السعودية حين تحكي: نعم أنا الوحش وهذه قصتي
تحتاج نصوص التكفير إلى تفكيك، لا إلى تفسير أو تأويل. يحفل التراث الإسلامي بنصوص التكفير، لكن لا تكمن الخطورة هنا، بقدر ما تكمن في النصوص التكفيرية التقتيلية، هنا يكمن الوحش الذي يلاحقه الباحث البحريني علي الديري.
في مساره البحثي سعى إلى تثبيت فرضيته التي ينطلق منها: “التكفير مشروع قتل يُمليه صراع سياسي”. أفرز هذا المسار عن إنتاج كتاب “نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية”(عام 2015)، لاحق فيه نصوص التوحش من خلال ثلاثة نماذج متمايزة من حيث وجودها الجغرافي ومن حيث ظهورها الزماني، أبي حامد الغزالي في بغداد وابن تومرت في المغرب العربي، إضاف إلى ابن تيمية في الشام. في النماذج الثلاثة نجح الديري في إثبات أن سياقات التكفير المتوحش أتت كنتائج فرضتها الظروف السياسية.
يستكمل الديري مساره البحثي، هذه المرة بكتابه الصادر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق “إله التوحش.. التكفير والسياسة الوهابية”، متوقفاً عند باعث وجوه التكفير المتوحش “محمد بن عبد الوهاب”.
تناول الديري سيرة ابن عبدالوهاب من خلال مصادره الرسمية. غاص في المصادر التي عاصرت ابن عبدالوهاب وأرّخت له، وفكك نصوصه نفسها، ليقدم لنا الهوية السردية للتوحش.
أواخر العام 2015، وبمشاركة الدكتور علي الديري انطلقت حلقة الدراسات الوهابية، التي تناولت سيرة محمد ابن عبدالوهاب، ومسار ما عُرف بـ “الدولة السعودية الأولى”. اعتمدت الحلقات البحثية على المصادر الرسمية التي عاصرت ابن عبدالوهاب، والتي لاتزال تطبعها دارة الملك عبدالعزيز، المهتمة بتوثيق تاريخ المملكة العربية السعودية وشبه الجزيرة العربية. شكلت كتب المؤرخين حسين ابن غنام وعثمان بن بشر، أهم المصادر التي اعتمدتها الحلقة. ورغم التنقيحات المتكررة التي أُدخلت على هذه المصادر في طبعاتها المتعددة، ظلت هذه الكتب تحمل تعقيدات مزعجة تتعلق بمعجمها التكفيري وحوادث العنف التي تسردها كبطولات للآباء المؤسسين للدولة والدعوة.
في كتابه “إله التوحش التكفير والسياسة الوهابية”، نجح الكاتب في تفكيك هذه السردية. وإلى حد كبير تميّز بقدرته على استلاب اهتمام القارئ بسلاسة وجاذبية هي بعيدة كل البعد عن جمود التوحش الذي يستلزمه تناول موضوع للتكفير.
القارئ الذي لا يعرف سيرة محمد بن عبدالوهاب ولا سيرة رجال الدولة السعودية الأولى، سيهوله حجم العنف والتوحش المروي في هذه المصادر الرسمية، والقارئ خصوصا السعودي المشبع بهذه السيرة التي يدرسها ضمن تربيته الوطنية والدينية باعتبارها صاحبة الفضل في تأسيس هذه الدولة، ستصدمه أسئلة الكتاب النقدية، فهي أسئلة صادمة للوعي السعودي، فالكتاب يخاطب: من يرفض التكفير، ومن يقدس رجالاته.
أتوقع أن كل الأسئلة التي يفتتح بها الديري كل فصل من فصول الكتاب، ستشكل صدمة للوعي السعودي الذي تربى على التعاطي مع سيرة محمد بن عبدالوهاب كمقدس، أو التي تعاطت مع سيرته على أنها سيرة مقدسة للرجل الذي “أحيا الدعوة النبوية”، وشكل الهوية الدينية والوطنية. وهذه هي بحسب تسمية الباحث (الهوية السردية) التي سرد قصصها (تاريخ ابن غنام) بشكل يفضي إلى المفخرة والاعتزاز بأمجاد وغزوات وفتوحات جيش الدرعية. على وقع هذه السردية تربى العقل السعودي وعلى وقائع غزوات جيش المسلمين كما يسميهم ابن غنام، تكون وجدان هوية المواطن السعودي.
نجح الديري في تعرية هذا المقدس وبالتالي نجح في ضرب أو تهشيم صورة هذه الهوية، دون أن يقع في فخ الأدلجة ودون أن ترتد إثاراته سلباً على قوة ما نقله.
في كتابه يسأل علي الديري: كيف يرى الذين وقع عليهم الغزو من قبل ذوي الإسلام (حسب تسمية عنوان كتاب ابن غنام) هويتهم اليوم؟
من هم “الذين وقع عليهم الغزو”؟ أليسوا هم أنفسهم من يدرسون اليوم سيرة ابن عبدالوهاب كهوية مقدسة لـ”الأمة السعودية”؟ أليسوا هم أنفسهم من يدافعون عن السيرة التي توثق وقوع الغزو على أجدادهم الذين اتهمهم محمد بن عبدالوهاب بالشرك والكفر؟
ما الذي أراده الديري من خلال سؤاله هذا؟ لعلها الصدمة التي ستسهل تهشيم شي من السردية السعودية لسيرة الرجل. وهي الصدمة التي ستشكل استفزازاً يستدعي اهتمام القارئ لمعرفة ما يود الكاتب قوله… وبمعزل عن النتيجة فإنه سيسجل للكاتب أن فتح منفذاً في العقول التي دُجنت على تقديس سيرة محمد بن عبدالوهاب، وأنه نجح في إحالة هذا المقدس إلى النقد الذي يهشم صورة هذه القداسة .
“أين هم الذين كان سيف ذوي الإسلام ضدهم؟ أين مكانهم في هذه الهوية؟”
“من هم الذين يقعون خارج الأمة التي رسم حدودها محمد بن عبدالوهاب؟”
يطرح الديري سؤاله من ضمن إثاراته النقدية، هو يسأل بالفعل عن مكان المكونات السعودية غير المتوافقة مع أطروحات ابن عبدالوهاب في الخارطة السعودية المجتمعية. ينتقد حدود الأمة التي رسمتها معتقدات ابن عبدالوهاب، والتي شكلت لاحقاً دولة ضمت كفاراً ومشركين أُعملت سيوف الوهابية في رقابهم باسم التوحيد. ويتساءل عن هوية المجتمع التي محتها الدولة السعودية الأولى، لتعيد صياغتها مجدداً على مقاس دعوتها الدينية ومصالحها السياسية. يغيب عن هذه الهوية السردية (أو المسرودة من قبل ابن غنام) كل ما قبل ابن عبدالوهاب، ويغيب عن هذه السردية كل ما هو متعلق بتاريخ وهوية كل من ناوئ أو عارض الرجل. لعل الديري يسأل السعوديين اليوم:
أين تاريخكم الذي استبق ظهور ابن عبدالوهاب؟
أين الإنتاجات الفكرية لمجتمع الأكيد أن عمره لم يرتبط بولادة ابن عبد الوهاب فقط؟
كيف كانت نجد، التي وصفها مؤرخو المملكة بأنها كانت بلاد شرك، قبل مجيء الرجل؟
كيف كانت الحركة العلمية فيها؟ من هم أبرز علمائها قبل عميد الوهابية؟
في تساؤلاته التي تركها مفتوحة بلا إجابات، حاول الديري تحريك الوعي السعودي الذي دفنته هذه السيرة، وروضته ليقبل بأن لا تاريخ لمجتمعه وأجداده استبق تاريخ محمد بن عبدالوهاب. هكذا تحدث تساؤلات الكتاب صدمة لا يمكن الهروب منها، ولا بد من التوقف عندها، وهكذا تدفع الأسئلة القارئ للتعاطي مع النص بأسلوب مختلف، وعلى النظر إليه من زاوية مختلفة.
ليست هذه الأسئلة المثارة من خلال هذه (الهوية السردية) موجهة للقارئ أو المواطن السعودية فقط، بل هي برسم الدولة السعودية اليوم، إنها أسئلة تضرب صورة المملكة السعودية بواقعها الحالي الذي يفخر بماضيه القائم على غزو القبائل وقتل المعارضين وتكفير المخالفين وصرم نخيلهم وتخريب زروعهم وسلب أموالهم باسم الدين. بل ويُمعن واقع الحال في سياق هذا الفخر بإعادة طبع الكتب التي تروي هذه الوقائع وتوثق هويته السردية، ليقول: هذه هويتي وهذا أصلي وهذا توحيدي المتوحش… وعليه فإنه واقع حالي.
إسراء الفاس*
*إعلامية وصحافية من لبنان.