشف” الحقيقة و”إيضاحها” للناس تجعله باحثاً “شرساً” ومغامراً عنيداً في سبيل المعرفة، لا بل إن بعض الجامعات يحض عليها، وتعطي الأفضلية للباحثين المرتبطين بقضايا شخصية مع المادة “المبحوث” فيها وعنها.

هذا كله، لم يمنع حس الناقد بداخلي من التحرك، كنت أريد أجوبة عن أربعة أسئلة يعتبرها الناقد سلاحه الأبرز: ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ أين؟. كنت أريد أن أسأل ماذا يكتنز هذا الكتاب؟ خصوصاً لعلمي أن الدكتور علي يمتلك خلفيةً مرتبطة بتحليل الخطاب، وكذلك كيفية استعمال “المجاز” فضلاً عن إدراكه كيفية استعمال “الفلاسفة” لمنطقهم التفكيري. لكن هذه المرة هو يتحدث عن “التكفير”، لربما لما للمعنى/الفكرة من أهمية في عصرنا الحالي أو كما كتبه هو على غلاف الكتاب: إننا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن لأن هناك وحشا حقيرا يسرق وجوهنا باسم الدين، والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية والأئمة الإسلاميين. يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادةٍ كما سائر العبادات من حيث كون التكفير شعيرةً دينية. ولا ريب أن هكذا كلمات هي الإجابة الرئيسية عن “ماذا” و”لماذا” هذا الكتاب.

ماذا عن “كيف” إذاً؟ يتناول د. علي القضية الشائكة بين أيدينا بهدأةٍ شديدة، وإن “بشراسة” المحقق، فهو يبدأ بتعرية الموضوع الماثل أمامنا تاريخياً متناولاً إياه “كموضوع سياسي” بحت، يعيده إلى مراحله الأولى من خلال ثلاثة فصولٍ يتناول فيها أبرز مراحل القضية المطروحة:
بيئة السلاجقة (في القرن الخامس الهجري) مع قراءة لنصوص الغزالي الخاصة بهذا النوع من الفكر، بيئة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وأخيراً بيئة القرن الثامن الهجري مع سلطة المماليك ونصوص ابن تيمية). يبدأ البحث من خلال “نقاشٍ تمهيدي” عن التكفير منقسماً بين “رجل الدولة ورجل الملة” وكيف أن كليهما ظهر بهذا الشكل الواضح والمباشر عند قيام الدولة السلجوقية بتطبيق “السلطة الدينية التكفيرية” كنظام حكم (وليس قبلها كما يدعي البعض، ففي السابق كان الأمر مجرد سلوكٍ فردي”، ولكن هذا لا يعني البتة اختراع السلاجقة للتكفير).

يتناول في الفصل الأول المرحلة السلجوقية الأولى التي أدخلت المفهوم كتحرك سياسي “نظامي”، فيتحدث عن كتاب “سياست نامه” أو ما عرف بالعربية بكتاب “سير الملوك” للوزير السلجوقي الشهير نظام الملك الطوسي، وزير ملكشاه ابن محمد؛ إنه كتابٌ يعين “الحاكم على أمته” ويدله على أيسر وأبسط السبل التي تجعله قادراً على “خنق” معارضيه والإمساك بتلابيب الحكم حتى يشاء. أنشأ الوزير نظام الملك مدارس عرفت باسم المدارس النظامية، هذه المدارس التي من شأنها حماية الحكم السلجوقي ونشر “المذهب الشافعي” الذي كان نظام الملك “متعصباً شرساً” له، ولمعاداة الشيعة الإسماعيلية تحديداً (الذين كانوا يمتلكون قوة آنذاك).

لقد كانت هذه المدارس التي انتشرت بكثرة سبباً رئيسياً في تخليق “الأرثوذكسية” الدينية (وهو مصطلح استعمله محمد أركون بدايةً لتوصيف تأطير الدين بهذه الطريقة القاسية). وقد تأطر هذا النظام إلى الدرجة التي أصبح فيها ممثلاً للدولة السلجوقية بأكملها. طبعاً هذه كانت المرحلة الأولى من “التكفير” لتتبعها المرحلة الثانية مع أبي حامد الغزالي، ويستعير كتاباً للرجل وهو “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” وفيه يتعامل الغزالي مع الباطنيين بمنطق “التكفير” المطلق وبصفتهم خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة حكماً، فيما يظهر كتابه “فضائل المستظهرية” كتكريس لشرعية الخليفة العباسي المستظهر بالله (والذي كان في الـ 17 فقط من عمره آنذاك) كخليفة حق وولي أمر مفترض الطاعة. يظهر “التوحش” ههنا بشكلٍ واضح: إذ يكفي أن نعرف فقط أن أكل ذبائح “هؤلاء” هو “محرم” حتى نعرف عمّ تحدث الغزالي هنا، إن هؤلاء يصبحون حين تكفيرهم: خروجاً عن الإنسانية بشكلٍ كامل قاطع.

nousous 3

قراءة سياسية لفكرة التكفير

يأتي الفصل الثاني ليبتعد قليلاً عن مركزية الدولة المتمركزة في بغداد، ليقترب إلى المغرب العربي من خلال تجربة “دولة الموحدين” مع مفكرها ابن تومرت، الفقيه المغربي الشهير ورجل الدولة الأول هناك. وابن تومرت هذا لمن لا يعرفه، هو خريج من خريجي ذات المدرسة، أي النظامية، وقد التقى أثناء زيارته للمشرق والتي طالت سنين عدة (وقد أعطته هالةً مقدسة استخدمها في كل معاركه لاحقاً)، بالغزالي بحسب رواياتٍ كثيرة، وتأثر به كثيراً وقد أعجب الرجل بأسلوب أئمة الأشعرية واستحسن أسلوبهم في الدفاع عن العقائد السلفية، واستطاب رأيهم فيها. ربط ابن تومرت بين فكرتي التوحيد والتوحش معاً ودمجهما مع “لذة الجهاد”، وقد أدت “مواجهته” العنيفة مع “المرابطون” (الذين سيكون القاضي عليهم لاحقاً) وفقهائهم من المالكية إلى تخليق مذهبه الخاص وجماعته الخاصة التي دعت نفسها “الموحدون” في إيحاءٍ دقيق: نحن الوحيدون الذين نعتنق التوحيد الصحيح. ويستعير الدكتور علي كلماتٍ للذهبي في كتابه “العبر في خبر من غبر” حالة ابن تومرت: جره إقدامه وجرأته إلى حب الرئاسة والظهور وارتكاب المحظور”. ويشير الكتاب إلى أنَّ “عقوبة الحرق” (والتي استخدمتها داعش لاحقاً بعدهم بسنين) تم استخدامها من قبل “الموحدين”.

أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فهو يتناول لربما أحد أشهر الأسماء في “عالم” التكفير اليوم والتوحش بلغته الحديثة، إنه ابن تيمية متمظهراً في دولة المماليك وإن بفشلٍ كبير مقارنةً مع من سبقوه (فهو لم يتمكن من أن يؤسس دولةً، بل سجن، وبقيت كتبه تنتظر مئات السنين حتى ظهور محمد بن عبد الوهاب وتمكنه من جعلها عقيدة الدولة السعودية الرسمية في العام 1745 م). سيشتهر الرجل بعد معركة “شقحب” الشهيرة بين المغول والمماليك، والتي كان فيها بطلاً ونازع فيها السلطان الناصر بن قلاوون الضجة والشهرة، يومها قال ابن تيمية كلمته الشهيرة: “انا رجل ملة لا رجل دولة”. وهي جملةٌ “كاذبة” للغاية من رجلٍ يبحث عن “السلطة قبل أي شيء”. عارض الشيخ كل شيء، وأحكمت فتاويه “السيف” في جميع “المخالفين” والأقليات التي عدّها كلها “كافرة” وتستحق “الموت”، ولكن أبرز من عاداهم وللمفارقة هم “الأشاعرة” بالذات.

حارب الرجل مذهب الأشاعرة لا لسبب إلا لأنهم ينافسونه على ملعبه وبين جمهوره، فهم يقولون “زوراً وبهتاناً” بحسب كلامه إنهم “مذهب الدولة” و”مذهب أهل السنة والجماعة”. وهذا أمرٌ لا يرتضيه أبداً. تظهر الخلافات ههنا بين المذهبين وبحدةٍ أيضاً: فابن تيمية يحاسب الأشعري على كتابه الأخير الذي كتبه أي “الإبانة” ويعتبره أنه “سلفي” كما يرغب، بينما يأتي الأشاعرة ميالين لقراءة كل تاريخه والتعامل على هذا الأساس مع ما يحدث.

يشرح الفصل صراعات ابن تيمية الكثيرة ضد أي شيء يخالفه، وكل شيءٍ “يمكن استخدامه” لتضعيف خصومه والقضاء عليهم. ويكفي أن نتحدث عن “توحش” ابن تيمية في الرسالة “الفتوى” التي أرسها إلى السلطان الملك الناصر بن قلاوون حيث يعطيه فيها “الشرعية الكاملة” لكل ما قام به من مذابح قتل خلالها “الشيعة” المعارضين له، معتبراً أنه في كل 100 عام يأتي مجددٌ للدين وهذا المجدد هو قلاوون، ويعتبر أنَّ ما فعله الناصر هو نفس ما فعله الخلفاء الراشدون في حروب الردة، قائلاً في فتواه: “يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة”.

في الختام؛ هو كتابٌ ذو جهدٍ كبير وحثيث في تناول “التوحش” من منابعه، وكيف أنّه يتعدى مرحلة الفكرة الدينية بكثير ليصلها بفكرة السياسة، وكيف أن هذه الدول استخدمت الدين/المذهب كوسيلةٍ للقضاء على أعدائها دون أي مسوغٍ منطقي سوى ألعاب حواة من قبل شخصياتٍ كانت تمتلك لساناً حذقاً، وعقلاً خلبياً يمكنهم من “قتل معارضيهم بكل طمأنينة بال، وهدوء سريرة”.