كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

عزازيل الأديان

”وقتل الناس باسم الدين لا يجعله دينا”[1]

بل يجعله تاريخاً قابلا للدارية والنقد لا للرواية (الرواية وفق معنى علم الحديث). التاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي والتاريخ اليهودي، وتواريخ كل الديانات هي في جزء كبير منها تواريخ قتل، وهذا الجزء يحق لأي كان روايته (بالمعنى الحديث للرواية) أي جعله موضوعاً للسرد وفق رؤية ما.

الدين ليس مطلقا من التاريخ، وليس مطلقا من العنف، ولا من الأرض ولا من الدنيا ولا من الإنسان ولا من الشيطان، الدين هو تجربة الإنسان في التاريخ، وهي تجربة يكون فيها للدين معنى من خلال الإنسان وطبائعه.

(عزازيل) تسرد وقائع تاريخية عبر قصة متخيلة أو عبر قصة شخص متخيل، وهو الراهب (هيبا). هيبا هو الشخصية المتخيلة التي تعيننا على قراءة هذه الوقائع، وبدونها تفقد هذه الوقائع معناها وتفقد الرواية اعتبارها بالتاريخ، فالتاريخ موضوع للاعتبار، ولا يمكنك أن تعتبر بوقائعه إذا لم تتمكن من عبورها، وذلك بعبور زمنها الماضي ومعناها الديني أو السياسي لاستخلاص زمن جديد ومعنى جديد.أي أن تعبر موتها الماضي وسكوتها، بإحيائها واستنطاقها في الحاضر.

تجربة الدين في التاريخ، بحاجة إلى رواية دوماً، والرواية بمعناها الحديث هي الدراية، وليس بالمعنى القديم أي النقل، فالرواية تقدم معرفة حية تجعلك تدري وتفهم وتفسِّر وتؤوِّل.

الخطايا ترجعها الأديان دوما لعزازيل، لكن الرواية يمكنها بدرايتها أن تعيد علاقة عزازيل بالإنسان بشكل آخر، ففي هذه الرواية جعلت من عزازيل المحرك الأول لاعترافات الإنسان والمحرض له على كتابة اعترافاته في ثلاثين رقاً. عزازيل دفع هيبا للكتابة ليذكر البشرية بخطايا الدين والإنسان في التاريخ، يخاطب هيبا:

”يا هيبا قلت لك مرارا أنا لا أجيء ولا أذهب.أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. فأنا آت إليك منك، وبك، وفيك، إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمدّ بساط خيالك، أو أقلّب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك، أنا الذي لا غنى لك عنه، ولا غنى لغيرك”[2].

الأديان مادامت ليست مطلقة من التاريخ، فهي ليست مطلقة من عزازيل (الشيطان)، فهي تجيء به وتذهب به، وعزازيل يسكن في تفاصيل التاريخ.

الدين المطلق من التاريخ، هو مطلق من الإنسان، والدين من غير إنسان لا معنى له. لا معنى لدين معلّق في السماء، كي ينطق هذا الدين، فعليه أن ينزل إلى الإنسان والإنسان حيث التاريخ.

الذين سحلوا الفيلسوفة الرياضية (هيباتا) وجردوها من ملابسها وأحرقوها، في مدينة الإسكندرية في 415م كانوا قد خرجوا يسحبونها من شعرها تحت شعار يسوع الذي كان يردده البابا كيرُلُّس ”ما جئت لألقي في الأرض سلاما بل سيفا”[3] وكانوا يرددون ”بعون السماء سوف نطهر أرض الرب..اليوم نطهر أرض الرب…جئناك يا عاهرة ياعدوة الرب”[4].

سحلوها حين نزل عليهم الدين، حين صار منسوبا إليهم لا مطلقا منهم، حين ينزل الدين يحتاج إلى رواية، لسنا بحاجة اليوم إلى روايات أحاديث بل بحاجة إلى رويات رؤى، رويات ترينا تاريخ الأديان، وهي تأخذ معانيها في شكل سلطات وطوائف ومذاهب ودول وأمبراطوريات وممالك ومؤسسات.

لذلك على الأديان أن تعتذر وتعترف بأخطائها في التاريخ، فليس الفرد وحده صاحب الخطيئة، بل الأفراد حين تصير جماعات تزداد خطاياهم، وهي غالبا لا تصير جماعات إلا بالدين.

الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، في محاضرته الشهيرة (لماذا لست مسيحيا؟) يقول ”توجد حقيقة عجيبة أن الوحشية تزداد وأن الوضع العام يسوء كلما قوي الدين، وكلما اشتدت العقيدة الدينية. في ما يُسمى بعهود الإيمان، عندما كان الإيمان بالدين المسيحي أقوى ما يمكن، كانت محاكم التفتيش موجودة بتعذيبها وتم حرق ملايين النساء بتهمة السحر وباسم الدين تمت ممارسة كل أنواع الفظاعة الممكنة”.[5]

يجرِّدون الدين ويجعلونه مطلقا، هم من يقومون بذلك، حين يزعمون أنهم يحرقون ويسحلون ويعذبون باسم الدين مطلقا، الدين مطلقا بحسب زعمهم من مصالحهم ووجهات نظرهم واختلافاتهم وزمانهم.

كانت الراهب (هيبا) شاهداً على هذه الفظاعات، وخلال رحلته التي امتدت من جنوب مصر إلى الإسكندرية إلى أورشليم إلى حلب إلى أنطاكية، كان يروي هذه الفظاعات الدينية. نحن فعلا بحاجة إلى راهب يروي لا راهب يحدّث. لأن من يروي يرينا الدين في التاريخ كي نحيا على نحو مختلف، ومن يحدّث يرجعنا إلى ميتين كي يرضوا عنا ”لا تكن مثل ميت ينطق عن ميتين ليرضي ميتين”.

رواية (عزازيل) لا تنطق عن ميتين، بل تستنطق ميتين، كي لا يكون هناك مشاريع أموات يقدمون حياتهم ليرضوا تاريخ أموات. الرواية بهذا المعنى شهادة حياة، لذلك قال له عزازيل ليجنبه الموت: ”تحيا يا هيبا لتكتب، فتظل حيا حتى حين تموت في الموعد، وأظل حيا في كتاباتك..اكتب يا هيبا فمن يكتب لن يموت”.

من يريدون الدين للموت، ليصنعوا مشاريع أموات جدد أو لينطقوا عن ميتين، لا يريدون للكتابة أن تروي، يريدونها أن تتحدث. لا يريدونها أن تروي فظائعهم بل أن تتحدث عن أمجادهم.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11139

هوامش

[1]،[2]،[3]،[4] يوسف زيدان، رواية عزازيل، دار الشروق،ص185.100.152.155

[5] موقع الحوار المتمدن:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=177055

الديري يوقع «العبور المبدع»

بصالة الرواق
الديري يوقع «العبور المبدع»

ضاحية السيف – حبيب حيدر

وقع الناقد علي أحمد الديري كتابه «العبور المبدع» بمصاحبة معرض للوحات الكتاب للفنان عباس يوسف في صالة الرواق بمجمع العالي، وذلك بحضور جمع من المثقفين والأدباء والفنانين والأصدقاء حيث أهداهم الديري مجموعة من نسخ الكتاب ممهورة بتوقيعه الكريم. 
  ويعد كتاب الديري العبور المبدع «استراتيجية التفكير والتعبير باستخدام المجاز» خلاصة جهده في مجموعة من الورش اقترحها واختبرها طويلا وطبّقها مع أصدقائه وزملائه من المعلمين بمدارس البحرين خلال برامج إدارة التدريب بوزارة التربية والتعليم، وهو مجموعة من الفرضيات الكتابية المجازية العابرة التي بوستر فضاءات الوسطاختبرها هو بنفسه عبر كتاباته المختلفة والتي نشرها في الصحف والمجلات الثقافية ووثقها في كتابه «مجازات بها نرى وكيف نفكر بالمجاز» وقد كانت هذه الاستراتيجية من أهم الاستراتيجيات التي يعملها الديري حين يتبصر في موضوع ما، وبها يختبر ما يقع لديه من أفكار عبر جهاز مفهومي تجمّع لديه من خلال اطلاع موسع وقراءات وتفكير متأن وكتابات عديدة ومثاقفة دؤوبة إلى أن لقي ضالته، ولذا فهو مولع بالبحث عن تلك المقولات الكبرى التي يرى بها الآخرون موضوعاتهم، أو تلك المجازات المختلفة التي تختزل المعاني والتي ربما لا تكشف عما وراءها إلا بعد تبصر وتأمل، أو تلك القصص التي تكثّف في أحداثها حيوات عديدة وتلهم الكثيرين، أو تلك الصور التي نعبّر بها فنختصر المسافة بيننا وبين مواضيعنا والآخرين.
الخلاصة أنها مجموعة من المقولات والمجازات والاستعارات والصور والقصص والتعابير والتراكيب اللغوية التي تكشف له عن كثير ربما هو مخبأ وراء الصور والتشبيهات والمقارنات وبها نستطيع التعبير، وهي عملية كما يلذ له تسميتها «النظر من خلال عيون الآخرين» بحسب رسول حمزاتوف ولذلك ليس غريباً أن تفتتح الكتاب لتجده مجموعة من المقولات والأسئلة التحريضية والبحث عن تطبيقاتها في موضوعات مختلفة مع مساحات مفتوحة للتفكير والمثاقفة وأسطر فارغة تستحث القارئ أو المتدرب على بعث الهمة في نفسه ليشرع في الكتابة بحسب ما تفتح له العبارة من أفق التأويل، مستبطاً تطبيقها سواء على أفكاره أو على ذاته أو على الآخرين أو على الأشياء من حوله، لتكون حصيلته كتابات مختلفة وأفكار عديدة يمكنه الخروج بشيء يعتز به كمتدرب أو قارئ منتج، وحتى لا يذهب جهد الديري مع متدربيه بعيداً عن الإمساك بعلمية يفترضها كان له أن يقارب في هذه العملية بين هذا النتاج الذي سيظهر عند المتدرب وبين شروط الإبداع حيث الأصالة والمرونة والطلاقة.
احتوى الكتاب على عدة فصول هي الفرضية، العبور، المجاز، شعب الكلام، الابتلاء بالتشبيه، المماثلة والمخالفة، سحر اللغة، الصورة والكلمة، بنية المجازات، أعراض المجاز، هياكل المجاز، المجاز ومخازن الحجج، مخططات الصورة، مقولة الأشياء، صناعة المفاهيم بالمجاز، التعليم ربط من غير نص، الإدارة والمجاز، الإنسان مقياس الأشياء.
وتصدر غلاف الكتاب رسم لدمية بأبعة ألوان مائية أساسية لأماسيل الديري ابنة المؤلف كجزء من اختبار تلك الفرضية حيث بالإمكان رؤية عنصر البراءة الذي نفترضه حين التأويل وخصوصاً حين يصدر الشكل من الطفل فيذهب بنا المعنى بعيداً، من غير أن نحاسب الطفل على ما هو أبعد من ذاته وعلى ما نلزم به أنفسنا من كثير من اللوازم حين القراءة أو التأويل أو الإنتاج على الإنتاج، ولعله من هنا جاءت رسوم وخطاطات الكتاب وقصصاته برشية الفنان عباس يوسف مثيرة شيئاً من عنصر البراءة التي أفترضها حين ترك الألوان على بساطتها وخط فوقها بعض المقولات التي أنجزها الديري وصنع منها عباس يوسف رسوما بسيطة ربما هي بريئة شيئا ما لتساوق فصول الكتاب ولتفتح لنا مجال القول والتأويل والتثاقف، وربما حتى الرسم كما فعل عباس يوسف ليفتح العبارة على ما هو أبعد من التأويل، حيث يكون الرسم موازياً للنص ومفجراً لبراءته وربما منطلقا به إلى أفق آخر غير ما نذهب إليه.

http://www.alwasatnews.com/Today/Issue-2477/FDT/–/891730.aspx

الديري: قد يراوغ المجاز أو يزيد الغموض لكنه لا يخفي الحقائق

البلاد: هدير البقالي
غالباً ما تتم اللقاءات وجها لوجه، أو عبر وسيلة إلكترونية بالفاكس أو الإيميل، أو عبر رسالة تبعث بالبريد، لكن ما حدث مع “$”، أنها أرسلت عبر “الموبايل” رسالة نصية إلى الناقد علي الديري الذي كان متواجداً خارج البحرين، فالتكنولوجيا الحديثة لم تعد عائقا معرقلاً، إضافة إلى أن الديري لم يرفض/ يعتذر عن الإجابة، علما أنه كان على متن الطائرة وقت عودته للوطن حينما أرسل نص الإجابات.
والديري يوقع اليوم بغاليري الرواق، كتابه الموسوم بــ “العبور المبدع”: استراتيجيات التفكير والتعبير، باستخدام المجاز” مع عرض مجموعة من رسوم الكتاب للتشكيلي عباس يوسف. وفيما يلي نص الحوار:

 

ما موضوع كتابك “العبور المبدع”؟
بالمعنى الضيق “العبور المبدع” ليس كتاباً، لكنه ورشة للكتابة، ورشة تدريب تأخذك إلى جرأة الكتابة. ليست هناك نصائح ولا تعليمات ولا خطوات ولا خطة. هناك عملية حيوية مليئة بالمتعة والخيال نسميها دينامكية الكتابة، ورشة هذا الكتاب تدخلك مباشرة إلى قلب هذه العملية، عبر استراتيجية اللعب بالمجازات (التشبيهات، الاستعارات، الكنايات، القصص، الحكايات، الأمثال). لن يقول لك الكتاب كيف تستخدمها، لكنه سيجعلك تستخدمها بطلاقة ومرونة وأصالة، وتلك هي شروط الإبداع.

 

كيف يقرأ علي الديري حضور المجاز في اللغة؟
دعيني أقرأه أولا في سؤالك، أنت استخدمت الـ (حضور). نحن نفهم هذا الفعل من خلال تجربتنا المادية المباشرة، فنقول حضرت المحاضرة وحضرت الفصل. فأنت هنا استخدمت شيئاً مألوفا ومعروفا لتري من خلاله شيئا غير معروف أو مألوف وهو (حضور المجاز في اللغة).
اللغة تحضر الأشياء والعالم إلى وعينا، تلك وظيفتها التي لا يكف الفلاسفة وعلماء اللغة عن الجدل حولها، ويزداد هذا الجدل حين يتعلق الأمر بالمجاز. أنا أتبنى الفكرة التي تذهب إلى أن المجاز مسألة عقلية لا لغوية. العقل لا يحضر الأشياء إلا عبر أشياء أخرى أكثر ألفة لديه، وهذا هو معنى المجاز. أن تحضر شيئا من خلال شيء آخر، وحين تحضره يمكنك أن تراه وتتواصل معه وتتمكن منه وتألفه.
الجسد هو الأكثر ألفة لوعينا، أنفك ويدك ولسانك ورجلك وعينك كلها جسدك وخبرتك المادية بها تجعلك ترى الأشياء والأفكار والعالم من خلالها. العقل يشتغل إذن بطريقة يجتاز بها جسده ليصل إلى ما يريد. ولغته مركبة وفق مقاس جسده ومحيطه الذي يتحرك فيه.

لمَ كل هذا الاهتمام بالمجاز؟
لأن المجاز الذي أنا معني به ليس فرعا من فروع البلاغة القديمة بل هو نظرية من نظريات العقل وعلوم الذهن والخيال. توسع حقل المجاز وموضوعه فاتسع الاهتمام به. المجاز يضم عائلة هي التشبيه والاستعارة والأمثال والكناية. لا أنظر للمجاز على أنه فن بلاغي لتجميل المعنى وتفخيمه وزخرفته، هو آلية من آليات عمل العقل وإدراكه، وهو استراتيجية خطابية لقول الحقيقة وآلية إقناعية وإعلامية لتعميم قناعات معينة. وبهذا التوسع صرت تعبر حقولا معرفية كثيرة حين تشتغل في المجاز.

كيف تربط اللغة العلمية “لغة الاختراع” بالمجاز؟
علينا أن نفهم المجاز على أنه آلية من آليات الخيال، لا يمكنك أن تدرك حقائق العلم من غير خيال، في الخيال أنت لا تغادر الواقع، أنت توسع حواسك الإدراكية لتستوعبه. والمجاز هو آلتك لتوسعة خيالك. في كتاب (بنية الثورات العلمية) كان مجاز الثورات السياسية هو أداة خيال توماس كون، ليرى كيف تشتغل النظريات العلمية وكيف تتطور وكيف تتغير. كيف يحدث الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر(paradigm). لم يكن مجازا عابرا أو مجازا توضيحيا هامشيا، بل كانت بنية الثورات السياسية والاجتماعية هي العين التي رأى من خلالها بنية الثورات العلمية، والمجاز عين.

هل ثمة فوارق في المجازات جغرافيا؟ بمعنى كيف تؤثر البيئة في المجاز؟
الجغرافيا هي المكان والإنسان يألف مكانه ويرى من خلال مكانه، لو رجعنا إلى المعجم العربي، فسنجد مألوفات البدوي من الخيمة والناقة هي التي كان من خلالها يرى ويقول فيصنع لغته، ولغتنا الفلسفية مأخوذة من هذه اللغة، لذلك لا يمكن أن تلعب بأي مفهوم فلسفي من دون أن تلعب بمعانيه الحسية المجازية التي جاء منها، وهذا ما يسميه طه عبدالرحمن التأثيل. وإحدى أهم مشكلاتنا في فهم مفاهيم المدارس الفلسفية والنقدية الحديثة، تكمن في أننا نعتقد أن معانيها المفهومية لا علاقة لها بأصولها الحسية التي جاءت منها. بل إننا نقوم باجتثاث المعاني المعجمية والتداولية للكلمة العربية كي نجعلها تتطابق مع مفهوم مترجم من لغة أخرى. الجغرافيا تمد المفاهيم بأرض قوية للعب والتصرف والإبداع. لكن عليك أن تجتاز هذه الجغرافيا كي تعبرها نحو جغرافيات غير مكتشفة، وبهذا العبور المبدع تتسع جغرافيتك ومفاهيمك وثقافتك ولغتك وحضوراتك في العالم.

إلى ماذا تخلص قراءات الديري في المجاز؟ وعلى أي النهايات تقف؟
المجاز استراتيجية عبور، تخلصك من وهم ما أنت فيه وهو نهاية الأشياء ومنطقة الثبات، ويأخذك دوما إلى مناطق جديدة، تفتحك على حقول معرفية ومجالات عمل ومفاهيم جديدة دوما. أستمتع بالفلسفة وهي تبتكر مفاهيم الحياة من الحياة نفسها، من حواس الإنسان وجسده، وأجد متعة في تحليل الخطاب وهو يعلمك كيف تفكك منطق الخطابات المبنية بمجازات تتوفر على درجة عالية من الإقناع الجماعي، وأتأمل في مجازات الكلام اليومي وأرى كيف يخلق مناخات تواصل وتنافر، وأرقب الخطاب السياسي وأرى كيف يسوس الحياة العامة. وأستمتع كذلك بتحويل هذه الأفكار إلى ورش عمل، وكتابي (العبور المبدع) هو ورشة عمل حول المجاز وطريقة استثماره في تطوير مهارات الكتابة.
لنقل أن اشتغالي على موضوع المجاز فتحني على علوم كثيرة وتخصصات معرفية متعددة وأنشطة عمل تطبيقية.

أين يقف المعنى إن كان الكلام كل الكلام “مجازا”؟ أليس نصك مجازا أيضا أي إنه أيضا غير أصيل وغير حقيقي؟
المعنى لا يقف، المعنى سيال ومتحرك ومتغير، ذلك بفضل طبيعته المجازية، وهذه الطبيعة هي أصالته وحقيقته. هذا لا يعني أنه لا توجد حقائق في العالم ولا يوجد واقع ولا توجد أشياء ولا يوجد خارج. لا يوجد كلام يمكن أن نعتبره هو الأصيل وهو الحقيقي وهو القادر… المجاز يقول لك حين ترى السماء وما وراءها، فأنت ترى حقيقة السماء وما وراءها من خلال حقيقة الأرض، وترى حقيقة الروح من خلال حقيقة الجسد، أي إنك ترى حقائق العالم من خلال حقائق أخرى، فتظل حقائق الأشياء نسبية أي منظورا لها من خلال نسبتها لشيء.

المجاز يكبر الحقائق لا يصغرها لنختبئ، لكنه أحيانا أو كثيرا، حين يستخدم في النصوص الإبداعية فإنه يجعلها أكثر غموضا كي لا تنكشف بسهولة، وحين يستخدم في النصوص السياسية والإعلامية فإنه يرواغ حقيقة ما. مهمة النقد تفكيك هذه المجازات، وهو لا يمكنه أن ينجز هذه المهمة إلا حين يفهم طريقة عملها في صياغة الحقيقة.

تدشين “العبور المبدع” وسط رسوم تشكيلية

[et_pb_section bb_built=”1″][et_pb_row][et_pb_column type=”4_4″][et_pb_text]

تدشين “العبور المبدع” وسط رسوم تشكيلية

الديري: قد يراوغ المجاز أو يزيد الغموض لكنه لا يخفي الحقائق

البلاد: هدير البقالي

غالباً ما تتم اللقاءات وجها لوجه، أو عبر وسيلة إلكترونية بالفاكس أو الإيميل، أو عبر رسالة تبعث بالبريد، لكن ما حدث مع “$”، أنها أرسلت عبر “الموبايل” رسالة نصية إلى الناقد علي الديري الذي كان متواجداً خارج البحرين، فالتكنولوجيا الحديثة لم تعد عائقا معرقلاً، إضافة إلى أن الديري لم يرفض/ يعتذر عن الإجابة، علما أنه كان على متن الطائرة وقت عودته للوطن حينما أرسل نص الإجابات.
والديري يوقع اليوم بغاليري الرواق، كتابه الموسوم بــ “العبور المبدع”: استراتيجيات التفكير والتعبير، باستخدام المجاز” مع عرض مجموعة من رسوم الكتاب للتشكيلي عباس يوسف. وفيما يلي نص الحوار:

حوار البلاد

ما موضوع كتابك “العبور المبدع”؟
بالمعنى الضيق “العبور المبدع” ليس كتاباً، لكنه ورشة للكتابة، ورشة تدريب تأخذك إلى جرأة الكتابة. ليست هناك نصائح ولا تعليمات ولا خطوات ولا خطة. هناك عملية حيوية مليئة بالمتعة والخيال نسميها دينامكية الكتابة، ورشة هذا الكتاب تدخلك مباشرة إلى قلب هذه العملية، عبر استراتيجية اللعب بالمجازات (التشبيهات، الاستعارات، الكنايات، القصص، الحكايات، الأمثال). لن يقول لك الكتاب كيف تستخدمها، لكنه سيجعلك تستخدمها بطلاقة ومرونة وأصالة، وتلك هي شروط الإبداع.

كيف يقرأ علي الديري حضور المجاز في اللغة؟
دعيني أقرأه أولا في سؤالك، أنت استخدمت الـ (حضور). نحن نفهم هذا الفعل من خلال تجربتنا المادية المباشرة، فنقول حضرت المحاضرة وحضرت الفصل. فأنت هنا استخدمت شيئاً مألوفا ومعروفا لتري من خلاله شيئا غير معروف أو مألوف وهو (حضور المجاز في اللغة).
اللغة تحضر الأشياء والعالم إلى وعينا، تلك وظيفتها التي لا يكف الفلاسفة وعلماء اللغة عن الجدل حولها، ويزداد هذا الجدل حين يتعلق الأمر بالمجاز. أنا أتبنى الفكرة التي تذهب إلى أن المجاز مسألة عقلية لا لغوية. العقل لا يحضر الأشياء إلا عبر أشياء أخرى أكثر ألفة لديه، وهذا هو معنى المجاز. أن تحضر شيئا من خلال شيء آخر، وحين تحضره يمكنك أن تراه وتتواصل معه وتتمكن منه وتألفه.
الجسد هو الأكثر ألفة لوعينا، أنفك ويدك ولسانك ورجلك وعينك كلها جسدك وخبرتك المادية بها تجعلك ترى الأشياء والأفكار والعالم من خلالها. العقل يشتغل إذن بطريقة يجتاز بها جسده ليصل إلى ما يريد. ولغته مركبة وفق مقاس جسده ومحيطه الذي يتحرك فيه.

لمَ كل هذا الاهتمام بالمجاز؟
لأن المجاز الذي أنا معني به ليس فرعا من فروع البلاغة القديمة بل هو نظرية من نظريات العقل وعلوم الذهن والخيال. توسع حقل المجاز وموضوعه فاتسع الاهتمام به. المجاز يضم عائلة هي التشبيه والاستعارة والأمثال والكناية. لا أنظر للمجاز على أنه فن بلاغي لتجميل المعنى وتفخيمه وزخرفته، هو آلية من آليات عمل العقل وإدراكه، وهو استراتيجية خطابية لقول الحقيقة وآلية إقناعية وإعلامية لتعميم قناعات معينة. وبهذا التوسع صرت تعبر حقولا معرفية كثيرة حين تشتغل في المجاز.

كيف تربط اللغة العلمية “لغة الاختراع” بالمجاز؟

علينا أن نفهم المجاز على أنه آلية من آليات الخيال، لا يمكنك أن تدرك حقائق العلم من غير خيال، في الخيال أنت لا تغادر الواقع، أنت توسع حواسك الإدراكية لتستوعبه. والمجاز هو آلتك لتوسعة خيالك. في كتاب (بنية الثورات العلمية) كان مجاز الثورات السياسية هو أداة خيال توماس كون، ليرى كيف تشتغل النظريات العلمية وكيف تتطور وكيف تتغير. كيف يحدث الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر(paradigm). لم يكن مجازا عابرا أو مجازا توضيحيا هامشيا، بل كانت بنية الثورات السياسية والاجتماعية هي العين التي رأى من خلالها بنية الثورات العلمية، والمجاز عين.

هل ثمة فوارق في المجازات جغرافيا؟ بمعنى كيف تؤثر البيئة في المجاز؟
الجغرافيا هي المكان والإنسان يألف مكانه ويرى من خلال مكانه، لو رجعنا إلى المعجم العربي، فسنجد مألوفات البدوي من الخيمة والناقة هي التي كان من خلالها يرى ويقول فيصنع لغته، ولغتنا الفلسفية مأخوذة من هذه اللغة، لذلك لا يمكن أن تلعب بأي مفهوم فلسفي من دون أن تلعب بمعانيه الحسية المجازية التي جاء منها، وهذا ما يسميه طه عبدالرحمن التأثيل. وإحدى أهم مشكلاتنا في فهم مفاهيم المدارس الفلسفية والنقدية الحديثة، تكمن في أننا نعتقد أن معانيها المفهومية لا علاقة لها بأصولها الحسية التي جاءت منها. بل إننا نقوم باجتثاث المعاني المعجمية والتداولية للكلمة العربية كي نجعلها تتطابق مع مفهوم مترجم من لغة أخرى. الجغرافيا تمد المفاهيم بأرض قوية للعب والتصرف والإبداع. لكن عليك أن تجتاز هذه الجغرافيا كي تعبرها نحو جغرافيات غير مكتشفة، وبهذا العبور المبدع تتسع جغرافيتك ومفاهيمك وثقافتك ولغتك وحضوراتك في العالم.

إلى ماذا تخلص قراءات الديري في المجاز؟ وعلى أي النهايات تقف؟
المجاز استراتيجية عبور، تخلصك من وهم ما أنت فيه وهو نهاية الأشياء ومنطقة الثبات، ويأخذك دوما إلى مناطق جديدة، تفتحك على حقول معرفية ومجالات عمل ومفاهيم جديدة دوما. أستمتع بالفلسفة وهي تبتكر مفاهيم الحياة من الحياة نفسها، من حواس الإنسان وجسده، وأجد متعة في تحليل الخطاب وهو يعلمك كيف تفكك منطق الخطابات المبنية بمجازات تتوفر على درجة عالية من الإقناع الجماعي، وأتأمل في مجازات الكلام اليومي وأرى كيف يخلق مناخات تواصل وتنافر، وأرقب الخطاب السياسي وأرى كيف يسوس الحياة العامة. وأستمتع كذلك بتحويل هذه الأفكار إلى ورش عمل، وكتابي (العبور المبدع) هو ورشة عمل حول المجاز وطريقة استثماره في تطوير مهارات الكتابة.
لنقل أن اشتغالي على موضوع المجاز فتحني على علوم كثيرة وتخصصات معرفية متعددة وأنشطة عمل تطبيقية.

أين يقف المعنى إن كان الكلام كل الكلام “مجازا”؟ أليس نصك مجازا أيضا أي إنه أيضا غير أصيل وغير حقيقي؟
المعنى لا يقف، المعنى سيال ومتحرك ومتغير، ذلك بفضل طبيعته المجازية، وهذه الطبيعة هي أصالته وحقيقته. هذا لا يعني أنه لا توجد حقائق في العالم ولا يوجد واقع ولا توجد أشياء ولا يوجد خارج. لا يوجد كلام يمكن أن نعتبره هو الأصيل وهو الحقيقي وهو القادر… المجاز يقول لك حين ترى السماء وما وراءها، فأنت ترى حقيقة السماء وما وراءها من خلال حقيقة الأرض، وترى حقيقة الروح من خلال حقيقة الجسد، أي إنك ترى حقائق العالم من خلال حقائق أخرى، فتظل حقائق الأشياء نسبية أي منظورا لها من خلال نسبتها لشيء.

أي حقيقة تلك التي نخاف منها لنختبئ خلف المجاز نصا ونقدا؟
المجاز يكبر الحقائق لا يصغرها لنختبئ، لكنه أحيانا أو كثيرا، حين يستخدم في النصوص الإبداعية فإنه يجعلها أكثر غموضا كي لا تنكشف بسهولة، وحين يستخدم في النصوص السياسية والإعلامية فإنه يرواغ حقيقة ما. مهمة النقد تفكيك هذه المجازات، وهو لا يمكنه أن ينجز هذه المهمة إلا حين يفهم طريقة عملها في صياغة الحقيقة.

http://www.albiladpress.com/

[/et_pb_text][et_pb_image _builder_version=”3.0.100″ saved_tabs=”all” src=”https://awalcentre.com/Aldairy/wp-content/uploads/2009/06/untitled4.bmp” show_in_lightbox=”off” url_new_window=”off” use_overlay=”off” always_center_on_mobile=”on” force_fullwidth=”off” show_bottom_space=”on” global_module=”1838″ /][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]