كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

حوار مع جمانة حداد (2-2)

ناشرة أول مجلة عربية في الإيروتيكا.. جمانة حداد في حوار صريح مع «الوقت»:

نعم أنا مع إباحية «أونفري» وضد المقاربات السلمية للجسد «٢-٢»

 

الوقت – بيروت – علي أحمد الديري:

by Wadeed Shukri

تصنعها في بيتها، في زاوية صغيرة لا تتجاوز مساحتها الـ «2م*2م»، ومن هناك تدير مراسلاتها الخاصة، تشرف على تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ثم تأخذها إلى المطبعة حيث التنفيذ والإخراج. الشاعرة والصحافية اللبنانية جمانة حداد، صاحبة «عودة ليليت» وأنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين، هي مؤسِّسة مجلة «جسد» ورئيس تحريرها، هذه المجلة الجدلية التي ولد عددها الأول في ديسمبر/ كانون الأول ,2008 والتي تقدم نفسها على أنها ثقافية متخصصة في آداب الجسد وفنونه وعلومه. تراهن جمانة حداد على مشروعها أن يكون منبراً رحباً لثقافة عميقة للجسد. وتتحدث في حوار خاص مع «الوقت» عن هذه المجلة التي صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد، وعددها الرابع على وشك الصدور: عن أسئلتها وموضوعاتها ومضموناتها ومحمولاتها، عن طموحاتها، وعن ردود فعل الداخل والخارج عليها.

معاني «الإباحية» راقية معجمياً لكنها خطفت نتيجة العقد والمحرمات

في العدد الأول للمجلة كان هناك لقاء مثير جدا أجريته أنتِ مع الناقدة والكاتبة الفرنسية كاترين مييه قالت فيه، في ما قالت ‘’إن التحرر الجنسي لا يعني بالضرورة الهيدونية (أي الفلسفة القائلة بأن اللذة هي المبدأ الرئيس في الحياة)، وأنه يمكن أن نرى إلى الجنس بمعزل عن منطق المتعة’’. وهي تحدثت بكثير من التحرر عن مغامرتها الحميمية في كتابها ‘’حياة كاترين م. الجنسية’’ الذي ترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة.

– صحيح، وهي ستأتي في المناسبة إلى معرض الكتاب في بيروت في شهر ديسمبر/ كانون الأول، لتوقع الترجمة العربية لكتابها هذا، الصادر عن سلسة ‘’جسد’’.

كانت كاترين امرأة عاملة ومتزوجة، وإحدى القارئات لفتتها إلى أن ما كتبته يتعارض مع كونها امرأة عاملة ومتزوجة. مع الفارق بينكما في جرعة الجرأة أسألكِ: أنتِ أيضاً امرأة عاملة، ومتزوجة، وعربية. فكيف تنبثق منك مجلة صادمة كمجلة ‘’جسد’’؟

– إن الغالبية في العالم العربي تعشق التعميمات، وحصر الناس في تعريفات محددة وضيقة، لأن المتفلت من التبويب يقلقها. ينطبق هذا خصوصا على نظرة تلك الغالبية إلى المرأة. فالمرأة التي تكتب عن جسدها بأريحية، من دون خوف أو مراعاة لأي رقيب مفروض عليها، هي حكماً، بمعايير تلك الغالبية السطحية، امرأة فاجرة وخارجة تماما على سلم القيم. بمعزل عن كوني أحتقر هذا التصنيف، ولا أجد نفسي معنية بشفاء ‘’المرضى’’، كوني كاتبة ولستُ طبيبة، يهمني أن الفت إلى أننا جميعا، رجالا ونساء، نملك الحق المطلق، كبشر، في أن نكون أحرارا في الفكر وفي التعبير. الرقابة إهانة لنا كراشدين وكمثقفين. من هو هذا الذي يظن أنه يملك الحق في أن يقول لي: هكذا يجب أن تفكري، وتتكلمي، وتكتبي؟ حدودي أقررها وحدي، ولا احتاج وصياً علي. أنا مع العدائية في هذا الموضوع، ولست مع المقاربة السلمية.

‘’أنا أدافع عن الإباحية التي تنشد الحرية والمساواة والمشاركة. لكني ضد الإباحية الرأسمالية التي تمارس قوتها على الفقراء’’ هذا ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري في حواره مع ‘’جسد’’. هل أن خطاب المجلة يدافع بدوره عن هذه الإباحية، أم أنه يتحرج من الكلمة؟

– لا أملك ألا أشعر بالغضب عندما أفكر في كل الكلمات الجميلة التي تم تشويهها في لغتنا العربية، عبر إثقال كاهلها بمحمولات وإيحاءات سلبية ظلماً، نتيجة العقد والمحرمات.

من هذه الكلمات مفردة ‘’إباحية’’. إذا عدنا إلى المنجد، فسنجد أن معاني هذه الكلمة راقية جدا، لكننا شوهناها بالاستخدام، مع التردي الخطير في ثقافتنا في الأزمنة المعاصرة، وبات معناها مهينا. أرى أنه ينبغي لنا إعادة اختراع هذه الكلمة وسواها من تعابيرنا ‘’المخطوفة’’. ورداً على سؤالك، أقول إن ‘’جسد’’ تدافع قطعاً عن الحرية التي تحدث عنها اونفري، والتي تحدث عنها قبله كثيرون من كتابنا وفنانينا ومثقفينا.

هل سيكون أونفري بدوره ضيفا لـ’’جسد’’؟

– سيكون ميشال أونفري صاحب الكتاب الثاني في سلسلة ‘’جسد’’، عبر الترجمة العربية لعمله المعنون ‘’في سبيل إيروتيكيا مضيئة’’. من جهة أخرى، سوف أحاوره في معرض الكتاب الفرنسي في بيروت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، حيث سأدير ندوة معه حول هذا الموضوع.

أخيراً حصلنا على جسد «رجل» صالح لصورة على غلاف!

لاحظتُ أن أغلفة ‘’جسد’’ الثلاثة تحمل كلها صور أجساد لنساء، رغم أنكم تحتفون بالرجل أيضاً، مثلما فعلتم في العدد الثاني مثلاً. فما سبب غياب جسد الرجل عن الغلاف؟

– هي محض مصادفة فحسب. فالفنانات الثلاث اللواتي اخترتهن في الأعداد الثلاثة الأولى، صدف أنهن يعملن على تيمة الجسد الأنثوي لا الذكوري. وكنتُ وجدت للعدد الثالث فنانة لبنانية صورت عري الرجل بشكل رائع، وكانت وافقت على نشر الصور، لكنها طلبت مني أن لا أنشر أسمها، فرفضتُ رغم جمالية أعمالها، لأن الأسماء المستعارة تتعارض مع مبدأ المجلة (كفانا اختباء وراء إصبعنا). أما غلاف العدد الرابع، فهو، أخيراً، يحمل صورة جسد لرجل. في أي حال، الأجساد الذكورية موجودة بكثافة داخل المجلة منذ عددها الأول.

لو أردنا أن نربط بين مجلة ‘’جسد’’ وخطابها، وتجربة جمانة حداد الشعرية، فسنلاحظ بينهما تواصلاً وانسجاماً..

– فعلاً. فلطالما كان الجسد تيمتي الأثيرة في كتابتي الشعرية، والفضاء الذي تتحرك فيه تعبيراتي وتخيلاتي وأفكاري، ولأجل ذلك أعتبر المجلة، ‘’طفلتي’’ الجديدة هذه، قصيدة من قصائدي، وإن مكتوبة بشكل آخر. هي قصيدةٌ ذاتُ تمثل مختلف على الأرض، لكنها حتما قصيدة. هكذا أعيشها وأتعامل معها. هناك خيط واضح يربط كتاباتي وقراءاتي ودراساتي واهتماماتي الشعرية والأدبية والصحافية، وحتى الحياتية، بموضوع الجسد، وأنا أرى أنها أجزاء متكاملة ومنسجمة مع نفسها، تحت سقف جامع هو أنا.

هل أخذتك هذه التجربة بعيدا عن تجربتك الشعرية؟

– من الصعب، بل من المستحيل أن يسرقني أي شيء من الشعر. الشعر يفرض وقته فرضاً. هو رجل ذو عنفوان وأنانية هائلين، يخلع الباب عندما يشاء ويخبط قدمه بالأرض وينهرني قائلاً ‘’الآن الوقتُ وقتي. اتركي كل شيء واتبعيني’’. فأطيع على الفور. أنا الآن في الواقع في صدد إنجاز مجموعتي الشعرية الجديدة، وعنوانها ‘’كتاب الجيم’’، وهي نوع من الأوتوبيوغرافيا الشعرية بخمسة فصول مختلفة تصوراً وشكلاً، لكنها منصهرة في ما بينها. أعمل عليها منذ نحو السنة، ولست مستعجلة على الإطلاق حيال إنهائها ونشرها. تعلمتُ مع الوقت الرضوخ لإيقاع الشعر المزاجي، وعدم الرضوخ في المقابل لإرهاب ‘’ضرورة النشر’’. ثم إنني نشرت كتابي الأخيرين في أواخر العام ,2008 أعني الأنطولوجيا والديوان اللذين أنجزتهما حول تيمة الشعراء المنتحرين، وكانا تطلبا مني أربع سنوات متواصلة من الكد والجهد. كتبي الشعرية، خصوصاً الأخيرة منها، لم تعد عملية جمع لقصائد متنوعة تدور حول تيمات مختلفة، بل هي كتاب متكامل حول موضوع واحد: أي أن حركتها باتت حفرا عموديا بدلا من أن تكون توسعاً أفقيا. أحاول أن أحفر في تيمة واحدة، في فكرة محددة، قدر الإمكان، حتى ‘’أمص’’ دماء هذه الفكرة كلها. من جهة أخرى، أنا على وشك إنهاء كتاب ثان يصدر في أوروبا السنة المقبلة، وهو عمل نثري حول المرأة العربية، انطلاقاً من تجربتي وحياتي الخاصة، أنجزته بناء على طلب من الناشر، وعنوانه ‘’قتلتُ شهرزاد’’.

الداعمون العرب أدركواالخطورة والماركات تخوفت.. والجميع هرب

في العودة إلى المجلة، هناك فلاسفة فرنسيون فتحوا موضوع الجسد مبكرا في الثقافة العالمية، مثال على ذلك ميرلو بونتي (1908-1961)، وهو من أكثر الفلاسفة الذين حفروا للجسد في الفلسفة، وكان قال في كتابه ‘’فينومينولوجيا الإدراك’’، الذي صدر العام 1945 ‘’جسدي ليس أمامي، في مواجهتي. ليس موضوعا قائما بذاته أو شيئا مستقلا عني. بل أنا جسدي’’. لماذا لم أجد لميرلو بونتي وفلسفته حضورا في مجلة ‘’جسد’’؟

– أنت على حق. ولكن علينا أن نعي أن ‘’جسد’’ مجلة فصلية، وليست كتاباً يصدر مرة واحدة. أي أنها بالكاد بدأت تقول ما تريد قوله، وشرعت تناقش ما تريد مناقشته. هي مجلة ستعيش وتستمر وتكبر طوال سنوات آتية كثيرة، وتيماتها أكثر تشعباً وغنى من ن تستنزف ذاتها في بضعة أعدادأنأن تستنزف ذاتها في بضعة أعداد. صدقني، هناك أمور وظواهر وفلسفات عديدة موجودة على أجندتي الصغيرة هذه، من التي أتشوق، بل أتحرق للتطرق إليها في المجلة. لكني أقول لها انتظري. سيأتي دوركِ. لا يمكن أن يتحقق كل شيء في عدد أو عددين أو ثلاثة. سيكون مضحكاً، بل محزنا جدا، أن أزعم أن المجلة قالت في ثلاثة أعداد كل ما كانت تريد قوله.

 قلت إن لديك تصوراً لعشر سنين مقبلة للمجلة، في ردك على من يعولون على نفاد موضوعات الجسد بعد ثلاثة أعداد..

– حداد: فعلاً. ولم أكن أبالغ.

 

هل هناك أي دعم مادي لـ’’جسد’’؟

– لا للأسف. ليس هناك أي دعم مالي حتى الآن. أنا استثمرت مبلغا من مالي الخاص لكي تولد، ولم أرغب بأي شريك كي لا أساوم على حرية التعبير فيها. لقد منيتُ بخيبات أمل كثيرة حين بحثتُ في البداية عن شركاء ماليين في العالم العربي. إذ واجهتُ أمرين، كل منهما أشد سوءا من الآخر: إما لم يُرد أحدٌ التورط في هذا الموضوع بسبب ‘’خطورته’’، وإما ثمة من وافق على خوض المغامرة، لكنه أراد أن يفرض شروطاً حول الخطاب والمادة التحريرية، وهذا طبعا ما لا يمكن أن أساوم عليه على الإطلاق. كنت أضع أيضا آمالا كبيرة في الإعلانات، لأن كل ما نراه ونشتريه اليوم، كل ما يسوق له، هو على علاقة بالجسد، من ثياب أو منتجات أو ماكياج أو عطور الخ. لكن بسبب المعايير المزدوجة التي نعيشها، حتى الماركات العالمية تخشى النشر في مجلة ‘’جسد’’ خشية خسارة أسواق مثل السعودية مثلاً، على ما قالته لي إحدى شركات الإعلان. سأظل أحاول تقديم طلبات منح إلى مؤسسات ثقافية يمكن أن تدعم مشروعا من هذا النوع، وإذا حصل ذلك فسيساعدني الأمر كثيرا في استعادة التوازن على المستوى المالي. ولكن إذا لم يحصل، فستستمر المجلة بعرق جبينها ومبيعاتها ونسبة الاشتراكات فيها، رغم الصعوبات والتحديات، علما أني أصر على أن أدفع للكتاب مكافآت، ولو متواضعة، نظير مساهماتهم.

لستُ «سوبر وومن» لكنني امرأة لها ولأنوثتي علي حق

لدي ملحوظة بسيطة وهي أن الكتاب غير مُعرف بهم في المجلة، أي ليس هناك تعريف بهم؟

– غالبية كتاب ‘’جسد’’ معروفون أصلاً في الحياة الأدبية والصحافية العربية، ولكن طبعاً أحب أن تكون هناك صفحة مخصصة للتعريف بهم لمن لا يعرفهم، وقد أبدأ بهذا التقليد انطلاقاً من العدد الرابع. أنا أعترف بأن هناك نواقص في المجلة، وبأن ثمة أمورا قابلة للتطوير والتحسين. ولكن عليك أن تدرك أمراً مهما، وهو أني أقوم بالجزء الأكبر من التفاصيل وحدي. ثم إنني لستُ متفرغة لـ’’جسد’’: فأنا صحافية مسؤولة عن صفحة ثقافية يومية، وكاتبة لها التزاماتها، وشاعرة لها أوقاتها، ومنسقة لجائزة أدبية، فضلاً عن أسفاري الكثيرة لإحياء أمسيات شعرية في الخارج نتيجة ترجمات كتبي. ودعنا لا ننسى أني زوجة وأم أيضاً، ولولدي وشريك حياتي حقوق علي، وأحاول أن أخصص لهم الوقت وسط هذه المشاغل. ثم إني امرأة كذلك، ولأنوثتي ومتطلباتها حق علي بدورها، ولا أطيق إهمالها. إذا فكرت، فستجد أن كل هذه الأعمال تحتاج إلى فريق عمل، بينما يقوم بها في الحقيقة شخص واحد. لستُ ‘’سوبر وومن’’، ولأجل ذلك لا مفر من أن تغيب عن بالي بعض الأمور التي من شأنها أن تحسن المجلة. وأتمنى أن تسمح إمكاناتي في الوقت القريب بتوظيف شخص أو اثنين لمساعدتي. لكن ‘’جسد’’ غنية وأنيقة شكلاً ومضمونا، وهي تريد لنفسها أن تصير أفضل، وأجمل، وأعمق: وفي طموحها هذا، يكمن رهان نجاحها. أي أنها ليست متبجحة ولا منغلقة على منجزاتها. أكرر: هي بيت. والبيت يصنعه أهله، يوماً بعد يوم.

إذاً ليس للمجلة مكتب حتى الآن؟

– لا. بل ‘’أكونها’’ في رحم رأسي وبيتي، وفي أحيان كثيرة أيضا من على كومبيوتري المحمول الذي يرافقني أنى ذهبت. طبعاً، طموحاتي لها كبيرة، لأن ‘’طمعي’’ بلا حدود. لكنها في الوقت الحاضر تتشكل في زاوية صغيرة (2م x 2م) على شرفة منزلي التي أغلقتها بالزجاج لكي أحولها مكتباً صغيراً.

هل من كلمة أخيرة؟

– كلمة شكر وامتنان عميقة وصادقة لكل من يخوض معي هذه المغامرة الرائعة: شريك حياتي ووالداي الذين يدعمونني إلى أقصى الحدود، معنوياً وعملياً على السواء؛ أصدقائي (على قلتهم)؛ أعدائي (بسبب تحريضهم الدائم لي)؛ الكتاب والفنانون العرب الذين يقفزون معي فوق الهوة في كل عدد جديد، بلا خوف من الوقوع والأذى؛ وأخيراً القراء الذين يغذون ‘’جسد’’ باهتمامهم ونهمهم وحبهم. أدين لجميع هؤلاء بالكثير.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=179885

الولاية والتحديث السياسي

ما علاقة مفهوم الولاية بالتحديث السياسي؟
الولاية لغويا تعني القرابة، وسياسيا تعني السلطة. كيف صار القرب يعني السلطة؟ القرابة في الدم تعني الجماعة المتصلة النسب، واتصال الجماعة يولد قوة والقوة تفرض سلطة. السلطة القائمة على عصبية الدم هي موضوع ابن خلدون في تحليل جسد الدولة. القرب هنا حقيقي من حيث صلة الدم، لكن ما يترتب علp33_20090212_pic2ى هذا القرب من مقتضيات ليس حقيقيا، بل ثقافيا أي أن القوانين والأعراف التي تشرّع لهذا القرب وتحدد مراتبه ليست حقيقية.
ولاية الفقيه، لا تتحدد بهذا القرب الحقيقي، وإن كانت تعتمده، فهي ولاية قائمة على قرب مجازي، الفقيه قريب من الإمام، والإمام قريب من النبي والنبي قريب من الله. في (ولاية الفقيه) ينوب كل قريب عن قريبه، ويتبادل الأقربون الوظيفة، فالفقيه قريب من الإمام وينوب عنه في غيابه، لكن هناك اختلاف في حدود هذه النيابة وما يترتب عليها. القرب المجازي هو مسافة اعتبارية، يعتبرها ذهن ما أو مدرسة ما أو مذهب ما، وفق تأويل معين، وما تراه جماعة ما قريب، تراه جماعة أخرى بعيدا، وبحسب اختلاف الجماعات في اعتبارياتها التقريبية يختلفون في الأولويات التي يرتبونها على اعتبارياتهم التقريبية. هذا ما حدث بين الإمامية الذين اعتبروا الإمام قريبا من النبي حد النيابة المطلقة عدا النبوة، وأهل السنة الذين اعتبروا الإمام قريبا من الصحابة ولا نيابة خاصة له عن النبي.
شرعية القرب هي ما يستند إليه الفقيه في ولايته، والولاية سلطة، والسلطة نظام حكم وإدارة، والتحديث تغيير في شكل ممارسة السلطة، لقد غيّر الإمام الخميني في شكل ممارسة سلطة الفقيه، فأخرجها من مجال الممارسة الفردية، إلى الممارسة المؤسسية، أي حوّلها من فقيه يفتي، إلى دولة تقرر. كيف فعل ذلك؟ وكيف نقيّم عملية التحويل هذه؟ وهل هي عملية تحديث؟
في كتابه حدود الديمقراطية الدينية، يفرد الباحث الصديق توفيق السيف المختص بمفهوم السلطة في تاريخ الفقه الشيعي، فصلا معمقاً يتناول فيه ( دور الإمام الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة: مقاربة جديدة). في مقاربته الجديدة فعلاً يلفت (السيف) إلى أن الولاية في مشروع الإمام الخميني (الحكومة الإسلامية) قد تمّ تحديثها ومصالحتها مع مفهوم الدولة، وأنهى هذا التحديث القطيعة بين الفقيه والدولة، وبهذا أصبحت هناك دولة لها شرعيتها ويتوافر لها إجماع شعبي عام. فالناس لا ترى في الدولة جهازاً خارجهم ولا علاقة لهم بها، ولم يعدوا يرونها سلطة قد اغتصبت حق الإمام المهدي الغائب. لقد حلّ تأويل الولاية ”مشكلة الإجماع السياسي الذي كان غيابه سبباً في العلاقة المتأزمة بين المجتمع والدولة الإيرانية خلال معظم القرون الخمسة الماضية، ولا سيما منذ انتهاء الثورة الدستورية وقيام النظام البهلوي في ”1920[1]
تستهدف – بحسب مقاربة السيف – فكرة الولاية المطلقة التشديد على الطبيعة الشاملة لسلطة الدولة وخضوع جميع المواطنين لمقتضياتها. بينما يشدد مفهوم مصلحة النظام على أن تشخيص الحكومة للمصالح العامة هو المعيار الرئيس لتبرير عملها، مقارنة بالفهم السائد الذي يذهب إلى أن المصالح المعتبرة هي تلك التي عرّفها الشرع والتي يرجع في تشخيص موارد انطباقها إلى الفقيه. الدولة لها حق شرعي في إنشاء إلزامات قانونية بناء على تشخيصها الخاص، مقارنة بآراء المجتهد غير الحاكم الذي تصنف كفتاوى غير ملزمة على المستوى العام[2].
إذن، سلطة الإمام الغائب لم تنتقل إلى فقيه، بل انتقلت إلى الدولة، لكن هل الدولة صارت هي ولياً، أو ولي الفقيه صار هو دولة؟
لقد أعطى الفقيه شرعيته للدولة، وأخذ منها قوتها وإلزامها ووسائل إكراهها، فصار هو وليّها، وشرعيتها تتوقف على ولايته، فالدولة التي لا تخضع لولي فقيه لا شرعية لها.هكذا صار ولي الفقيه دولةً.
يشبه (غابرييل الموند) الدور الوظيفي للشرعية بالروح التي تسري في كل مفصل من مفاصل العلاقة التفاعلية بين المجتمع والدولة، فتضمن كفاءة النظام السياسي في العمل ومتانته في مواجهة التحديات[3].
لقد بثّ الإمام الخميني روح الولاية في جسد الدولة ومفاصلها، فصارت الولاية المطلقة هي الروح التي أخذت تسري في مفاصل العلاقة التفاعلية، والوظيفة التي هي مسؤولة عن الاطمئنان على هذه الروح والتأكد من تمكنها من القبض على مفاصل الدولة هي وظيفة (المرشد الأعلى)، هو ولي هذه الروح وصاحب شرعيتها وبذلك فهو ولي الدولة ومناط شرعيتها معقود به.
لم يتمّ تحديث مفهوم الولاية، بل تمت إعادة إنتاجه في جهاز أكثر تركيبا وتمكُّناً وتأثيرا وقدرة وقوة وحاكمية، إنه الدولة. الولاية صارت سلطة قاهرة. لم تعد الولاية لطفاً إلهياً كما هو الأمر مع تأويل العرفاء والصوفيين، بل صارت سلطة مادية قاهرة وتلك هي الولاية التي يتحدث عنها الفقهاء.
الولاية في مفهوم الإمام الخميني، لم يتم تحديثها، بإجراء تغييرات على مفهومها وأفقها التاريخي وتأويل مقاصدها، كي تلائم مفهوم الدولة الحديث، بل جرى تكييف الدولة كي تكون على مقياس روحها. وهذه إحدى مظاهر مشاكل التحديث في العالم العربي والإسلامي، لا نتغير نحن كي نلائم ما يستجد، بل نكيّف ما يستجد مع أوضاعنا، كي نبقى كما نحن، والشاهد على ذلك القبيلة، فهي قد كيّفت الدولة بالتصرف في جسدها، ولم تتغير هي، كي تتلاءم مع الدولة.
الولاية نظرية في السلطة يحضر فيها مفهوم المؤمن ويغيب عنها مفهوم المواطن، لأنها مشغولة بسؤال: كيف يكون الحكم مطابقا للسماء؟ في حين الدولة الحديثة يشغلها سؤال: كيف يكون الحكم ملائماً للأرض؟
لقد تمّ توليد الشرعية للدولة في التجربة الإيرانية بإعادة إنتاج (الولاية) في شكل دولة، لا بتحديث الولاية. لقد مدتّ القبيلة الخيمة على الدولة فصارت مضرباً من مضاربها، ومدّت الولاية على الدولة عباءة الفقيه، فصارت طائفة من المؤمنين لا جماعة من المواطنين. نحن تحت ظلال الخيمة التي جامع جماعتها الدم والنسب وظلال العباءة التي جامعها جماعتها العقيدة والمذهب.
صار ولي الفقيه دولة يحكمها فقهاء شرعيون، ولم تتحول الدولة ولياً يحكمها فقهاء دستوريون. من هنا لست مع صديقي توفيق السيف، في تقرير أن الاستبداد القائم ليست علته ولاية الفقيه، بل أراها علته، وهي علة تستلزم إصلاح مفهوم الولاية نفسه.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11671
هوامش
[1]، [2]، [3] انظر: توفيق السيف، حدود الديمقراطية الدينية، دار الساقي،.2008

حوار مع جمانة حداد حول مجلة جسد

كل أسئلة الجسد مشرعة للنقاش في «جسد».. جمانة حداد في حوار صريح مع «الوقت » :

لم أخترع الإيروتيكا العربية.. ألف سنة عمر هذا الخطاب الجريء

«1-2»

by Hayat Karanouh

 

الوقت – بيروت – علي أحمد الديري:

تصنعها في بيتها، في زاوية صغيرة لا تتجاوز مساحتها الـ «2م*2م»، ومن هناك تدير مراسلاتها الخاصة، تشرف على تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ثم تأخذها إلى المطبعة حيث التنفيذ والإخراج. الشاعرة والصحافية اللبنانية جمانة حداد، صاحبة «عودة ليليت» وأنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين، هي مؤسِّسة مجلة «جسد» ورئيس تحريرها، هذه المجلة الجدلية التي ولد عددها الأول في ديسمبر/ كانون الأول ,2008 والتي تقدم نفسها على أنها ثقافية متخصصة في آداب الجسد وفنونه وعلومه. تراهن جمانة حداد على مشروعها أن يكون منبراً رحباً لثقافة عميقة للجسد. وتتحدث في حوار خاص مع «الوقت» عن هذه المجلة التي صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد، وعددها الرابع على وشك الصدور: عن أسئلتها وموضوعاتها ومضموناتها ومحمولاتها، عن طموحاتها، وعن ردود فعل الداخل والخارج عليها.

* ضمن أي خطاب يقع خطاب مجلتك؟

0107200927222

– مجلة «جسد» تعرّف عن نفسها بأنها مجلة ثقافية متخصصة في آداب الجسد وفنونه وعلومه، أي أنها تهتم بكل ما يتضمنه هذا التعريف من احتمالات وإمكانات وسمات، أكانت هذه السمات ذات طبيعة إنسانية أم ايروتيكية أم علمية أم اجتماعية أم فلسفية الخ. كل ما يطرحه جسدنا علينا من أسئلة، هو مشروع مناقشة وتفكير واستكشاف في «جسد».

* ضمن أي سياق* بمعنى هل هناك تواصل مع التراث، أم مع محاولات معاصرة من هنا وهناك تصدر عن الأفق نفسه*

– هو على الأصحّ خطاب معاصر متواصل مع التراث، أي أنه يستمد بعض تحريضاته من الحسرة على ما كان لدينا في تراثنا الأدبي العربي، وما قُمع لاحقاً أو تم إخفاؤه والتنصّل منه. لكنه إذ يستعيد هذا التراث المضيء فإنه لا يتوقف عنده، بل يشتهي أن يتواصل كذلك مع حركة الجسد الراهنة، في أبعادها الفنية والأدبية والعلمية، العربية والعالمية على السواء.

* هناك مشروعات في الثقافة العربية حاولت أن ترجع إلى هذا التراث وتتواصل معه، جاءت على هيئة تحرير كتب ايروتيكية وجنسية تراثية. هل هناك صلة لمجلة «جسد» بتلك المحاولات؟

– «جسد» تريد أن تكون منبراً رحباً لإظهار جهود جميع هؤلاء، وجهود الآخرين أيضاً. لن أغالي في تطلعاتي في الوقت الحاضر. المجلة نقطة انطلاق لنفسها أولاً وأخيراً. وهي تفكر وتتنفس وتحيا، أي أنها تتغير وتتبلور مع الوقت وتكتسب كينونتها من إدراكها الواعي لما حولها من شؤون وقضايا ومستجدات قد تساهم في تشكيل تطلعاتها في شكل أفضل. لكنها ليست حركة ولا حزباً ولا تياراً ولا قضية. هي أكثر من هذا كله: إنها بيت.

* حين صدرت المجلة ثمة من قالوا إنهم سبقوا جمانة حداد في إنتاج أفكار قريبة من هذه الأفكار، أي أن جرأة الفتح قام بها آخرون، وهم يريدون من المجلة أن تؤرشف محاولاتهم ضمن أعدادها. كيف تتعامل «جسد» مع هؤلاء؟

– أنا لم أزعم يوماً أني اخترعت الايروتيكيا العربية. لا أنا اخترعتها، ولا اخترعها أولئك الذين يتحدثون اليوم عن «جرأة الفتح». جرأة الفتح الحقيقية في اللغة العربية، جرأة الانتهاك والبوح الصادم المتفلت من التابوهات، قام بها كتابنا قبل ألف سنة وأكثر. لأجل ذلك أرى أن هذا خطاب عقيم، وليس له أي أهمية. مَن سبق مَن* تلك هي نوعية الأسئلة الضحلة التي نتخصص بها نحن العرب، وقد مللتُ من الحديث في هذا الموضوع. لكني أصرّ على أن مجلة «جسد»، في رؤيتها وشكلها ومضمونها، هي الأولى من نوعها في عالمنا العربي وفي لغتنا العربية. لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك. وأنا لم أزعم يوما أكثر من ذلك. بل إني أرسلت، قبل صدور العدد الأول، مجموعة من الرسائل والدعوات إلى كل من له اهتمام من المثقفين العرب بالإيروتيكا، وللأسف لم تجد معظم رسائلي أيّ ردود، لأن بعضنا أبطال معارك بدلا من أن نكون أبطال إنتاج. طبعا أقولها من دون تعميم. المجلة تمشي في طريقها، وأهلا وسهلا بمن يريد المشاركة.

ضـــد التصنيـفـــات والتبويبـــات المضــــرّة.. الجســد هـــو الجســـد

* هل هناك مفهوم للجسد تحمله هذه المجلة، مغاير للمفهوم الموجود في الثقافة العربية عن الجسد الموجود في التراث؟

– كما ذكرتُ سابقاً، مفهوم المجلة لا يتوقف عند المفهوم التراثي العربي للجسد. نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين. صاحبة هذه المجلة ومؤسِّستها، بكل تواضع، إن كانت تؤمن بشيء، فهي تؤمن بالحوار بين الحضارات واللغات والثقافات. لأجل ذلك أنا مقتنعة بأنه لا يمكننا التعاطي مع الجسد على انه «جسدنا العربي» فحسب. هذا النوع من الحصر والخصخصة والتبويب، يضر بمفهوم الجسد الحرّ والرحب في جوهره. زد على ذلك أنه لا يتماشى مع رؤيتي الخاصة للحياة والثقافة، القائمة على سلسلة لا متناهية من النوافذ المشرعة على الاحتمالات والاكتشافات الجديدة. لكن المجلة تحرص على أن يكون كتّابها في الدرجة الأولى من العالم العربي، وأن يشاركوا بأسمائهم الحقيقية. حتى عندما نغطي معارض أو مناسبات على صلة بموضوعنا في الخارج، يقوم بالتغطية كاتب أو صحافي عربي مقيم هناك. مذ صدرت المجلة، ومذ حصدت هذا القدر الهائل من الاهتمام الإعلامي الغربي، جاءتني عروض كثيرة من كتّاب وفنانين أجانب يريدون أن يدعموا هذا المشروع، بمساهمتهم الكتابية فيه. لكنني ما زلت أرفض. ارفض لماذا*

لأنني أريد فعلا أن أساهم، أولاً، في إنتاج مادة «من الداخل»، تنتمي إلى رؤيتنا، بل إلى رؤانا العربية، على تنوعها واختلافها وتناقضاتها. أريد أن تنطلق هذه المجلة من لحم لغتنا العربية وفكرها وإمكاناتها، لا أن تكون فقط محض استيراد من الخارج. لذلك فإن حصّة الترجمة في المجلة محدودة جداً، مقارنةً بالمساهمات المكتوبة بأقلام عرب، ولا تتعدى نسبتها العشرة في المئة.

* إذاً تريدينها جسداً عربياً؟

– نعم. ولكن، أكرّر، مع الانفتاح على جسد الآخر. لا أريدها جسداً عربياً منغلقاً على نفسه ومكتفيا بذاته، بل رائياً لجسد الآخر ومقيِّما له ومتحاوراً معه أيضاً وخصوصاً. ما الجسد إن لم يتفاعل* مصيره الانكماش على نفسه والذبول لا محالة.

منتقدونا رغوة سفيهة.. الصورة عندنا إيروتيكا وعندهم «بلاي بوي»

* بعض منتقدي المجلة ينظرون إليها على أنها مجرد جرأة مجانية.

– لهم أن يفعلوا ذلك. لكنها ليست هكذا، ورأيهم لن يجعلها هكذا. لستُ لأتحكّم بما يقوله الآخرون عن المجلة، على اختلاف دوافعهم (وبعضها خبيث لا مفرّ)، لكني أستطيع أن أتحكّم بما تقوله هي، أي المجلة، عن نفسها: وما تقوله يتعارض في شكل بديهي وواضح مع مفهوم «الجرأة المجانية» هذا. يكفي النظر إلى كمّ الجهود الجدية والعميقة المبذولة في صفحاتها التي تتجاوز المئتين، من جانب المساهمين فيها من كتّاب وفنانين عرب، لكي ندرك ذلك. هذا، طبعا، شرط أن نتمتع بحدّ أدنى من النزاهة الفكرية (ما ليس متوافرا للجميع). نحن يحلو لنا في الثقافة العربية أن نتخيّل أنه في وسعنا إلغاء ما لا يناسبنا وجوده بشحطة قلم. لكن الواقع غير ذلك. وقد حان لنا أن ننضج بما فيه الكفاية لنعي هذا الأمر. أنا أفكر في مشروع «جسد» وأعمل عليه منذ سنتين. ومذ قررت أن أقوم بهذه الخطوة، كنت مدركة تماما أن مشروعا مثل هذا لا يمكن أن ينال الإجماع في العالم العربي. وهذا حسن. فالإجماع لا يهمّني، وأرى أنه يهين ذكاءنا جميعاً: فهو، لطالما ترافق مع أسوأ الظواهر في العالم، وليس أقلها بعض أنظمتنا السياسية والاجتماعية العربية الديكتاتورية. هناك انقسام إذاً حول المجلة، ولا بأس، بل هذا أكثر من طبيعي وإيجابي. فالجدال الذي يولده هذا الانقسام في الرأي، يقع هو الآخر في صلب رؤية «جسد» وطموحها: أي إيقاظ بعض مستنقعاتنا من كبوتها المميتة. هناك من يعتبر المجلة عملا ثقافيا استثنائياً، وهناك من يراها شيئاً لا قيمة له. أتلقى كل يوم كمية من الرسائل والايميلات المهنّئة والمشجّعة (خصوصاً من قرّاء عاديين لا أعرفهم، ودعمهم يشكل عزاء كبيراً لي لأنه صادق وغير موبوء بأيّ شبهة مصلحة)، مثلما أتلقى رسائل شتم وإهانات، وأحيانا تهديدات، بلا توقيع، أو بأسماء مستعارة، لأن مرسليها أكثر جبناً من أن يعرّفوا عن أنفسهم (هؤلاء مدعاة للشفقة عندي). لكني لا أفرض المجلة على أحد. وعلى من لا تعجبه، ويراها محض «جرأة مجانية»، أن يمتنع عن قراءتها! الأمر بسيط للغاية في الحقيقة.

* المجلة شديدة التمسك بأن تكون صادمة بصرياً، بصورها ولوحاتها، وذلك في ثقافة ساكنة كثقافتنا تعتبر الاحتفاء بالجسد من أي منظور هو مجرد بورنوغرافيا. كيف لـ«جسد» أن تحمي نفسها من أن تُقرأ بهذا المنظور؟

– هي مسؤولية ذات شقّين: يقع شقٌّ منهما عليَّ أنا، وعلى المساهمين فيها، بأن نحسن اختيار موضوعاتنا وموادنا؛ ويقع الشقّ الثاني على المتلقي. فالتمييز بين الايروتيكيا الأدبية والفنية وبين البورنوغرافيا المسطّحة، يفترض درجة معينة من الثقافة والمعرفة. على المتلقي أن يعرف بدوره الفرق بين الاستفزاز المجاني والاستفزاز الذي يتوخى تغييراً حقيقياً وذا قيمة. على سبيل المثال، أن تفرّق بين صورة لروبرت مابلثورب، وصورة من مجلة «بلايبوي»، يتطلب منك كمتلقٍّ أن تكون مطلعا على أعمال مابلثورب وعلى خطابه الفني. في أي حال، لا أريد أن أكون في موضع الدفاع عن المجلة، فهي تكفل الدفاع عن نفسها أفضل مني بكثير. ولكن أحب أن أشير إلى أن مضمون «جسد» المكتوب أخطر من محمولها البصري بكثير. إلا أننا ننتمي إلى ثقافة راهنة تركّز، للأسف، على الصورة. ثقافةٌ تعتقد خطأ أن الصورة أكثر فعالية من المضمون. ثم حدِّث ولا حرج عن خوفنا في العالم العربي على بكارة العيون. شخصيا، كوني قارئة وكاتبة، أعرف تمام المعرفة أن الكلمة أشد خطورة وفعالية وانتهاكاً من أي صورة. «جسد» موجودة لتُقرأ، وليس لتقليب صفحاتها بحثاً عن الإثارة البصرية. إذا كان المطلوب هو هذا، فثمة مجلات أجنبية كثيرة تؤمّن هذا الأمر، وهي متوافرة في جميع البلدان العربية، وخصوصاً في تلك البلدان التي تمنع «جسد» وتحجب موقعها على الانترنت. وذلك هو أحد تجليات السكيزوفرينيا العربية.

ثم من السخف في زمن الانترنت وفي زمن الإعلانات والفيديو كليبات التي تعتمد كلها على الإيحاءات الجنسية، وخصوصاً في لبنان، حيث الإغراء موظّف في شكل متواصل في كل شيء، أن يأتي من يتهم مجلة من هذا النوع، وراءها كل هذا الجهد الثقافي، بالبورنوغرافيا. الأشد غرابة أن غالبية هذه الاتهامات (ومعظمها «رغوة سفيهة»، تجيء على شكل ثرثرات المقاهي) كانت على لسان «مثقفين» مزعومين! أمر مضحك فعلاً. لكأنني اغتصبتُ عذريتهم! فإذا كان الأمر كذلك حقاً، فمبروك!

* لكن المجلة تنحاز إلى النظر أيضا، وإلى صور الجسد؟

– أكيد وبإصرار. هذا جزء أساسي من العملية الفكرية والثقافية. المحمول الفني قائم، في جزء كبير منه، على كيانه الاستيتيكي وعلى كونه «منظراً» يُرى. ولكن ينبغي الذهاب بهذا النظر إلى ما هو أبعد، بغية تحريض العقل على التفكير في ما ورائيات المحمول البصري. هذه من بديهيات التفاعل مع الفنون كلها. أن نسأل، مثلاً: ماذا أراد بالتوس، أو دالي، أو آنغر، أو وودمان، أن يقولوا لنا عبر هذا العمل الاستفزازي أو ذاك؟ هل ذلك النهد مكشوف لكي نتمتع برؤيته فحسب، أم لكي يحثّنا على التفكير في ما يكمن وراءه من رؤى ورسائل وتصورات؟ِِِ

 

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=179072

علي ولي الإنسانية

لماذا الكتابات الأكثر أهمية عن علي كتُّباها مَنْ هم خارج دائرة التشيُّع؟ لماذا الكتابات التي تجعل علياً مشتركاً إنسانياً لم يكتبها شيعته؟
أسألُ عن علي، وفي ذهني – على الأقل – كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وموسوعة علي صوت العدالة الإنسانية لجورج جرداق.
من خلال هذين النموذجين سأفترض جواباً قابلاً للمراجعة، وهو أن الذين كتبوا عن علي من دائرة التشيع كتبوا عنه بوصفه ولياً أو ”إماماً مفترض الطاعة”، والذين كتبوا عنه من خارج دائرة التشيع كتبوا عنه بوصفه ولياً مفترض المحبة. إنها الولاية إذن، فما الفرق بين أن تكون الولاية ولاية محبة، وأن تكون ولاية طاعة؟073
ولاية الطاعة هي ولاية الأتباع الذين يشكلون جماعة تنتظم في شكل طائفة تُغلق وليَّها على ذاتها، فلا يعود الولي حاضراً إلا فيها وبها، تُخضعه إلى ما تريده هي، وتدعي أنها تَخضع إلى ما يريد، تستعدي الآخرين به، ومن لا يوافقها في شكل الطاعة التي تريدها تضعه في خانة العاصين والضالين والمخالفين، تشق به الناس، وهي تزعم أنها تريده لكل الناس. ولاية الإمام المفترض الطاعة، لم تجعل لعلي حضوراً كونياً، هو حاضر في شيعة أو جماعة أو طائفة، وهو بهذه الولاية مفترض الطاعة التشريعية التي تنتظم في شكل مذهب وطائفة وأئمة وفقهاء ومراجع وفتاوى.
يقول جورج جرداق ”وهكذا أخذتُ أقرأ ما كتب عن الإمام في مؤلفات السابقين والمعاصرين .. تبين لي أن معظم ما قرأته يدور حول أمور تاريخية محدودة بزمان ومكان معينَين، وقد تعني فئة من الناس .. وأكثره يدور حول حقه في الخلافة ومقدار هذا الحق في نظر المؤلفين، ولكل منهم دوافع تحركه ولا علاقة متينة لها .. بنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، وشروط الحياة التي لابد من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعاً سليماً في تركيبه، معافى في مسيرته، كريماً في غايته”.[1]
ما الذي رآه جورج جرداق في علي ولم يره شيعته فيه؟ هذا هو السؤال، السؤال عن العمى الذي أصاب شيعته، فلم يعودوا يرون وليَّهم ولا يسمعونه، هم واهمون إن ظنوا أن شهادة (جرداق) هي تصديق على ولايتهم، ولاية الطاعة، بل هي نقض لشهادتهم، هي تقول لهم: إنكم لم تشهدوا علياً، ودعوني أريكم إياه، هي ليست من قبيل وشهد شاهد من أهلها، هي من قبيل وشهد شاهد بما عمينا عن مشاهدته.
هو ليس شاهداً على ولاية الطاعة التي ترى في (علي) خليفةً اغتصب حقه في الطاعة، طاعة الناس له، وهو ليس شاهدا على ولاية ترى أن علينا ألا نطيع غيره؛ لأنه ليست هناك طاعة شرعية إلا له، إنها الطاعة السرمدية المؤسسة على خلاف تاريخي غير سرمدي، خلاف محدود في زمان ومكان، هي ولاية لا تستطيع أن تقرأ علياً إلا في بؤرة الطاعة، وتنصت إلى كلّ ما قاله علي من منظار الطاعة.
ولاية (جورج جرداق) هي ولاية المحبة، وهي ولاية الأفراد الذين لا ينتظمون في جماعة يقودها إمام مفترض الطاعة، بل هم أفراد ضلوا جماعاتهم الضيقة وراحوا يلتقون بأمثالهم مَنْ هم خارج جماعتهم وفوقها وأكبر منها. هي ولاية المحبة التي مكنته من أن يرى علياً ”الصيغة الكونية المثلى للفكر الإنساني المستمد من نواميس ثابتة لا يبدل المكان من جوهرها كثيراً أو قليلاً، ولا الزمان! كما أنه الصيغة الكونية للضمير العملاق والشعور العميق بوحدة الكائنات المتكافئة المتفاعلة المتكاملة”.[2]
اشتغل (جرداق) في هذه الولاية الكونية التي تجعل عليا حاضرا في المشهد الكوني كما سقراط حاضر في المشهد الكوني، هما حاضران معاً بمحبتهما للحكمة، والفلسفة هي محبة الحكمة، ومن يشترك في هذه المحبة يغدو صديقاً لا تابعاً، من يوالي الحكمة يصادق الإنسانية، فيكون وليّها بالمحبة، هكذا خرج علي من مجتمع الصحابة وخلافاتهم حول ولاية الطاعة (من له الطاعة)، ودخل مجتمع الفلاسفة ومحبي الحكمة واختلافاتهم حول الصيغ التي يعبرون فيها عن الحقيقة والعدل والجمال والخير.
في بحثه عن محن علي الثلاث (محنة التاريخ ومحنة التشيع ومحنة الإنسان) يتساءل علي شريعتي ”لماذا نذكر كل هذه المكارم والفضائل والمدائح عن علي، ونسمع ونطيع، ولكن لا نسمع علياً يتحدث معنا أبدا؟”.[3]
لأننا لم نحب حكمة علي ولم نوالِها، فولاؤنا لخلافات علي التاريخية، وهي ليست خلافاته بقدر ما هي خلافاتنا، محبتنا له متأسسة على هذه الخلافات، فنحن لا يمكن أن نسمعه خارج ما تتأسس عليه طائفتنا، أي خارج هذه الخلافات. هل يجرؤ أحد أن يخرج بعلي من ولاية الطائفة إلى ولاية الإنسانية. قلت يخرج ولم أقل يجمع بين ولاية الطاعة وولاية المحبة لعلي، والذين يمكنهم أن يجمعوا ولاية الطاعة التي تنتظم في شكل طائفة، وولاية المحبة التي تنتظم في شكل إنسانية، لم يسمعوا علياً يتحدث إلى الإنسانية بقدر ما سمعوه يتحدث إلى الطائفة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11622
هوامش
[1]، [2] انظر: حوار مع جورج جرداق. http://www.14masom.com/leqaa/02/02.htm
[3] الإمام علي في محنه الثلاث، علي شريعتي، ص109
– من أسرة تحرير «الوقت»

بسط حروف الولاية

يقول السيدحيدر الستري، في معرض دفاعه عن تشبيهه (قاسم، علي هذا العصر في البحرين) ”أنا على يقين مليون بالمائة، لو أنني – أبان حياة الأب القائد الراحل سماحة الشيخ الجمري (طاب ثراه) – لو استخدمت اسمه بدلاً من آية الله قاسم، فلن يفتح أحدٌ فمه، مع أن الرجلين قائدان من قادة التيار، كما أنه لم تكن هناك هجمة صريحة على المرجعية العلمائية في حياة الشيخ الجمري تستدعي استخدامي لذلك.. وهنا علامة استفهام كبيرة على المحتج06-04-07-Mahrajan%20(15)ين أن يجيبوا عليها”[1].
لقد وصف الشيخ عيسى قاسم هذا التشبيه بالخطأ: ”إنها كلمة خاطئة، وقد تجاوزت كثيراً تجاوزا غير مقصود، وسجلت جرأة غير محتملة”[2]، وهو وصف لا يغلق موضوع هذا التشبيه، بل أراه يفتحه، لكن لا يفتحه على التصيد والتشمت والمناكفة بين الخصوم السياسيين، بل على المراجعة والنقد لذهنية الخطاب الذي يصدر عنه هذا التشبيه.
ليست المشكلة في التشبيه، بل في البنية الذهنية التي يصدر عنها خطاب التشبيه. وهي التي تعطي للتشبيه معناه، ما البنية التي يصدر عنها تشبيه السيد حيدر الستري؟
يصدر عن بنية، ترى في ولاية الفقيه سلطة الأمر والقيادة ومكان الطاعة. وهي بنية عقائدية وسياسية وثقافية تجد في مفهوم الولاية أصلا تصدر عنه، من هنا سأخصص مقالاتي المقبلة في مراجعة هذا المفهوم من زاوية نقدية فكرية وليس من زاوية سياسية، لكنها زاوية تتخذ من خطابات السياسة موضوعاً لها تحلل من خلاله تطبيقات حضور هذا المفهوم في المجال العام من خلال خطابات السياسيين.
(المرجعية العلمائية) في السياق البحريني والتي يتحدث باسمها الستري تقدم نفسها، باعتبارها الممثل الشرعي لمفهوم الولاية، و(الهجمة الصريحة) على هذه المرجعية، هي في نظره ضرب لمفهوم الولاية، والتنافس السياسي والحركي بين (الوفاق) و(الوفاء الإسلامي)، هو تنافس على من يمثل هذه المرجعية. ويأتي تشبيه الستري، في سياق هذا التنافس. فالطاعة تستمد إلزامها وشرعيتها من هذه المرجعية.
هناك فرق بين الولاية بمعنى المحبة وما تقتضيه من تعلق روحي ووجداني، والولاية بمعنى السلطة وما تقتضيه من إلزام وفرض وطاعة وانقياد.
أتفق تماماً مع يقين السيد الستري (مليون بالمئة) فيما يتعلق بحال أفواه المعترضين على تشبيهه لو كان المشبه هو الشيخ الجمري، فالناس كانت ستفتح فمهما بالمحبة للشيخ الجمري، لأنه كان (ولي) بولاية المحبة التي له في الناس، لم يكن السياق السياسي في حياة الشيخ الجمري، قد فرز بعد تيار الولاية بمعناها القهري الذي يفرض الطاعة والإلزام في الانتخابات وفي طريقة العمل السياسي لجماعة سياسة معينة تمثل خط الولاية.
كانت الناس ستفهم التشبيه في سياق التمجيد والمحبة والتقدير للجانب الوطني الجامع الذي مثله الشيخ الجمري، تشبيه الستري لم يكن في موضع احتفاء بالشيخ عيسى، بل في موضع تعبئة جماهيرية، التشبيه يريد صياغة آلية اتخاذ القرار، وليس صياغة صورة احتفائية للشيخ، غاية تشبيهه الطاعة، طاعة ولي الأمر. وهذا ما أوضحه بيان المجلس العلمائي التبريري الترقيعي حسب وصف الزميل لبيب الشهابي، المساند لخطبته ”نحن نؤمن بمرجعيّة وقيادة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله تعالى) للساحة في البحرين، باعتباره الفقيه العادل الأمين، الشجاع المخلص الحكيم، ونوصي جميع المؤمنين بالالتفاف حول هذه القيادة الرشيدة”.[3]
الاحتجاجات التي أوردها الستري، كانت ستشفع له، لو كان غرض تشبيهه الاحتفاء الروحي والتمجيد الأخلاقي، لا الزج باسم مقدس في ميدان مدنس، وهو ميدان السياسة بملمحها التنافسي والصراعي واليومي.
من جانب آخر، ليس الموضوع موضوع التشبيه، بل الموضوع غرض التشبيه. لقد أخرج الستري غير الإسلاميين من دائرة الاختصاص بموضوع جواز التشبيه بالمعصوم، باعتبارها دائرة شرعية دينية ”غير الإسلاميين الذين يفترض عدم علاقتهم بالموضوع”[4]، لكن فاته أن الموضوع هو الغرض من التشبيه، وهذا لا يقع في دائرة الاختصاص الشرعي، بل في دائرة تحليل الخطاب، وهي دائرة تتسع للمختصين بتحليل الخطاب، وحتى للصحفيين المعنيين بمتابعة الشأن العام.
التشبيه الذي يقوله السياسي، يُؤوّل في سياق الأحداث السياسية التي تحف بخطابه. وفي تحليل الخطاب السياسي، علينا أن نلتفت إلى من يقول، وليس فقط إلى ما يقال.
من هنا لا معنى لسردياته التشبيهية في الاحتجاج لشرعية تشبيهه الخطأ ”سأسرد لعبدة الحروف، بعض الشواهد الدالة على صحة استخدام التعبير، تكفي أغبى الأغبياء”[5]
ربما له أن يحتج على من أشكلوا عليه بأنه أساء للإمام علي من الناحية الدينية بأنهم عبدة حروف، لكن ليس له الحق أن يشكل على من تجاوزوا منطوقات حروفه وراحوا يقرأون مقاصدها السياسية وأغراضها الحزبية وأصولها الفكرية، فهؤلاء ليسوا عبدة حروف، وليسوا عبدة نصوص.
نحن مع السيد حيدر في الخروج من عبادة الحروف، الذي يمليه شعار ”نحن عبيد النص” ونتمنى أن يفتح هو مفهوم الولاية إلى ما يتجاوز حروف الوصاية والطاعة والانقياد، وأن يُعرب هو حروف (قانون الأحوال الشخصية) إعراباً يخرجه من منطق الولاية بمعناها المنقبض، ليبسطها على قضايا الناس الملحة، كي نخرج من عبادة الحروف.
خطبة الستري هي نموذج لأزمة اشتغال مفهوم الولاية في الخطاب السياسي الشيعي، وهي تؤكد بأخطائها، حاجة هذا المفهوم لإصلاح حديث.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11574
هوامش
[1]،[4]، [5] انظر خطبة السيد حيدر الستري 28 أغسطس/ آب 2009م:
http://may2009.no-ip.biz/showthread.php?t=241167
[2] انظر خطبة الشيخ عيسى قاسم 28 أغسطس/ آب 2009م:
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=177780
[3] انظر موقع المجلس الإسلامي العلمائي: www.olamaa.com