كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

حوار مع فواز طرابلسي

على هامش مشاركته في أنشطة مركز الشيخ إبراهيم..

فواز طرابلسي لـ«الوقت»:
نشهد سقوط الأوهام.. وإضعاف الدولة لا يقوّي الحريات

الوقت – علي الديري – تحرير – حسين مرهون:

ما من شك أن اليسار الآن يشهد أزهى فترات مجده منذ سقوط المعسكر الاشتراكي. أزمة مالية عالمية تؤكد كثيراً من تحليلاته. وعودة أثيرة إلى الخطاطة الماركسية من أجل استلهام الأجوبة على ما يحدث. والأهم من ذلك، تنامي بريق الحركات الاجتماعية في عدد فواز طرابلسيمن البلدان، وتسلمها مقاليد الحكم في نحو خمسة بلدان لاتينية. فما الذي يحدث؟ هل فعلاً العالم اليوم يتجه يساراً؟ هل الرأسمالية تتآكل؟ أم أنها تمتلك منطقها الخاص الذي تتجدد من خلاله، رغم الصعوبات التي تواجهها؟ هل آل الحل بين يدي الإسلاميين كما يجري تبسيط ذلك من بعض دعاة الإسلاموية؟ ربما مناقشة كل هذه الأفكار مع واحد من أهم وجوه اليسار العربي الآن، لكن غير التقليدي، كفيل بتوسيع أفقنا حيال هذا النوع من الأسئلة «الوثوقية» إلى حد ما. «فواز طرابلسي» كان ضيفاً أواسط هذا الأسبوع على مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، وألقى محاضرة ذات صلة. «الوقت» التقت به في أثناء ذلك، وفيما يأتي مقتطفات:

* دعنا نبدأ من اللحظة الراهنة للدخول على عالمك الخصب بمشاربه الفكرية والسياسية والاقتصادية، إنها بالتأكيد لحظة السوق والانهيارات المالية. قلت أكثر من مرة إنك مازلت ماركسيا، وأريد أن أعرف بما تبقى من أطياف ماركس لديك، كيف تقرأ هذا الحدث العالمي اليوم؟

– سبق وأن نشرت موضوعاً ذا صلة في جريدة السفير اللبنانية. بنظري، إن ما يتبقى من ماركس اليوم، هو النظرية، نظريته في نشوء رأس المال وتطوره ناهيك عن أزماته. ثم القوانين التي تحكم كل هذه العملية. كما ترى، ثمة قراءات عدة أخذت تنطلق من جراء الأزمة الأخيرة الناشئة عائدة إلى النظرية الماركسية، بما يمثل إعادة اعتبار إلى مفاهيم ماركس الرئيسة. أما أنا إن كنت تسأل عن رأيي، فأقول باستلهام كل هذه المفاهيم، إن رأس المال متعولم بالضرورة. وبالتالي فالعولمة التي يجري الحديث عنها ليست العولمة الأولى، كما قد يُتوهم، إنما هي العولمة الثالثة. العولمة الأولى كانت العولمة التجارية وانطلقت مع اكتشاف أميركا. العولمة الثانية هي العولمة الصناعية، وهي التي تحدث عنها ماركس. فكانت أفكاره بهذا الصدد عن أن هناك منطقاً داخلياً يحكم رأس المال، وهو ديمومة بحثه عن المنفعة، وتعميقها، وعن أسواق جديدة. أما العولمة الثالثة، فهي تلك الجارية مفاعيلها حالياً، وهي أرقى أشكال العولمة، خصوصاً لجهة ارتباطها بالمعلوماتية والإعلام، وكذلك بفتح الأسواق بعد أن كانت مقفلة نوعاً ما. على الأقل أخذاً باعتبار أن ثلث البشرية كانت تقع ضمن حدود المعسكر الاشتراكي. لكن ألفت النظر هنا إلى أن ماركس اكتشف الأزمات القصيرة المدى، أي ما ينتج عن الرأسمالية المتعولمة من أزمات من قبيل الركود الاقتصادي وتقلص الأسواق والبطالة إلخ. أما الأزمات بعيدة المدى، فلم يتطرق إليها ماركس، وتطرق لها مفكرون آخرون، مثل المفكر السوفييتي كونترال وغيره. وهناك بحوث حديثة تذهب إلى أننا الآن في طور انتهاء أزمة الثلاثين سنة، أي تلك الواقعة بين السبعينات؛ حيث الازدهار، والألفينات؛ حيث ما صرت تعرف الآن. كل هذه الأفكار وغيرها إنما تعيد الاعتبار إلى الوظيفة الأولى للماركسية بوصفها علماً في نشوء الأزمات الاقتصادية، وتطورها. وبالتالي فهي تمثل مصدراً خصباً لفهم عالمنا المعاصر.

نقد الأوهام

* على مستوى المراجعة الذاتية، هل الرجوع إلى ماركس، سيتيح فرصة لقراءة الرأسمالية قراءة جديدة، غير أيديولوجية؟

– إنها تتيح الفرصة لنقد الأوهام التي عمقتها الليبرالية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، والقائمة على النظر إلى السوق من زاوية إنها اليد الخفية التي توزع الخيرات بعدالة، وهي التي تحدد أعلى معدلات النمو و و… في حين أن الصحيح، هو أن السوق هي مصدر الأزمة. ذلك أن الوجه المالي المتضخم للرأسمالية المتعولمة هو منتج الأزمات الدولية. وأقول بالمناسبة، إن ما يجري حالياً لا يمثل الأزمة الأولى، كما قد يتوهم، صحيح أنها الأضخم والأكبر، لكن ثمة أزمات أخرى سبقتها لذات الأسباب. وذلك من قبيل بورصة نيويورك، وأزمة المكسيك، وأزمة الأسواق الآسيوية إلخ… فالعالم يشهد، منذ أن بدأت الرأسمالية المتعولمة، أزمات احتاجت وستحتاج دائماً تدخلاً من الدولة لإنقاذها. فالولايات المتحدة جمعت قرابة 50 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد البلجيكي من الانهيار. في الوقت الذي كان يعد هذا الاقتصاد نموذجاً للنجاح الليبرالي. بالتالي فإن تصوير الأمر حالياً على أنها المرة الأولى التي تتدخل فيها الدولة، فهذا غير صحيح. بهذا المعنى، فإننا نشهد الآن تساقط كثير من الأوهام، وعلى رأسها فكرة أن الدولة يجب ألا تتدخل في الاقتصاد. أبداً هذا غير صحيح، الدولة كانت ولاتزال مطالبة بأن تتدخل لإعادة توزيع رأس المال بعدالة. فالدول هي التي فرضت ما سمي بإعادة الهيكلة، وهي التي قامت بوضع التشريعات اللازمة، والأسواق أديرت بواسطة دول وكذلك رفع الحماية الجمركية. فلاشيء اسمه عدم تدخل. الولايات المتحدة تزعم أنها لا تملك ما يسمى «قطاعاً عاماً» في حين أنها تملك قطاع «البنتاجون» للسلاح والخدمة العسكرية الذي يمثل فخر الصناعة الأميركية اليوم. إنه قطاع عام لكن مغلف. ثم جاء الكشف حديثاً عن أن شركات النفط الأميركية – التي تربح مئات المليارات سنوياً – تتلقى الدعم من الحكومة. الأمر الذي وعد باراك أوباما في حملته الانتخابية بأنه سيلغيه. كل هذا ويقال إنه لا وجود لدعم حكومي أو لا دخل للدولة. لكن السؤال الأهم: تتدخل الدولة لصالح من* للرأسمال الكبير، كما هو الحال مع شركات النفط. أم لصالح أكثرية السكان المحتاجين*. إن ما يجري ليس الأخير للأسف، وهو ما يؤكد مقولة ماركسية ثانية، أن الدولة ليست سوى الجهاز التنفيذي لإدارة شؤون الطبقة المسيطرة.

* بقدر ما للحدث بضخامته من قدرة على أن يكتشف أوهاما ويحطمها، كما استعرضتها أنت الآن، فهو من جانب آخر، ينتج لنا أوهاما مقابلة أو يعود لإحياء أوهام شبه مندثرة. هل ترى أن اليسار الماركسي في العالم العربي سيعود إلى أوهامه أو ينتج أوهاماً جديدة، من دون أن يكون قادراً على أن يقرأ الحدث في عمقه؟

– بداية، لا يجوز أن نستنتج من الأزمة المالية نتائج اجتماعية وسياسية لا تتحملها أو هي غير موجودة. فما يزال باكرا الحكم على النتائج المتمخضة عنها. هناك توقعات الآن تذهب إلى أن الأزمة يمكن أن تنتقل من الدائرة المالية إلى دائرة الإنتاج؛ حيث ستصاب الاقتصاديات الغربية بحالة من الركود. ما يمكن أن ينتج عنه انخفاض هائل في الاستهلاك والطلب، وبالتالي تسريح أعداد هائلة من العمال والبطالة. لكن هل سيؤدي ذلك إلى نمو حركات اجتماعية جديدة* نعم، أعتقد أن ذلك حتماً سيحدث في الغرب أما في بلداننا العربية فإن الأمر مختلف. فعلى رغم كوننا بلداناً نعيش في القلب من عملية العولمة، إلا أننا نتصرف وكأننا على هامشها. غريب ما يحدث.

الماركسية ليست مطلقة الصحة

* على مستوى التلقي الديني بدأت الاتجاهات الإسلامية تتحدث عن حلول إسلامية لمعالجة الأزمة المالية العالمية، وعن وجود بديل إسلامي لنظام السوق الرأسمالي، وعلى مستوى تلقي اليسار، بدت خطاباته تؤكد صحة الاقتصاد الماركسي وحتمية سقوط الرأسمالية، استنادا إلى دليل أزمة السوق الرأسمالية الحالية. هل يمكن أن نعد هذه من الأوهام المقابلة التي بعثتها أوهام أزمة الأسواق مطلقة الحرية

– دعني أنبه أولاً إلى أن ثمة مقولات كثيرة في الماركسية لم تصح. بما في ذلك مقولات تتعلق بمصير الماركسية نفسها. فماركس توقع أن تزول الطبقات الوسطى ويتولد استقطاب بين رأس المال الذي يشكل أقلية مع العمال، وهؤلاء هم الأكثرية. وأن الانتقال إلى الاشتراكية يكون بواسطة عملية ديمقراطية. وكل هذا لم يحدث. لذلك أقول لا يوجد شيء اسمه، سقوط الرأسمالية. فالرأسمالية تطبع عالمنا، أما ما سقط فهو ذاك الادعاء بشأن أنها نهاية التاريخ، وتحديداً الرأسمالية المنتصرة التي تملك جواب مشكلات العالم. وقد تبين أن الرأسمالية لا تملك حلولاً للمشكلات التي تنشئها، سوى أنها تأخذ من الفقراء لتعطي الأغنياء. وذلك تحديداً ما فعله جورج بوش، حين أخذ المال من دافعي الضرائب وذهب إلى تزويد الأغنياء بها. وقد أسميت ذلك، تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح. أما ادعاءات الحركات الإسلامية، فهي لا أساس لها، والجواب على ذلك يأتي من معرفة أن هذه الحركات هي نفسها حركات ليبرالية رأسمالية. في لبنان مثلا، تجد أن الخصخصة الوحيدة التي حصلت، حصلت على يد وزير الكهرباء التابع لحزب الله. كذلك تجد أن البرامج الرئيسة للحركات الإسلامية تتحدث عن السوق وقدسية الملكية الفردية في مقابل الدولة والزكاة (التي تقوم على الإحسان) في مقابل النظام الضريبي و و…

* هل هذا ما عنيته في مقالتك «ما بين بوش وبن لادن من ليبرالية»؟

يشتغل خطاب أسامة بن لادن بين «حد» الجهاد و«حد» الرأسمالية السوقية الصافية، رأسمالية الاقتصاد الحر و«اليد السحرية». فتنظيم «القاعدة» تنظيم «ليبرالي» في الاقتصاد بكل ما للكلمة من معنى. فهل تختلف عنه سائر التنظيمات الإسلاموية التي قد لا تشاركه رؤياه ولا وسائل فرضها*

حقيقة الأمر انه من جبال الجزائر إلى هضبات الأناضول التركية مروراً بحواري القاهرة والاسكندرية وسوق صنعاء وحتى ضاحية بيروت الجنوبية، قد لا تجد نغمة تشذّ جذرياً عن هذه النغمة. معظم التنظيمات الإسلاموية ليبرالية في الاقتصاد وإن لم تكن ليبرالية في السياسة. من اجل استظهار المشترك بينها يمكن القول إنها تتشارك في ما بينها في أربعة منطلقات:

ـ مبدأ السوق.

ـ الملكية الفردية.

ـ الربح (مع الالتزام بتحريم الربا).

ـ ممارسة الإحسان.

قد يقال الكثير هنا. لكننا نريد التساؤل عن الفارق بين هذه المبادئ وبين مرتكزات العولمة الأميركية، عولمة لاهوت السوق وقدسية الربح والملكية الفردية وأوهام «اليد السحرية» للاقتصاد الحر تحقق التوزيع العادل بين فئات المجتمع.

والتساؤل هو بالتالي عن مقدرة الإسلاميين على التصدي لتحديات العولمة الأميركية، عولمة الشركات المتعددة الجنسية، والفقاعة المالية، وجزر الرفاه وسط عوالم مهمشة ونافلة، إلى آخره.

لذا أعتقد أن الحركات الإسلامية، كائناً ما كانت مذاهبها، لا تمتلك الجواب المختلف عن الرأسمالية. اللهم عدا تصورها ذاك لها بأنها مصدر الفساد الأخلاقي و و… في حين أعتقد أن اليسار على خلاف ذلك. ورغم كل ما يقال عن اليسار، إلا أن عليه الآن استعادة بعض معنوياته. هذه فرصة ليكشف بأن له دوراً في الحركات الاجتماعية، كما في إعادة الاعتبار للعامل الاقتصادي ودوره في حياة البشر.

هناك حاجة إلى النظرية

* خرجت من «منظمة العمل الشيوعي في لبنان» في ,1984 وتبنيت مبدأ النقد الذاتي وسعيت إلى إقناع العدد الأكبر من اليساريين بأن مهمة اليسار أن يعيد تأسيس نفسه لا أن يستمر حيث كان. إلى أي حد أتاح لك هذا الخروج المبكر، فرصة لقراءة الأزمة المالية الرأسمالية اليوم برحابة وموضوعية؟

– إن جلد الذات موضوع مختلف عن نقد الذات. أنا أفهم أن النقد الذاتي هو مراجعة الأخطاء وإسقاط المفاهيم والأوهام الخاطئة لصالح إعادة إنتاج صورة جديدة لعالمنا. ثمة عصر جديد، هو بالدرجة الأولى عصر العولمة. بالتالي فهناك حاجة لفهمه بوسائل جديدة. وأعتقد هنا أن كثيراً مما يسمى بالنقد الذاتي إنما هو نوع من التخبط أو المعاندة أو الندم. فكان من جراء ذلك، الخيار السهل لعدد من المثقفين، سواء كانوا يساراً أم قوميين وحتى إسلاميين، الانتقال من عالم الالتزام الفكري إلى عالم آخر، وليكن ذلك العالم هو الليبرالية. هذا أسهل الخيارات بديلاً عن إعمال آلة النقد الذاتي. في حين أعتقد أن التحرر يجب أن يكون من الماركسية السوفييتية التي طبعت عالمنا في وقت من الأوقات. كما من تكرار التغزل بالماركسية. في قبال ذلك، أدعو إلى تشكيل جهاز نظري جديد في تصرفنا تكون الماركسية أحد روافده وليست كل الروافد. بالتالي فإن النظرية هي نقطة الانطلاق لتحرير الواقع الراهن، وليس العكس، أي الواقع يكون منطلق النظرية ومؤكداً لمبدئها. على ذلك فلا يمكن أن توجد حركات اجتماعية من غير أن تكون هناك فكرة. لذا فلا معنى لوقوع بعض اليساريين الآن تحت طائلة الفكرة التي تقول إن عصر الأيديولوجيات انتهى. هذه واحدة من التبسيطات الشديدة، لايزال ثمة أيديولوجيا في عالمنا، وربما أكبرها في عالمنا المعاصر الآن هي أيديولوجيا ثورة الاتصالات. فثورة الاتصالات كلها قائمة على الأيديولوجيا. لذلك، فإن الفكرة القائلة بأنه يمكن أن تنشأ حركات سياسية من غير إيديولوجيا محض وهم. كما أنه من الوهم أيضاً حصر وظيفة المثقف في وضع قائمة بالطالبات وتعداد التمنيات. ذلك أن وظيفته الحقيقية هي إنتاج المعارف.

رغم كل شيء.. بقي اليسار اللاتيني

* بدأت نقلة أميركا اللاتينية اليسارية منذ وصول الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز إلى الحكم قبل عشر سنوات، من ثم أكملت مع رؤساء جدد في البرازيل (لويز إيناسيو لولا دا سيلفا) والأرجنتين (كريستينا فيرنانديز) وأوروغواي (تاباري فاسكويز) وتشيلي (ميشيل باشيليه) وبوليفيا (إيفو موراليس) والإكوادور وغواتيمالا ونيكاراغوا. كيف تقرأ عودة اليسار في أميركا اللاتينية؟

– أقرأها من جهة أنها تعد دليلاً على أن الأفكار لا تموت. نحن عندنا نفاذ صبر، وعندنا شيء يتسالم المثقفون العرب على تسميته «الرهان». ماذا يعني الرهان؟ أيضاً أتساءل.. لماذا على اليساري أن يظل ملتزماً بحد أدنى من الالتزامات؟ من وجهة نظري، أعتقد أن الأسباب التي أدت إلى الالتزام لم تتغير. في الوقت الذي يزداد فيه الفارق بين الأغنياء والفقراء. بينما الرأسمالية لا تجيب على المشكلات التي تعانيها أكثرية البشرية. بل وهي الآن أسوأ مما كانت عليه، حين كانت هناك ثمة منافسة مع الاتحاد السوفييتي. فوقتذاك كانت مضطرة لأن تقدم تنازلات وقد انتفى هذا العنصر الآن. الفارق الذي يؤدي إلى ما تشاهده الآن في أميركا اللاتينية من صعود إلى حركات اليسار الاجتماعية، هو أن هذه الحركات لم يجرِ تدميرها. لم تدمر النقابات ولا فئة الإنتجلنسيا التي ظلت تحظى بنفوذ واسع وحافظت على يساريتها. الأمر الذي قدّر لها أن تعيش مرحلة الكبوة، فالنهوض بعد ذلك. وما تمت زراعتها من أفكار «غيفارية» إبان الثورة الكوبية تلقفها الجيل اللاحق وأعطاها معنى جديداً، ومن ثم استطاع صوغها في برامج جديدة. المهم الآن أن ترتبط هذه البرامج بقواعد كبيرة من الفلاحين المحرومين وبمطالبات حقيقية. لقد بقيت في أميركا اللاتينية آثار الفترة الذهبية التي كانت فيها الحظوة للكفاح وللحركات السياسية والاجتماعية. في حين جرى تدمير كل ذلك في بلداننا. ما انعكس على الصفة التمثيلية لليسار. فهل يقوى على استعادة صفته التمثيلية الآن؟ هذا سؤال كبير.

ما الذي قادك إلى طريق ظفار؟

– ببساطة، كان الاستعمار البريطاني هو القوة المهيمنة في اليمن والخليج آنذاك. ذلك كان هو الجاذب الرئيس لي وآخرين من قادة اليسار وقادة الثورة من البحرين واليمن وعمان بصورة عامة. وفيما يتعلق بوضعيتي الشخصية فقد كان انخراطي في ظفار ناتج عن اهتمامي المبكر بالخليج. حيث كان لي نشاط في غضون دراستي في بريطانيا على صلة بالخليج، وقد أسسنا أنا وفريد هلي بلكنر ومجموعة من الشباب اليساري ”لجنة الخليج” بهدف التضامن مع شعوب الخليج والجزيرة واليمن ونضالاتها من أجل التحرر والاستقلال. وقد خطر في بالنا أنا وفريد أن نكتب كتاباً عن المنطقة، وكان أن منحتنا دار ”بنكويل” تمويلاً لإنجاز الكتاب وكذلك لرحلتنا إلى اليمن. كان ذلك في العام ,1970 وكنا فيما أظن أول العرب الذين وفدوا إلى ظفار بغرض تبيان التدخل البريطاني في المنطقة. وقد نجحنا في تصوير وقائع هذا التدخل بالتعاون مع الإخوان في اليمن الذين وفروا لنا فريق تغطية تلفزيوني. لكن حين وصلنا خشي الفريق من سوء الظروف، فأعطونا الكاميرات كما جرى تعليمنا كيفية التصوير التلفزيوني في ظرف نصف ساعة. وقد تمكنا من تصوير طائرات بريطانية، وكذلك طائرات خاصة، إضافة إلى التقاط صور لوثائق من الجيش البريطاني، ثم قمنا ببيعها على هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). فكان أن جرت ضجة آنذاك، حيث كان ذلك هو أول كشف لوجود الفرقة الخاصة من الجيش البريطاني في ظفار.

سلمونا أجهزة التصوير وراحوا

هل استفادت من عملكم المخرجة اللبنانية (هيني سرور) في فيلمها »ساعة التحرير دقت« عن ثورة ظفار الذي حاز جائزة النقاد بمهرجان (كان) السينمائي في فرنسا؟

– لا، هيني كان عملها أكثر جودة. فنظراً لرداءة معرفتنا بأجهزة التصوير لم نتمكن من تصوير شيء خلال دقيقتين ونصف من الزمان. بالتالي فعملنا اقتصر على إيصال صورة الوضع في ظفار إلى الرأي العام العالمي. بالتالي فإن عملنا لم يكن فيلما سينمائياً محترفاً، كما هو الحال مع هيني.

هل تعرفت على الشخصيات البحرينية المناضلة في ظفار؟

– لا، فقد كنت على معرفة بعبدالرحمن النعيمي وعبدالنبي العكري منذ أيام الدراسة في لبنان. أما إبراهيم بشمي فقد كان مراسلاً لصحيفة الحرية التي كنت آنذاك أرأس هيئة تحريرها. وفيما أتذكر الآن أن إبراهيم كان مراسلاً مشاغباً وعنيداً، وكنا كثيراً ما نختلف. أتذكر أيضاً النقاشات الطويلة مع عبدالرحمن وعبدالنبي بشأن صلالة، وما إذا كان ينبغي إسقاطها. شخصياً كنت من أنصار إسقاطها وتحرير ظفار، فيما كان الخط العام في الجبهة الشعبية يتجه إلى طموح أكبر، ففي الوقت الذي كانت تنشط فيه الثورة في ظفار، كان الطموح يتوجه إلى تحرير الخليج كله معها. بالتالي فباسم تحرير الخليج فوتنا تحرير ظفار.

مصادرة مجلة «الحرية»

هل حضرت مؤتمر ”حمرين” في 1968الذي تم فيه تحويل جبهة تحرير ظفار إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل؟

– لم أحضر أي مؤتمر ولكنني كنت على اطلاع على مجريات جميع المؤتمرات من خلال وثائقها وكل الوثائق المتعلقة بالسياسة اليومية. من الطرائف التي أتذكرها هنا، هي أنه لدى ذهابنا إلى ظفار اكتشفنا أن المكان يتألف من نسيج قبلي. الأمر الذي لفت نظرنا كثيراً، كما لفتتنا أشكال عيش القبليين، فرحنا نتقصى ذلك بفضول شديد، وكتبنا في ”الحرية” عن التركيب القبلي المتفاوت. كان عملنا هذا يصطدم مع الأيديولوجيا السائدة التي كانت تتحدث عن صراع الطبقات. ما أدى إلى أن يبادر الثوار إلى منع أعداد المجلة من دخول المناطق المحررة. وقد برروا ذلك بأن الحديث عن القبائل يقسم الشعب. وحصل أن قلت لهم، إنه إذا كان أقرب الناس إليكم، وهي جريدة ”الحرية” الناطقة باسمكم تمنعونها فيما لم تتسلموا مقاليد الحكم بعد. فكيف إذا تسلمتموه! ما الذي سيحدث!!

أين كانت ممنوعة؟

– في المناطق المحررة. وشخصياً كتبت ستة مقالات في ستة أعداد من ”الحرية” وقد جرى منعها جميعاً [ضاحكاً]. والمفارقة هنا، أنه عندما سقطت المنطقة الغربية جرى تسليمي كراسات ثلاث تتعلق بالقبلية في ظفار. فقد تبين ساعتئذ أن ثمة قبائل مهمة كانت ملتحقة بالثوار، في حين كانت بريطانيا تسعى إلى استمالة بعض من هذه القبائل لتقاتل معها. وقد جرى ذلك فعلاً..

؟ هل كانوا يريدون أن يقرؤوا التركيبة السكانية بمختلف تكويناتها على أنها تركيبة طبقية؟

– كان هناك كلام كثير بهذا الصدد، وطبعاً كان يتم تحت اسم صراع الطبقات المأخوذ أساساً من ”الكتاب الأحمر”. لكن لدى الاشتباك مع الواقع الاجتماعي كان يتم اكتشاف أشياء أخرى. هناك قليل من التجار وكثير من العبيد من صلالة انضموا إلى الثورة، أما باقي التركيبة فريفيون ومزارعون ورعاة وكذلك عمال. هذه هي التركيبة الفعلية. أما المشكلة الكبرى، فكانت تلك المتعلقة بتحرير الخليج انطلاقاً من هذه البؤرة التي يفصل بينها وبين سلطنة عمان مسافة 500 متر من الصحراء. وهذا ما حصل لدى السعي إلى نقل العمل المسلح إلى داخل السلطنة.

على اليسار أن ينقد نفسه

تجربة ظفار التي عايشتها عن قرب ميدانيا هل استفدت منها في النقد الذاتي التي وجهته لذاتك الأيديولجية في 1984 لما خرجت من التنظيم؟

– لم أكتب بشكل كافٍ عن التجربة اليمنية التي تعلمت منها كثيرا. بالأحرى أنا كتبت ولم أنشر بعد. خصوصاً حول معنى أن تطرح الفكرة الاشتراكية في بلد فقير. حول الدرس المستخلص من كل ذلك، على الأقل الدرس الرئيس المتعلق بأن الثورة حين لاتستطيع إنتاج الثروة فإنها ستظهر وكأنها تنشر الفقر. من جهة أخرى، ثمة درس ثان، ويتعلق بالتركيبات القديمة المسماة قبلية أو مناطقية، فهذه المكونات ينبغي التعاطي معها بما هي مشاكل موجودة، وليس طمسها باسم وحدة الكيان أو وحدة البلد أو وحدة الدولة. إن رأيي الآن يتوجه إلى ضرورة أن يتوجه الرفاق في اليسار إلى النقد الذاتي، وأن هذا النقد إما أن يتم بسرعة أو يترك آثاراً سلبية على اللاحق، إذا كان ثمة من لاحق. فذلك هو التحدي الكبير لاكتشاف مواطن الخطأ، ومن ثم تجاوزها. أي لا يجب أن ننتظر الوقت لكي يثبت بطلان نظرتنا. الآن يتردد بكثرة كلام من قبيل.. معنا الحق فالرأسمالية لم تصمد. أو مادامت الاشتراكية لم تصمد فقد آن الأوان أن ننتقل من موقع فكري إلى آخر، وليكن هذا الموقع نيوبراليا أو أو. لا، هذا خطأ فالأمر ليس سباق هجن، إن لم تمش معنا الاشتراكية فستمشي حتماً النيوبرالية!!. فالعمل السياسي يرتبط بمصالح الناس، للأسف نحن يطغى لدينا بكثرة موضوع الأيديولوجيا والأفكار في حين تلغى مصالح الناس. في حين يجب ربط الأفكار بالمصالح، إذ أن الناس يقبلون على الأفكار من خلال المصالح، وليس صحيحاً أن الأفكار معلقة في الهواء.

وضح لي كيف توضع المصالح والأفكار في الاعتبار؟

– دعني أوضح الأمر بمثال، نستهلك كثيراً من الوقت في التفكير بالمؤامرات الأميركية والإسرائيلية فيما نحجم عن التفكير في المصالح. بينما الصحيح أن التكفير يجب أن ينطلق من المقلوب. فلمعرفة الخصم ينبغي أولاً معرفة كيف يتصور مصالحه في فترة معينة، ومواجهته من هذا المنطلق. وليس فقط معرفة كيف أنه يخطط لعمل كذا وكذا. السؤال: ماهي مصلحته!؟ جزء كبير ورئيسي من السياسة يدور بين أناس مستفيدين من الوضع القائم، وبالتالي فهم يلجأون إلى التمسك به، وآخرين غير مستفيدين، وبالتالي يعملون على تغيير هذا الوضع. بمعنى آخر، فإن الصراع يدور حول السلطة والثروة، من يملكونها ومن لا يملكونها. فيما المثقفون منقسمون بين الجماعتين هاتين. ما يعني أن الأمر يتعلق بالمصالح أولاً وأخيراً. مشكلة الليبراليين هنا، أو غير اليساريين بصورة عامة، أنهم يعتبرون الأفكار موضة، أتت في فترة ومن ثم انتهت بانتهائها. في حين ما يزال هناك من يتمسكون بماركسيتهم، ليس لأنها متماسكة فكرياً أو حاجتهم إلى هذه الأفكار التغييرية، إنما لأنها على صلة بوضعهم الحياتي. لذلك حين تجد أن نصف الشعب الفنزويلي 51 % يصوت لتشافيز فإنه يعي تماماً لماذا يصوت له من منطلق مصالحه. ومثل ذلك الذين يعارضون تشافيز أو لم يصوتوا له، يرون فيه وفي اليسار عموماً تهديداً لمصالحه. أيضاً، يجب التنبه إلى مسألة أخرى، في الشق المتعلق باليسار، فاليسار في فنزويلا جاء إلى الحكم بواسطة البرلمان والانتخابات وليس عبر انقلاب عسكري. هذا شيء مهم يرتبط بالفارق الجوهري بين الحركات الشعبية القديمة وتلك الجديدة. أيضاً، في السابق كان هناك التركيز على التنظيمات الحزبية والشعبية، الآن ضربت هذه التنظيمات، وحل مكانها شيء اسمه الشارع العربي. بالتالي فقد أصبحت هناك أشكال مختلفة للتعبير، جديدة، ما يدعو إلى دراستها والبحث في كيفية عملها، بدلاً من التركيز على الأساليب القديمة.

مشكلتي مع الأشكال الجديدة للثقافة

هل عنوان محاضرتك ”ليس بالثقافة وحدها يحيا الإنسان” هو تلخيص لهذه الفكرة؟

– العنوان جرى اختياره من قبل. والعنوان عام بسبب أنني أشتغل على المعاني المختلفة المعطاة لكلمة ثقافة. وتحديداً، ذلك الوجه المستخدم من طريق معدي تقارير التنمية البشرية والمعبر عنه في مصطلح ”مجتمع المعرفة”. والذي يكاد يتلخص في وضع الثقافة والتعليم في موقع يضاهي التنمية، أو يحل بدلاً عنها. إن شئت، فإن عنوان المحاضرة لا يشكك في أهمية الثقافة في حياتنا، بل ينقد الأشكال الجديدة من استخداماتها في الحياة المعاصرة. ومنها تلك الأشكال التي يتم التعبير عنها في تقارير التنمية.

فكرة الدولة أصبحت موضوعا لمراجعات كثيرة في السنوات الأخيرة، و أنت القادم من تجربة الدولة والطوائف في لبنان، في مراجعتك لذاتك ولماركسيتك، كيف ترى موضوع الدولة الآن؟

– ذلك موضوع سجال يومي بيني وبين الليبرالييين وما يجري تعميمه من كليشيهات من جانبهم. من هذه ”الكليشيهات”، ذلك الوهم الذي رافق عملية العولمة وروجه الليبراليون والقائل إنه في حال ضعفت الدولة سوف تقوى حريات المواطنين. شخصياً، أعتقد أن هذه الفكرة فكرة إجرامية. فماتزال ثمة حاجة للدولة، وفي بلداننا بشكل خاص تشكل الدولة أحد العناصر الرئيسة للتماسك الاجتماعي. ولبنان دليل على ذلك، فحين تضعف الدولة تقوى الطوائف من جانب آخر، وينفك النسيج الاجتماعي. أنا لا أعمم هنا، ولكن أعتقد أن دولنا حديثة التكون، ومايزال هناك دور أساسي للدولة ينبغي أن تقوم به على مستوى التعايش الاجتماعي ووحدة البلد. وهذا ما بينته بوضوح التجربة العراقية، فالأميركان دمروا الدولة العراقية، وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت الطوائف وتشظى المجتمع. وحتى من ناحية اقتصادية، ليس صحيحاً أن الدولة لا تتدخل، فالقطاعات العامة المتوارية في الدولة الرأسمالية أقوى بكثير من أي قطاع عام. وعلى عكس ما كان متوقعاً، فإن إضعاف الدولة قد أدى إلى زيادة تدخلها في الاقتصاد لكن لصالح رأس المال الكبير فقط. كما ليس صحيحاً أن إضعاف الدولة أدى لنموّ الحريات.

http://alwaqt.com/art.php?aid=137262&hi

http://alwaqt.com/art.php?aid=140269&hi

قرار الطائفة

مازلنا مع إسحاق الخوري في مقاربته لنظام الدولة ونظام الطوائف. يصل الخوري من خلال المعطيات الميدانية، إلى مفهوم للعلمنة يقول فيه: "إن العلمنة جل ما تفعله هو أنها تعمم المشاركة في اتخاذ القرار الديني على جميع أبناء الشعب، بدلا من أن يكون هذا القرار حكراً على النخبة الدينية، أي علماء الدين فقط. وأن يصبح القرار الديني بمتناول الشعب، لا يعني أن دور النخبة أو العلماء يزول أو أن القرار يصبح قراراً لا دينياً. العلمنة تزيل نخبوية القرار الديني ولا تزيل دينيته"[1].

ماذا يعني هذا التعريف بالنسبة لنا؟ يعني إعادة النظر في آليات اتخاذ القرار، وإعادة النظر هذه تتطلب في سياقنا إعادة تشكيل نظام السلطة في الطائفة. فالطائفة تحتكم في تنظيم شأن جماعتها إلى (شرائع وشعارات ومعتقدات وعبادات) مستمدة من تراثها الفقهي الخاص (الخاص بزمن الغيبة مثلاً)، ويفترض هذا التراث في الطائفة الشيعية مثلاً أن المختص بالشأن الديني (علماء الدين)، هو المختص بالقرار، وهو القادر على تشخيص الواقع، وعلى العوام أن يقلدوه. وان تكون في الطائفة يعني أن يكون قرارك لا فيك، بل في آلة الطائفة، وآلة الطائفة يحركها ويتخذ قرارها علماء الدين. قد يكون القرار وطنياً، لكن آلية اتخاذه ليست مدنية بل دينية.

يفيدنا الخوري هنا بمعلومة ميدانية من الحالة البحرينية، فقد أجرى في السبعينيات مسحا اجتماعيا عاما في أربع قرى (الدراز وعالي وسلماباد وجدحفص) إن هناك مختصا دينيا أو عالم دين لكل أربعة عوام، أي ما نسبته 24% من علماء الدين، في الطائفة الشيعية، مقابل عالم دين واحد لكل 600 شخص عند السنة. والمختص الديني يشمل في مسحه الاجتماعي الفئات التالية: الأئمة والخطباء أو الملائية، والسادة والمجتهدون، وقضاة الشرع وأصحاب الفتاوي.

هناك تفسير لهذه الكثرة يرجعه الخوري إلى كثافة الشعائر الدينية وتلك ظاهرة انثروبولوجية خاصة بالطوائف، حتى عند الطوائف المسيحية، كما هو الأمر عند طائفة الأرمن.

علمنة الطائفة، لا تعني جعل قرارها غير ديني، بل تعني جعل قرارها غير محتكر في فئة علماء الدين. وهذا يعني تحولاً في نظام اتخاذ القرار، وهو تحول ليس يسيراً، لأنه يصطدم بتكوين بنيوي في الطائفة، ويصطدم بتاريخ طويل وتراث غزير. وتحديث هذا التراث يتطلب تحدياً معرفياً واجتماعياً وثقافياً.

ترتبط العلمنة إذاً بآلية اتخاذ القرار، لكن ذلك لا يعني أنها آلية شكلية، بل هي ترتبط بمفهومنا للقرار ومفهومنا لموضوعات الواقع التي ترتبط بهذا القرار. إن كثافة الشعائر الدينية في نظام الطائفة يجعل كل شيء دينياً. جميع الممارسات التي يقوم بها الفرد في حياته اليومية، تتخذ طابعاً دينياً بسبب كثافة الشعائر هذه.

لذلك فالفرد يسلم قراره للمختص الديني في كل ما يتصل بأفعاله اليومية، ومتى وصل الفرد داخل الطائفة إلى قناعة بأن أمراً ما ليس دينياً، فإنه يقرره بنفسه، أو يلجأ إلى مختص خارج الدائرة الدينية. من هنا، فالعيش ضمن نظام الطائفة وليس ضمن نظام الدولة، يجعل الفرد ليس فرداً بل جماعة. وكي يعيش فرديته فهو بحاجة إلى أن يعلمن قراره، وذلك ليس بأن يجعله غير ديني، بل بأن يكون هو صاحب قراره، وسيد قراره. وتلك سيادة دونها الطائفة.

لنتأمل هذه القرارات: قرار ذهاب المرأة إلى الجامعة، قرار سياقة المرأة للسيارة، قرار العمل في الحكومة، قرار عمل المرأة، قرار المشاركة في الانتخابات، قرار تولي وظيفة في القضاء، قرارات التصويت على القضايا المصيرية، قرار إعلان هلال العيد، قرارات أحكام الأحوال الشخصية، قرار السلام على أهل البدع. جميع هذه القرارات وغيرها سواء جاءت في صيغة فتوى أو رأي شرعي أو نصيحة دينية أو حكم فقهي أو استفتاء، تفترض أن وجودك في الطائفة يلزمك بقرارها الشرعي والعقائدي، وتمتاز بمدى التزامك بهذا القرار.

العلمنة تعني فصل نخبوية القرار عن المختص الديني، ففي الطائفة التي يدير سلطتها المختصون الدينيون، يبدو القرار أكثر احتكارية في طبقة علماء الدين، وحجة الاختصاص، تعد حجة دامغة لا يمكن ردها. وشعار (معكم معكم يا علماء) [2] تجسد معيتُه، معية القرار بيد علماء، فهم سور الطائفة، ووجودك مرهون ببقائك داخل هذا السور.

العلمنة تقوم على أن الوجود في العالم أو في الدولة مقابل للوجود في الطائفة. فالوجود في العالم يفترض الوجود في الدولة، فأنت تعرّف نفسك بالدولة التي توجد فيها. وكي توجد في هذه الدولة وفي هذا العالم، عليك أن توجد خارج طائفتك، أي خارج سور سلطتها الدنيوية وخارج قرار نخبوية مختصيها، وتحول انتماءك لها إلى رافد من روافدك المتعددة، وبهذا تكون خارجا منها، لا خارجا عليها.

الطائفة تربيك تربية القصور، فهي تربيك على قاعدة أنك لا تستطيع أن تفكر وحدك أو تتخذ قرارا لوحدك، لابد أن تسدّ قصورك بالرجوع إليها، أي الرجوع الواجب إلى علمائها وفقهائها ومراجعها ومدوناتها المعتمدة.

بقدر ما أنت تقلّص من مساحات هذا الرجوع، تخرج من قصورك، وتكون مثقفا. مثقفا على طريقة عصر الأنوار التي عرّفها كانط (الأنوار خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه) فالمثقف أو المتنور هو القادر على الخروج من قصوره. قصوره من الفكر المهيمن عليه الذي يشعره أنه قاصر عن الخروج منه.

يتفاوت هذا الخروج بتفاوت قصورك، هناك من يخرج في المجال السياسي والاقتصادي، وهناك من يخرج في المجال الديني، وهناك من يخرج في المجال الثقافي، وهناك من يخرج في مجال الأحوال الشخصية، وهناك من يخرج في مجال الحرية الشخصية.

هناك نضالات يخوضها المثقف في سبيل تحقيق مجال أوسع من خروجاته، وهو بهذا الخروج لا يحرر نفسه فقط، بل يحرر الميدان العام المشترك بين مختلف الأعراق والطوائف والاتجاهات، هذا الميدان يتسع بالخروج من أطرنا الضيقة، يتسع فيسع الجميع.

بقدر ما تخرج تصبح قدرتك على هندسة حياتك وقراراتك بعقلك الفردي، لا بعقل جمعي يسيطر عليك باسم الطائفة أو الحزب أو أي جماعة عرقية أو دينية أو أيديولوجية.

في فيلم (The Champ) كان البطل صحفي أوقعه ملاكم في ورطة كتابة قصة بطولة وهمية، فسقط فوق منصة المجتمع حيث الميدان العام لا يقبل الكذب والزيف. الخلاصة التي وصل إليها هو تعريف للمثقف يقول فيه "الكاتب مثل المصارع يجب أن يقف وحيدا. محاولة نشر كلماتك مثل الدخول وحيدا، يضع موهبتك على المحك ولا يوجد مكان لتخبئتها"

قف وحيداً خارج طائفتك، لا تستند إليها لتعطي شرعية لقولك وفعلك، شرعيتك يعطيك إياها الميدان العام المشترك الذي هو مجال لحركة حريتك.

هوامش

[1] فؤاد إسحاق الخوري، إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي. بيروت: مركز دار الجامعة،ط1، 1988.

[2] انظر:

– جريدة الوقت، إبريل 2006، علي الديري، "معكم معكم يا علماء.. بجرح الكأس المكسورة"

– مدونة هوامل الديريwww.aldairy.ws

إمامة الطائفة

«أنا خارج الطائفة» ليس إعلان براءة كما فهمها كثير من المتلقين، بل هي إشكالية معرفية ووجودية واجتماعية وسياسية، وأحاول عبر سلسلة هذه المقالات أن أفهم من خلال هذه  الإشكالية «أنا خارج الطائفة» أناي ومجتمعي ودولتي وجماعاتي التي أعيش معها.
في «كتابه إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي»، يحلل فؤاد إسحاق الخوري علاقة الطوائف والأقليات في العالم العربي بالسلطة المركزية في الدولة، وهو يدرس وضع ست طوائف: الأباضية، الإمامية، الدروز، الزيدية، العلويون، اليزيدية، والموارنة.
يضع (الخوري) الطوائف في مقابل السنّة. فالسنّة ليسوا طائفة، هم من الناحية السوسيولوجية جماعة الأكثرية، وأهل الحكم والسلطة، فهم يمثلون الحكم والمركز، وعلاقتهم بالسلطة علاقة تطابق، في حين تبدو علاقة الطوائف بالسلطة من الناحية السوسي141020081057 ولوجية والسياسية، علاقة مزدوجة وملتبسة. ولخبرة إسحاق الخوري بالبحرين، فقد خصها منذ كتابه (القبيلة والدولة)، بما يشبه دراسة الحالة، حتى غدا مختصاً بالوضع الاجتماعي والديني والسياسي لهذه الجزيرة.
وكتاب الخوري (القبيلة والدولة)، وإن كان ممنوعاً من التداول، إلا أنه يحظى بمكانة خاصة ومقروئية عالية في أوساط الجماعات السياسية التي لا تنتمي للمولاة، إلا أن هذا الحضور يبدو حضوراً انتقائياً، فهو يقرأ ما يدين خصمه ويظهره صاحب القوة والظلم ولا يقرأ النقد الموجه له، فهو يبحث عن ظالم ومظلوم ولا يقرأ التحليل الذي يقدمه لبنية هذه العلاقة والأطراف الفاعلة فيها.
كتاب خوري عن القبيلة والدولة في البحرين، على خلاف الكتب الأخرى التي كتبت البحرين، وتناولت الشأن السياسي في البحرين، فهي لم تحظَ بالمكانة التي حظي بها كتاب إسحاق الخوري. ربما يعود ذلك إلى المنهج الانثروبولوجي والاجتماعي الذي مكّن الخوري من مقاربة تفاصيل الحالة البحرينية، لكن هذا السبب وحده ليس كافياً، وربما يكمن السبب الأكثر قوة في تحليله لنظام السلطة القبلية، وهذا التحليل أظهر تسلط نظام القبيلة في الحكم واستفراده بالثروة والقوة، وأظهر من جانب آخر مظلومية الطائفة الشيعية. الأمر الذي ربما أشعر معارضتها بشيء من الإنصاف العلمي والتاريخي. وهذا ما جعل للكتاب حظوة كبيرة وأهمية معرفية وتاريخية.
وهو الأمر نفسه الذي جعل على الكتاب لعنة من قبل السلطة، وهي لعنة ما زالت إلى اليوم تطارده وتمنع تداوله. وذلك لأن تحليل الخوري وتفسيره بشأن ممارسة السلطة يبدو مازال فاعلاً، وقادراً على أن يفهمنا بدرجة تفسيرية عالية مآلات السلطة اليوم.
لقد أخذنا بتشخيص الخوري للسلطة، واعتبارنا كلامه حجة على ظلمها وعدم ديمقراطيتها وقبليتها، لكننا لم نأخذ بتشخيصه لطبيعة السلطة الدينية وإدارتها الاجتماعية وعلاقتها بالسلطة. بل ولم نستفد منه في تقريره لكثير من مآزقها، خصوصاً وأنه باحث معني بمسار العلاقة بين الدولة والدين.
في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل»، يلفت الخوري أنظارنا إلى أهمية أن تفهم الطوائف الدينية مآزق سلطتها. كما لفتنا في كتابه «القبيلة والدولة» إلى أهمية أن تلتفت السلطة السياسية إلى مآزقها، وإن كان هو في الحقيقة يحلل السلطتين في الكتابين، لكنه يبدو في كتابه الأول معنياً بالسلطة السياسية ومأزقها القبلي، كما هي في البحرين، أكثر مما هو معني بنقد السلطة الدينية ومأزقها الطائفي. والطائفي هنا لا يعني ممارسة التمييز والإقصاء، بل يعني الوجود ضمن إطار الطائفة، واعتبارها مرجعاً في ممارسة السياسية.
ولطبيعة المقاربة الانثروبولوجية والسوسيولوجية، فقد بدأ الخوري باحثاً يريد أن يفهم الظواهر، أكثر من أن ينقدها أو يصلح أوضاعها، لكنه في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل»، يتخلى عن هذه المحافظة الأكاديمية وينخرط بحرارة في مشكلات السلطة والدولة والطائفة. لذلك نجده يوجه رسالة رجاء في مقدمته يحرض فيها القارئ على أن لا يكتفي بقراءة الفصول الخاصة بطائفته في كتابه، بل يرجوه أن يقرأ فصول الطوائف الأخرى ليعرف المآزق المشتركة التي تعاني منها السلطة في تنظيمات الطوائف المختلفة.
لقد كتب الخوري كتابه تحت وقع الأزمة التي تعاني منها الدولة في العالم العربي وعلاقتها بالطوائف والأقليات والدين. وهو بحكم تخصصه الأكاديمي كان معنياً بشكل السلطة التي تتبدى في الممارسة الاجتماعية والتنظيمية، بعيداً عن المصادرات الأيديولوجية أو الأحكام الدينية التي تتبادلها الطوائف عن بعضها.
كان يصغي بعمق لأشكال التنظيم الاجتماعي، ويحاول أن يفهم رؤية هذه التنظيمات لذاتها وأشكال علاقتها بالدولة. الدولة حاضرة في مجال اهتمامه، ليس بصفتها المجردة، أو بشخصيتها القانونية والسياسية، بل الدولة بما هي شكل تنظيم اجتماعي وسياسي، تدير جماعات مختلفة في عرقها ودينها وطائفتها وتراثها.
كان السؤال المقلق بالنسبة له هو كيف يمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة وهذه التنظيمات بشكل لا يُقصر هذه التنظيمات قسراً يجبرها فيه على الانصهار في الدولة، بل كان يسعى لفهم هذه التنظيمات فهماً يعينها على إعادة تشكيل سلطتها التنظيمية لتكون في الدولة. كما أنه لم يكن يدافع بحسه الانثروبولوجي عن بقاء الطوائف في شكل فسيفساء غير قادرة على أن تتمثل في جسد دولة.
لقد وجد إسحاق الخوري من منظوره الانثروبولوجي والسوسيولوجي في العلمنة حلاً لبناء دولة مجالها العام ليس فسيفساء الطوائف، فما هو هذا المنظور؟ وما مفهومه للعلمنة؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في المقالات المقبلة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8372

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (4-4)

 

الجماعات الوظيفية

من أهم المفاهيم التي تناولها المسيري في موسوعة مفهوم (الجماعات الوظيفية) وهو يحاول عبر هذا المفهوم أن يفهم الصهيونية والجماعات الوظيفية اليهودية، في إطار نزعة العلمنة الشاملة في الحضارة الغربية.

الجماعات الوظيفية هي مجموعة بشرية صغيرة، يقوم المجتمع بإسناد وظائف معينة إليها.وهي وظائف يرى أعضاء المجتمع أنهم لا يمكنهم الاضطلاع بها almas5eryلأسباب شتى. مثل أن يعتبر المجتمع هذه الوظيفة مشينة، كوظيفة البغاء، أو التنجيم، أو الربا. هذه الوظائف أشبه أن تكون بمهمات قذرة في وجهة نظر المجتمع، لذلك الجماعات الوظيفية هي التي تقوم بهذه المهمات القذرة.

الإنسان الوظيفي

في المجتمعات التقليدية التراحمية التي يسودها التقديس، الناس لا تريد لنفسها أن تتلوث بهذه الوظائف، لذلك فهي تسندها إلى مجموعة قليلة ليست منها لتقوم بها. بهذه الطريقة تحافظ الجماعة الوظيفية على البعد التراحمي والبعد التقديسي للمجتمع الذي تعمل فيه، فهي تتولى القيام بالوظائف التي تعرّض طاهرة المجتمع للمس.

لكن لو أخذنا هذه الجماعات الوظيفية في إطار أبعد من ذلك، في إطار العلمنة الشاملة، سنعثر لها على تأصيل في مفهوم الإنسان الوظيفي والإنسان الطبيعي الذي قد بلورته العلمنة الشاملة.

الإنسان الوظيفي هو الذي يقوم بمهمة محددة، ومعزولة العلاقة عن بقية المهمات وبعيدة عن أي إطار مرجعي متجاوز، سواء تجلى في شكل أخلاق غائية أو إله مفارق أو قيم ثابتة أو أي شيء يتجاوز الأرض. هو إنسان يقوم بوظيفة محددة وغير ملتبسة بأي شيء خارجها. ينظر هذا الانسان إلى وظيفته بشكل عقلاني بارد أدواتي رشيد دون أن يربط هذه الوظيفة بأي شيء خارج النطاق الدنيوي المادي.

الإنسان الطبيعي

يطلق المسيري على هذا الإنسان مصطلح (إنسان طبيعي) بمعنى أنه محكوم بطبيعة المادة البسيطة الأحادية المحايدة التي لا ذاكرة لها أو تركيب ذهني معقد، وليست محكومة بغاية تتجاوز طبيعتها أو أخلاق توجه سلوكها، وليست لديها وجهة نظر أو مواقف مبدئية. هذه المادة الطبيعية هي إطاره المرجعي الذي يستند إليه في وظيفته التعاقدية مستبعداً أي عنصر يتجاوز إطاره المرجعي، أي أن وظيفته تستند إلى عقد مجرد من أي شيء آخر، على عكس الإنسان التراحمي الذي هو دائماً يستند إلى إطار مرجعي متجاوز، فهو يضع أمامه رضا الله ومرجعيته الأخلاقية والغاية التي يستهدفها العمل وتقبل المجتمع.

الإنسان الوظيفي يقوم بهذه الوظيفة وفق قواعد العقل الرشيد، إذ هو يرشد حياته في ضوء وظيفته، ويختزل تعدديته وتركيبته المعقدة في بعد واحد، علاقته تعاقدية لا تراحمية مع المجتمع. لذلك نجد أعضاء الجماعات الوظيفية يقومون بمهمتهم في سياق منعزل عن المجتمع، لا يشعرون أنهم يقعون في وطن هذا المجتمع. هم يفهمون تماماً أن وظيفتهم تقودهم إلى أن ينعزلوا عن المجتمع، ويبقون في غيتوات مغلقة، وجيوب معزولة، يؤدون مهماتهم ببرود تام، ويجدون أن الولاء هو لوظيفتهم التي يؤدونها فقط، لذلك يتعاملون بموضوعية باردة مع وظيفتهم.

حرفة البغاء مثلاً، تتطلب من الإناث الممارسات لها أعلى مستوى من مستويات الموضوعية, والبعد عن أي تآلف أو تراحم أو عواطف. البغي تستخدم جسدها الطبيعي بكل طاقته التشغيلية، دون أن تفكر في أي بعد يتجاوزه، لذلك فهي تفكر في إطار المرجعية المادية الكامنة، كل شيء يكمن في هذا الجسد، وليس هناك ما هو أبعد منه، وهذا نموذج لاختزال النشاطات الإنسانية المعقدة والمتعددة في بعد مادي أحادي.

مهمات التحديث

لكن ليس بالضرورة أن تكون مهمات الجماعات الوظيفية قذرة، ربما تكون في المجتعات التقليدية كذلك، لكن حين تتعقد المجتمعات، فإنها تصير في حاجة إلى جماعات وظيفية، لأن بعض الوظائف تتطلب بشرا تكون تركيبتهم أحادية لا تعرف بعداً آخر غير الوظيفة، كي تؤدي دورها على أتم وجه، فمهمات الجماعات الوظيفية ليست من نوع واحد، وقد تؤدي أدوراً تاريخية غير مقصودة.

تتميز كثير من الجماعات الوظيفية، بأنها قد تكون من أكفأ الناقلين للأفكار التحديثية والمسهمة في علمنة المجتمع، بل إنها قد تكون من أهم مكونات تحديث المجتمع. لأنهم غير مرتبطين بتراث هذا المجتمع الذي عادة ما يعمل ككابح أو كمعيق لعملية التطور، فهم متخلصون من هذا البعد، فيعملون على دفع المجتمع نحو مناطق جديدة تتطلبها وظيفتهم ومصلحتهم.

يذكر المسيري شخصية محمد علي كنموذج فقد قدم إلى مصر ضمن جماعة وظيفية قتالية، هم الألبان. كان ينظر إلى مصر نظرة محايدة. خلاف الانسان الذي عاش فيها فينظر إليها نظرة غير مجردة، فهو يرى عمليات التحديث اقتلاع لجذوره وخيانة لذاكرته واستعمار لثقافته. لم يكن (محمد علي) يعرف لغة أهلها وتقاليدها، لكنه كان يدرك أن في مصر إمكانات عالية، فاستولى على الحكم وبدأ واحدة من أكثر عمليات التطوير والعلمنة في العصر الحديث. كذلك كمال أتاتورك، وربما يكون رضا بهلوي شاه إيران كذلك، هؤلاء دفعوا بحركة المجتمع إلى حيوات جديدة.

العلمنة المركبة

من هناك فاليهود كنموذج للجماعات الوظيفية، قاموا بعمليات طوال التاريخ معقدة ولا تنتمي إلى نوع واحد، وهم يختلفون من بلد إلى بلد آخر. وربما يكون مدخل الجماعات الوظيفية، لدراسة اليهود يجنبنا الوقوع في الأحكام الإطلاقية والأيديولوجية والعرقية. لذلك لا يستخدم المسيري مصطلح اليهود، بل يستخدم مصطلح الجماعات الوظيفية، لأنه ينظر إليها أنها جماعات مختلفة السياقات، مختلفة الوظيفة التعاقدية التي تؤديها في كل مجتمع، لذلك كان يدرس كل جماعة على حدة، كل جماعة وتاريخها ومجتمعها وشأنها ووظيفتها التي أسندت إليها في مجتمع من المجتمعات.

علينا أن نلاحظ هنا أن المسيري حاول أن يفهم الجماعات الوظيفية اليهودية في سياق العلمنة الشاملة. وهذا السياق وفرّ له ضمانة علمية كي لا يقع في تحيزات عرقية أو دينية أو إيدلوجية، تقرأ الجماعات اليهودية قراءة مغلقةعلى ذاتها، أو قراءة محكومة فقط بصراعها الفلسطيني الصهيوني الحديث، لا شك أن هذا البعد حاضر، لكن الجهد العلمي الذي يبذله المسيري، يجعل من اللحظة الحاضرة لحظة متولّدة عن تاريخ طويل، وليست لحظة حاكمة ومسيطرة على رؤيته على هذه الجماعة.

أقول ذلك أنا أشير هنا، إلى مجموعة من الملحوظات التي تؤكد هذا المنحى الذي نحاه المسيري في دراسته لليهود كجماعات وظيفية.

الملحوظة الأولى هي أن المسيري لا يفسر ظهور العلمانية، كما هي عند بعض متبني نظرية المؤامرة، بأنها ظاهرة يهودية، أو ظاهرة نشأت بسبب أن هناك جماعة من اليهود أرادوا شراً بالعالم، فوجدوا في العلمانية مدخلاً لهذا الشر. بل هو يرى أن العلمنة الشاملة هي حركة مركبة تاريخية وفلسفية واجتماعية واقتصادية وحضارية، لا يمكن أن ترجع إلى جماعة أو إلى فرد أو إلى تاريخ معين. هي حركة مركبة من فكر الاستنارة وحركة الاصلاح الديني وظهور فكرة الدولة المطلقة، وظهور القومية، وعصر الصناعة، وتطور حركة العلم. هذا الكل المركب، لا يمكن أن نعزوه إلى فرد أو جماعة أو تخطيط معين، إنما هي حركة متدافعة من عدة مراكز قادت في النهاية إلى العلمنة الشاملة، لذلك نجد أنها بالنسبة للمسيري عملية لا تتم في فترة معينة وإنما أخذت لها فترة تاريخية طويلة.

هذه الملاحظة الأولى التي تجعلنا نثمن عمل المسيري وجهده العلمي في هذا المنحى ولا نرده إلى تحيزات فجّة إيدلوجية أو عرقية.

السياق السسيولوجي

الملحوظة الأخرى أنه يتحدث عن الجماعات اليهودية من نواحي سسيولوجية اجتماعية، لا يتحدث عنهم فقط من نواحي عقائدية، كأن يكتفي بالإحالة إلى التلمود، وكأن هذه النصوص التلموذية العقائدية هي مرجعه في النظر إليهم وتفسيرهم. إنما نجده يحيل إلى الأبعاد السسيولوجية لهذه الجماعات وهي أبعاد مختلفة، نشأت في بلدان وفي تواريخ مختلفة. الأبعاد السسيولوجية أكبر من أن تكون خاضعة إلى إرادة جماعة معينة، إنما هذه الجماعات تشكل وتتشكل ضمن هذه النواحي الاجتماعية التاريخية السياسية المركبة.

الملاحظة الثالثة، سنجد أن المسيري وهو يفسر ظهور العلمنة، يلجأ إلى الأطروحات الغربية كأطروحات مدرسة فرانكفورت وأطروحة (ماكس فيبر) ويناقشها بعمق ويبين وجه استفادته منها، ويطرح بدائل تفسيرية قبالها، تقدم تفسيراً أكثر أو أقل للظواهر التي يقرأها. لذلك نجده يصرّ على أن يصف النماذج المعرفية التفسيرية، بأننا نحكم عليها بأنها نماذج تفسيرية أكثر أو أقل، ولا يحكم عليها بمعايير الصحة والخطأ.

فالمسيري مثلا، بعد أن يستعرض أطروحة (ماكس فيبر) التي تذهب إلى أن التوحيد اليهودي الذي يتحدث عن إله مفارق، هي أحد عوامل نشوء الرأسمالية الغربية، ويربط (فيبر) هذه العقيدة بتزايد نسبة الترشيد العقلاني، باعتبار أن الايمان بفكرة اله متجاوز هو إيمان عقلاني وترشيدي يقود الانسان إلى الدخول في العقل الترشيدي. المسيري يضع نموذجه التفسيري المخالف للنموذج التفسيري الذي يقدمه (ماكس فيبر) لنشأة العلمانية الشاملة ودور الجماعات اليهودية في ذلك تأثراً وتأثيراً.

الحلولية الكمونية

يرى المسيري أن الحلولية الكمونية المادية، والحلولية الكمونية الروحية لا تختلفان، في الحلولية الكمونية الروحية ينزل الإله إلى العالم ويسكن أو يحل أو يكمن في الإنسان وفي الطبيعة، وتبقى روحه المفارقة حالة في الأشياء.

والحلولية الكمونية المادية تُنزل الإله إلى الكون والمادة وتسلب منه اسم الإله فيتحول إلى القوة المطلقة أو الطاقة أو الطبيعة أوالمادة. المسيري يقول إن العلمانية الشمولية وُلدت من هذه الحلولية، وليست من التوحيد اليهودي الذي يؤمن بإله مفارق، كما هو الأمر مع النموذج التفسيري الذي قدمه ماكس فيبر. لكن كيف تمّ ذلك؟

هو يرى أن حلول وكمون الإله في المادة أو الطبيعة، وليس تجاوزه لها، جعل المادة أو الطبيعة تكتفي بما فيها، أي تكتفي بعالمها الطبيعي المادي، هي تكتفي بما تعلمه في عالم هذه الطبيعة، كذلك مجالات الحياة الأخرى، كالاقتصاد، والسوق، الأدب، كل واحد منها يكتفي بعالم مادته وما يحل فيه أو يحايثه (حيث هو فيه) ولا يحتاج إلى شيء خارجه يفسره. فالسوق مكتفية بقوانينها الداخلية، وليست بحاجة إلى قوانين إلهية أو قوانين أخلاقية غائية، تجعلنا نحكم على السوق بهذه الأخلاق. فالأخلاق الرأسمالية تعلمنت بهذه النزعة الحلولية التي أصبحت لا تقيم مسافة بين الأرض والسماء، ولا تقيم ثنائيات بين الروح والجسد والشكل والمضمون واللفظ والمعنى والدال والمدلول والإله والإنسان. كل شيء صار واحداً يفسر وفق إطار الأحادية المادية.

المطلقات

في القرن الثامن عشر، بسبب وجود نوع من الأخلاق المتجاوزة، كان هناك قانون في فرنسا يمنع الإعلانات، باعتبارها نوع من ملاحقة الزبون ونوع من الغش والخداع. هذه الأخلاق ترجع في هذه النقطة إلى أخلاق متعالية متجاوزة. بينما أخلاق السوق التي تتوسع وتريد أن تنتشر لا يمكن أن تعبأ بهذه القيمة الأخلاقية في موقفها من الإعلان، تعتبر أن موقفها من الإعلان لا بد أن ترتبط بحركة السوق نفسها وصيروتها، وهي ما أطلقت عليها المسيري (أخلاق الصيرورة)، أي أنه لا بد أن تكون الأخلاق متحركة، في صيرورة، مرتبط بحركة السوق ونشاط السوق وغايتها ثراء السوق وليس شيئاً آخر.

المسيري إذا، يفسر نشوء العلمانية بفكرة الحلول، وعلينا أن نفهم هذه الفكرة عميقاً، لأنها ستكون مسؤولة عن العلمانية الشاملة التي فصلْت الأشياء كلها عن الإله والغايات والأخلاق، وجعلت المادة مطلقة والدولة مطلقة والسوق مطلقة والأرض مطلقة والجسد مطلق والدال مطلق والنص مطلق والفن مطلق والمجتمع مطلق، كل هذه المجالات مطلقة من أي تقييد متجاوَز، ليس هناك مركز أعلى يضبط أو يتحكم في الأرض وما عليها.

تصوف الحلول

نأتي الآن إلى الجماعات الوظيفية اليهودية، ما علاقتها بفكرة الحلول وفكرة الكمون؟ لقد قلنا إن المرجعية المادية والعلمانية الشاملة يرجعها المسيري إلى فكرة الحلول والكمون، وهنا يحيلنا المسيري إلى جانب عقيدي يهودي، يتعلق بمجموعة من المذاهب والعقائد، مثل مذهب القبالاه، واليهودية الحاخامية. الجانب العقيدي في هذه المذاهب أقرب إلى فكرة التصوف الذي يُحل الإله في الكون وفي الطبيعة والانسان. هذا الحلول هو الذي قاد فيما بعد، لأن تصبح مرجعية الطبيعة ومرجعية الإنسان مستقلة، وكأن الإله بعد أن يحلّ في الإنسان والطبيعة، يتمّ الاستغناء عنه، أو هو يستغني عن العالم، ويبقى العالم مستقلاً بذاته أو مكتفٍ بمادته وطبيعته.

لكن المسيري لا يفسرّ العلمانية الشاملة بهذا البعد فقط، بل يحيلنا إلى أبعاد سسيولوجية تتعلق بالجماعات اليهودية في أوربا. فهي لكونها لا تشعر بالانتماء للأوساط المجتمعية والتجارية التي وجدت فيها، فقد ظلت تعيش في كانتونات معزولة، وجيوب هامشية، أتاح لها أن تعيش عالمها وعقائدها الخاصة وعالمها الاجتماعي الخاص، من دون أن تكون للأعراف الحاكمة للمجتمعات التي تعيش في هامشها، سلطة عليها.

حركة السوق

حين تتصل هذه الجماعات بالسوق والمجتمع، هي متخففة من الالتزام بالقيم والأخلاق التي تُلزم من يقيم في هذا المكان، هي لا تقيم في هذا المكان، ولا تشعر بالانتماء إليه، وغير مضطرة للالتزام بأعرافه الخاصة بالمقيمين. لذا هذه الجماعات لا تجد حرجاً بأن تقوم بعمليات تجارية أخلاقياتها لا تتفق مع هذا المجتمع، لأنها لا تنتمي إليه، كما هو الأمر مع أخلاق الربا. لماذا أصبح التاجر اليهودي والجماعات اليهودية هي التي تتعامل مع الربا أكثر من الجماعات الأخرى؟ لأن هذه الجماعة غير منتمية لهذا المجتمع ولا تنتمي لأخلاقياته، لهذا لن تشعر بأنها قامت بأي إثم أو عيب، وهذا ما يفسر لنا لماذا الجماعات الوظيفية تُجلب للقيام بدور المجتمع لا يقوم به.

هذا الوضع المعزول اجتماعيا للجماعات اليهودية، جعلها في وضع أخف حركة. فثقل الحركة تستمده الجماعة من التراث الذي تنتمي إليه، لأنها لا تستطيع أن تقوم بأية حركة، إلا وعليها أن تراعي الأعراف والتقاليد والمسلمات والأحكام الدينية التي يؤمن بها هذا المجتمع، اليهودي في هذا المجتمع يريد أن يحرك السوق ويربح ربحاً نقدياً، ورأس المال النقدي هو أخف الأشياء، ولأنه ليس لديه عقار، إذ لا يجوز له باعتباره أجنبيا أن يملك عقاراً، لهذا عليه أن يحرّك الأسواق ويوسعها وينتقل بالبضائع بأكبر قدر ممكن، فموطنه السوق والسوق من غير حركة لا يعول عليه، لذلك كان الكثير من الحكام والملوك يعولون في تحريك السوق على الجماعات اليهودية، وحركة السوق ستؤول فيما بعد إلى الرأسمالية التي يرجع جزء من تفسيرها إلى تنشيط حركة السوق وفتحها.

تتمثل في الجماعات الوظيفية شخصية التاجر الذي تحدث عنها (دافيد لو بروتون) في كتابه (انتروبولوجيا الجسد والحداثة) فهو يشير إلى أن التاجر هو المثال النموذجي للفرد الحديث للإنسان الذي تتخطى طموحاته الأطر القائمة، الإنسان الكوني (الكوزموبوليتي) بامتياز الذي يجعل من مصلحته الشخصية المحرك لأعماله، حتى ولو كان ذلك على حساب الخير العام. كانت هذه المصلحة الشخصية التي لا تعبأ بالخير العام، هي محرك السوق، وقد مثلتها الجماعات الوظيفية اليهودية خير تمثيل.

هكذا إذا، الجماعات الوظيفية اليهودية (بملاحظة تفصيلات أخرى يعرضها المسيري)، كانت قد أسهمت (ببعد عقائدي واجتماعي وسياسي) في عمليات ترشيد السوق وترشيد الاقتصاد والدولة، فبالتالي هي لعبت دورا كبيرا في تنشيط العلمنة، بما هي حركة يتخفف فيها الإنسان من حكم المركز الذي يتجاوز أرضه وسوقه وطبيعته ومادته، ويكتفي فيها الإنسان بذاته، لكي يدير العالم.

علمنة اليهودية

حركة العلمنة الشاملة هذه، التي أسهمت الجماعات الوظيفية فيها، سنجد الجماعات اليهودية نفسها ستقف فيما بعد ضدها، حين تبدأ حركة هذه العلمنة، سواء كانت جزئية أو شاملة تضرب اليهودية ذاتها في بعدها الديني العقيدي. سنجد مذاهب يهودية تقف موقفاً عنيفاً وممانعاً، كأي حركة دينية، ضد عمليات الإصلاح الديني، إلى أن أجبرت منتصف القرن التاسع عشر، وزجت في حركة الإصلاح في سياق التدافع العام السياسي والاجتماعي والحضاري في هذه الفترة التاريخية.

وهنا يذكرنا المسيري، بأنه عندما تفاعلت عمليات العلمنة في المجتمع الغربي، أصبحت اليهودية الحاخامية في أزمة، لأن القبالاه الحلولية بدأت تسيطر على الجماهير، هكذا إذا الجماعات الوظيفية أسهمت في العلمنة الشاملة، ولم تكن تدري أن وظيفتها في حركة السوق ستأتي على ديانتها وتعلمنها.

لقد تحدثنا عن الجماعات اليهودية في سياق العلمنة الشاملة، لكن لم نتحدث عنها في سياق ظهور الصهيونية وبناء دولة حلولية في فلسطين. وذلك موضوع آخر، يفصله المسيري في موسوعته.

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=133095

خارج الطائفة

ذات أمسية سألني الصديق جعفر الباقر، بحدة الغيور، لماذا تبدو وكأنك تجاهر بخروجك من طائفتك؟ قلت له، بعفوية غير طبيعية، أنا خارج طائفتي!
لا يمكن أن تكون مثقفاً داخل طائفتك، ولا يمكن أن نراهن على مثقف داخل طائفته، وظيفة المثقف أ ن يُوسّع إطار الجماعات، ليكون بمقياس الوطن لا مقياس الطوائف. وتلك المهمة تتطلب منه أن يمارس نقداً حقيقياً لأطر الطائفة، ويحولها من مسلمات عقيدية لا يطالها الشك إلى معطيات تاريخية لا ترقى إلى اليقين. وتتطلب هذه المهمة أن 2515177284_766f2fa7eaيكون المثقف من الناحية المعرفية خارج طائفته.
وحجة التمييز مع إقراري بوقائعه الفاقعة، لا أجد فيها تبريراً لبقائي داخل الطائفة، فالمثقف الذي يبقى داخل طائفته، يظلم طائفته ووطنه؛ لأنه يوهمها بأن هذا هو شكل نظامها الطبيعي بل والإلهي، ويميز وطنه بدوائر مغلقة على بعضها.
ما معنى أن أكون خارج طائفتي؟
يعني أن تكون طائفتي موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً أستند إليه. ما الفرق بين الحالتين؟ ما الفرق بين أن تكون الطائفة موضوعاً تشتغل عليه، وأن تكون إطاراً تستند إليه؟ في الحالة الثانية تكون أنت في الطائفة، تستند إليها في تعريف ذاتك وتحديد هويتك وتعيين مركز قوتك في علاقتك بالآخرين.
الإطار يسندك حين تبحث عن منجاة خلاص أخروية تضمن بها الجنان، أو حين تبحث عن قوة تستند إليها وسط صراعاتك الاجتماعية. الإطار هنا طوق ينجيك ويقويك. وحين تكون خارج هذا الطوق تفقد قوتك ونجاتك. فأنا خارج طائفتي هنا، بمعنى أني خارج هذا الطوق، بمعنى أن لا نجاة لي ولا قوة.
والإطار من جانب آخر يحدد لك إمكان الرؤية، فأنت ترى العالم والغيب والآخرة والناس من خلال إطار. والطائفة بما تتوافر عليه من قيم وأوامر ونواهٍ تؤطر لك ما هو صحيح وما هو خطأ، ما هو حلال وما هو حرام، ما هو أفضل وما هو أدنى. بهذا الكل المركب تمثل الطائفة إطارَ رؤية، وأنا خارج طائفتي بمعنى خارج إطار هذه الرؤية.
إذاً أنا، بالنسبة لمن هم في طائفتهم، بلا رؤية ولا قوة ولا نجاة. وحين تدفع بهذا الخروج إلى مآلاته الأكثر قتامة، فأنا أعمى وضال وضعيف وهالك، هكذا يمكن أن تقابل بين الرؤية في طوق الطائفة والعمى في الخروج من هذا الطوق، والقوة في إطارها والضعف في الخروج من إطارها، والنجاة في طوقها والهلاك في الخروج من هذا الطوق. إنه السقوط إذاً. الخروج من إطار الطائفة هو سقوط في جحيم العمى والضلال والضعف والهلاك.
أنا خارج طائفتي، يعني أن أُعرِّف «أناي» تعريفاً لا يستند إلى هذا الإطار، التعريف بهذا الإطار يجعل «أناك» داخل الطائفة، يجعلك محتوى بها، ولأنها تسبق وجودك، فهي تمنحك تعريفها الجاهز قبل ولادتك. هي تضع بطاقتها المعتَّقة على «أناك»، فتكون ابنها البار. وحين تكون «أناك» من غير هذا التعريف، الذي يسبقك، تكون خارج طائفتك. أي خارج ما يسبقك. التقدم يتحدد بهذا السبق. أن تُمّكن طائفتك من أن تسبق أناك، أو أن تُمّكن أناك من أن تسبق طائفتك. حين تتقدم أناك على طائفتك فأنت تسبقها. وحين تتقدم طائفتك على أناك فهي تسبقك. من هنا فأنا خارج طائفتي، بمعنى أني متقدم عليها في تعريف ذاتي. وأكون طائفياً بقدر ما أسمح لها أن تستبق تعريفي.
أنا خارج طائفتي، يعني أني خارج إطارها المعتمد. وإطار الطائفة المعتمد هو مجموع النصوص التي ثبّتتها في التاريخ بوصفها كافية وصحيحة لتعريف ذاتي والعالم والأشياء، ليس إطاري المعتمد في فهم العالم «الكافي»، ولا «صحيح البخاري»، هما ليسا معتمدين لدى «أناي» الخارجة.
أنا خارج طائفتي، أي خارج هذين المعتمدين. لا أعطيهما الحق في أن يسبقا «أناي» في تعريف ذاتي وتعريف عالمي وتحديد نجاتي وتبصير رؤيتي وتقرير خلاصي. أنا خارج طائفتي حين أجعل من هذين المعتمدين موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً يشتغل فيّ. حين أُخضعهما إلى التاريخ وصراعاته ودنيويته ونسبيته وسلطته في تشكيل الحقيقة.
من غير تحويل الطائفة ومعتمدها الذي يحدد هويتها وأساسها الذي تقوم عليه، إلى موضوع اشتغل عليه، لا يمكن أن أكون خارج طائفتي. ومن لا يكون كذلك سيبقى طائفياً.
أن أكون خارج طائفتي بهذا المعنى، أجعل الدولة خارج الطوائف. والدولة التي لا يكون مفهومها في بناء المواطن قائماً على هذا الخروج، لا يمكنها أن تكون إلا دولة طائفة، ودولة الطائفة لا تجد مهمتها الطائفية إلا في تثبيت هذا الإطار وتمكينه من أن يحكم قبضته على الوطن، كما هو الأمر عندنا. كي يتخلص الوطن من طائفيته على الدولة أن تبحث لها عن مهمة غير طائفية، عن مهمة مدنية، تُمكّن الإنسان من العيش في المدينة. كيف يكون ذلك من جانب الدولة وجانب الطوائف في سياق حالتنا البحرينية؟ سأجيب عن ذلك من خلال الإنصات إلى خبير الحالة البحرينية الباحث فؤاد إسحاق خوري.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8305