نصوص متوحشة

كتاب “نصوص متوحشة” لعلي الديري

هناك اليوم في العالم الإسلامي عشرات وربما مئات الجماعات الدينية المتطرفة، التي تُمارس العنف والقتل بصورة عنيفة جدا، وتستخدم أبشع الطرق في قتل مخالفيها. وهذه الجماعات تدافع عن نفسها بأنها تستند في ممارساتها إلى فتاوى دينية يعترف بها جميع المسلمين، وكتباً فقهية يرجع إليها علماء المسلمين وفقهائهم، ولذا فإنها تدّعي دائما في بياناتها، وخطاباتها، ومنشوراتها، بأنها تمثل الإسلام الحقيقي، ولها ردود كثيرة على الفقهاء والمفتين الرسميين في الدول العربية، والمؤسسات الرسمية الدينية الإسلامية، مثل كتاب ” المجن في الرد على بشير بن حسن ” “للجهادي” البحريني تركي البنعلي، وكتاب ” الأقوال المهدية إلى العمليات الاستشهادية ” له أيضا، وكتاب ” مالك بن نبي في الميزان ” لأبو المنذر الساعدي ، و” أعذار المتقاعسين ” ليحيي اليحيى، ورسائل جهيمان العتيبي، وغيرها،وقد رأينا جميعا الفيلم الذي أذاعه تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) بعد إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا في 3 / فبراير / 2015،حيث ظهر احد مقاتلي التنظيم وهو يتلو بياناً مطولا قال فيه أنهم يستندون إلى فتوى لابن تيمية ( 661- 728 ) حول جواز الإعدام حرقاً باعتباره ” زجرا لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع”. ومن جانب آخر، فإن كثيرا من العلماء والمرجعيات الدينية الرسمية تنكرعلاقة هذه الجماعات بالدين؛ وتقول بأنها جماعات سياسية، وتقف وراءها أجهزة استخبارات عالمية وصهيونية لتشويه صورة الإسلام، وتمزيق الدول الإسلامية إلى دويلات طائفية، كما فعلت داعش في سورية والعراق، وتستدل على رأيها بآياتٍ قُرآنية تُحرم قتل النفس المحرمة إلا بالحق، ولذا نجد صمتا يسود موقف العديد من المؤسسات الفقهية الإسلامية عن جرائم التنظيمات المتطرفة بحجة أنها غير إسلامية، وكذلك،لم تصدر أي نقدٍ لطروحات هذه التنظيمات، أو ردا على ادعاءاتها، رغم الجرائم البشعة التي ارتكبتها في العديد من الدول العربية، ربما خوفا من أن يطال النقد ” نصوصا مقدسة “.

في هذا الكتاب ” نصوص متوحشة، التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية ” الذي صدر طبعته الأولى عن مركز أول للدراسات والتوثيق ببيروت سنة 2016، يحاول الباحث البحريني الدكتور علي أحمد الديري قراءة سرديات التكفير في سياقها السياسي. حيث يقول: ” أسعى في هذا المجال إلى قراءة نصوص ليس كاجتهادات فقهية أو عقائدية بل كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، كما هو الأمر مع كتاب الغزالي (فضائح الباطنية) الذي كتبه برسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين”.(1)، ويناقش المؤلف في هذا الكتاب نصوص التوحش ” في ثلاث بيئات سياسية، استخدمت التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري)، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن  تيمية” (2). ويقول المؤلف في مقدمة كتابه ” كما لا توجد جريمة من غير مجرم، ولا فساد من غير مفسد، فإنه لا يوجد توحش من غير وحش، والوحش هو هذه النصوص ومدارسها التي تبيح القتل وتأمر بالقتل من دون رادع نقدي، أو قراءة تاريخية أو قطيعة معرفية”. (3)

لقد وضع الديري ثلاثة شروط لتعريف نصوص التوحش وهي:

الشرط الأول: أن يكون النص آمرا بالقتل المادي، وليس مكفراً فقط للمسلم الذي يقر بالشهادتين،

والشرط الثاني: أن يكون النص فتوى أو حكماً منتجاً من فقيه وليس مجرد حديث يُروى،

والشرط الثالث: أن يكون النص ضمن فضاء سلطة سياسية تمثل قوة قائمة بالفعل”(4).

ويرى المؤلف بأن النصوص المتوحشة ” أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما عن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث فرضتها ظروف سياسية أيضا”. (5)

ابتدأ الديري مقاربته النقدية لنصوص التوحش بنقد نصوص الغزالي في كتابه ” فضائح الباطنية ” للإمام الغزالي، ويرى الكاتب أن الكتاب ظهر في سياق الصراع السياسي الذي كان قائما آنذاك بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة، واتخذ أشكالا متعددة، مثل: إنكار النسب العلوي للخلفاء الفاطميين، واتهامهم بالكفر والمروق من الدين والإلحاد، حيث يقول الغزالي  ” والقول الوجيز فيه أن يُسلك بهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات” (6)، ولم يقتصر الغزالي على الحكم بكفرهم فقط، وإنما أفتى بقتلهم وسفك دماءهم أيضا، حيث قال: ” نغتالهم ونسفك دماءهم، فانهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم. وان كانوا من الفرقة الأولى التي لم يحكم فيهم بالكفر، فهم عند القتال يلتحقون باهل البغي، والباغي يقتل” (7). كما لم تقتصر وظيفة الكتاب في تكفير الفاطميين فقط، وإنما تثبيت شرعية الخلفاء العباسيين أيضا، واعتبارهم خلفاء الله في أرضه وحجته على عباده،حيث كتب الغزالي فصلا بأكمله بعنوان  (في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله، حرس الله ظلاله)، وقال فيه عن الخليفة المستظهر العباسي: ” وأنه يجب على كافة علماء الدهر الفتوى، وعلى البت والقطع، بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ اقضيته بمنهج الحق، وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة، وبراءة ذمة المكلفين عند صرف حقوق الله تعالى إليه، وأنه خليفة الله على الخلق، وأن طاعته على كافة الخلق فرض”(8). ومن الملاحظ أن هذا الكتاب المليء بالعنف يناقض تماما الكتب التي ألفها الغزالي بعد عزلته الروحية التي استمرت خمسة عشر عاما تقريبا، ألّفَ خلالها عدة كتب مهمة تعتبر من المراجع المهمة في التراث الروحي للمسلمين، ولها أهميتها عند أهل التصوف والعرفان، وأبرزها كتاب ” إحياء علوم الدين “، وكتاب ” المنقذ من الضلال”، مما يؤكد السياق السياسي الذي ألف فيه الغزالي كتابه ” فضائح الباطنية”. وأن الغرض من تأليفه كان غرضا سياسيا وهو توظيفه في سياق الصراع الذي كان يدور آنذاك بين الدولتين العباسية والفاطمية.

ثم عرج الديري إلى نقد نصوص الفقيه المغربي ابن تومرت ( 473-524 )، وابن تومرت ينتمي إلى المدرسة السنية الأشعرية، وبالتالي فهو يتوافق كلاميا مع الإمام الغزالي، فكلاهما أشعريان، وقد تتلمذ ابن تومرت عند أئمة الاشعرية في المشرق، فهو يعتبر من تلاميذ المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك لتعزيز مدرسة الأشعرية ضد المدرسة الفاطمية الإسماعيلية التي كانت تهدد المشرق الإسلامي في تلك الفترة فكريا وعسكريا، ولكن الفرق بينهما أن النصوص المتوحشة للغزالي كانت موجهة للإسماعيلية الفاطمية، بينما كان عدو ابن تومرت هم المرابطون الذين كانوا يدينون بالمذهب المالكي في الفروع، بينما كانوا في الأصول يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى، يقول الديري ” توافر لابن تومرت الركن الأول بناء الدولة، فهو ابن عشيرة ( هرغه ) التي تنتمي إلى قبيلة (المصمودة ) البربرية ، هو يحتاج الآن لبلورة عقيدة صلبة تنظم قوة قبيلته لبناء دولة قوية” (9)وهذه العقيدة وجدها في المذهب الأشعري.

ألف ابن تومرت في العقيدة كتابه ” العقيدة المرشدة ” الذي اعتبره بمثابة دستور للموحدين حيث قدم فيه مبادئ ” الإسلام الصحيح ” حسب المعتقد الأشعري، عقيدة الدولة الموحدية. كما ألف ابن تومرت كتابا آخر بعنوان ” أعز ما يطلب ” ويحتوي على آراء ابن تومرت وتعاليمه في المسائل الإيمانية المختلفة، خاصة في الرد على ” المجسمة “، يقول الديري: ” في هذا الكتاب سنعثر على نصوص التكفير والتوحش، وعلى المنهاج الذي وضعه للدولة الموحدية في طريقة تعاملها مع المختلفين معها، وسنجد شرعنة القتل وسفك الدماء الذي اتبعته الدولة الموحدية ضد خصومها” (10). وينقل الديري نصا خطيرا من الكتاب المذكور ويحمل طابعا سياسيا وأيديولوجيا واضحا ضد دولة المرابطين، يقول النص : ” أمر رسول الله ” ص ” بمخالفة أهل الباطل في زيهم وأفعالهم، وجميع أمورهم، وفي اخبار كثيرة قال: ” خالفوا اليهود، خالفوا المشركين، خالفوا المجوس” وكذلك المجسمون، الكفار، وهم يتشبهون بالنساء في تغطية الوجوه بالتلثم والتنقيب، ويتشبه نساؤهم بالرجال في الكشف عن الوجوه، بلا تلثم، ولا تنقيب، والتشبه بهم حرام” (11)، طبعا النص موجه الى المرابطون الذين يتهمهم ابن تومرت بالتجسيم، كما ان المرابطون المغاربة يغطون وجوهم، حتى أصبحت الى اليوم جزءا من ثقافتهم.

ثم أستعرضه الديري النصوص المتوحشة للفقيه الحنبلي ابن تيمية والتكفير المملوكي على اعتباره الفترة التي عاش فيها ابن تيمية، في ظل الصراع بين المماليك من جهة وبين التتار أو المغول من جهة أخرى،حيث خاض الرجل حربا شرسة ضد الأشاعرة والشيعة الإمامية والعلويين وغيرهم من الطوائف الإسلامية، حيث يعتقد ابن تيمية أن الذي يمثل أهل السنة هو الإمام احمد بن حنبل وليس أبو الحسن الأشعري كما يرى غالبية المسلمين “، ومن أبرز الكتب التي الفها ابن تيمية في تأصيل مذهب الإمام احمد والرد على مذهب الأشاعرة هو كتاب ” العقيدة الواسطية “، وكتاب ” العقيدة الحموية “، ولكن هذه العقيدة  لم تصبح دستورا لأي دولة، حتى جاء محمد بن عبدالوهاب في القرن واستطاع بالتحالف مع محمد بن سعود ان يجعلها دستورا للدولة السعودية ولا تزال كذلك حتى اليوم.

ولقد لعب ابن تيمية دورا خطيرا في إعطاء السلطان الملك الناصر بن قلاوون ملك المماليك فتوى شرعية في جواز مقاتلة وقتل الشيعة في كسروان بالشام في سنة 1305، التي قام بها 50 ألف جندي وتعرف باسم (فتوح كسروان)، وقد اصدر ابن تيمية فتوى أشاد فيها بهذا الملكالذي قام بهذه المذبحة حيث قال فيها : ” وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوسه المئين”، وقال أيضا : ” وذلك أن السلطان أتم الله نعمته حصل للأمة بمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين ، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين” (12) . كما أفتى ابن تيمية للمماليك بقتال التتار الذي كانوا مسلمين وقدم تبريرا غريبا لجواز قتالهم بقوله: ” فهؤلاء القوم المسؤول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسب إلى الإسلام – وهم جمهور العسكر – ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول وليس فيهم من يصلي إلا قليلاً جداً وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة والمسلم عندهم أعظم من غيره “. (مجموع الفتاوى ج 28 ص 505).(13) إذاً، فإن ابن تيمية أفتى للمماليك بقتال الشيعة في كسروان بحجة أنهم كفار، وموالاتهم – حسب زعمه – للصليبيين، وأفتى لهم بجواز قتال التتار المسلمين بسبب امتناعهم الالتزام بشرائع الله، ولكن، السياسة كانت حاضرة في هذه النصوص المتوحشة.

من يقرأ كتب الجدل المذهبي طوال التاريخ الإسلامي يجد أن النصوص المتوحشة حاضرة فيها بقوة، وهذه النصوص تُوظف دائما في الصراعات السياسية. وكما أنها كانت حاضرة في الخلاف السياسي بين الفاطميين والعباسيين، وفي الحرب بين المماليك والتتار، وفي حروب ابن تومرت ضد المرابطين، فإنها حاضرة اليوم بقوة أيضا في الصراع في سورية والعراق واليمن، وستختفي عندما يتفق الفرقاء على إنهاء النزاع، ثم تعود مجددا في مكان آخر. ما لم يتم نقد هذه النصوص وتفكيكها وقراءتها ضمن سياقها التاريخي والمذهبي.

صالح البلوشي

رابط الموضوع الأصلي

نصوص متوحشة

حوار مع البحريني علي الديري: “داعش” تجلٍّ للنصوص المتوحشة للإسلام السلجوقي

“نصوص متوحشة.. التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية”

كتاب الناقد والكاتب البحريني الدكتور علي أحمد الديري. يُتوقع له أن يثير جدلاً واسعاً، وذلك لسخونة الأحداث التاريخية الذي يبحث فيها.

يقتحم الديري بمشرط نقده منطقة تاريخية ملتهبة، وفترة زمنية متأججة بالصراعات العقائدية والحروب السياسية. المنطقة هي مصر والشام والعراق، في الفترة بين القرنين الخامس والسابع الهجري تحديداً، ومن هناك يبحث في نصوص الفقهاء التي جعلت من التوحش عقيدة دينية، وشرعنت التكفير والقتل، بل جعلته فرضاً جهادياً واجباً، كما يدخل في تناول السياقات التاريخية والسياسية التي صنعت هذه النصوص ووجهتها.

ما علاقة كل هذا بوقتنا الحاضر؟ ولماذا العودة إلى هذه النصوص؟ ولماذا هذه الفترة وهذه البقعة الجغرافية بالذات؟ وما الذي يريد الديري الوصول إليه؟ هذا ما سيتبدى لنا من خلال الحوار التالي.

  1. سؤال: التوحش صفة في الغالب ترتبط بالحيوان فتصنفه ضمن دائرة الحيوانات المتوحشة. في حديثك عن النصوص المتوحشة، ما هو مفهومك للتوحش؟ وماذا تقصد بالنص المتوحش؟

يحيل موضوع التوحش إلى عالم الحيوان، حيث لا مكان لعقل يتحكم بغريزة. وتوحش الإنسان يتحقق بفقدانه لعقله فيغدو مسيَّراً بالغريزة. وبالعادة الغرائز تضيق بالآخر وتتسع للأنا، فيها الأنانية والعنف. ما أقصده بالتوحش، هو حالة فقدان الإنسانية التي من أهم سماتها العقلانية لصالح سيطرة الحالة الغريزية المحكومة بالغضب والاستحواذ.

يلفتنا الفيلسوف سلوترداك في كتابه (بنك الغضب) إلى أن طاقة الغضب التي في الإنسان وما يرتبط بها من دوافع أولية مثل الفخر والاعتزاز والانتقام والحسد والغيرة والتنافس، هي عرضة للاستثمار، عبر الخطابات التي تفجرها.

والنصوص المتوحشة، هي النصوص التي لا تعترف بالآخر، فلا تكتفي بتكفيره بل توجب قتله. فهي النصوص التكفيرية التقتيلية.

الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والإسلامية، وظواهر التطرف والتكفير، أحالتني إلى مراجعة نصوص التراث الإسلامي، للبحث عن الأسباب المغذية لهذه النصوص التي تنضح بالكراهية فحسب، بل  بإعطاء المبررات الدينية للقتل، إنها تخلع شرعية دينية على فعل القتل.

  1. سؤال: هل نفهم أنّ أحكام التكفير تستدعي القتل بشكل حتمي؟

يلفتنا الباحث الانثروبولوجي المرحوم فؤاد الخوري، أنّه ما من دين أو طائفة أو ملّة أو فرقة إلّا وتعتقد أنّ الله عزّ وجلّ قد خصّها برسالة مميزة أو ميثاق مميّز، وأنّه في سبيل ذلك فهو يقف إلى جانبها يشدّ أزرها ويعمل على انتصارها بطريقة أو بأخرى. كلّ الأديان “شعوب مختارة”، وإلّا لما بقي المؤمنون على إيمانهم.

علينا أن نميز بين التكفير والقتل، فالحكم بكفر الآخر يأتي من باب تحديده وفقاً لمنظور عقائدي معيّن، فالكافر هو الذي لا يؤمن بمعتقدات دينية لجماعة معينة، ونعته بالكافر تأتي من باب تحديد أنه خارج الإطار الديني الذي يجمع أفرادها. وقريب من هذا ما أسماه الشيخ أكرم بركاته في أطروحته للدكتوراه عن التكفير، بالإيمان المذهبي والإيمان الإسلامي، لكن هذا المصطلح قد لا يتوقف عند تحديد النظرة الدينية للآخر، بل قد يوجب قتله، وهنا يتحول النص الديني من مجرد نص تكفيري إلى نص متوحش، وهذا ما أهتم بمتابعته.

  1. وضع نص الغزالي في قائمة نصوص التوحش صادمة، فنصوصه المعروفة تحتفي بالتصوف والحكمة؟

أنا أتحدث عن الغزالي حين كان في بلاط السلاجقة قبل أن يدخل تجربته الروحية،  أبي حامد الغزالي صنف الآخرين من غير أهل السنة بين: ضال وكافر ومرتد، حتى وضع الإسماعيليين والفاطميين في خانة الفئة الأخيرة، وهي خانة تستوجب على الخليفة قتل المرتد وقتل زوجته وقتل ابنه إن لم يقبل الإيمان على منهج الخليفة.

لكن الغزالي وتحديداً في كتابه “فضائح الباطنية” لم يعمد إلى رسم هذه الحدود وفق معيار ديني خالص، فموقفه من الإسماعيليين والفاطميين كان مبنياً على خلفية موقفهم من الخلافة العباسية، وبتعبير أدق جاءت هذه التصنيفات نظراً لعداوة هاتين الفئتين مع السلاجقة، الذين كانت بيدهم الشوكة، حسب تعبير الغزالي، وحكموا باسم المدافيعن عن الأرثوذكسية السنية، أي الطريق المستقيم الوحيد لفهم الإسلام وسنة النبي.

في كتابه (فضائح الباطنية) يقول الغزالي “…وَإِنَّمَا الْوَاجِب قَتلهمْ وتطهير وَجه الأَرْض مِنْهُم هَذَا حكم الَّذين يحكم بكفرهم من الباطنية وَلَيْسَ يخْتَص جَوَاز قَتلهمْ وَلَا وُجُوبه بِحَالَة قِتَالهمْ بل نغتالهم ونسفك دِمَاءَهُمْ فَإِنَّهُم مهما اشتغلوا بِالْقِتَالِ  جَازَ قَتلهمْ”

إنه نص مرعب، وحين تقرأ تفصيله لهذه الأحكام، يصاب بدنك بالارتعاش، لكم العنف والتوحش الذي فيها.

  1. أعلنت أنك “خارج الطائفة” يوما.. وها أنت “خارج الوطن”. ألم تكن متهيئا لذلك وعدّتك الفكر ومناقشة التراث؟

لم تكفرني طائفتي حين كتبت كتابي، ولم تهدر دمي، ولم أعزل اجتماعياً، أقصى ما حدث كان صراعات كلامية، لكني حين صرت (خارج السلطة) أصبحت في دائرة الاستهداف وأسقطت جنسيتي.

المحنة تلاحق المثقف حين يكون (خارج السلطة أو السلطنة) ومنذ الخلافة الإسلامية، تمّ تحديد الكافر بأنه الخارج عن سلطة الخليفة، وخطاب التكفير مصاغ في تراثنا على هذا المقاس، وما زال حتى اليوم مقاساً فاعلاً، وأستطيع القول من جانب ما، إن التكفير في عصر الخلافة بمثابة إسقاط الجنسية في عصر الدولة الوطنية، وكلاهما يستخدمان أداة ضد المعارضين لسياسة الخليفة أو سياسة الحاكم.

(الغزالي) مثلا كتب نصوص التكفير بإملاء الوزير السلجوقي الداهية، نظام الملك، وقد صاغ خطاباً فقهياً اعتبر فيه معارضي السلاجقة والخلافة العباسية مرتدين، يجب قتلهم وسبيهم، هكذا بجرة فتوى صارت الدولة الفاطمية بعظمتها خارج الإسلام، ومن يؤمن بخلافتها كافر مرتد.

  1. كيف يمكن أن نكوّن مقاربة بين الكتب التراثية والحداثة، أو سمات العصر الحديث؟

عليك أن تخرج منها أولاً، ثم تجعلها موضوعاً للاشتغال النقدي، أو أنك ستتسمم بها وتموت وتميت الآخرين معك. المثال الأكثر وضوحاً هنا هو بعض الجامعات السعودية المتخصصة في الدراسات الإسلامية، تستميت في في تحقيق كتب ابن تيمية وفتاويه وتعممها وتعد حولها مئات الدراسات، لكن ليس بهدف فهمها كجزء من التراث والماضي، بل بغرض بعثها والعيش عليها والتعلم منها وإنتاج نسخة من الإسلام مطابقة لها، تحت عنوان الإسلام السلفي أو الإسلام الحنبلي أو إسلام العصر الذهبي: إسلام النبي والصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

الموت الذي نعيشه اليوم هو نتيجة للموت الذي بعثناه من نصوص ابن تيمية، والقنابل التي تفجر اليوم في أجساد المصلين، شفراتها منصوص عليها في حروف ابن تيمية المتوحشة. يقول محقق كتاب ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) “أما بعد فهذا الكتاب قنبلة من أقوى ما ألقى شيخ الإسلام على حزب الشيطان من قنابل الحق والهدى”

  1. ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.

هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان هناك المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة.

وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

  1. ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك “الأرثوذكسية” في قراءته للتراث الإسلامي و”الأرثوذكسية” في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من قبل السلطة السياسية.

احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.

السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوما أحاديا وقطيعا لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة بشهوة القتل وغريزة التوحش.

  1. هل يمكن اعتبار الجماعات المتشددة الحالية امتدادا للسلاجقة؟

أنا أعتبرها كذلك في جانب من جوانبها، فالسلاجقة جماعات مقاتلة لم تكن تجيد حتى العربية، ليس لديها خلفيات ثقافية، وجدت لذتها في الجهاد والقتال. جيوش السلاجقة وجدت في (تثبيت الأرثوذكسية السنية) فرصة لتثبيت شرعيتها في العالم الإسلامي السني، فالسلاجقة كمحاربين أتراك أشداء كانوا يفتقدون إلى العمق الحضاري أو الثقافي الذي يعطي لوجودهم معنى، إضافة إلى أنّهم بحاجة إلى شرعية تجعل من سلطتهم مبررة تحت مظلة الخليفة العباسي.

وقبل أن يجدوا في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، وجدوا ذلك في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تمّ توسيع دائرة العدو، فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهاً للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسببا في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.

لقد خلعت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) مدعومة بالسلطة السياسية (السلاجقة، الزنكيون، الأيوبيون) كل المعاني التأثيمية على كلمة (باطني)، وصار معنى السنة يتوضح بمعارضته لمدلول (الباطنية) التي صارت تدل على معاني متعددة وربما متضاربة من نحو: كافر، مرتد، منافق، إسماعيلي، فاطمي، رافضي، شيعي، يضمر الشر للإسلام، معادي للسنة، يكفر الصحابة، عدو، خائن، متهتك، ضال، مبتدع.

صار الجهاد هو القيمة الأكثر حضوراً فترة الحكم السلجوقي وما انبثق عنه من حكم الزنكيين والأيوبيين، وصارت الأرثوذكسية السنية كما تبناها هؤلاء هي الأيديلوجيا المعبرة عن فكرة الجهاد، فصار قتال الصليبين والباطنيية مهمة جهادية أولى.

شهوة الجهاد عند المقاتلين الأتراك أعطت لـ(السنة الصحيحة) مفهوما قاطعا كحد السيف، لا يقبل التعدد والاختلاف. فراحوا يوحدون الجغرافيا والأفكار والعقائد. هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير التي رسمها سيف الجهاديين الذين كانوا حماة الخلافة الإسلامية وشوكتها كما عبر الغزالي.

رابط الموضوع

النصوص التي تلهم التكفيريين

ما هي النصوص المتوحشة التي تلهم التكفيريين؟

يجب قراءة النص المتوحش في سياقه السياسي أي سياق اقترانه بالسلطة أو سياق سعيه لامتلاك السلطة، إن السلطة هي التي تمتلك قوة الأمر وقوة التنفيذ، والخطورة تكمن في أن تكون نصوص التوحش برسم السلطة.

 قراءة: باسمة عيسى*

يتألف كتاب “نصوص متوحشة … التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية” لمؤلفه الباحث والصحافي البحريني علي أحمد الديري والصادر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، من تمهيد ومدخل وثلاثة فصول، في كل فصل دراسة معمقة لتراث واحد من رموز فقهاء التوحش ومنتجي شعارات التكفير، الأول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ / 1111م) في كتابه (فضائع الباطنية وفضائل المستظهرية) في المرحلة السلجوقية، والثاني محمد ابن تومرت (ت 524 هـ / 1130م) في المرحلة الموحدية، والثالث ابن تيمية (ت 728 هـ/ 1328م) في المرحلة المملوكية. حاول الديري الرجوع إلى المنابع المؤسسة لثقافة التوحش وإهدار الدم بذريعة الدين، وربط سياق الجذور التاريخية لهذه المفاهيم بما يجري في عالم اليوم من مآسٍ وحروب باسم الدين، بغية تعرية هذا التراث الدموي وإدانته، وتأسيس رؤية دينية أكثر تسامحاً وإنسانية تحترم إنسانية الإنسان، وتصون حقوق البشر، وتنصف محاسن الحياة بكل تجلياتها الإنسانية.
يقرأ الباحث في كتابه “نصوص متوحشة … التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية”، نصوص التوحش كما يطلق عليها، كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، ويؤكد أن الإيمان ممارسة وعمل وليس مجرد عقيدة، وكذلك التكفير ليس مجرد معتقد، بل هو عبادة في خطاب التكفيريين تستدعي الممارسة. ويناقش الكاتب تلك النصوص من التراث الإسلامي باعتبارها نصوصاً فُرضت كعقيدة دينية وجهادية قامت بتكفير بل أوجبت تكفير كل مخالف لها، في الفترة الممتدة بين القرنين الخامس والسابع الهجري في الشام والعراق ومصر.
من هنا يجب قراءة النص المتوحش في سياقه السياسي أي سياق اقترانه بالسلطة أو سياق سعيه لامتلاك السلطة، إن السلطة هي التي تمتلك قوة الأمر وقوة التنفيذ، والخطورة تكمن في أن تكون نصوص التوحش برسم السلطة. اذاً التكفير بنظر الكاتب هو موضوع سياسي من حيث الدوافع والخلفيات، وهو بمثابة استراتيجية تضعها السلطة السياسية لمواجهة معارضيها، بل هو العدو الذي تصنعه الأحزاب الأيديولوجية أو الأحزاب الحاكمة في الدول الحديثة، لتحشد قواها الاجتماعية والسياسية ضده، وتحقق عبرها وحدة جبهتها الوطنية.
لقد صاغ الغزالي والسلاجقة وابن تيمية والمماليك وابن تومرت والموحدون، فصولاً وفتاوى متوحشة بحسب الكاتب، هذه الفتاوى أسست للتعاون بين رجال الدين ورجال السياسة، فالقتل والتكفير كانا دائماً لأسباب سياسة هدفها الترويج لمنهج الخليفة ولازمة سيطرته.وبحسب الكاتب، فإن تنظيم داعش وجبهة النصرة والجماعات الإسلامية المتطرفة التي ظهرت اليوم في المناطق نفسها التي تناولها كتاب الديري، ليست عملية مستجدة أو غريبة عن تراثنا، وليست نتيجة حتمية للجهل والتطرف التكفيري كما يروج لها البعض، بل هي صنيعة الفتاوى والمعتقدات القديمة والتي أسست عليها دولنا.وقد انطلق الكاتب من فرضية أن (الوحش يكمن في أرثوذكسية السنة السلجوقية)، وحاول تفسير السياق التاريخي والسياسي من خلال هذه الفرضية، مما أعطى مبرراً ومكّن هذه النصوص من أن تكون لها شرعيتها الدينية ومكّنها من تثبيت أطروحاتها ضمن الحس الإسلامي العام. ويستغرب الكاتب كيف أصبح التكفير موضوعاً سياسياً يشرعنه الفقهاء (رجل الملة) ، ضمن أجهزة الخلافة الإسلامية (رجل الدولة).
هنا فسّر الديري معنى الأرثوذكسية من خلال عرض تفسير المفكر الجزائري محمد أركون، الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح تفكيك الأرثوذكسية في قراءته للتراث الإسلامي، والتي تشير في معناها الحرفي الى “الطريق المستقيم” الذي يعتبر بمثابة السنّة الصحيحة، أي طريق النبي، حيث دعا اركون الى تفكيك هذه الأرثوذكسية، أي تفكيك النصوص التي تّدعي أنها وحدها تمثل الإسلام الصحيح، والمراد من تفكيكها هو إعادة إنتاجها، بعد تفكيك السياقات السياسية والتاريخية التي تقوم عليها. وقد صاغت خطابات التكفير والتوحش في ثقافاتنا، أسماء كثيرة، منهم الغزالي في كتابه (فضائح الباطنية ) و(الاقتصاد في الاعتقاد)، وابن تومرت في كتابه (أعز ما يطلب) وابن تيمية في كتابه (العقيدة الواسطية)، مجمل هذه الكتب مبنية على خطاب التكفير.

 الغزالي والتفكير السلجوقي

توقف الديري في الفصل الأول من كتابه عند فكر أبي حامد الغزالي، ودرس كتابه (فظائع الباطنية وفضائل المستظهرية)، وانطلق من هذا الكتاب لإيضاح المقصود من نصوص التوحش، لافتاً القارىء إلى الفصل الثامن من الكتاب والذي تناول فيه الغزالي قضية تكفير الباطنية التي يقصد بها الإسماعيليين على وجه الخصوص، وضمناً تدخل فيها باقي الفرق الشيعية، ووجوب سفك دمائهم. سنرى الموت الجديد مبعوثاً من نصوص الغزالي الذي صنّف مَن ليس من أهل السنة الصحيحة بنظره، بين كافر ومرتد. قصد بذلك الإسماعيليين والفاطميين في عهده الذين اتهموا بالتحالف مع الصليبيين، مما أدى إلى هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.
فقد أُخفي جزء كبير من تاريخ الإسماعيليين والفاطميين، فقط لأنّهم لم يكونوا على مذهب الخليفة العباسي والسلاجقة الحاكمين باسمه. هكذا عمل نظام الملك، عبر أجهزة الدولة، وأحد أهم ادواتها المدارس النظامية على صياغة الأرثوذكسية السنية، بمعنى أنه وضع التسنّن المستقيم الصحيح الذي على الجميع أن يلتزم به، وأن العقيدة الصحيحة هي العقيدة التي أرساها الأشعري وما عداها ضلال وباطل وكفر. فقد أنشأ نظام الملك العديد من المدارس النظامية في العراق بهدف مواجهة المد الاسماعيلي الذي كان يقوم على اجتذاب الموالين له عبر القدرة الإقناعية المبنية على المنطق والفلسفة وأساليب الدعوة، حيث كان الدُعاة الاسماعيليون متمكنين تماماً من الحجة والمنطق والفلسفة.
وأراد نظام الملك أن ينشئ جهازاً يبرمج العقول وينتج جيشاً من الفقهاء يقومون بعمل مضاد لعمل هؤلاء، حيث اعتمدت المدارس النظامية المذهب الشافعي وطرحته بطريقة متعصبة جداً، وقد أفسح نظام الملك المجال للمذهب الحنفي لأن السلطان السلجوقي كان حنفياً. واستطاع نظام الملك أن يُخرّج في كل عام فريقاً كبيراً من طلاب العلم المشبعين بالبرنامج الذي أراده وأقرّه، كما استطاع تسميم عقائد الاسماعيليين وكل الفرق التي لها يتفق مذهبها مع مذهب الدولة.في كتاب “فضائح الباطنية” للغزالي، يتوغل الديري في نصوص التوح، التي تضيق بالمختلف الآخر الى درجة تكفيره وتضليله وسفك دمه، ويقول إن موقف الغزالي من الباطنية أساسه عدم إيمان هؤلاء إيماناً يتوافق مع أرثوذكسية إسلام السلطة في نهاية القرن الخامس الهجري.
وضع الغزالي الباطنية في مرتبتين: إحداهما توجب التخطئة والتضليل والتبديع، والأخرى توجب التكفير والتبرّي، وتحدث عن الصريح والكفر، الصريح في القرآن لا يقبل التأويل، وتأويله يُعد تكذيباً، ومن يكذب صريحاً في القرآن يعد كافراً، هكذا وظف الغزالي معرفته بالمنطق الأرسطي. وتحدث عن إنكار الحور العين، في سياق تدعيم فكرة تكفير من يكذب الصريح، حيث استخدم الغزالي افتراضاً يقول فيه “لو صرّح مصرّح بإنكار الجنة والنار والحور والقصور في ما بين الصحابة، لبادروا الى قتله واعتقدوا ذلك منه تكذيباً لله  الرسول”، والى ما ذلك من النصوص.ويستعير الديري ما يطلق عليه “فرهاد دفتري” أبرز المؤرخين المتخصصين في التاريخ الإسماعيلي في عالم اليوم، مصطلح (الخرافة السوداء) لوصف عمليات التشنيع التي مارسها الغزالي وغيره من علماء الخلافة العباسي ضد الإسماعيليين، كما أسهم الصليبيون الذين اشتبكوا مع الإسماعيليين في صناعة هذه الخرافة.يتوقف الكاتب عند الجزء الثاني من عنوان كتاب “فضائل المستظهرية” ليشير به إلى لقب الخليفة العباسي المستظهر بالله، فقد أراد الغزالي فيه تركيز شرعية الخليفة العباسي كخليفة حق، وولي أمر مفترض الطاعة، مقابل الباطنية كأهل باطن خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة، مستنفراً جميع قدراته الأصولية والمنطقية بالقدر الذي يفوق ما بذله في فضح الباطنية وإثبات كفرهم.لقد بلور نظام الملك أطروحة سياسية بالغة الدقة في كتابه الذي يعد واحداً من النصوص الدينية المتوحشة، وهي سياسة مثّلت الخلافة العباسية التي كان يحكم السلاجقة باسمها.
هذه النصوص بقيت ولا تزال تعمل إلى اليوم، وسياسة نظام الملك هي التي أنتجت هذه النصوص التي أتت في فترة متأخرة عنها. من هنا يرى الديري أن هذا النص الذي تركه الغزالي لنا في التعامل مع المختلفين سياسياً في لحظة صراع سياسي، يؤسس لحالة تفتح مجال التكفير على مدى الزمان، لأن الغزالي لم يشرّع لحرب هؤلاء لأنهم فقط باغون، أو لأنهم ضد الدولة، أو لأنهم أعداء، وإنما هو أسس نصاً خطيراً في تكفيرهم. نص التكفير يبقى لأنه بمثابة الحكم الشرعي الباقي ما بقي الزمان، بل إن نص التكفير يبقى ويستخدم ويولّد نصوصاً أخرى، ويجعل الاختلافات السياسية حالة عداء لا تنتهي، في حين أن الخلاف السياسي قد ينتهي.

 ابن تومرت ونصوص التوحش الموحدية
وإلى المغرب العربي والأندلس حيث يدرس الفصل الثاني من الكتاب نصوص الفقيه المغربي ابن تومرت رجل دولة الموحدين الأول، فقد بذل ابن تومرت مجهوداً كبيراً، ليأخذ العلم ويطلع على مكونات العقل الأرثوذكسي في أرضه الخاصة بالذات ويكتسب المشروعية الدينية. وتقول الروايات إنه تأثر كثيراً بالغزالي حتى أنه إلتقاه ودرس في المدارس النظامية التي أسسها الغزالي، والتي تعد جهازاً لتكوين نسخة مسيّسة من العقيدة الأشعرية.
ويعتبر ابن تومرت أحد الشخصيات الدعوية التي بنت دولتها على هذه العقيدة، وقد وجد ابن خلدون في هذا البناء إحدى ركائز نظريته في الدولة التي تقوم أولاً على العصبية القبلية وثانياً على الدعوة العقائدية.عاش ابن تومرت في بيئة أضعفها التفكك وأنهكها التهديد الصليبي للوجود الإسلامي في الأندلس والمغرب، وقد جاء وهو يفكر في مشروعإانقاذي يعطي للمسلمين بعضاً من هيبتهم المفقودة وعزهم المسلوب. ويرى الكاتب أن ابن تومرت هو أحد منتجي نصوص التوحش، وقد تعززت هذه الرؤية بعد دراسة شخصية ابن تومرت الذي قام برحلة مشرقية كونت مفهومه للسُنة، أي مفهوم العقيدة الأرثوذكسية أو الطريق المستقيم والصحيح، أو الإسلام الذي يراه من وجهة نظره إسلاماً صحيحاً يقود الى آخرة مضمونة للجنة.
ابن تومرت ابن عشيرة (هرغة) المنتمية الى قبيلة (المصمودة ) البربرية، احتاج الى بلورة عقيدة صلبة تنظّم قوة قبيلته لبناء دولة قوية، على الرغم من توافر الركن الأول لبناء الدولة لديه، وبدأ يشتغل على العقيدة، فكان المشرق المكان والرحلة والمدرسة، في نظرة ابن تومرت نجد لذة الجهاد هي نفسها عند السلاجقة، ومدرسة المعروف والمنكر أيضاً هي ذاتها كانت عند السلاجقة، أي أنهم ينطلقون من النسخة الأرثوذكسية نفسها، والعدو الخارجي نفسه (الصليبيون)، غير أن العدو الداخلي كان مختلفاً، السلاجقة كان عدوهم الباطنية، وابن تومرت عدوه المرابطون. وسيحتاج جهداً مضاعفاً لصناعة نصوص التوحش، وهو بحاجة الى أن يرد على الفقهاء المالكيين الذين يقفون معه على الأرضية نفسها.بلوّر ابن تومرت رؤيته عبر خطبه ورسائله ومناظراته التي ستُجمع فيما بعد، حين تتمكن دعوته من تكوين دولة، في كتاب أطلق عليه “أعز ما يطلب” الذي أصبح فيما بعد دستور الدولة الموحدية، وبدأ في تحديد ما هو الإيمان الصحيح وعلى أساسه بدأ دعوته وخاض مناكفته للدولة المرابطية. وبهذه الطريقة وظف مفهومه للسنة والألوهية توظيفاً سياسياً.
وفي الكتاب المذكور لابن تومرت، يذكر الديري أن نصوص التوحش والتكفير التي احتواها الكتاب، فاقت بكثير نصوص التوحش عند الغزالي، حيث نجد شرعنة القتل وسفك دماء كل من يختلف عن الدولة الموحدية.يقدم ابن تومرت كتابه باعتباره يفتح أبواب العلم الذي جعله الله سبب الهداية الى كل خير، إنها أبواب تفتح لنا أعز ما يطلب، كما يقول، ولكن حقيقتها تفتح أبواب جهنم على المرابطين. ومن عناوين هذه الأبواب: (باب في وجوب بغضهم ومعاداتهم على باطلهم وظلمهم )، ( باب في تحريم طاعتهم واتباع أفعالهم)، (باب في وجوب جهادهم على الكفر والتجسيم وإنكار الحق واستحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم)، (باب في وجوب جهاد من ضيّع السنة ومنع الفرائض)، ( باب وجوب جهادهم على ارتكاب المناكر والفجور وتماديهم على ما لا يؤمرون به). ويحشد في هذه الأبواب الكثير من الآيات والأحاديث لكي يطبقها على المرابطين. ويذهب المؤلف في مناقشة تفاصيل الصراع الذي نشب بين فقهاء المالكية والموحدين، إذ اعتبروهم من الخوارج بسبب العنف الذي قاموا به وبسبب خطابهم التكفيري لأهل السُنة.
ومن المفارقات الغريبة أن ابن تيمية وتلميذه الذهبي يستنكران على ابن تومرت ودولته سفك دماء المسلمين، والحكمة بشرعنة هذا السفك، ويتناسيان أنهما حين جاءا بعد وفاة ابن تومرت بأكثر من 130 عاماً، قد أنتجا نصوصاً أكثر توحشاً وتشدداً.
ابن تيمية والتكفير المملوكي
 في الفصل الثالث يستعرض الديري نصوص ابن تيمية وأثرها في تأسيس بذور الخطاب التكفيري في التراث الإسلامي، ويؤكد على مساعي ابن تيمية لتكوين العقيدة الرسمية للمماليك وهي عقيدة ابن حنبل، ولكنه لم ينجح وكان مصيره السجن. وبقيت نسخة ابن تيمية لعقيدة أهل السنة والجماعة تنتظر لحظة محمد عبد الوهاب، الذي نجح في جعلها عقيدة رسمية للدولة السعودية الأولى بعد ميثاق الدرعية عام 1745م بين رجل الملة محمد عبد الوهاب ورجل الدولة محمد ابن سعود.

يستعرض المؤلف نصوص ابن تيمية وأثرها في تأسيس بذور الخطاب التكفيري في التراث الإسلامي، ويذكر بعض النقاط التي أثّرت في تكوين ملامح الخطاب السياسي لدى ابن تيمية، الذي جاء في عصر انتهت فيه الدولة الأموية والدولة العباسية في مرحلتيها الأولى والثانية، وانتهى عصر الخلافة الراشدة. مع ولادة ابن تيمية، مضت خمس سنوات على سقوط  بغداد على يد المغول، واهتزاز المركز الإسلامي للخلافة الإسلامية، وانتهينا من دولة السلاجقة الي كانت ضمن الخلافة العباسية، وانتهينا من الدولة الزنكية التي كانت امتداداً للدولة السلجوقية وسلاطينها، وانتهينا من الدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين الأيوبي، القائد العسكري في الدولة الزنكية.لمع اسم ابن تيمية عقب الانتصار الذي تحقق للمماليك على المغول المسلمين في حرب إسلامية – إسلامية في معركة ” شقحب”، فقد وضع مشروعية لهذه الحرب وأنتج من خلالها نصوصاً تكفيرية متأثرة بهذا الجو، وقد أفتى لهم بالإفطار في رمضان ليتمكنوا من تحسين أدائهم في المعركة. وخرج ابن تيمية من كل ذلك بنجومية كاسحة نافس بها السلطان المملوكي نفسه، لذلك خشي السلطان الناصر بن قلاوون أن ينافسه أو ينقلب عليه، من هنا جاءت مقولة ابن تيمية الشهيرة “أنا رجل ملة لا رجل دولة” بمعنى أنه قال للسلطان: “لا تخشَ أن أنازعك في الملك”.يجري خطاب التكفير عند ابن تيمية وفق محددات السياسة، بمعنى أن ما حددته السياسية أنه كفر فهو بالنسبة لإبن تيمية كفر، وهذا ليس بمعنى الامتثال المباشر أو الخضوع إلى قرار سياسي، وليس بمعنى أنه لا يراعي الضوابط الشرعية، لكن باعتبار أن خطاب من يتحدث باسم أهل السنة والجماعة لا يمكن أن يخرج على خطاب السياسة، ذلك فإن إحدى مقتضيات الدين الأساسية عند أهل السنة والجماعة، هو عدم جواز الخروج على الإمام أو الخليفة حتى لو كان فاسقاً أو مغتصباً للخلافة أو شارباً للخمر أو ظالماً أو مستولياً على السلطة بالقوة، كما يوضح الكاتب.تحدث الديري عن ابن تيمية ونقده للأشعري، حيث أصبح سلفياً يرفض فكرة التأويل ويأخذ الصفات كلها حتى لو فهم من ظاهرها أنها تمثل تجسيماً أو تجسيداً.
وبرغم أن ابن تيمية وأتباعه يرفضون فكرة التجسيم والتجسيد والتشبيه، ويقولون نحن لسنا من أهل التجسيد، لكن خصومهم يقولون لهم إنكم بالإيمان بهذه الصفات على ظاهرها تجسمون وتجسدون. هنا أعاد ابن تيمية الخلاف مع الأشعري والأشعرية بعد أن أصبح هذا المذهب سائداً ومعروفاً ومسلماً به، أراد ابن تيمية أن يقول إن مذهب أهل السلف ليس هو مذهب الأشعرية، بل المذهب الصحيح هو مذهب أحمد بن حنبل، وهو مذهب الأشعري في كتابه “الإبانة”، وأن الأشعري قد تم تأويله من جماعته تأويلا خاطئاً.
وقد كتب ابن تيمية مطلِق القرن الرابع عشر الميلادي فتوى تاريخية شهيرة أرسلها إلى سلطان الممالك الناصر بن قلاوون، أعطى فيها المشروعية الدينية لتنفيذ مذبحة كسروان التي قام بها 50 ألف جندي من المماليك ضد الشيعة فيما عرف بـ(فتوح كسروان) وهي تسمية مشتقة من تهنئة الفتح التي وردت في نص الفتوى. ويعتبر المؤلف أن فتوى ابن تيمية يمكن عدّها فصلاً ملحقاً بكتاب (فضائح الباطنية) للغزالي، فهو يستعمل بعد 217 عاماً، تسميات الغزالي وتوصيفاته، ويتتطابق مع موقفه الشرعي والسياسي وعرضه لعقائد الإسماعيليين وكل ما هو مكوّن في الصورة الذهنية عن هؤلاء.أصبحت نصوص التكفير والتوحش لوائح اتهام سياسي جاهزة للاستخدام والتوظيف ضد الخصوم السياسيين والعقائديين، والفرضية التي ينطلق منها الديري في دراساته صاغها في هذه الجملة المختصرة: (الوحش يكمن في – أرثوذكسية السنة السلجوقية – هذا هو الوحش الذي يسرق وجوهنا) فـنص التكفير يبقى ويستخدم ويولّد نصوصاً أخرى، ويجعل الاختلافات السياسية حالة عداء لا تنتهي، في حين أن الخلاف السياسي قد ينتهي. ويصف الكاتب أفكار ابن تيمية بالمضطربة في مسألة التكفير بشكل عام، فقائمة ابن تيمية للتكفير تزيد وتتناقص،  وقد لخص الديري قائمة التكفير من وجهة نظر خطاب ابن تيمية، التى تشمل الفلاسفة والصوفية والباطنية والرافضة والجهمية، وتشمل حالات يمكن أن تنطبق على شخص مسلم أو جماعة مسلمة أخرى.

 *كاتبة وإعلامية لبنانية

نصوص متوحشة

الكتاب : نصوص متوحشة..
التكفير من ارثذوكسية السلاجقة الى سلفية ابن تيمية

تأليف /  علي أحمد الديري
عرض / أزهر الموسوي

سيمضي وقت طويل حتى يدرك المسلمون “والمتضررون” العلاقة بين الجرائم المتوحشة التي ترتكبها المنظمات التكفيرية وعلى راسها داعش ومنظومات الافكار الفقهية والتاريخية الموروثة عن بعض الاسلاف. لكن المؤلف فالبحريني علي احمد الديري يتوغل سريعا في هذه الغابة الكثيفة من الاحداث والصور رابطا ربطا تعليليا وبلغة ادبية شفافة وجميلة بين وقائع الحاضر الصعب وجذورها في التاريخ العربي الاسلامي. في كتاب “نصوص متوحشة.. التكفير من ارثذوكسية السلاجقة الى سلفية ابن تيمية” الصادر عن مركز اوال للدراسات والتوثيق يفاجئ قراءة بنصوص متوحشة اخذت صفة العقيدة الدينية التي اوجبت كفر المخالفين خاصة بين القرنين الخامس والسابع الهجري في اغلب حواضر الاسلام الرئيسة وبالذات في العراق.

ركز الكاتب اكثر على شخصية خطيرة هي شخصية الامام الغزالي خاصة في كتابه “فضائح الباطنية” وكذلك على ابن تومرت الذي عمل في ظل دولة الموحدين فقيها لها وعلى ابن تيمية في كتابه الشهير”العقيدة الواسطية”. صنف الامام ابو حامد الغزالي بحسب بحث الكاتب من لا ينتمي الى “اهل السنة الصحيحة” الى كافر او مرتد. فيقول الكاتب ان الغزالي كان يقصد بذلك الاسماعيليين والفاطميين في عهده الذين اتهمهم الاسلام السني المغالي بالتحالف مع الصليبيين فيما اخفى حسب راي المؤلف كل النقاط المضيئة في تاريخهم لانهم ليسو على مذهب الحاكم العباسي او السلاجقة الذين هم الحكام الفعليون. يركز الكاتب ايضا على المدارس النظامية التي اسسها الوزير نظام الملك 1067 م. وهي المدارس التي عممت منظومة الوعي التكفيري وكانت مهمتها حسب وصف الكاتب الترويج لـ”الارثذوكسية السنية”  وذلك باستخدام نتاجات الباقلاني والجويني وبالذات الغزالي. يعتقد الكاتب ان التوحش يبدا من هنا وخاصة من نصوصهم التي خدمت السلطة فاستخدمتها جهازا ايديولوجيا وسياجا منيعا ” متوحشا ” ضد مخالفيه “حتى السلميين منهم”.

لقد تمت الاجراءات لضمان واستمرارية هذه المواقف لهؤلاء الثلاثة وتثبيتها بتقادم الزمن حتى اليوم باعتبارها شعيرة دينية عنوانها حسب راي المؤلف “اقتل ولك الجنة”. يسال الكاتب سؤالا ويجيب عنه وهو: لماذا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الان؟ ويجيب لان هناك وحشا حقيرا يسرق وجوهنا باسم الدين والخلافة الاسلامية والمدارس الاسلامية والائمة الاسلاميين حيث يعتبرنا هذا الوحش اعداءه الذين يجب قتلهم وسبيهم وهو ينظر الى ممارساته هه كعبادة كما سائر العبادات من حيث كون التكفير شعيرة دينية. يتهم الكاتب المدارس والجامعات العربية والاسلامية “بعقد تحالف” مع ابن تيمية فصارت كتاباته وفتاواه “دستورا” يحكم وفقها ملوك السلطة وولاة الامر والوحوش القاتلة. ويضيف: لن تجدي معنا كل عمليات التجميل والترقيع ولن تتمكن شركات العلاقات العامة مهما ملكت من اساطين الاعلام واساطيره من تحسين صورة وجوهنا الكالحة فلابد من قتل وتفكيك ادواته الفتاكة.

يعتبر هذا الكتاب اضافة مهمة جدا للمكتبة العربية والثقافة العربية في هذا الزمن لعدة اسباب لعل اولها جراة الكاتب في تسميته الاشياء باسمائها الصريحة الواضحة من غير تزويق ولا شعور كاذب بـ”مشاعر الاخرين” فمشاعر هؤلاء تمت مراعاتها قرونا طويلة رغم انها مشاعر وحشية وفتاكة.

علي الديري: أردت وضع إصبعي في وجه الوحش الذي يهدّدني

حاورته جنى فواز الحسن

علي الديري، كاتب بحريني شاء أن يضع إصبعه على مكمن الجرح، فكان مصيره النفي والإبعاد عن وطنه الأمّ. سحبت السلطات البحرينية الجنسية من الكاتب والأكاديمي والصحافي بسبب تعبيره عن رأيه بشكل واضح وصريح بلا مواربة، حسب تعبيره.

صاحب كتاب “خارج الطائفة” طرح تساؤلات حول ثنائية الخارج والداخل، الوجود خارج الطائفة وداخل المدينة والدولة والوطن، مدافعاً عن علمانية الفكر. لكنّ إلى أيّ مدى نتمكّن النفاذ فعلياً من مجتمعات تدفعنا إلى مذاهبنا حتّى إن شئنا أن نترك معتقداتنا الدينية للممارسات الخاصة؟

تجربة الديري مؤلمة وموجعة من دون شك، ليس له فقط، بل لمن يشاركه همّ رفع الهوية الإنسانية أعلى من أيّ هوية أخرى. عاد مؤخّراً الديري بمؤلّف جديد  «نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية»  صادر عن (مركز أوال للدراسات والتوثيق)، يناقش فيه الكاتب نصوصاً “متوحشة” من التراث الإسلامي ليحفر في التأريخ بحثاً عن أجوبة لمأساة الحاضر.

كان لموقع (إرفع صوتك) هذا اللقاء مع الكاتب علي الديري حول مؤلّفه الجديد وتجربته الشخصية وما يمكن القيام به لمواجهة “وحش التطرف” الذي يغزو منطقة الشرق الأوسط اليوم.

علي الديري: يجب على المثقف أن يكون خارج الطائفة

ثم سألناه: تعود في كتابك “نصوص متوحشة” إلى التأريخ والنصوص التي يستند عليها نهج التكفير. هل أزمتنا الحالية أزمة نص أو أزمة سلوك – أي لو لم يكن النص موجودًا كمسوّغ للتطرف، هل كان المتطرفون ليجدوا مسوّغاً آخر؟

الديري: نحن أساساً حضارة نص. حركتنا محكومة بمدونة من النصوص هي كتب الأحاديث. نحب بنص ونكره بنص ونتزوج بنص ونأكل ونشرب بنص ونحارب ونسالم بنص. حركات التطرف اليوم تجيد اللعب بالنصوص والنطق بها وإعادة الواقع وما يحدث فيه إلى هذه النصوص. تأمل في أفواه من يأمرون بالقتل ويرسلون مفخخاتهم إلى المختلفين معهم، ستجدها تنطق بنصوص التوحش، تقذفها وفق بوصلة التجاذبات السياسية. لا يمكن لأي جماعة أو حركة أن تنشئ خطاباً جديداً في المجتمع بدون نص يعطي لخطابها مشروعية. نحن أمة من النصوص المسيجة بالتقديس المحمي بالسياسة. الدليل هو النص وما يقتضيه، وتميل مجتمعاتنا حيث يميل طرف النص، ولا دليل خارج النص، والعقل في خدمة النص، والنص مقدم على العقل.

وسألناه: حين ندرك أنّ التطرّف أو التكفير متجذّر في مجتمعاتنا، يصبح بهذا أيضًا جزءا من تراثنا. هل تعتبر هذه النصوص تأريخا أو تراثا؟

الديري: دعنا نسأل هل صار ابن تيمية تأريخا أم ما زال موروثاً ناطقا بكل ما فيه في واقعنا. هذه النصوص ما زالت تراثاً، لم تتحول إلى تاريخ. نحن ورثة ماضٍ لا يمضي، يشبه نهراً يتدفق بالنصوص. تركتنا ثقيلة، وهناك صراع رمزي ومادي حول استملاك هذا التراث. منذ 14 قرناً لم يتوقف جيل من أمتنا عن توريث صراعاته وأنماط حياته. حين يتوقف ذلك ستكون هذه النصوص تأريخاً للتأمل والفهم. نصوص الغزالي في تكفير الباطنية والشيعة ومختلف الأقليات وتقتيلهم وسبي نسائهم مازالت تُوَرّث. ولولا هذا التوريث ما شاهدنا هؤلاء الأبناء يستخدمون هذه النصوص بحرفيتها.

سؤال: في ظلّ صعود التشدّد والنزعة للإقصاء، ما الثمن الذي دفعه علي الديري لتطرّقه إلى الموضوع؟

الديري: حالياً أنا من غير جنسية وخارج وطني، وكتابي ممنوع في بلدي البحرين، وأنا في إعلام بلادي خارج عن طاعة ولي الأمر، وخائن لوطني وغير مسموح لأي وسيلة إعلامية هناك أن تجري حواراً صحفيا معي حول كتابي. ولو كنت هناك، من المؤكد أني سأحاكم وأسجن بتهمة إهانة رموز إسلامية كشيخ الإسلام ابن تيمية، وسيضاف لها قائمة تهم طويلة، لن يكون أقلها التعريض بأهل السنة والجماعة والسلف الصالح.

الديري: حين خرجت عن السلطة السياسية.. تمّ إسقاط الجنسية

سؤال: تتبعت تطوّر المفهوم التأريخي للتطرّف من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية. لماذا لم توسّع دائرة التطرّق لمذاهب وديانات مختلفة كي لا تنهال عليك الاتهامات بمهاجمة الإسلام فحسب؟

الديري: أنا لم أوسع دائرة نصوص التوحش. لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها  الفترات التأريخية كلها. ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها. هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب ظاهرة التوحش. أردت أن أضع إصبعي في عين الوحش الذي يهددني الآن. أردت أن أعري مرجعيته النصية التي يتحدث باسمها وينطق بمسلماتها. صغت فرضية ضد مسلماته التي تنص على أنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا.ً العلماء الكبار الذين عاشوا في بلاط سلطة السلاجقة هم من صاغوا هذه النصوص في سياق الحرب بين الخلافة العباسية الممسوكة بسلطة السلاجقة والخلافة الفاطمية.

سؤال: نسمع دائماً النداءات حول الإسلام الحقيقي وجوهره. ما هو الإسلام الحقيقي من وجهة نظرك، وهل من ضرورة لإعادة فتح باب الاجتهاد لتصويب المفاهيم الدينية؟

الديري: الإسلام الحقيقي يقدم نفسه في صيغة أرثوذكسية مفروضة من قبل سلطة سياسية، بدا في عصر السلاجقة هو إسلام الأشاعرة، أي الإسلام الذي يقدم الأحاديث والروايات ويرفض الفلسفة والتأويل العقلاني على طريقة المعتزلة. وهذا الإسلام تحول إلى سلطة سياسية تنطق باسمه، سلطة السلاجقة بالعراق وفارس وسلطة الزنكيين بالشام وسلطة الأيوبيين بمصر. والإسلام الحقيقي بدا في عصر المماليك هو إسلام السلفية على طريقة ابن تيمية وأحمد بن حنبل، ولم يجد هذا الإسلام سلطة سياسية تتبناه حتى ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملّة محمد عبدالوهاب ورجل الدولة محمد بن سعود، فصارت عقيدة ابن تيمية السلفية عقيدة رسمية للدولة السعودية الأولى. وهي تقدم نفسها اليوم باعتبارها تمثل الإسلام الحقيقي.

سؤال: كيف يمكن محاربة توحش النصوص؟

الديري: يمكن محاربة الوحش في هذه النصوص بتفكيك سياقه السياسي بالدرجة الأولى. نحتاج حركة نقدية تقرأ هذه النصوص قراءة تاريخية، تبين كيف وضعت السياسية هذه النصوص في خدمتها ضد خصومها السياسيين. وهذا ما فعلته في هذا الكتاب (نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) بتفكيك السلطة السلجوقية والزنكية والأيوبية والموحدية والمملوكية. وهذا ما تعلمته من المفكر محمد أركون الذي عمل منذ فترة مبكرة على نزع القداسة عن هذه النصوص وكشف تكوينها السياسي والتأريخي، وهو أول من استخدم مصطلح الأرثوذكسية لوصف السلفيات التي تقدم نفسها تمثل حقيقة الإسلام ضد خصومها.

كتاب التوحش: هل الوحش سني؟

مداخلة على هامش استضافة صالون عصمت الموسوي لكتاب نصوص متوحشة

هامش على كتاب التوحش: هل الوحش سني؟

علي أحمد الديري

 

 لماذا عالجت في كتابك نصوصًا سنيّة؟ ولم تعالج نصوصًا شيعيّة؟

إنّه السّؤال الأكثر إلحاحًا عليّ من قبل القرّاء، منذ أعلنت عن صدور الكتاب، ويبدو أنّه مطروح عليّ أكثر مما هو مطروح على كتابي، وهو يحمل طابعًا شخصيًّا، أو هكذا أتلقاه، وبشكل أكثر وضوحًا، وجدت في السّؤال تهمة، وكأن من يطرح السؤال يتهمني بالطائفية في معالجة خطاب التكفير، هل تريد أن تقول: إن خطاب التكفير خطابًا سنيًّا، وأنّ الشيعة مبرؤون من ظاهرة التكفير؟

سأجيب على السّؤال في نقاط خمس:

النقطة الأولى:

انطلقت في معالجة نصوص التوحش من فرضية تقول: إنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا. لم أنطلق من فرضية أن نصوص التوحش هي نصوص سنية بالضرورة، أو هي نصوص عابرة للمذاهب على قدم المساواة، أو كما نقول اليوم الإرهاب لا دين له ولا مذهب له.

نحن نعرف أن السلطة السياسية العامة في الحضارة الإسلامية كانت سلطة بيد الخليفة الذي يمثل السنة ولا يمثل الشيعة، فظلّ الشيعة يمثلون المعارضة بالنسبة له. كيف واجه الخليفة معارضيه؟ الجواب هو: بإنتاج نصوص تكفرهم وتبيح قتلهم، وهذا الجواب صاغته السلطة السلجوقية صياغة منهجية محكمة عبر المدرسة النظامية وفقهائها، وقد وضع هذه السياسة الوزير (نظام الملك) واعتبر السلاجقة أنفسهم مدافعين عن السنة والإسلام وفق هذه السياسة. هذا هو المعطى التاريخي السياسي، ولا يمكن أن نقفز عليه.

النصوص بناء على الفرضية التي طرحتها تنتمي إلى هذا العالم، أي إلى العالم السني، فالسلاجقة حين جاءوا إلى بغداد استلموا الخلافة العباسية ومثلوها، واعتبروا أنفسهم مدافعين عن الإسلام الذي هو الإسلام السني، لأنه الإسلام العام الذي يمثل عموم الأمة، فالوضع التاريخي يفرض أن يكون النص المتوحش الذي كتب فقهيًّا في حضرة السياسة نصًّا ضد الخصم الذي لا ينتمي إلى هذا العالم السني أو الطائفة السنية، فالموضوع متعلق بمعطى سياسي، أي إنّه وضع سياسي تاريخي موجود وبالتالي عالجته من هذه الناحية.

الفرضية التي انطلقت منها في كتابي فرضية تذهب إلى أن النص المتوحش نص فقهي مُنْتَج سياسيًّا، والمعطى التاريخي الذي اختبرت فيه هذه الفرضية يتعلق بتجربة السلاجقة، لأنّهم قد مثلوا الخلافة العباسية السنية وما تولد عنها فيما بعد من الدولة الزنكية والدولة الأيوبية في مصر وفي القاهرة.

الخلافة أو الأمة التي تتحدث باسم المسلمين في ذلك الوقت، هي خلافة سنية يتحكم فيها السلاجقة الذين لم يكونوا يعرفون العربية ولا يجيدون غير مهارة القتال، مقابلها كان هناك الخلافة الفاطمية بالقاهرة واليمن والشام والقدس، لاتمثل هذه الخلافة عموم الأمة، وهذا ما جعل سياستهم في المواجهة تبتعد عن أدوات التكفير، ليس لديهم نصوص تكفر السني لسبب واقعي، فهم لا يمكنهم أن يكفروا عموم المسلمين، فتلك مسألة غير سياسية وغير عملية.

بحثت لدى فقيه الدولة الفاطمية وهو القاضي النعمان، في كتابه (دعائم الإسلام) وكتابه (أساس التأويل) فلم أجد نصوصًا فقهية تبيح قتل المسلمين المخالفين وذبحهم، وهذا ما وجدته لدى الغزالي وهو فقيه الدولة السلجوقية الذي كتب كتابه (فضائح الباطنية) وكتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) وفي هذين الكتابين نجد نصوصًا متوحشة مرعبة.

 النقطة الثانية:

تتعلق بانطلاقي من مشكلة حديثة، مشكلة معاصرة، وحاولت أن أضع لها إشكالية لفهمها، ألا وهي داعش وأخواتها من التنظيمات والجماعات المتطرفة التي تكفر وتقتل، وهي ظاهرة معاصرة، ومشكلة تجسّد فعل تلك النّصوص.

هذه الجماعات لديها مسميات واضحة وخطاب إعلامي واضح، وخطاب ديني يستخدم نصوصًا تنتمي من الناحية العقائدية إلى المركز، خطابها يقول: إنها تمثل السنة، وإنها تدافع عن السنة، وتنطق باسم السنة، وإنها تريد استعادة الخلافة السنية. أنا أردت أن افهم هؤلاء الذين ينطقون باسم السنة -وإن كانوا لا يمثلون السنة -أردت أن أفهم سياق النصوص التي يمتحون منها ويتأسسون عليها، فذهبت إلى هذه النصوص وفضائها السياسي. كيف لي أن أذهب إلى نصوص شيعية وهم ينطقون باسم نصوص سنية؟! ذهبت إلى نصوص ابن تيمية لأنهم ينطقون باسم هذه النصوص، وذهبت إلى نصوص الغزالي وإن كانوا لا ينطقون باسم الغزالي بصورة مباشرة، لكن النصوص التي أنتجها وصارت ثقافة فقهية عامة، هم يوظفونها وينطقون باسمها ويؤسسون عليها، مثل نصوصه التي تعتبر أن الباطنية مرتدون كفرة يجب على الخليفة قتلهم، وسبي نسائهم، وأخذ أموالهم، وإبطال عقودهم.

المشكلة المعاصرة فرضت عليّ نصوصًا معينة، فهناك نص سياسي صُنّع في السياسة وفي الفقه التراثي، وهذا النص يُولِّد اليوم ظواهر حديثة متطرفة.

خلاصة الفكرة الثانية، أنني أنطلق من مشكلة معاصرة في صياغة إشكالية كتابي (نصوص متوحشة) هي داعش وأخواتها، والإشكالية أن داعش وأخواتها هي وليدة نصوص موجودة في التراث، هذه النصوص ليست من الدين بل متولّدة من السياسية.

 النقطة الثالثة:

هي أنني لا يمكن أن أوسع دائرة البحث بحيث أعوم المشكلة المعاصرة التي أريد تفسيرها، بمعنى أنني لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها الفترات التاريخية كلها، ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها.

هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب الظاهرة، وهو يشبه أن تسأل اليوم رئيس حكومة لبنان: ما سبب مشكلة القمامة لديكم؟ لماذا هي مكدسة في الطرقات العامة؟ فيجيبك: القمامة مشكلة عالمية، وتجد هذه المشكلة في مصر والعراق والهند وو… أو يقول لك: البلاد تعاني من أزمة سياسية ونحن لسنا نعاني من القمامة الحقيقية فقط، فهناك مشكلة القمامة السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. إنها إجابات تصلح للتهرب من السؤال، وأنا لم أشأ أن أجيب في كتابي إجابة تهربية.

لابد من تحديد دائرة البحث كي لا يضيع، فأنا لدي مشكلة معاصرة أريد معرفة جذورها، فلا يجوز أن أعوم المشكلة ضمن مشكلة كبيرة جدا، فلا أجد جوابا لها.

النقطة الرابعة:

كما قلت، السؤال يتضمن في طياته -ولو ضمنيًّا-اتهامًا طائفيًّا، بل إنّ بعضهم قالها صراحة: في معالجتك لنصوص التوحش، كأنك تقول إن التوحش مرتبط بالسنة، وإنك بهذا الكتاب (نصوص التوحش) تعود إلى ما قبل (خارج الطائفة).

حين أستعرض اشتغالاتي المعرفية، أجد أنّني في رسالة الماجستير درست كتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام)، وقدمته كأحد المسهمين في علم تحليل الخطاب، وحين فكرت في المادة المعرفية التي صاغها ابن حزم، لم أكن أفكر في موقفه من الشيعة، ولم أكن أنظر إليه بوصفه عالمًا سنيًّا، بقدر ما قرأته بصفته أحد علماء التراث، لم أشعر أنني بحاجة لعمل توازن طائفي، بحيث أقدم في رسالتي ابن حزم وإلى جانبه عالمًا آخر شيعيًّا، كي أحقق توازنا طائفيا، لم أفكر في هذا أبدًا، لأن الموضوع ليس محاصصة طائفية.

وفي أطروحة الدكتوراه، حين درست مجازات (ابن عربي) بوصفه عالمًا صوفيًّا فريدًا، وفيلسوفًا صاحب تجربة روحية، لم أفكر أن آتي بمتصوف شيعي آخر، لأحقق توازنًا طائفيا، أو أبعد عن نفسي تهمة الانتقاء الطائفي.

حين أختار موضوعي أو بحثي، أحدد مجال الموضوع ونصوصه دون الاستناد إلى قاعدة المحاصصات الطائفية، ما يحدد نصوص الموضوع هي المعرفة، ففي بحثي عن نصوص التوحش حدد موضوعي أبعاد معرفية شرحتها في النقاط السابقة.

 النقطة الخامسة:

هناك نوعان من التكفير كما يقول ابن تيمية، التكفير المطلق والتكفير المعين، الأول تكون فيه فكرتك أو اعتقادك كافرًا، لكنك لست بكافر لأنك لا تقصد أن تقع في الكفر. وفي التكفير المعين، يحكم عليك شخصيا بالكفر، يثبت عليك الكفر وتطبق عليك أحكامه، كما حدث مثلاً مع المفكر (نصر حامد أبو زيد) ومن قبله مع المتصوف (الحلاج) ومع الفيلسوف (السهرودي).

درست في كتابي التكفير المعين، أي التكفير الذي يقود إلى اعتبار الجماعة مرتدين ويجب قتلهم، كما هو الأمر مع الغزالي الذي قال بردّة الفاطميين، وإنّ على الخليفة قتلهم وقتل نسائهم، وكما هو الأمر مع ابن تيمية الذي قال شيعة (كسروان) مرتدون وكتب فيهم رسالة فقهية قادت إلى تشريع ذبحهم وتهجيرهم.

هناك نصوص تكفيرية عند الشيعة، بمعنى التكفير المطلق، مثلا قولهم: من لا يؤمن بكذا فهو كافر، ولكن هذا التكفير لا يترتب عليه تقتيل، أي لا يوجب تقتيلا. التكفير عند الشيعة مجرد تكفير عقائدي، متعلق بالمماحكات العقائدية، وبالحقيقة حاولت أن أبحث عن نصوص تكفيرية تقتيلية في المذهب الشيعي، فلم أجد، لكنّني لا أنفي ذلك بالمطلق، وإذا كان هناك باحث يستطيع أن يجد ذلك فليقم بهذه المهمة، وسيكون قد سدّ نقصًا في بحثي.

السبع: (نصوص متوحشة) سبر تاريخي عميق لجذور التطرف الذي يخنقنا اليوم

مدونة الباحث وسام السبع

قدم الباحث وسام السبع قراءة لكتاب (نصوص متوحشة) للناقد البحريني علي الديري معتبراً أن الكتاب يمثل سبراً تاريخياً عميقاً لجذور التطرف الذي اجتاح العالم العربي والإسلامي منذ سقوط بغداد عام 2003. واعتبر السبع خلال محاضرة في صالون الإعلامية عصمت الموسوي أن الديري يعدّ مثقفاً صاحب مشروع فكري يتسم بالجرأة والمشاكسة، وهذا ما يظهر بشكل جلي في كتابيه الإشكاليين (خارج الطائفة) الذي حاول فيه أن يخرج من الطائفة لا عليها وينظر لها كموضوع يدرسه لا إطار يستند عليه وكتابه الحالي (نصوص متوحشة) فهو في كلا العملين يجترح نهجاً يتسم بالجرأة والإقدام في مقاربة المواضيع التي تستثير وعيه.

وأوضح السبع أن الديري حاول أن يقدم إجابات غير محابية لمشكلة التطرف الديني الذي يفتك بالمجتمعات التي تعيش حالة الانفلات والفوضى الأمنية في بؤر التوتر العربي، مؤكداً أن الإشكاليات العميقة في بنية الفكر العربي والإسلامي ترجع في جذورها إلى العامل السياسي.

وقد أعقب كلمة السبع جملة من المداخلات للحاضرين والحاضرات، ركزت في مجملها على عمق المأزق التي تعانيه الشعوب العربية والإسلامية والمخاطر الناجمة من تغوّل الظاهرة الدينية في المجتمعات بشكل مخيف.

9-9-2015 (14)
د. فضيلة المحروس، وداد كيكسو، شربهان أحمد، اميمة، د. فاطمة المناعي، صفية الموسوي، عصمت الموسوي

الديري: لم أجد نفسي ملزماً بإحداث توازن طائفي وأنا أبحث في جذور التطرف.. وتعويم المشكلة تهرب من مواجهتها

IMG_2133
علي الديري

وقد تخللت الأمسية مداخلة صوتية مسجلة من بيروت لمؤلف الكتاب علي الديري أكد فيها التزامه كمثقف بضوابط وشروط البحث العملي في كتاباته وقال في معرض اجابته عن سؤال بخصوص عدم معالجته في كتابه لنصوص شيعية واكتفاءه بنصوص سنية: “إنّه السّؤال الأكثر إلحاحًا عليّ من قبل القرّاء، منذ أعلنت عن صدور الكتاب، ويبدو أنّه مطروح عليّ أكثر مما هو مطروح على كتابي، وهو يحمل طابعًا شخصيًّا، أو هكذا أتلقاه، وبشكل أكثر وضوحًا، وجدت في السّؤال تهمة، وكأن من يطرح السؤال يتهمني بالطائفية في معالجة خطاب التكفير، هل تريد أن تقول: إن  خطاب التكفير خطابًا سنيًّا، وأنّ الشيعة مبرؤون من ظاهرة التكفير؟

سأجيب على السّؤال في نقاط خمس:

النقطة الأولى: انطلقت في معالجة نصوص التوحش من فرضية تقول: إنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا. لم أنطلق من فرضية أن  نصوص التوحش هي نصوص سنية بالضرورة، أو هي نصوص عابرة للمذاهب على قدم المساواة، أو كما نقول اليوم الإرهاب لا دين له ولا مذهب له.

نحن نعرف أن السلطة السياسية العامة في الحضارة الإسلامية كانت سلطة بيد الخليفة الذي يمثل السنة ولا يمثل الشيعة، فظلّ الشيعة يمثلون المعارضة بالنسبة له. كيف واجه الخليفة معارضيه؟ الجواب هو: بإنتاج نصوص تكفرهم وتبيح قتلهم، وهذا الجواب صاغته السلطة السلجوقية صياغة منهجية محكمة عبر المدرسة النظامية وفقهائها، وقد وضع هذه السياسة الوزير (نظام الملك) واعتبر السلاجقة أنفسهم مدافعين عن السنة والإسلام وفق هذه السياسة. هذا هو المعطى التاريخي السياسي، ولا يمكن أن نقفز عليه.

النصوص بناء على الفرضية التي طرحتها  تنتمي إلى هذا العالم، أي إلى العالم السني، فالسلاجقة حين جاءوا إلى بغداد استلموا الخلافة العباسية ومثلوها، واعتبروا انفسهم مدافعين عن الإسلام الذي هو الإسلام السني، لأنه الإسلام العام الذي يمثل عموم الأمة، فالوضع التاريخي يفرض أن يكون النص المتوحش الذي كتب فقهيًّا  في حضرة السياسة  نصًّا ضد الخصم  الذي لا ينتمي إلى هذا العالم السني أو الطائفة السنية، فالموضوع متعلق بمعطى سياسي، أي إنّه وضع سياسي تاريخي موجود وبالتالي عالجته من هذه الناحية.

الفرضية التي انطلقت منها في كتابي فرضية تذهب إلى أن النص المتوحش نص فقهي مُنْتَج سياسيًّا، والمعطى التاريخي الذي اختبرت فيه هذه الفرضية يتعلق بتجربة السلاجقة، لأنّهم قد مثلوا الخلافة العباسية السنية وما تولد عنها فيما بعد من الدولة الزنكية والدولة الأيوبية في مصر وفي القاهرة.

الخلافة أو الأمة التي تتحدث باسم المسلمين في ذلك الوقت، هي خلافة سنية يتحكم فيها السلاجقة الذين لم يكونوا يعرفون العربية ولا يجيدون غير مهارة القتال، مقابلها كان هناك الخلافة الفاطمية بالقاهرة واليمن والشام والقدس، لاتمثل هذه الخلافة عموم الأمة، وهذا ما جعل سياستهم في المواجهة تبتعد عن أدوات التكفير، ليس لديهم نصوص تكفر السني لسبب واقعي، فهم  لا يمكنهم أن يكفروا عموم المسلمين، فتلك مسألة غير سياسية وغير عملية.

 بحثت لدى فقيه الدولة الفاطمية وهو القاضي النعمان،  في كتابه (دعائم الإسلام) وكتابه (أساس التأويل) فلم أجد نصوصًا فقهية تبيح قتل المسلمين المخالفين وذبحهم، وهذا ما وجدته لدى الغزالي وهو فقيه الدولة السلجوقية الذي كتب كتابه (فضائح الباطنية) وكتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) وفي هذين الكتابين نجد نصوصًا متوحشة مرعبة.

النقطة الثانية، يقول الديري، تتعلق بانطلاقي من مشكلة حديثة، مشكلة معاصرة، وحاولت أن أضع لها إشكالية لفهمها، ألا وهي داعش وأخواتها من التنظيمات والجماعات المتطرفة التي تكفر وتقتل، وهي ظاهرة معاصرة، ومشكلة تجسّد فعل تلك النّصوص.

 هذه الجماعات لديها مسميات واضحة وخطاب إعلامي واضح، وخطاب ديني يستخدم نصوصًا تنتمي من الناحية العقائدية إلى المركز، خطابها يقول: إنها تمثل السنة، وإنها تدافع عن السنة، و تنطق باسم السنة، وإنها تريد استعادة الخلافة السنية. أنا أردت أن افهم هؤلاء الذين ينطقون باسم السنة – وإن كانوا لا يمثلون السنة – أردت أن أفهم سياق النصوص التي يمتحون منها ويتأسسون عليها، فذهبت إلى هذه النصوص وفضائها السياسي. كيف لي أن أذهب إلى نصوص شيعية وهم ينطقون باسم نصوص سنية؟! ذهبت إلى نصوص ابن تيمية لأنهم ينطقون باسم هذه النصوص، وذهبت إلى نصوص الغزالي وإن كانوا لا ينطقون باسم الغزالي بصورة مباشرة، لكن النصوص التي أنتجها وصارت ثقافة فقهية عامة، هم يوظفونها وينطقون باسمها ويؤسسون عليها، مثل نصوصه التي تعتبر أن الباطنية مرتدون كفرة يجب على الخليفة قتلهم، وسبي نسائهم، وأخذ أموالهم، وإبطال عقودهم.

المشكلة المعاصرة فرضت عليّ نصوصًا معينة، فهناك نص سياسي صُنّع في السياسة وفي الفقه التراثي، وهذا النص يُولِّد اليوم ظواهر حديثة متطرفة.

خلاصة الفكرة الثانية، أنني أنطلق من مشكلة معاصرة في صياغة إشكالية كتابي (نصوص متوحشة) هي داعش وأخواتها، والإشكالية أن داعش وأخواتها هي وليدة نصوص موجودة في التراث، هذه النصوص ليست من الدين بل متولّدة من السياسية.

IMG_2131النقطة الثالثة، يضيف الديري، هي أنني لا يمكن أن أوسع دائرة البحث بحيث أعوم المشكلة المعاصرة التي أريد تفسيرها، بمعنى أنني لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها  الفترات التاريخية كلها، ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها.

هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب الظاهرة، وهو يشبه أن تسأل اليوم رئيس حكومة لبنان: ما سبب مشكلة القمامة لديكم؟ لماذا هي مكدسة في الطرقات العامة؟ فيجيبك: القمامة مشكلة عالمية، وتجد هذه المشكلة في مصر والعراق والهند وو… أو يقول لك: البلاد تعاني من أزمة سياسية ونحن لسنا نعاني من القمامة الحقيقية فقط، فهناك مشكلة القمامة السياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. إنها إجابات تصلح للتهرب من السؤال، وأنا لم أشأ أن أجيب في كتابي إجابة تهربية.

 لابد من تحديد دائرة البحث كي لا يضيع، فأنا لدي مشكلة معاصرة أريد معرفة جذورها، فلا يجوز أن أعوم المشكلة ضمن مشكلة كبيرة جدا، فلا أجد جوابا لها.

أما عن النقطة الرابعة فيقول: السؤال يتضمن في طياته – ولو ضمنيًّا- اتهامًا طائفيًّا، بل إنّ بعضهم قالها صراحة: في معالجتك لنصوص التوحش، كأنك تقول إن التوحش مرتبط بالسنة، وإنك بهذا الكتاب (نصوص التوحش) تعود إلى ما قبل (خارج الطائفة).

حين أستعرض اشتغالاتي المعرفية، أجد أنّني في رسالة الماجستير درست كتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام)، وقدمته كأحد المسهمين في علم تحليل الخطاب، وحين فكرت في المادة المعرفية التي صاغها ابن حزم، لم أكن أفكر في موقفه من الشيعة، ولم أكن أنظر إليه بوصفه عالمًا سنيًّا، بقدر ما قرأته بصفته أحد علماء التراث، لم أشعر أنني بحاجة لعمل توازن طائفي، بحيث أقدم في رسالتي ابن حزم وإلى جانبه عالمًا آخر شيعيًّا، كي أحقق توازنا طائفيا، لم أفكر في هذا أبدًا، لأن الموضوع ليس محاصصة طائفية.

 وفي أطروحة الدكتوراه، حين درست مجازات (ابن عربي) بوصفه عالمًا صوفيًّا فريدًا، وفيلسوفًا صاحب تجربة روحية، لم أفكر أن آتي بمتصوف شيعي آخر، لأحقق توازنًا طائفيا، أو أبعد عن نفسي تهمة الانتقاء الطائفي.

حين أختار موضوعي أو بحثي، أحدد مجال الموضوع ونصوصه دون الاستناد إلى قاعدة المحاصصات الطائفية، ما يحدد نصوص الموضوع هي المعرفة، ففي بحثي عن نصوص التوحش حدد موضوعي أبعاد معرفية شرحتها في النقاط السابقة.

وعن النقطة الخامسة يقول الديري: “هناك نوعان من التكفير كما يقول ابن تيمية، التكفير المطلق والتكفير المعين، الأول تكون فيه فكرتك أو اعتقادك كافرًا، لكنك لست بكافر لأنك لا تقصد أن تقع في الكفر. وفي التكفير المعين، يحكم عليك شخصيا بالكفر، يثبت عليك الكفر وتطبق عليك أحكامه، كما حدث مثلاً مع المفكر (نصر حامد أبو زيد)  ومن قبله مع المتصوف (الحلاج) ومع الفيلسوف (السهرودي).

 درست في كتابي التكفير المعين، أي التكفير الذي يقود إلى اعتبار الجماعة مرتدين ويجب قتلهم، كما هو الأمر مع الغزالي الذي قال بردّة الفاطميين، وإنّ على الخليفة قتلهم وقتل نسائهم، وكما هو الأمر مع ابن تيمية الذي قال شيعة (كسروان) مرتدون وكتب فيهم رسالة فقهية قادت إلى تشريع ذبحهم وتهجيرهم”.

 ويضيف:”هناك نصوص تكفيرية عند الشيعة، بمعنى التكفير المطلق، مثلا قولهم: من لا يؤمن بكذا فهو كافر، ولكن هذا التكفير لا يترتب عليه تقتيل،  أي لا يوجب تقتيلا. التكفير عند الشيعة مجرد تكفير عقائدي، متعلق بالمماحكات العقائدية، وبالحقيقة حاولت أن أبحث عن نصوص تكفيرية تقتيلية في المذهب الشيعي، فلم أجد، لكنّني لا أنفي ذلك بالمطلق، وإذا كان هناك باحث يستطيع أن يجد ذلك فليقم بهذه المهمة، وسيكون قد سدّ نقصًا في بحثي”.

9-9-2015 (1)
د. عقيل الموسوي، مريم الرويعي، د. فضيله المحروس

9-9-2015 (2)

9-9-2015 (4)
المحاضر، باسمة القصاب، د. عقيل الموسوي

9-9-2015 (6)

9-9-2015 (7)
د. منى فضل، عالمه الموسوي، د. محمد حميد السلمان
9-9-2015 (8)
راعية الفعالية الكاتبة عصمت الموسوي

9-9-2015 (9) - Copy

9-9-2015 (10)

9-9-2015 (11)

نصوص متوحشة

مقدمة

كما لا توجد جريمة من غير مجرم ولا فساد من غير مفسد، فإنه لا يوجد توحش من غير وحش، والوحش هو هذه النصوص ومدارسها التي تبيح القتل وتأمر بالقتل من دون رادع نقدي، أو قراءة تاريخية أو قطيعة معرفية.

في هذا الكتاب أحاول قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية في ثلاث بيئات سياسية استخدمت التكفير ضد أعدائها، بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري) من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.

لماذا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن؟ لأن هناك «وحشًا» يسرق وجوهنا، باسم الدين والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية، والأئمة الإسلاميين. يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادة كما سائر العبادات، من حيث كون التكفير شعيرة دينية.

لقد أجاب الفيلسوف المسلم (عبد النور بيدار) إجابة دقيقة عن هذا السؤال في خطابه الصادم الذي وجهه للعالم الإسلامي: “رسالة مفتوحة إلى العالم الإسلامي”.

يقول في ختامها: «وإذا كنت تريد أن تعرف كيف لا تنجب مستقبلًا مثل هذه الوحوش، فسأقول لك إنّ الأمر بسيط وصعب في الوقت نفسه. لا بدّ أن تبدأ بإصلاح التعليم الذي تعطيه أطفالك برمّته، أن تصلح كلّ مدرسة من مدارسك، وجميع أمكنة المعرفة والسلطة.. هذه وسيلتك الوحيدة كي لا تُنجب مثل هذه الوحوش، … وحين انتهائك من هذه المهمّة الضخمة… فإنّه لا يمكن لأيّ وحش حقير أن يأتي لسرقة وجه”.

مع الأسف، حاضرنا ينتج مثل هذه الوحوش ومستقبلنا يعد بها، وماضينا ما زال هو نفسه حاضرنا ومستقبلنا، ما زال ابن تيمية يُدرّس نصوصه في أمكنة المعرفة (المدارس والجامعات) في عالمنا الإسلامي، وفي أمكنة السلطة يعقد ابن تيمية تحالفاته، حتى صارت كتب فتاويه دستورًا يحكم وفقها ملوك السلطة وولاة الأمر، والجماعات القاتلة.

وجوهنا مسروقة ومشوهة وقاسية وقبيحة بسبب هذا الوحش، لن تجدي معنا عمليات التجميل والترقيع، ولن تتمكن شركات العلاقات العامة مهما ملكت من أساطين الإعلام وأساطيره، من تحسين صورة وجوهنا الكالحة، لا بدّ من قتل الوحش وتفكيك أدواته الفتّاكة بنا.

ذهبت إلى نصوص التوحش لأفكك متفجرات هذا الوحش العابرة للزمان والمكان، في هذه الرحلة سمعت أصوات فتاويه في جبال كسروان (1303م)، كما سمعتها وهي تدوي في القديح (2015) في مسجد الإمام علي بن أبي طالب، وسمعتها (2015) في مسجد العنود بالدمام، والبقية تنتظر.

علي الديري

بيروت، 31 مايو/ أيار 2015

التكفير بين رجل الدولة ورجل الملة

الفرضية التي ننطلق منها في هذه الدراسة، يمكن صياغتها في هذه الجملة المختصرة: الوحش يكمن في (أرثوذكسية السنة السلجوقية) هذا هو الوحش الذي يسرق وجوهنا.

نحاول عبر هذه الفرضية تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكّن نصوص التوحش من أن يكون لها شرعيتها الدينية ومكنها من تثبيت أطروحاتها ضمن الحس الإسلامي العام، كيف صار التكفير موضوعًا سياسيًا، يشرعنه الفقهاء (رجل الملة) ضمن أجهزة الخلافة الإسلامية (رجل الدولة).

تربط هذه الفرضية نصوص التوحش بحركة السلاجقة ووصولهم إلى بغداد (447 هـ/ 1055م) وهذا الربط لا يعني أن التكفير موضوع استجد في القرن الخامس الهجري، فالأمر يعود إلى القرن الأول الهجري، لكن هذه الفترة المبكرة ليست ضمن نطاق اهتمام هذه الدراسة، من جانب ومن جانب آخر، نظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، وأعني بالسياسة الممنهجة هنا أنه صار جزءًا من سياسة الدولة واستراتيجيتها أو تدبيرها حسب تعبير (الماوردي) مؤلف الآداب السلطانية وسفير الخليفة العباسي للسلاجقة قُبيل دخولهم بغداد، وهذا ما أثبته منظر السياسة السلجوقية نظام الملك في كتابه (سياسة نامه) الذي اعتبر دستورًا للدولة السلجوقية.

هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان هناك المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، ففي سنة 408هـ /1017م يقول ابن الأثير: «استتاب القادر بالله المعتزلة والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم، ونهى من المناظرة في شيء منها، ومن فعل ذلك نكل به وعوقب». لقد أصدر الخليفة العباسي القادر ما عُرف بـ (الاعتقاد القادري) وهو مرسوم يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب اتجاه الله واتجاه الصحابة.

الدفاع عن السنة القادرية

وجد السلاجقة أن مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب. اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

تمّ إسكات جميع الأصوات المختلفة خصوصًا أصوات المعتزلة والشيعة، والمدارس الّتي أُنْشِئت منذ العصر السلجوقي، وهي المدارس النظامية، والمدارس النورية في عهد نور الدين زنكي، ومدارس صلاح الدين الأيوبي، كلّ هذه المدارس تكاد لا تخرج على هذا المعتقد «الأرثوذكسي»، ولا مكان فيها للفلسفة وعلم الكلام أو لتدريس المذاهب المختلفة، لم يخرج عن ذلك غير مدارس قليلة مثل المدارس التي عرفتها مصر في العهد الفاطمي، قبل أن يأتي صلاح الدين ويغلقها.

لقد عملت الدولة الزنكية والدولة الأيوبية باعتبارهما امتدادات مباشرة للدولة السلجوقية، على نشر (أرثوذكسية السنة السلجوقية) على جغرافيا أوسع، امتدت إلى الشام ومصر.

خلف خارطة هذه المدارس والاتجاهات الكلامية والفقهية يكمن التاريخ السياسي، كما عبر عنه ياسين عبد الجواد «نجد التاريخ السياسي كامنًا خلف تاريخ العقيدة والفقه والأصول».

معنى الأرثوذكسية

يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من استخدم مصطلح تفكيك «الأرثوذكسية» في قراءته للتراث الإسلامي و«الأرثوذكسية» في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية. والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة، أي طريق النبي. في الحضارة الاسلامية اعتُبِر المذهب السنّي على الطريقة الأشعرية، ووفق المذاهب الفقهية الأربعة هو الطريق المستقيم الذي ينبغي أن يخضع له الجميع، فتم فرضه عبر سلطة الخلافة الإسلامية.

دعا أركون إلى تفكيك هذه الأرثوذكسية، أي تفكيك النصوص الّتي تدّعي أنها وحدها تمثل الإسلام الصحيح. والمُراد من تفكيكها هو إعادة إنتاجها، بعد تفكيك السياقات السياسية والتاريخية الّتي تقوم عليها، وهذه الأرثوذكسية ليست سنية فقط، فهناك النسخة الشيعية أيضًا. لكن السنية هي التي حكمت العالم الإسلامي بمجمله لأنها كانت تمثل الخلافة المركزية وهي التي تحكمت وصاغت الحس الإسلامي بشكل عام.

احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهم وجدوا أن هذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.

السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوما أحاديًا وقطيعًا لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة بشهوة القتل وغريزة التوحش.

 تكفير الباطنية

لقد وصل السلاجقة إلى قصر الخلافة في بغداد قبل بدء الحروب الصليبية (1098م) بأربعة عقود تقريبًا، فبعد القضاء على دولة البويهيين في العراق دخل طغرل بك السلجوقي بغداد في 25 رمضان 447 هـ/23 ديسمبر/كانون الأول 1055م.

وقبل أن يجدوا في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، وجدوا ذلك في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تمّ توسيع دائرة العدو، فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهًا للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسببًا في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.

صار الجهاد هو القيمة الأكثر حضورًا فترة الحكم السلجوقي وما انبثق عنه من حكم الزنكيين والأيوبيين، وصارت الأرثوذكسية السنية كما تبناها هؤلاء هي الأيديولوجيا المعبرة عن فكرة الجهاد، فصار قتال الصليبيين والباطنية مهمة جهادية أولى، أعطت شهوة الجهاد عند المقاتلين الأتراك لـ (السنة الصحيحة) مفهومًا قاطعًا كحد السيف، لا يقبل التعدد والاختلاف، فراحوا يوحدون الجغرافيا والأفكار والعقائد.

هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير التي رسمها سيف الجهاديين الذين كانوا حماة الخلافة الإسلامية وشوكتها كما عبر الغزالي.

لقد خلعت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) مدعومة بالسلطة السياسية (السلاجقة، الزنكيون، الأيوبيون) كل المعاني التأثيمية على كلمة (باطني)، وصار معنى السنة يتوضح بمعارضته لمدلول (الباطنية) التي صارت تدل على معانٍ متعددة وربما متضاربة من نحو: كافر، مرتد، منافق، إسماعيلي، فاطمي، شيعي، رافضي، يضمر الشر للإسلام، معادٍ للسنة، يكفر الصحابة، عدو، خائن، متهتك، ضال، مبتدع.

مع السلاجقة بدأت حملة موسعة (دينية، سياسية، إعلامية) ضد الإسماعليين والفاطميين الخصوم السياسيين والعقائديين للخلافة العباسية، وجرى تثبيت مفهوم السنة كأحد أسلحة المواجهة. هكذا تم تحويل الفاطميين والإسماعيليين والشيعة والمعتزلة والجهمية كأعداء واعتبرت الجغرافيا التي يسكنون فيها دار كفر، لأنها خارجة عن ولاية الخليفة الشرعي العباسي الذي يمثل الإسلام الصحيح.

الكافر بالخليفة

 التكفير مسألة سياسية بوجه ديني، ماذا يعني هذا؟ يعني أن التكفير صراع حول السلطة أو حول شرعيتها، والتكفير هو عقوبة سياسية للمعارضين للخليفة الذي يتمكن من فرض سيطرته (صاحب الشوكة)، وهذا يحيلنا إلى الاختلاف حول من هو خليفة المسلمين: من هو الخليفة صاحب الشرعية؟ وهو السؤال الأول الذي طرح منذ وفاة النبي (ص)، وهذا ما سجله لنا أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) «وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم (ص) اختلافهم في الإمامة» وقاد هذا السؤال إلى الاختلاف حول الخليفة الأول ومقتل الخليفة الثاني والثالث والرابع، ولاحقًا إلى دويلات متعددة وحروب كبرى داخلية في الحضارة الإسلامية. ويستمر طرح السؤال نفسه: من هو خليفة النبي محمد؟ هل هو الإمام علي أم إنه أبو بكر، هل هم الأنصار؟ هل هم الأمويون؟ هل هو شخص من خارج قريش؟ هل هو شخص من قريش؟ هل هم العباسيون؟ هل هم الفاطميون؟ هل هم الصفويون؟ هل هم العثمانيون؟ هل هو أبو بكر البغدادي؟

الخلاف على تحديد الخليفة، أوجد الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وقد دفع بهذه الفرق للاستناد إلى النصوص الدينية لتؤكد صوابية خياراتها ومواقفها: من هو الأحق في حكم المسلمين؟

التكفير عقوبة سياسية

النصوص المتوحشة أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما أن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث فرضتها ظروف سياسية أيضًا. على سبيل المثال، كتاب الغزالي (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) هو كتاب تكفيري وتقتيلي، كتبه ليقدم بيانًا تأصيليًا يجعل من الخليفة العباسي مكلفًا شرعًا بقتل الفاطميين الذين لم يكونوا يقرون بشرعية الخليفة العباسي المستظهر في بغداد، كتب الغزالي كتابه في بلاط الخليفة 488هـ، وكما يقول في مقدمته أريد أن «أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية … بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة» وليس هناك خدمة ممكن أن يقدمها عالم الدين للخليفة أكثر من تأليف كتاب يظهر فضائله ويكفر أعداءه ويشرح له وجوب قتلهم وقتل نسائهم وأطفالهم.

كل ذلك، كان يتم برسم خدمة الشريعة التي كانت برسم خدمة السياسة أو بدوافعها كما يقول الجابري “أزمة الثقافة العربية كانت -باستمرار-سياسية في دوافعها”

ثقافة التوحش

لقد صاغت أسماء كثيرة خطاب التكفير في ثقافتنا، منهم الغزالي في كتابه (فضائح الباطنية) و(الاقتصاد في الاعتقاد) وابن تومرت في كتابه (أعز ما يطلب) وابن تيمية في كتابه (العقيدة الواسطية) ولعل هذا الكتاب أهونها، فمجمل كتبه مبنية على خطاب التكفير. وهناك تلميذ ابن تيمية وهو ابن القيم الجوزية (ت 751هـ/1175م) وقصيدته (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) المشهورة بالقصيدة النونية، مكونة من (5769 بيتًا) ينتصر فيها -كما يقول محققها- لعقيدة السلف الصالح، ويرد فيها على مخالفيهم، وينقض حججهم ويكشف شبهاتهم وتمويهاتهم “لم يدع الناظم – رحمه الله – أصلًا من أصول عقيدة السلف إلا بينه، وأفاض في ذكره، ولم يترك بدعة كبرى أو مبتدعًا خطيرًا إلا تناوله ورد عليه؛ فغدا هذا الكتاب – النظم – أشبه ما يكون  بالموسوعة الجامعة لعيون عقائد أهل السنة، والرد على أعدائها من جهال وضلال وأهل أهواء”

تتوافر القصيدة على الانترنت على شكل ملفات صوتية متعددة الألحان، وهي بمثابة النشيد الحربي ضد الفرق والطوائف والمذاهب. ولعل الحاجة لها اليوم أشد من الأمس، في نظر المحاربين العقائديين.

يقول ابن القيم في قصيدته:

وكذا ابن سينا والنصير نصير أهـ ـل الشرك والتكذيب والكفران
وكذاك أفراخ المجوس وشِبههم والصابئين وكل ذي بهتان
إخوان إبليس اللعين وجنده لا مرحبًا بعساكر الشيطان

هذه النماذج من المعتقدات هي نسخ مبيضة من مسودة الاعتقاد القادري، وما زالت المسودة تُبيض وتصقل وتزداد توحشًا، لتكون رأس حربة قاتلة في المعارك السياسية.

علي الديري: “أخطر حتى من داعش” رحلة مثيرة في نصوص متوحشة

جريدة الجريدة: فكرتان رائجتان اليوم حول نشأة تنظيم «داعش» الإرهابي. «إنه رد على تحديات عصرنا». هذه واحدة من الأفكار التي يدافع عنها أحد أبرز الفلاسفة السياسيين إثارة للجدل في عصرنا فرانسيس فوكوياما. لكن ماذا لو أنها لم تكن كذلك، وكانت «داعش» على العكس تماماً فكرة عميقة الجذور وأبعد زماناً من زماننا بكثير. على الأقل، هذا ما يدافع عنه الناقد د. علي الديري الذي انتهى حديثاً من رحلة بحث غاص فيها في عشرات بل مئات الوثائق والمصنفات التي تمثل ما يمكن اعتبارها نصوصاً مؤسسة للفكر الإرهابي. إنها «النصوص المتوحشة» أو نصوص التوحش التي تستند إليها حركات التطرف كافة في تأصيل فكرها ومنهجها الدمويّ. وهي نفسها عنوان الكتاب الذي دوّن فيه خلاصات هذه الرحلة البحثية الشاقّة والصادر حديثاً (2015) عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية». وحول ذلك يقول الديري: «ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية».

حاول الديري تتبع جذور «داعش» ليس من الآن؛ إنما انطلاقاً من نصوص التكفير في القرن الخامس الهجري (الغزاليّ) مروراً بالقرن السادس الهجري (ابن تومرت) وانتهاء بالقرن الثامن الهجري؛ حيث بلغ التكفير أوج قوّته مع إسلام ابن تيمية. ويجادل بأن هذه النصوص «هي التي تغذي التكفير الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته»، موضحاً «بضغطة زر في يوتيوب يمكنك أن تعثر على دروس  تركي البنعلي وهو يشرح هذه النصوص منذ أن كان في البحرين».

للمزيد حول ذلك التقينا الناقد علي الديري للحوار حول مؤلفه الجديد.

نصوص متوحشة”.. وأفعال كارثية مدمرة، رأينا نتائجها في الوطن العربي، وها هي تفجع المملكة العربية السعودية والكويت وتهدد الدول المجاورة، ما الذي يحدث؟”

في الوقفة الاحتجاجية على الفيلم المسيء للنبي، أمام السفارة الأميركية بالبحرين في 2012، وقف منظر داعش الشرعي تركي البنعلي محاطاً بأعلام القاعدة وتكبيرات الجمهور، وهو يرفع كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول): (عليكم أن تأخذوا إسلامكم من الإمام الجبل الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث صنف هذا الكتاب لما تجرأ عساف النصراني على شتم الرسول).

هذا الكتاب واحد من نصوص التوحش، التي لا نجرؤ على نقدها، بل هي تحظى بحماية ورعاية وترويج، وتعتبر منهجاً فكرياً مشتركاً لحركات متطرفة ولنظام سياسي له سطوته في السياسة الإقليمية والدولية. تفجيرات مساجد الشيعة في الدمام والقديح والصوابر وقبلها في مأتم الدالوة، كلها تمت من خريجي هذا المنهج وأتباعه. والمثقفون والإعلاميون لا يجرأون على قول هذه الحقيقة، بل هم يغمغمون عليها، فيفاقمون من أمراض التوحش في بيئاتهم.

إنها نصوص منسلخة من الإنسانية، يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) على القتل البشع الذي يمارسه (داعش) اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة.

ومن هنا اتخذ كتابك الجديد «نصوص متوحشة» عنواناً، ماذا عن تصدر شعار حركة «داعش» مموهاً، لم اخترت هذا التشكيل عنوانا لكتابك الجديد؟

اللوحة للصديق الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، نشرها على صفحته في الفيسبوك، مع صعود نجم (داعش) ودخوله الموصل، وجدتها تعبر عن مفهوم (نصوص التوحش) تعبيراً فنياً رائعاً، هي تستخدم شعارهم مقلوباً في إشارة إلى أنهم يقرأون النصوص قراءة مقلوبة، ويفهمون شعار الإسلام فهماً مقلوباً، يفهمون الرحمة توحشاً والتوحيد توحداً بمعنى أنهم وحدهم الذين لا شريك لهم في فهم الإسلام وكل ما عداهم مشركون وكافرون ويجب قتلهم ليبقوا وحدهم. في داخل اللوحة ثمة علامة استفهام، وهي تثير تساؤلاً عن الإله الذي يتكلم باسمه هؤلاء والرسول الذي يدعون أنهم يطبقون رسالته.

في مقابل هذا الفهم الساذج المتوحش لـ (لا إله إلا الله)، ثمة الفهم الصوفي العميق في روحانيته، كما في تجربة جلال الدين الرومي مثلاً وهو يقول “من ذا الذي نجا من (لا) – قل لي؟ -هو العاشق الذي رأى البلاء). يقيم الرومي جدلاً روحياً بين (لا)، و(إلا) في (لا إله إلا الله) لكل منهما مقامها الروحي الذي يفتح قلب الإنسان على الكون وكائناته وإلهه.

قبال تجربة العشق، ثمة تجربة التوحش التي جعلت لشعار (لا إله إلا الله) معنى وحيداً هو (جئناكم بالذبح). وجدت في لوحة عباس يوسف هذا العمق المعبر عن كل ذلك.

تطرف الإسلام السياسي

ركزت على حركة “داعش”، أتجدها وفق هذا العنوان الجماعة الإسلامية الأكثر تطرفاً أم تجدها مثالاً يمكن أن نقرأ من خلاله تطرف الإسلام السياسي، أياً كان مذهبه؟

ينطلق كتابي (نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) من لحظة داعش الآن، لكنها ليست موضوع الكتاب، فأنا ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لافقهية.

حاولت قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري}، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.

يتغذى التكفير، الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته، من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي تركي البنعلي، وبضغطة زر يمكنك أن تعثر في اليوتيوب على دروسه وهو يشرح هذه النصوص حين كان في البحرين، والأكيد أن طلابه ما زالوا يواصلون رسالته، وربما أحدهم يعد عدته لتفجير يوم الجمعة المقبل.

بين فكر متشدد تكفيري وفكر يدعو إلى الانفتاح والعقلانية وجدت الصورتان على السواء، ما قضية الأوطان مع الأفكار؟

الوطن هو فعلاً فكرة، فكرة الوطن في زمن الخلافة الإسلامية، ليست هي نفسها فكرة الوطن اليوم بعد أن راح عشرات المفكرين والفلاسفة يصوغون مفاهيم: المواطنة، العقد الاجتماعي، السلطات الثلاث، التعددية، الدستور، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لهذه الأفكار.

ما زلنا نصارع لأجل بلورة الوطن واقعاً حقيقياً نعيش فيه، وأعني المعنى المباشر لكلمة صراع الذي يهدف إلى تحقيق اعتراف، اعتراف بي كمكون للوطن، لا كتابع أو ملحق. أفهم وجود صورتي في قائمة واحدة في يناير 2015 مع منظر(داعش) في صحيفة رسمية في وطني، انتقاصاً من مواطنتي وما أنتمي إليه من طيف سياسي واجتماعي وديني.

وكما دفع روسو وفولتير وغيرهما حياتهم ثمناً لبلورة مفاهيم الدولة الحديثة، فعلينا نحن كمثقفين، وكمثقفين خليجيين خصوصاً، أن ندفع حياتنا ثمناً لتحقيق هذه المفاهيم في أوطاننا التي هي شبه أوطان.

أرثوذكسية السلاجقة

 ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.
هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان ثمة المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة. وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثَّل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

 ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك (الأرثوذكسية) في قراءته التراث الإسلامي و(الأرثوذكسية) في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من السلطة السياسية.
احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوماً أحادياً وقطيعاً لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة.

جريدة الجريدة في حوار عن نصوص متوحشة

رابط الموضوع

نصوص متوحشة: قراءة سياسية لفكرة التكفير

عبد الرحمن جاسم

“لا تتسرعوا في ابداء الحكم، ففي ذلك مقتل”
راينر ماريا ريلكه (شاعر ألماني)

منذ البداية أحسست بأنني مشدود لقراءة كتاب “نصوص متوحشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيميه” لكاتبه البحراني د. علي الديري، قبل أي شيء، فتمهيد الكتاب –والذي أنصح الجميع بقراءته- هو “عين” الدكتور علي وروحه التي تبدو معلقة بين الكلمات. إنه يريد منا جميعاً أن نفهم ما هو هدفه الخاص من جراء هكذا “دراسة” .  تبدو الأسباب الشخصية بائنةً للعيان. قد يرى البعض هذا مشكلةً في النص، بل قد يراها بعض آخر أنها “تضعفه” ولكن المدرسة الحديثة في “الأبحاث” ترى أن “رغبة” الشخص “الخاصة” في “كشف” الحقيقة و”إيضاحها” للناس تجعله باحثاً “شرساً” ومغامراً عنيداً في سبيل المعرفة، لا بل إن بعض الجامعات يحض عليها، وتعطي الأفضلية للباحثين المرتبطين بقضايا شخصية مع المادة “المبحوث” فيها وعنها.

هذا كله، لم يمنع حس الناقد بداخلي من التحرك، كنت أريد أجوبة عن أربعة أسئلة يعتبرها الناقد سلاحه الأبرز: ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ أين؟. كنت أريد أن أسأل ماذا يكتنز هذا الكتاب؟ خصوصاً لعلمي أن الدكتور علي يمتلك خلفيةً مرتبطة بتحليل الخطاب، وكذلك كيفية استعمال “المجاز” فضلاً عن إدراكه كيفية استعمال “الفلاسفة” لمنطقهم التفكيري. لكن هذه المرة هو يتحدث عن “التكفير”، لربما لما للمعنى/الفكرة من أهمية في عصرنا الحالي أو كما كتبه هو على غلاف الكتاب: إننا نفتح نصوص التوحش في تراثنا الآن لأن هناك وحشا حقيرا يسرق وجوهنا باسم الدين، والخلافة الإسلامية والمدارس الإسلامية والأئمة الإسلاميين. يعتبرنا هذا الوحش أعداء يجب قتلهم وسبيهم، وينظر إلى ممارساته هذه كعبادةٍ كما سائر العبادات من حيث كون التكفير شعيرةً دينية. ولا ريب أن هكذا كلمات هي الإجابة الرئيسية عن “ماذا” و”لماذا” هذا الكتاب.

ماذا عن “كيف” إذاً؟ يتناول د. علي القضية الشائكة بين أيدينا بهدأةٍ شديدة، وإن “بشراسة” المحقق، فهو يبدأ بتعرية الموضوع الماثل أمامنا تاريخياً متناولاً إياه “كموضوع سياسي” بحت، يعيده إلى مراحله الأولى من خلال ثلاثة فصولٍ يتناول فيها أبرز مراحل القضية المطروحة:
بيئة السلاجقة (في القرن الخامس الهجري) مع قراءة لنصوص الغزالي الخاصة بهذا النوع من الفكر، بيئة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وأخيراً بيئة القرن الثامن الهجري مع سلطة المماليك ونصوص ابن تيمية). يبدأ البحث من خلال “نقاشٍ تمهيدي” عن التكفير منقسماً بين “رجل الدولة ورجل الملة” وكيف أن كليهما ظهر بهذا الشكل الواضح والمباشر عند قيام الدولة السلجوقية بتطبيق “السلطة الدينية التكفيرية” كنظام حكم (وليس قبلها كما يدعي البعض، ففي السابق كان الأمر مجرد سلوكٍ فردي”، ولكن هذا لا يعني البتة اختراع السلاجقة للتكفير).

يتناول في الفصل الأول المرحلة السلجوقية الأولى التي أدخلت المفهوم كتحرك سياسي “نظامي”، فيتحدث عن كتاب “سياست نامه” أو ما عرف بالعربية بكتاب “سير الملوك” للوزير السلجوقي الشهير نظام الملك الطوسي، وزير ملكشاه ابن محمد؛ إنه كتابٌ يعين “الحاكم على أمته” ويدله على أيسر وأبسط السبل التي تجعله قادراً على “خنق” معارضيه والإمساك بتلابيب الحكم حتى يشاء. أنشأ الوزير نظام الملك مدارس عرفت باسم المدارس النظامية، هذه المدارس التي من شأنها حماية الحكم السلجوقي ونشر “المذهب الشافعي” الذي كان نظام الملك “متعصباً شرساً” له، ولمعاداة الشيعة الإسماعيلية تحديداً (الذين كانوا يمتلكون قوة آنذاك).

لقد كانت هذه المدارس التي انتشرت بكثرة سبباً رئيسياً في تخليق “الأرثوذكسية” الدينية (وهو مصطلح استعمله محمد أركون بدايةً لتوصيف تأطير الدين بهذه الطريقة القاسية). وقد تأطر هذا النظام إلى الدرجة التي أصبح فيها ممثلاً للدولة السلجوقية بأكملها. طبعاً هذه كانت المرحلة الأولى من “التكفير” لتتبعها المرحلة الثانية مع أبي حامد الغزالي، ويستعير كتاباً للرجل وهو “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية” وفيه يتعامل الغزالي مع الباطنيين بمنطق “التكفير” المطلق وبصفتهم خارجين على ولي الأمر والإسلام وإجماع الأمة حكماً، فيما يظهر كتابه “فضائل المستظهرية” كتكريس لشرعية الخليفة العباسي المستظهر بالله (والذي كان في الـ 17 فقط من عمره آنذاك) كخليفة حق وولي أمر مفترض الطاعة. يظهر “التوحش” ههنا بشكلٍ واضح: إذ يكفي أن نعرف فقط أن أكل ذبائح “هؤلاء” هو “محرم” حتى نعرف عمّ تحدث الغزالي هنا، إن هؤلاء يصبحون حين تكفيرهم: خروجاً عن الإنسانية بشكلٍ كامل قاطع.

nousous 3

قراءة سياسية لفكرة التكفير

يأتي الفصل الثاني ليبتعد قليلاً عن مركزية الدولة المتمركزة في بغداد، ليقترب إلى المغرب العربي من خلال تجربة “دولة الموحدين” مع مفكرها ابن تومرت، الفقيه المغربي الشهير ورجل الدولة الأول هناك. وابن تومرت هذا لمن لا يعرفه، هو خريج من خريجي ذات المدرسة، أي النظامية، وقد التقى أثناء زيارته للمشرق والتي طالت سنين عدة (وقد أعطته هالةً مقدسة استخدمها في كل معاركه لاحقاً)، بالغزالي بحسب رواياتٍ كثيرة، وتأثر به كثيراً وقد أعجب الرجل بأسلوب أئمة الأشعرية واستحسن أسلوبهم في الدفاع عن العقائد السلفية، واستطاب رأيهم فيها. ربط ابن تومرت بين فكرتي التوحيد والتوحش معاً ودمجهما مع “لذة الجهاد”، وقد أدت “مواجهته” العنيفة مع “المرابطون” (الذين سيكون القاضي عليهم لاحقاً) وفقهائهم من المالكية إلى تخليق مذهبه الخاص وجماعته الخاصة التي دعت نفسها “الموحدون” في إيحاءٍ دقيق: نحن الوحيدون الذين نعتنق التوحيد الصحيح. ويستعير الدكتور علي كلماتٍ للذهبي في كتابه “العبر في خبر من غبر” حالة ابن تومرت: جره إقدامه وجرأته إلى حب الرئاسة والظهور وارتكاب المحظور”. ويشير الكتاب إلى أنَّ “عقوبة الحرق” (والتي استخدمتها داعش لاحقاً بعدهم بسنين) تم استخدامها من قبل “الموحدين”.

أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب فهو يتناول لربما أحد أشهر الأسماء في “عالم” التكفير اليوم والتوحش بلغته الحديثة، إنه ابن تيمية متمظهراً في دولة المماليك وإن بفشلٍ كبير مقارنةً مع من سبقوه (فهو لم يتمكن من أن يؤسس دولةً، بل سجن، وبقيت كتبه تنتظر مئات السنين حتى ظهور محمد بن عبد الوهاب وتمكنه من جعلها عقيدة الدولة السعودية الرسمية في العام 1745 م). سيشتهر الرجل بعد معركة “شقحب” الشهيرة بين المغول والمماليك، والتي كان فيها بطلاً ونازع فيها السلطان الناصر بن قلاوون الضجة والشهرة، يومها قال ابن تيمية كلمته الشهيرة: “انا رجل ملة لا رجل دولة”. وهي جملةٌ “كاذبة” للغاية من رجلٍ يبحث عن “السلطة قبل أي شيء”. عارض الشيخ كل شيء، وأحكمت فتاويه “السيف” في جميع “المخالفين” والأقليات التي عدّها كلها “كافرة” وتستحق “الموت”، ولكن أبرز من عاداهم وللمفارقة هم “الأشاعرة” بالذات.

حارب الرجل مذهب الأشاعرة لا لسبب إلا لأنهم ينافسونه على ملعبه وبين جمهوره، فهم يقولون “زوراً وبهتاناً” بحسب كلامه إنهم “مذهب الدولة” و”مذهب أهل السنة والجماعة”. وهذا أمرٌ لا يرتضيه أبداً. تظهر الخلافات ههنا بين المذهبين وبحدةٍ أيضاً: فابن تيمية يحاسب الأشعري على كتابه الأخير الذي كتبه أي “الإبانة” ويعتبره أنه “سلفي” كما يرغب، بينما يأتي الأشاعرة ميالين لقراءة كل تاريخه والتعامل على هذا الأساس مع ما يحدث.

يشرح الفصل صراعات ابن تيمية الكثيرة ضد أي شيء يخالفه، وكل شيءٍ “يمكن استخدامه” لتضعيف خصومه والقضاء عليهم. ويكفي أن نتحدث عن “توحش” ابن تيمية في الرسالة “الفتوى” التي أرسها إلى السلطان الملك الناصر بن قلاوون حيث يعطيه فيها “الشرعية الكاملة” لكل ما قام به من مذابح قتل خلالها “الشيعة” المعارضين له، معتبراً أنه في كل 100 عام يأتي مجددٌ للدين وهذا المجدد هو قلاوون، ويعتبر أنَّ ما فعله الناصر هو نفس ما فعله الخلفاء الراشدون في حروب الردة، قائلاً في فتواه: “يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين ببعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة”.

في الختام؛ هو كتابٌ ذو جهدٍ كبير وحثيث في تناول “التوحش” من منابعه، وكيف أنّه يتعدى مرحلة الفكرة الدينية بكثير ليصلها بفكرة السياسة، وكيف أن هذه الدول استخدمت الدين/المذهب كوسيلةٍ للقضاء على أعدائها دون أي مسوغٍ منطقي سوى ألعاب حواة من قبل شخصياتٍ كانت تمتلك لساناً حذقاً، وعقلاً خلبياً يمكنهم من “قتل معارضيهم بكل طمأنينة بال، وهدوء سريرة”.