كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (3-4)

 

الدولة المطلقة

من المفاهيم التي عمل عليها عبد الوهاب المسيري في موسوعته في سياق فهمه للعلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، مفهوم الدولة المطلقة، وحاول عبر هذا المفهوم أن يفسّر ظاهرة الجماعات اليهودية والصهيونية . فما العلاقة بين هذين الاثنين؟ كيف يمكن أن نفسر تاريخ الجماعات اليهودية من خلال مفهوم الدولة المطلقة؟ وما علاقة ذلك بمفهوم العلمانية الشاملة؟

العقل الرشيد

يسمى المسيري الدولة المطلقة تسمية أخرى وهي الدولة الرشيدة. ويعني بها ما يعنيه بالعقل الرشيد، ومفهوم الترشيد وضعه (ماكس فيبر) ليفسر به ظهور الرأسمالية في الغرب وتاريخ تطورها. كما هو معروف خرائط المسيري3في ثقافتنا، الرشد هو العقل، والعقل هو ما يهديك إلى الطريق الصحيح الرشيد في السلوك والتفكير واتخاذ القرار وتنفيذ المهمات. لكن لكل ثقافة رشدها في تحديد هذا الطريق، ولها إطارها المرجعي في تحديد الرشد والغي.

الرشد في المفهوم الغربي الحديث مستمد من إطار مرجعي وهو إطار مرجعية الواحدية المادية التي سبق لنا أن فسرّناها. بمعنى أن رشد العقل هنا يتمثل أنه يبحث عن الوسائل الناجعة التي تدرّ عليه ربحاً من دون النظر إلى غاية أخلاقية سماوية أو إلى هدف متجاوز للإنسان ومصلحته، أو اعتبار يتعلق بالإله أو الغيب أو بقيمة مطلقة.

الترشيد يعني أن نحوسل العقل أي نحوّل علاقتنا بالأشياء إلى علاقة وسائل من أجل المنفعة الدنيوية الصرفة، لذلك فهو عقل أدواتي، كما يطلق عليه هابرماس ومدرسة فرانكفورت الألمانية التي وجهت نقداً للحداثة الغربية وعقلها الأداتي بعد الحرب العالمية الأولى، فقد وجدوا أن هذا الرشد الأداتي المحوسل، قد أوصلهم لحرب كونية راح ضحيتها الإنسان نفسه، وملايين من بني جنسه المحوسلين، أي الذي تمّ تحويل إلى أدوات ووسائل في صراع مصالح القوى. ورواد هذه المدرسة بالمناسبة، يمثلون مرجعية أساسية للمسيري.

هابرماس يدعو إلى عقل تواصلي، يتجاوز مأزق هذا العقل الأداتي الذي يحسب حسابه للوسائل والنتائج، وهي وسائل مادية محسوبة القيمة، والعقلية الرشيدة تبحث عن أيسر الطرق والوسائل التي توفّر لها مصلحتها المادية بأكبر قدر من الأرباح. والعقل الصناعي الذي نقل الحضارة الغربية من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية الرأسمالية، هو هذا العقل الرشيد. لقد تمّ نقل الرشد من إطار البحث عن الدين الحق والطريق الصحيح للآخرة، إلى البحث عن الدنيا الحقيقية والطريق الذي يقود إلى إنتاج أوفر للإنسان في هذه الدنيا، بل صار الرشد يكمن في تجاوز ذاك الطريق الذي يقودك إلى الخروج من الدنيا. لقد تمّ إذن تحرير العقل أي إطلاقه من أي غاية أو هدف يتجاوز الدنيا، هذا هو الرشد.

الدولة الرشيدة

وهذا هو معنى الدولة الرشيدة أيضاً، ولكي تحقق ذلك، فإنها تحتاج لأن تكون دولة مطلقة من أي مرجعية متجاوزة. أي أنها تطلق نفسها من مرجعيات الإله والغايات البعيدة المتجاوزة للإنسان، وهي الغايات التي لا يمكن أن تكون مقاسة ومحوسلة، بهذا تتحول إلى دولة مطلقة من كل ما هو متجاوز للدنيا، وبهذا تكون الدولة دولة دنيا لا دولة آخرة، ولتحقيق ذلك لابد أن تطلق نفسها من الدين، ولا تشغل نفسها بالبحث عن طريق الرشد الأخروي، فتلك ليست مهمتها، فرشدها يكمن في الدنيا. لقد تمّ ذلك في إطار الواحدية المادية، لقد خلصنا المادة من أي مرجعيات متجاوزة تفسرّها، فأنتجنا العلوم الطبيعية الحديثة، كذلك خلصنا العقل والدولة، من أي مرجعية متجاوزة تحكمهما، فأنتجنا العقل المادي التجريبي الحديث والدولة الحديثة المطلقة.

المطلقات الدنيوية

وتجربة الدولة الغربية قامت على التخلص من هذه المطلقات، وتاريخها يتحقّب لا بالخلاص بل بالتخلص، فالخلاص ارتبط بالحركات الدينية، والتخلص ارتبط بالحركات العلمانية، لقد أطلقت نفسها من الدين، فلم تعدّ الكنيسة هي المرجع الذي يحكم الملك أو الدولة. لقد تخلصت من ذلك بعد تاريخ طويل من الحروب الأهلية والدينية ونضالات فكرية عميقة استغرقها القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر. الفلاسفة في هذه المرحلة جاءوا ليحرروا الدولة من هذه المركزيات المتجاوزة. ولعل الثورة الفرنسية تمثل النموذج الأبرز في هذا البعد حينما حطمت الكنيسة، وثارت على الملك، وأحرقت آلاف الرهبان والراهبات، وتخلّصت من كل ما يمت بصلة إلى هذا المتجاوز الذي كان يتحكم في الدولة.

بعد أن تمكّنت الدولة من تحقيق مطلقيتها، أصبحت هي الإله، هي المرجع، هي صاحبة السيادة العليا، هي التي لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن تجديفها، ولا يمكن الهرطقة تجاهها، أصبحت هي المطلق، وكان هيجل من أبرز الفلاسفة المتحمسين للدولة المطلقة التي تحكم قبضتها على كلّ شيء، ولا تغادر الإنسان في أي جزء من جزئياته، حتى شبهها هوبز بالتنين، الكائن الوحشي الذي يستطيع أن يلتهم الجميع في فمه دون أن يخرج أي شيء على سلطته. أصبحت هي السلطة المطلقة، أصبح الإله ليس في السماء، بل في الأرض، مجسّداً في الدولة، لكن لا ليحكمها هو باسمه. أصبح الإله دولة. لم يعد الاله سماء، صار الإله أرضاً تحكم، لكن لا يحكم هنا باسمه المتجاوز، يحكم باسمه المحايث. هذه القوة المطلقة حين كانت في السماء كانت تسمى الله، الغيب، لكن لما صارت في الأرض، صارت تسمى القوة المطلقة والدولة المطلقة التي يرجع إليها الجميع، هي التجسيد الأبرز لهذه القوة.

الدولة الضابطة

هناك ثلاث تشبيهات استخدمها عالم الاجتماع الهولندي (باومان) ويستحضرهما المسيري في موسوعته ليوضح لنا فكرة الدولة المطلقة، كان يشبه (باومان) الدولة التي بدأت تتأسس منذ الثورة الفرنسية وصولاً إلى شكل الدولة القومية، يشبهها: بالبستاني، والمهندس، والطبيب.

مجازات (باومان) الثلاثة، تفسر لنا بطريقة مكثقفة فكرة الدولة المطلقة. فالبستاني يقلم من الحديقة (الدولة)، العناصر غير المفيدة، يرعاها، يضبط أشجارها، يخلصها من السموم، فهو يعمل كآلة ضابطة للحديقة. والدولة المطلقة كيان صناعي يضبط الإنسان. هذا الكيان الصناعي قوة محايثة في الأرض، وليست إلها في السماء. وهذه القوة الضابطة (البستاني) تخلص الدولة من سموم المرجعيات المتجاوزة وتدخلها، وتجعل الدولة محكومة بمرجعيات مادية بسيطة واضحة، يمكن قياسها وحسابها برشد مادي.

التشبيه الثاني، هوالطبيب، الذي يرشد الناس إلى الطرق السليمة في التغذية وإلى كيفية العناية بأجسادهم، ويرشدهم إلى الوسائل الناجحة التي تضمن لهم نتائج أفضل وصحة أقوى، فالناس في الدولة يرجعون إلى هذا الطبيب ليضبطوا كلّ شيء فيهم بدقة ومقدار واحد، وهو يصدر لها شهادات فحص تثبت صلاحيتهم. بهذا يمثل الطبيب هذا الكيان الصناعي الذي نسميه دولة.

كذلك المهندس يضبط الدولة، إذا ما أعتبرنا أن فضاء الدولة هو المدينة، فالمهندس يضبط شوارعها، يحدد نقاط المرور فيها، ويحدد أرقام الشوارع ومساحاتها وحجومها، المهندس أيضاً يعمل كآلة ضبط، يجعل بناء المدينة كله مضبوط وفق ومقاس واحد. نلاحظ أن المجازات الثلاثة تشترك في الضبط. يتحول الإنسان في هذه الدولة إلى جهاز مضبوط بعمل هذا الكيان الاصطناعي (عمل البستاني والطبيب والمهندس).

هذا الضبط المطلق هو ضبط رشيد، هو مرجعية نهائية، بمعنى أنه ليس لدى الطبيب مرجعية يرجع إليها غير طبه، وليس للفلاح مرجعية غير خبرته النباتية والزراعية ، وليس للمهندس مرجعية غير هندسته، ليست هناك مرجعية ترجع إلى السماء. لذلك الدولة المطلقة مرجعها مادي مضبوط. الدولة هنا طبيعية، بمعنى أنها محكومة بنفس آليات الطبيعة، وهي آليات بسيطة وواضحة ومحددة ولا تخضع إلى تفسيرات متباينة.

الدولة النازية

لهذا فالدولة المطلقة، دولة مركزية، لديها مركز، عاصمة مركزية ، حكومة مركزية، قوانين مركزية، دستور مركزي، مفهوم مركزي للإنسان لا يقبل التعدد، لذلك كان نموذجها التاريخي الأبرز، الدولة القومية، التي تنصهر فيها الأعراق كلها في نموذج واحد. ومثال الدولة القومية الأوضح في هذا الضبط هي الدولة النازية. كانت خالصة العرقية، كانت تنظر إلى ما لا يتماثل مع وحدة عرقها، أنها طفيليات زائدة ينبغي التخلص منها أو دمجها في نفس العرق وإعادة تأهيلها.

هي تشبه البستاني الذي لا يمكن أن يتسامح مع أي شذوذ في حديقته، لا بد أن يزيل أي ورقة صفراء أو أي نبات ضار، وهي تشبه المهندس الذي لا يقبل أي شذوذ يقع في خطوط مدينته، وتشبه الطبيب الذي لا يقبل أي خطأ في الجسم، فالأخطاء يراها عاهات وعيوباً خلقية، كذلك الدولة النازية لا تقبل أي شيء يقع خارجها، خارج عرقها، أو خارج مفهومها للإنسان النافع، تراه هذا الخارج كائنا ضارا ينبغي التخلص منه. لذلك كانت لا تنظر إلى المعاقين أو الذين يعانون من احتياجات خاصة، مواطنين كاملين، كانت كثيرا ما تتخلص منهم أو تتعامل معهم ككائنات تمثل عبئا عليها. من هنا فاليهود الذين لم يستوعبهم هذا العرق النازي الأحادي قد تمّ التخلص منهم بالحرق والهولوكوست والتهجير لأنهم كائنات زائدة، تضر هذا الضبط الذي بدونه تفقد الدولة مطلقيتها.

القومية المطلقة

الدولة القومية المطلقة لا تقبل الأديان المتعددة، لأن الأديان المتعددة تُعطي تفسيرات مختلفة، وولاءات مختلفة، ونماذج مختلفة، وهذا يقوض فكرة المركز. هي تريد وحدات متشابهة (من البشر والشوارع والبيوت والمصانع) يمكن قياسها والتحكم فيها، الكل ينصهر في بوتقة واحدة هي بوتقة الدولة المضبوطة.

الدولة المطلقة وجدت نفسها في نموذجها النازي لا يمكنها أن تقبل باليهود الذين لا يمكن استيعابهم ضمن الهوية الواحدة القومية المضبوطة، وينبغي لها التفكير في التخلص منهم بأي طريقة كانت بأن توجههم إلى مناطق أخرى، كما يتخلصون من نفايات أو من أي شكل لا يمكن أن يخضع لشكل الوحدة المضبوطة، وهي الوحدة التي يشتغل بها المصنع، والمصنع هو نموذج الدولة المطلقة.

يذهب المسيري، إلى أن إنشاء الصهيونية هي عملية رشيدة بمقياس الدولة الرشيدة، وذلك لأنها تأتي في سياق التخلص من هذه الزوائد الطفيلية، فقد وجدت الدولة الغربية أنها تريد أن تتخلص من الزوائد الفائضة على عرقها، فدفعت بالجماعات اليهودية التي لم يمكن صهرها إلى خارجها.

هذه الدولة المطلقة واجهت تحديات كبيرة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وهذه التحديات جعلتها تتخذ أشكال أخرى تتفتت فيها هذه الوحدة الصلبة التي تقوم عليها، وهذا موضوع آخر.الآن علينا أن نعرف علاقة الدولة المطلقة بالعلمنة الشاملة.

الطلاق الشامل

يمكننا من خلال فهم كلام المسيري أن أصيغ معادلة على هذا النحو: كلما توسعت عمليات الإطلاق، ازدادت العلمنة شمولاً. وتحولت العلمانية الجزئية إلى علمانية شمولية. وأعني بعمليات الإطلاق أن تطلق العناصر المتجاوزة (الأخلاق، الغائية، الإله) من اعتبارها مراكز للمعنى والتفسير والحكم، تُطلِّقها، تتخلص منها، وبهذا الاستغناء تنفصل عن الغيب ومقتضياته الروحية، تنفصل عما كان يعبر عنه ماكس فيبر بالسحر.

بهذا الانفصال تحقق الطلاق الشامل، فتبدأ تؤسس مطلقات أرضية أخرى، مركزها كان في البداية هو الإنسان. في عصر النهضة والأنوار صار الإنسان مركزاً بعد أن كان الإله مركزاً، لكن مركزية الإنسان ستُخْتَزل في بعد مادي واحد.

بمعنى أن الواحدية المادية أصبحت هي المركز، فأصبحنا نتعامل مع الإنسان كآلة متقنة الصنع، وقد حلل المسيري مجاز الإنسان الآلة تحليلا بارعاً في مشروعه. هذه الآلة لها قوانينها، ويمكن تجريبها، والتعرف عليها بالحواس الخمس، ويمكن ضبطها ضبطاً تاماً. بالتالي أصبح الإنسان، بعد أن جردنا ما فيه من روحانيات ومطلقات وتراكيب، وكأنه وحدة متشابهة.لم يعد الإنسان هو المركز، بل جزء من الإنسان، هو الجزء الطبيعي أو الجزء المادي، والطبيعة والمادة دائماً محكومة بقوانين راشدة، لا تعرف التعاطف ولا الغيب ولا المتجاوزات ولا السحر. لا تعرف إلا موضوعها، لذلك هي موضوعية تتعامل مع وحدات متشابهة.

العلمانية المطلقة

بهذا الطلاق والتحول من إطلاقيات عناصر التجاوز إلى إطلاقيات المادة، ستتسع عمليات العلمنة بالتدريج، بعد أن كانت جزئية لا تتجاوز فصل السلطة السياسية والشأن الإداري عن السلطة الدينية ورجالها، وهذا الأمر كان في تجربة الدولة الغربية في بداياتها قبل أن تصبح غولا يلتهم كل شيء بما تتيحه لها وسائل السيطرة. مع اطراد الإطلاقيات المادية ستتحول العلمنة الجزئية إلى علمانية شاملة، سيموت الإله والإنسان والغايات الخلاصية والإنسانية، وسيكون المجتمع والإنسان والدولة وكل شيء في الحياة بلا مركز متجاوز. ستكون العلمنة مطلقة من كل شيء يتجاوز المادة والدنيا.

إطلاق اليد الخفية

سيمكننا أن نسيطر على كل شيء في الإنسان وفي الطبيعة بهذا الإطلاق، وسيكون لدينا مراكز تحكم قوية بالحياة، ومضبوطة جداً، يمكننا استعمالها ببرود من دون حس أخلاقي. عملية التحول إلى هذه العلمانية الشاملة المركزية المطلقة سنجدها تعبر عن نفسها بعدة صور، عبر عنها فلاسفة ومفكرون غربيون، وهي صور تعبر عن نفس المفهوم لكن بزوايا مختلفة. نأخذ مثلاً تعبير "اليد الخفية وآليات السوق" لآدم سميث، "وسائل الإنتاج" عند ماركس، "الجنس" عند فرويد، "البقاء للأقوى" عند دارون، "إرادة القوة" عند نيتشة، "الروح المطلقة" عند هيجل. كل هذه المصطلحات ترتد في النهاية إلى مركزية الإنسان التي هي في النهاية مركزية المادة والطبيعة، كل هذه التحولات ستقود لهذه المركزية كما نشهدها اليوم في الحضارة الغربية.

بذلك تتحول الدولة باعتبار الجهاز الأكثر ضبطاً، إلى الإله الجديد الذي سيحكم الإنسان بآلياته الضخمة. ستتخذ الدولة صيغة العلمنة الشاملة التي لن تبقي على جزء دون جزء، ستشمل الإنسان كله، ستتوغل في كل شيء، ستكون غولاً وتنينا يكتسح كل شيء في الإنسان، لن تصبح هناك مساحة للإنسان كي يتحرك وقد ضبطته الدولة ضبطاً متقناً.

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=132665

تقريب القرضاوي

عقد في سبتمبر2003 في البحرين، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية، تحت رعاية جلالة الملك، وهي رعاية تحمل في دلالتها الضمنية معاني مؤتمرات التقريب التي أصبحت واجهة سياسية للمشاريع الإصلاحية، يمكنك عبرها أن تلمع ما تريد وأن تمرر ما تريد وأن تَظهر بما تريد.

في هذا المؤتمر الذي استمتعت فيه كثيراً بوجبة الفطور الفاخرة، ولم تنغصها المشادة الكلامية التي أثارها التقريبون فيما بينهم، بسبب فلتة من فلتات بعضهم على بعضهم. كان الشيخ القرضاوي مشاركاً بعلامة اعتداله الظاهرة على جنبه، فقد كانت إلى جنبه زوجته الشابة بحجابها الأنيق، تسنده بثقة امرأة عصرية منفتحة على الحياة.

2_4334_1_11

على هامش المؤتمر، كنت والأستاذ عبد الجبار الرفاعي، والسيد هاني فحص، والدكتورة زينب شوربا، بين الجد والهزل نسخر بمرارة من استنفاد مؤتمرات التقريب لمفاعيلها، وتحولها إلى واجهات يُفيد منها السياسيون والدعاة ورجال الدين. لاحقاً كتبت (زينب) في جريدة السفير مقالة نقدية رصينة عن انطباعاتها عن مؤتمرات التقريب، ووصفت الكلام الذي يدور فيها بأنه (استعادة أبدية) وهو يكرر نفسه في كل مؤتمر، ويلتزم بشرط الاقتصار على الايجابيات والابتعاد عن السلبيات وعدم الاقتراب من حقل الألغام، حقل المسكوت عنه واللامفكَّر فيه، حقل السلطات، سلطات الأنظمة والفقهاء[1].

ما يؤكد ذلك، الزوبعة التي هي بالتأكيد ليست في فنجان بين الأطراف الأكثر فاعلية في مشاريع التقريب التي اندلعت مؤخراً، بعد مقابلة الشيخ القرضاوي الداعية والأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأحد أبرز نجوم مؤتمرات التقريب، مع جريدة المصري اليوم، التي قال فيها: "..أما الشيعة فهم مسلمون، ولكنهم مبتدعون وخطرهم يكمن في محاولتهم غزو المجتمع السني وهم مهيئون لذلك بما لديهم من ثروات بالمليارات وكوادر مدربة علي التبشير بالمنهج الشيعي في البلاد السنية"[2]

إذا كانت مؤتمرات خمسين سنة تقريب، لم تتمكن من إصلاح لغة داعية وعالم دين ورئيس مجلس علماء عالمي ونجم تقريب بحجم الشيخ القرضاوي، ولم تتمكن أيضاً من إصلاح لغة خصومه التقريبيين، فعلى الجميع أن يواجه نفسه بحقيقة أن مصطلح التقريب لم يكن، ولم يعد، فاعلاً في إنجاز خطاب عيش مشترك، وعلينا أن نقرّ مع السيد هاني فحص، بأن العيش المشترك لم يعد من مهمات مؤتمرات التقريب والدعاة، بل من مهمات مؤسسات المجتمع المدني. بل علينا أن نقرّ أن الدعاة يقربون الناس إلى دعواتهم الخلاصية، لا إلى العيش المشترك.

إن (الأزمة، أو الفتنة، أو التراشق، أو السباب والشتيمة، أو حملات التشويه أو القذف أو ..) التي أعقبت خطاب الشيخ القرضاوي، مرآة للدعاة ولعلماء التقريب ولخطاباتهم الهشة عن الوحدة والتقريب. يجب على هؤلاء الفاعلين في مجال التقريب، ومنهم الشيخ القرضاوي والشيخ محمد علي التسخيري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، لسماحة والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم، أن يروا في هذه المرآة أزمة خطابهم. وعليهم أن يعيدوا النظر في توصيفاته التي دأبوا على ترديدها بأنها اعتدال ووسطية وتقريب ووحدوية.

وعلى المثقفين أيضاً، الذين اتخذوا إستراتيجية الاصطفاف، كما فعل الدكتور رضوان السيد، والإعلامي داوود الشريان[3]، وغيرهم ممن وقعوا بيان باسم المثقفين في موقع المسلم[4]. عليهم أن يفكّوا خطابهم من ورطة الاصطفاف والتبرير لهذه الخطابات. فمهمة المثقف لا تكمن في الاصطفاف، فتلك مهمة السياسي. المثقف مهمته النقد الذي يفتح خطابات الأزمة على رؤى جديدة.

مفهوم الابتداع الذي استخدمه الشيخ القرضاوي، تعبيراً عن رؤيته للشيعة، وتدليلاً على وسطيته واعتداله في مقابل من يقول بتكفير الشيعة، يحيل إلى ساحات احتراب الطوائف، لا ساحات التقريب ولا ساحات العيش المشترك. فهو يحمل شحنة دينية عقائدية فقهية، تحدد الحكم على الآخر أكثر مما تحدد رؤية الآخر. وهو حكم يقضي بقطيعة مع الآخر وإثارته واستفزازه، وما حدث من تراشق دليل على مفعول هذا الحكم (الابتداع) القاطع والمثير والمستفز. النظر إلى الآخر من خلال مصطلحات فقه القرون الوسطى، لن يقرّب غير العداوات والمشاحنات.

والعيش المشترك يقتضي استبدال معجم المصطلحات الفقهية التي تعبر فيها الجماعات عن بعضها بالشك والريبة والغيرية والضلال والابتداع والنصب، بمصطلحات تنتمي إلى المجتمع المدني، الذي لا يفاضل بين الناس على أساس بوليصات ضمان دخولهم الجنة، بل على أساس حقهم في العيش المشترك.

إذا كان خطابات القرضاوي، والتسخيري والسيد فضل الله، تقدم نفسها بصفتها داعية تقريب ووحدة، فعليها أن نواجه مصطلحات (البدعة والتكفير والنواصب والروافض والفرقة الناجية) [5] بقطيعة معرفية شجاعة وبدون حيل فقهية. فهي تنتمي إلى صراعات تاريخية، ليس من الحكمة استعادتها اليوم من قبل دعاة التقريب.

إن صراحة القرضاوي التي دفعته لاستخدام (مبتدعين) مقابل (الفرقة الناجية) التي عبر عنها بقوله ".. ونحن أهل السنة نوقن بأننا وحدنا الفرقة الناجية، وكلُّ الفرق الأخرى وقعت في البدع والضلالات"[6]

ومبدئيته التي عبر عنها بقوله: «ما قلته عن محاولات الغزو الشيعي للمجتمعات السنية، أنا مصرٌّ عليه، ولا بد من التصدي له، وإلا خنَّا الأمانة، وفرطنا في حق الأمة علينا. وتحذيري من هذا الغزو، هو تبصير للأمة بالمخاطر التي تتهدَّدها نتيجة لهذا التهوُّر»[7]. بحاجة إلى أن تتحول إلى شجاعة لمواجهة الذات ومآزقها بدون الحاجة إلى استحضار أوهام الأعداء وخطاب التهويل والتحذير والعويل التي يتفنن فيها الدعاة ويرقصون عليها أتباعهم. لا نجاة في الدنيا ولا في الآخرة لأحد وحده. وإذا كنا لا نستطيع أن نتحرر من أوهام الفرقة الناجية وسياقها السياسي التاريخي الذي روّج لفكرتها، فكيف يمكن أن نحرر ذواتنا وننجيها من حروب الماضي.

وإذا كان الشيخ القرضاوي ينبهنا من أجل المستقبل " عندما نبهت لهذا الأمر أردت أن أحول دون الفتنة الكبرى المستقبلية، وهو نوع من استشراف المستقبل، ومن الاحتياط للغد حتى لا نقع في معارك بين أبناء الأمة بعضهم البعض" [8] فلنا أن نسأله: هل يمكن استشراف المستقبل بمفاهيم تحيل على الماضي؟ وهل يمكن أن نتجنب معارك بين أبناء الأمة بعضهم البعض بالمفاهيم التي أنتجت معارك الماضي؟ وهل يمكن أن نحول دون الفتنة بمفاهيم الفتنة نفسها ومفاتيحها؟ مفاهيم مثل (البدعة والتكفير والنواصب والروافض والفرقة الناجية) كلها تنتمي إلى تراث الاحترابات الماضية، واستشراف المستقبل يكون بالقطيعة مع هذه المفاهيم التي ترينا المستقبل بعيون الماضي.

مؤتمرات التقريب مع الأسف لم تعمل على استشراف المستقبل إلا عبر عيون هذه المفاهيم، والتقريبيون أهون عليهم أن تفقأ عيونهم ولا تفقأ عيون هذه المفاهيم. فهي تقرّب المستقبل من الماضي، وتقرّب معارك الماضي إلى المستقبل، فتدخر للأمة وأبنائها معاركهم المؤجلة.

يمكننا أن نقول مع فهمي هويدي (أخطأت يا مولانا) [9]، لكن ليس بمنظور فقه التوازنات والأولويات الذي تحدث عنه فهمي هويدي، بل بمنظور استشراف المستقبل.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=8289

الهوامش

[1] زينب شوربا ، انطباعات عن مؤتمر التقريب بين المذاهب، جريدة السفير،2003/10/13.

[2] جريدة المصري اليوم، الثلاثاء ٩ سبتمبر ٢٠٠٨

http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=177870&IssueID=1158

[3] انظر:

– رضوان السيد، الشيخ القرضاوي والمحنة الشيعية ـ السنية، جريدة الشرق الأوسط، الجمعة 26 سبتمبر2008.

– داوود الشريان، المد الإيراني والقرضاوي، جريدة الحياة، السبت 27 سبتمبر.

[4] انظر موقع المسلم:

http://almoslim.net/.

[5] انظركتاب: جورج طرابشي، هرطقات2، عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، دار الساقي،2008.

[6]، [2] انظر:بيان القرضاوي

http://www.islamonline.net/Arabic/Doc/declaration/2008/09/01.shtml

[7]، [8] انظر موقع العربية نت:

http://www.alarabiya.net/save_print.php?print=1&cont_id=57243

[9] فهمي هويدي، أخطأتَ يا مولانا، صحيفة الدستورالسبت– 21 سبتمبر 2008

http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=3838&Itemid=51

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (2-4)

 

النماذج المعرفية

ما هي النماذج المعرفية أو الخرائط الإدراكية؟

هي مفاهيم ومقولات مجردة، يشتغل من خلالها العقل لفهم الواقع وما يقع فيه من أحداث، وما يجري فيه من علاقات، وما يتضمنه من كائنات وشخصيات وأماكن وجغرافيا، يدرك كل ذلك عبر المقولات المجردة. ماذا نعني بمصطلح المقولات؟

خارطة المقولات العشر

المقولة هي اصطلاح منطقي خرائط المسيري 2-4فلسفي موغل في القدم، وقد وضع أرسطو ما يعرف بالمقولات العشر، وهي مقولات الكم والكيف والزمن والمكان والإضافة والجوهر..الخ. هذه المقولات لعبت دوراً كبيراً في تاريخ المعرفة الإنسانية. في الحضارة الإسلامية مثلاً لا تجد فيلسوفا يتجاوز هذه المقولات العشر،لا بد أن يعرض لها ويفصلها، وكأنما أصبح عقل هؤلاء الفلاسفة والمناطقة مبرمجا بهذه المقولات العشر المصاغة وفق المنطق الأرسطي.

مقولة الكيفية في حدود المنطق الأرسطي مثلا، تمثل النموذج الذهني الذي يتيح لك أن تعرف كيفية شيء ما إنسان أو نبات أو ظاهرة طبيعية أو اجتماعية، وما حالاته وتغيراته التي تطرأ عليه، لكي تدرك وتفهم هذا الشيء، لكن مقولة الكيفية مع (أورغانون) فرنسيس بيكون الذي تحدثنا عنه، صارت نموذجاً معرفيا مختلفا، فقد صارت تتيح لك فهم كيفيات الأشياء في الواقع فهماً أكثر تجريبية. وهكذا بقية مقولات المنطق الأرسطي كلها تمثل نموذج إدراكي لفهم الأشياء والإنسان والواقع، والحقيقة أن الحداثة الغربية بدأت بالقطيعة مع مقولات هذا المنطق الذي فقد في القرن السادس عشر أن يرينا الواقع، فقد صار يعمينا عن أن نرى الحياة بشكل مختلف.

خارطة المقولة

لكن ما فكرة المقولة؟

في اللغة العربية حين نقول، قال بكذا أي اعتقد به، وكان هذا الاستخدام مرتبطاً بأصحاب المذاهب العقائدية في تراثنا. وتجد في كتب الملل والنحل أبواب عناوينها القائلون بكذا، القائلون بالتجسيم، القائلون بالتجريد، القائلون بالعدل، القائلون بالإمامة.القائلون هنا بمعنى المعتقدين.

المذهب يعرف بمقولاته المركزية، والمقولة أشبه بالاعتقاد، فالقول بالشيء هو الاعتقاد به. والمقالة مشتقة من الفعل قال، وهي تحمل فكرة أو اعتقاداً أو رأياً، ولدينا كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"لأبي الحسن الأشعري، وهو من أشهر الكتب في تاريخ العقائد، وقد حققه عبد الرحمن بدوي. وهذا الكتاب يعرض للأفكار المذهبية (العقائدية) التي شغلت الفضاء العقائدي في الحضارة الإسلامية وانقسم حولها المسلمون مثل المعتزلة والأشاعرة.. إلخ.

المقولة إذا مشتقة من القول. أنت حين تقول بشيء يتحول إلى مقولة، أي إلى فكرة وعقيدة ورأي وأيديولوجيا. وأنت حين تقول بشيء، فأنت تقول جملة مكونة من مبتدأ وخبر بحسب تعبير النحاة أو قضية مكونة من موضوع ومحمول حسب التعبير المنطقي، أو خبراً مكونا من مسند ومسند إليه بحسب تعبير البلاغيين.

هناك ركنان أساسيان يكوّنان فكرة المقولة. حين تقول الله مجسم أو مجرد، أو تقول القرآن مخلوق، أو القرآن غير مخلوق، أو العالم قديم، أو العالم حديث، فأنت تقول جملة مكونة من ركنين، وحين تربط بينهما يتحولان إلى معتقد. فالمقولات هي نماذج ذهنية تركيبة يضعها الإنسان بفعل معرفته وعمله المعرفي.

تخرّق المقولة

هناك جوانب غير واعية تدخل في تكوين مقولاتك ومقولات مذهبك، فهناك تاريخ طويل يسبقك ويكوّن مقولاتك، وهناك تفاعل مركّب من الثقافات والحضارات يتقاطع في مقولاتك. المقولات الفكرية التي نضعها لفهمنا للأشياء؛ لفهمنا للإلوهية مثلا، والدين، والزمن، والإنسان والكرم والشرف والعدل والمرأة . هذه المقولات يتخرّقها تاريخ طويل وجهود بشرية متراكمة، وكل حضارة من الحضارات تضع فيها نَفَسها وما يسميه المسيري تحيزها.

حين تأتي إلى تعريف الإنسان في الحضارة اليونانية مثلاً ستجد أن هذه الحضارة تعرّف الإنسان بأنه حيوان عاقل، أو حيوان ناطق. في الحضارة الإسلامية ستجد التعريف الأقرب هو الإنسان حيوان مُبين. وكلمة مبين هنا، تحيل إلى اللغة والبيان الذي عرفت به الحضارة الإسلامية. إن تعريف الإنسان على إنه حيوان ناطق أو عاقل، تعطي ما تميزت به الحضارة اليونانية من اهتمام بالعقل والفلسفة والمنطق. وتعريف الإنسان بأنه حيوان مبين، يعطي ما تميزت به الحضارة الإسلامية من اهتمام باللغة والبيان والفصاحة.

حمل المقولة

وهكذا إذاً، نجد أن المقولات التي نضعها على المستوى المجرد، فيها نَفَس كل حضارة من الحضارات، لذلك هي تحمل في نفسها تحيزاً يمثل الحضارة التي هي قادمة منها. ما نقوله عن الإنسان أو الله أو اللغة أو الشعر (وغيرها من الموضوعات) يسمى حملاً، أي إنه يحمل رأينا ومعتقدنا ووجهة نظرنا عنه.من هناك نقول إن المقولة مكونة من موضوع (نتحدث عنه) ومحمول (حديثنا الذي نقوله عن الموضوع).

مقولة الشاي

أرجع إلى تعريف المقولة، حين نقول إن النماذج المعرفية التي يتحدث عنها المسيري هي مقولات وخرائط ذهنية، فنحن نقصد هنا أنها أفكار يقولها الإنسان، ليفهم بها حياته ويصنّف من خلالها الأشياء في واقعه، لذلك هي مفاهيم، نفسّر ونفهم من خلالها الأشياء. وإذا كنت أعطيت أمثلة لنماذج من العقائد، فهناك أيضاً نماذج أخرى من المقولات، وهي نماذج معرفية تتعلق بحياتنا اليومية، بعضها يتعلق بسلوكنا اليومي المعيش، وبعضها يتعلق بالسياسة وخطاباتها، واللغة التي نتواصل بها في الشارع والبيت، ونحن نستخدمها بطريقة غير واعية، لكنها تعطي تصوراً عن نمط العقل المكوّن لمقولاتنا وأفكارنا ونماذجنا.

يتميز المسيري، بالمناسبة، بأنه دائماً يعرض لقضاياه الفكرية، بأمثلة من حياته اليومية التي عاشها في الغرب، وحياته التي عاشها في الشرق. ويحاول من خلال هذه الأمثلة التي يضربها، والمواقف التي يحكيها أن يوضح المقولات الذهنية والفكرية التي تقف خلفها. يتحدث في أحد الأمثلة، عن الفرق بين المحاضرة وحفلة الشاي. فعندما عاد من دراسته وكان مدعواً ليقدم محاضرة في جامعة عين شمس، كان مفهوم حفلة الشاي ينتمي إلى نموذج فكري معين، ومفهوم المحاضرة ينتمي إلى نموذج فكري آخر. فأنت حين تقول حفلة شاي أو تقول محاضرة، لديك في ذهنك ليس فقط تصوران مختلفان بل أربع تصورات، تصوران في الشرق وتصوران في الغرب. وليس هناك إرشادات مكتوبة توضح لك ما هو النموذج، عليك أن تدركها كما هي وتعيشها هكذا.

وبالمناسبة لأن المسيري لم يكن يثقف متطلبات نموذج حفلة الشاي، فانخرط في مشروع موسوعته. ولتلك قصة طريفة يرويها في سيرته الفكرية، فقد وجد نفسه في إحدى حفلات الشاي التي ينظمها قسم اللغة الإنجليزية، خارج الجو النفسي لبرتوكل الحفلة، ووجد معه مصادفة فتاة خارج جو الحفل أيضا، وحين سألها عن جنسيتها، وقالت إنها يهودية، ومع تكراره السؤال، كانت تصرّ أن جنسيتها يهودية، أراد أن يفهم ماذا يعني أن تعرف جنسيتك بأنك يهودي في الستينيات في حفلة شاي ينظمها قسم أكاديمي بجامعة أمريكية. لقد وضعته حفلة الشاي هذه على طريق العمل على مشروع الموسوعة.

في الأعمال الفكرية حين نلاحظ نبدأ نكتشف فنشتغل، وقد يستغرق منا العمل سنوات طويلة كما هو الأمر مع المسيري، لقد ظل يحلل سنوات كي يكتشف ما يقبع خلف النماذج غير الواعية، من مقولات ذهنية، تسيّر عمل المفكر والفيلسوف والسياسي والإنسان العادي. وهذا هو جوهر عمل المسيري، وهذه الفكرة التي سأتحدث عنها حين نتحدث عن النماذج المعرفية التي وضعها المسيري لفهم الحضارة الغربية ولفهم الظاهرة الصهيونية.

إذا، شكلت التحولات الثلاثة: التحول من الموضوعية الفوتوغرافية إلى الموضوعية الاجتهادية، والتحول من العقل المتلقي السلبي إلى العقل المولد لنماذجه التفسيرية، والتحول من الرصد الكمي إلى ابتكار فكرة النماذج المعرفية لقراءة الواقع والعالم والانسان ومعرفته. شكلت هذه بمجموعها مسيرة المسيري الفكرية، وقد جاءت مع بعضها البعض ولا يمكن أن نفصل بعضها عن البعض الآخر، وهي قد تشكلت ليس بطريقة سهلة وبسيطة، وإنما أخذت تتفاعل وتطبخ في مسيرته شيئاً فشيء حتى اكتملت رؤيته لهذه التحولات وإدراكه لها. وهو كثيراً ما يشير على أنه في التسعينيات تقريباً استطاع أن يفهم كل هذه التركيبات التي اشتغل فيها في الموسوعة، واستطاع أن يفهم هذه التركيبات فهماً أعمق.

مقولة الواحدية المادية

الآن ما هي هذه النماذج التي وضعها المسيري لتفسير التغيرات والتحولات التي جاءت بها الحضارة الغربية والحداثة وما بعد الحداثة. وكيف أصبح الخطاب الغربي يرى الإنسان ويرى العالم عبر نموذج مادي بسيط، لا يفرق بين الطبيعة وبين الإنسان. سنبدأ بالمفهوم الذي يتكرر كثيراً في خطابه، وهو مفهوم الواحدية المادية.

الواحدية المادية هي رؤية توحد الإنسان بالكون مع استبعاد الإله تماماً، بل هي في تفسيرها للكون والإنسان والمعرفة والعلم، تستبعد ما يسميه المسيري بعناصر التجاوز، وهي العناصر التي يتجاوز بها الإنسان المادة والحس والملموس. على سبيل المثال، الإله هو واحد من عناصر التجاوز، فهو يتجاوز المادة ويتجاوز الحس، فمتى استبعدت الإله من هذا الكون، فأنت تفسر الكون بالواحدية المادية، أي تفسر الكون كمادة ذات بعد واحد فقط، وليس هناك شيء خارجها.

القيم والأخلاق هي أيضا من عناصر التجاوز فمتى استبعدتها وقعت في المادية الواحدية. أيضا الغايات العليا التي يضعها الإنسان لنفسه وحياته، هي من عناصر التجاوز. الواحدية المادية تؤمن أن تركيب الإنسان والكون والمعرفة، يرجع إلى مكون مادي وحيد، هي المادة التي نشهدها، هي ما نفسّر به كل ظواهر الكون، وكل القوانين التي يضعها العلم لا تدخل في أي تركيب منها شيء من عناصر التجاوز.

مقولة التجاوز

قامت هذه الواحدية المادية على فكرة فصل عناصر التجاوز عن الكون وعن الإنسان، فأصبح الكون مكتف بذاته، ومادته، لا يحتاج إلى شيء يتجاوزه، لا يحتاج إلى شيء تحته أو فوقه. من هنا يأت مصطلح الميتافيزيقا. الميتا يعني بعد أو فوق. الفيزيقا تعني المادة. فحين نتحدث عن الميتافيزيقا فإننا نتحدث عن ما بعد الكون، أو ما بعد المادة، أو ما بعد الواحدية المادية، أي عن التجاوز. الواحدية المادية تقيم قطيعة كاملة مع الميتافيزيقيا.

حين تفسر الكون بالميتافيزيقا، أي بعناصر التجاوز، فأنت هنا تتجاوز الواحدية المادية. وفي الحقيقة فإن الحضارة الغربية في حداثتها قامت على محاربة كل ما هو ميتافيزيقي. حاربت كل ما ينتمي لعناصر التجاوز في هذا الكون، ووجدت أن عناصر التجاوز تعيق فهم الانسان للكون، وتوقعه فيما لا يمكن البرهنة عليه، توقعه في الوهم والخرافة، كما ترى.

مقولة السحر

لذلك يعرّف ماكس فيبر الحداثة بأنها نزع السحر عن العالم، فحين تنزع السحر عن الأشياء فأنت تحدّث العالم والكون، فتستطيع أن تتعامل مع الكون برشد أكبر، أي بطريقة نفعية مادية تتيح لك أن تحقق بوسائل بسيطة أفضل النتائج وأفضل الأمور. نزع السحر، في جوهره يعني نزع عناصر التجاوز(الإله والغايات العليا والأخلاق).

ينتهي الأمر بالواحدية المادية إلى أنها في مراحلها المتقدمة تنكر أي ثبات، لأنها ستنكر الماهيات والجواهر، فهذه الأخيرة تنتمي إلى عناصر متجاوزة للطبيعة والمادة، وهذه العناصر لا يمكن الإمساك بها أو الاستدلال عليها، هي تريد أن تبحث عن ما هو متغير ومتحول، عما أسمته بالسيرورة حيث كل ما هو متغير ومتحول.

العناصر المتجاوزة فوق المادة ثابتة ولا تتغير، هي عناصر خالدة ثابتة أزلية لا تعرف السيرورة، لذلك تنتهي الواحدية المادية إلى إنكار كل ذلك، هنا ينفصل الكون تماماً عن كل ما هو متجاوز، ويغدو مكتفيا بذاته، يحيل إلى نفسه لا إلى شيء خارجه. ستنتج عن هذه الواحدية المادية نتائج تغير وجه التاريخ، وهذا ما سنعرفه من خلال النماذج المعرفية التي استخدمها المسيري في مشروعه، كمفهوم الدولة المطلقة ومفهوم الموضوعية الصلبة ومفهوم الدولة المطلقة ومفهوم العلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية.وسأتناول هذه المفاهيم بما يأتي.

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=132574#

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (1-4)

* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.

خرائط عبد الوهاب المسيري التفسيرية (1-4)

عنون المسيري سيرته الذاتية التي أخرجها في عام 2000 بُعيد ابتداء محنته مع مرض السرطان، عنون هذه السيرة، بـ"رحلتي الفكرية، البذور والجذور والثمار"، وجعل لها عنواناً فرعياً، وصفها فيه بأنها "سيرة غير ذاتية غير موضوعية".

أجد أن الدخول على خارطة المسيري يبدأ من هذا العنوان الفرعي، الذي يمثل متن سيرة المسيري نفسها. فماذا يعني المسيري حين يصف سيرته بأنها سيرة غير موضوعية وغير ذاتية في الوقت نفسه؟

الثالث المرفوع

كأنه يوقعنا في محنة الثالث المرفوع الذي عرفته الفلسفة، وعرفه المنطق اليوناني، وقد اشتغل هذا الثالث المرفوع في الفلسفة اليونانية اشتغالاً كبيراً، وكان محل تطبيقات جدلية في الثقافة الإسلامية، خصوصا في علم الكلام. فما معنى الثالث المسيريالمرفوع؟

حين نحدد لون الورقة، فإنها إما أن تكون بيضاء أو لا بيضاء، كذلك السماء، إما زرقاء أو لا زرقاء، ليس هناك لون ثالث، اللون الثالث مرفوع، وحين نصف المسيري بأنه عربي أو لا عربي، ليس هناك وصف ثالث يخرج عن هذين الوصفين، فهو إن كان عربياً فهو لا عربي، وإن كان لا عربي، فهو ألماني أو إنجليزي أو فرنسي أو أي شيء يقع غير عربي، الصفة الثالثة مرفوعة أي غير موجودة.

إما وإما

في المنطق الأرسطي الذي سيطر على مجمل العقل اللاهوتي الإسلامي، كان الثالث المرفوع ركناً ركيناً من هذا المنطق، إضافة إلى ركن الهوية الذاتية للأشياء وركن عدم التعارض، هذه المكونات الثلاثة، جعلت العقل متأثر بالمنطق الأرسطي متصفا بالأحادية والحدية وعدم قبول إمكان تعدد وجهات النظر وتعدد الحقيقة، فالأشياء إما كذا وإما كذا، إنه منطق (إما وإما).

كان المتصوفة من أشد المعارضين معرفياً لسيطرة هذا المنهج في التفكير، وقد اعتبروا العقل قيداً حين يشتغل بهذا المنطق الحدي، وكان ابن عربي يقول العقل قيد، وهذا جعله يفضل المعرفة التي تقوم على القلب، لأنه حية ومتقلبة الوجوه وفاتحة لإمكانات تأويل.

خارطة أرسطو

يعتبر كتاب على الوردي (منطق ابن خلدون) من أكثر الكتب أهمية في نقد هذا المنطق ودعوة إلى تجاوزه، ولا بأس أن أذكر، هنا، بأن عصر النهضة الأوربية قد دشنه فرنسيس بيكون(1561 – 1626) بكتاب ” الأورغانون الجديد“، لقد نقد منطق أرسطو (الأورغانون القديم) واعتبره صنماً نظرياً يعيق العلوم، وألف منطقاً جديداً سمّاه (الأورغانون الجديد) وهو يشكل جزءا من موسوعة علوم جديدة، لكن هذا الجزء الصغير صار هو الأهم وصار اسم للموسوعة كلها.

لقد وجد أن أورغانون أرسطو القديم، يبعدك عن الواقع ويحجرك في قوالب جامدة ومتعالية على الحياة، ولم يكن يتيح لك أن تجرّب، كان منطقاً صوريا نظريا صرفا، وفتح المعرفة التجريبية، قد بدأ بعد كسر قفل منطق أرسطو.بهذا الكسر، صارت خارطة إدراك الواقع مفتوحة على إمكانات جديدة، لم تكن خارطة أرسطو تسمح باكتشافها.

خارطة المسيري

يبدو أني قد أغرقتكم في مقدمتي بتفاصيل أبعدتنا عن المسيري، لكن لا بأس، فالمسيري، كان من أشد المبشرين بنهج تفكير جديد، يقوم على النماذج المعرفية بدلاً من المنهج الكمي، وهو بذلك يبشر بـ(أورغانون) تفكير جديد، وليس بمعلومات جديدة.وبهذا أنا أبرر هذه المقدمة الطويلة، لأنها تتحدث عن منهج تفكير جديد، وهي التي تجعل من المسيري مشروع تفكير جديد.

بالعودة إلى وصف المسيري لسيرته، نحن نعرف الذاتي بأنه عكس الموضوعي، فإما نقول هذا البحث ذاتي وإما أن نقول هذا البحث موضوعي. فإذا قلنا إنه ذاتي فهو غير موضوعي، والعكس صحيح. فكيف يكون هو لا ذاتي ولا موضوعي في نفس الوقت؟ كأنه يوقعنا في إشكالية الثالث المرفوع، أي كأنه يقول هذه الورقة ليس بيضا وليست لا بيضاء، وهي إشكالية يوهمنا المنطق الأرسطي أن الوقوع فيها يدل على فساد التكفير وخطئه.

هذه الإشكالية، إشكالية الذاتي والموضوع، تكاد تمثل لب مسيرة المسيري الفكرية، وخلاصة بذورها وجذورها وثمارها الفكرية. يتميز المفكرون عادة يما يتمتعون به من إشكاليات، وما يخلفونه بعدهم من تناقضات وإشكالات عميقة تدفع الآخرين لمحاولة حلها، أو لمحاولة إعادة تركيبتهم الذهنية ونماذجهم المعرفية ومنطلقاتهم وفق مقترحاتها، لكي يعيدوا فهمهم لذواتهم وللعالم وللأحداث.

لو عرضت هذه السيرة أو هذا الوصف على أساتذة التربية وهم المشبعون بنماذج البحث الكمي الموضوعي، وقلت بأن هذا بحث غير موضوعي وغير ذاتي، لاتهموك بالتناقض، وبأنك تمارس نوع من العبث أو اللعبة الذي لا تنتمي إلى الكتابة الفكرية أو العلمية. ونحن لم نعرف المسيري عابثاً ولا لاعباً، بل عرفناه مفكراً جاداً. فكيف يصف سيرته بهذا الوصف؟

لكي نفهم هذا الوصف، ونستطيع الدخول على خارطة المسيري، سأستحضر نصاً من سيرة المسيري يتحدث فيه عن ثلاثة تحولات صاغت خلاصة تفكيره، وصاغت مشروعه الأهم في حياته، وهو مشروع "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد ". ما هي هذه التحولات الثلاثة التي تحدث عنها المسيري في سيرته وصاغت مشروعه الفكري؟

أورغانون الموضوعية

التحول الأول هو التحول من الموضوعية الفوتوغرافية إلى الموضوعية النسبية. يعني المسيري بالموضوعية الفوتوغرافية، أنك تتوهم، كإنسان وكباحث وكعقل، بأنك محايد تماماً، أمام الموضوعات الخارجية، الموضوعات التي هي خارجك. أنت عليك كباحث أن تأتي إلى المعلومات، وعليك أن لا تمارس تجاهها أي عمل توليدي، أنت تكون مجرد آلة فوتوغرافية فقط. فحين تأتي إلى الكم الهائل من المعلومات التي تتحدث عن الجماعات اليهودية، وكل ما يتعلق باليهود، عليك أن تكون باحثاً أميناً وموضوعياً ومحايداً وفوتوغرافياً، أن توثق المعلومات كما هي، وتوثقها، كما هي مستنداً إلى المراجع ولا تفعل شيئاً غير ذلك.

والموضوعية مشتقة من الموضوع. والموضوع شيء خارج الذات. الشيء الموضوع خارج الذات عليك أن تحضره في بحثك كما هو، دون أن تتدخل ذاتك في إنتاجه، وفي إعادة التعرف عليه، أو في إعادة تمثيله، فإنك إن قمت بذلك فقد وقعت في الذاتية، فعليك أن تحافظ على الشيء كما هو موضوع في الخارج، على مسافة من ذاتك، وتصبح أنت في هذه الحالة، موضوعياً.

هذه الموضوعية الفوتوغرافية قد تحول عنها المسيري إلى الموضوعية النسبية، وهي الموضوعية التي تدرك أن الكائنات والأشياء الموضوعة في الخارج، حين تتحول إلى علامات، وتتحول إلى لغة، وتتحول إلى مفاهيم، فإن هناك نماذج إدراكية وخرائط ذهنية، تعمل على إعادة إنتاج الخارج والمعلومات. وبالتالي علينا أن نكون موضوعيين، لكن بموضوعية نسبية، وليس بموضوعية فوتوغرافية. علينا أن نجهد على أن نخضع للنقد نماذجنا الإدراكية التي تعمل على إنتاج هذه المعلومات وهذا الواقع، بأكبر قدر من الموضوعية، لكن الموضوعية هنا هي الموضوعية النسبية وليست الفوتوغرافية.

العقل التوليدي

كان من نتائج هذا التحول عند المسيري أن قاده إلى التحول الآخر، وهو أن الخرائط الذهنية التي ندرك من خلالها الخارج، هي خرائط توليدية. وهنا ينتقل إلى التحول الآخر في سيرته، وهو التحول من العقل السلبي، الذي يمثل صفحة بيضاء، تنطبع فيها الأشياء الخارجية، وكأنه لا دخل له في تكوينها إلى العقل المُوَلِّد. والعقل المولد هو العقل الذي يعمل، عبر خرائطه الذهنية ونماذجه الإدراكية على توليد المعرفة، وعلى توليد الخارج، وعلى توليد الآخر، وعلى توليد المعلومات. هذا العقل يستخدم أحياناً نماذج إدراكية غير واعية، وينتج عبرها معرفته، ويستخدم أحياناً نماذج إدراكية واعية، وينتج من خلا لها معرفته أيضاً.

وكان من ننتائج هذا التحول في حياة المسيري، أنه لم يخضع أبداً إلى النماذج الإدراكية التي بلورها الغرب، أو التي أنتجها مفكرون ينتمون إلى ثقافة مختلفة عن ثقافته أو إلى سياق سياسي وحضاري مختلف عن سياقه. فهو أنتج نماذجه الإدراكية الخاصة، وأنتج عقلانيته المولدة للنماذج الإدراكية التي أنتجت أيضاً فهماً مغايراً، لذلك جاءت موسوعته اليهود واليهودية، في عقلها المولد، جاءت بنماذجها المولدة من عقله وابتكاراته.

هذا هو التحول الثاني في مسيرة المسيري الفكرية، وبالمناسبة، هذه التحولات كما يقول المسيري لم تحدث دفعة واحدة، بل كانت تتوضح شيئاً فشيئاً، وتتحول من منطقة العتمة إلى منطقة الوضوح والنور. وهو يصرّ على أن هذه التحولات الثلاثة مترابطة بعضها بالبعض الآخر، ويقود بعضها إلى البعض الآخر. فرفض الموضوعية الفوتوغرافية يجعله يؤمن بفكرة العقلانية المولدة. لأنك إذا لم تكن مجرد شيء محايد، وكأنك أداة كمبيوتر تستقبل المعلومات فقط، ستكون عقلاً مولداً تولد نماذجك المعرفية.

أورغانون النماذج المعرفية

أما عن التحول الثالث عند المسيري، فهو التحول إلى النماذج المعرفية الإدراكية، وهذا هو جوهر التحولين الأول والثاني. فهو بذلك أصبح الآن يدرك الواقع، وكل ما يجري فيه من معلومات وكائنات، كل ما يجري في الواقع، يجري وفق خارطة النماذج المعرفية، ولا يجري عبر الرصد الاستقصائي المعلوماتي المراكم كما تعمل المناهج التقليدية والمناهج السائدة. فهو أمام هذا الكم الهائل، يريد أن يدرك الأشياء عبر نماذج. فهو لا يستطيع أن يدرك تفاصيل كل الأشياء. لا بد أن يضع له نماذج يدرك بها، وهذه النماذج تكون غالباً موجودة بفعل ثقافته وحضارته، وتكون نماذج غير واعية، وأحياناً تكون النماذج واعية ويضعها العقل بقصد واع.

ما تميز به عمل المسيري، يتمثل في النقطة الثالثة، التي جعلته يضع نماذج معرفية للظواهر التي مرّ بها في رحلته الفكرية، وظاهرة الصهيونية، من الظواهر التي وضع لها المسيري نماذجه إدراكية ذهنية، فكانت خرائطه الإدراكية التي تستطيع أن تفسرها بعمق كبير.

هذه التحولات الثلاث تمثل مفاتيح الدخول على خارطة المسيري الفكرية. وهو لا يكفّ في بحوثه وفي موسوعته وفي سيرته الذاتية وفي مقابلاته المعرفية عن الحديث عن هذه التحولات المعرفية، وكأنه يريد أن يثبت أهمية النماذج المعرفية، في إدراك الواقع، وفي كشف التحيزات الموجودة في الواقع.

الآن، ما هي النماذج المعرفية أو الإدراكية، وكيف تصنع هذه النماذج تحيزاتنا؟ وما النماذج المعرفية التي وضعها المسيري في موسوعته المعرفية، لقراءة الحضارة الغربية، وقراءة الحداثة، وقراءة ما بعد الحداثة، وقراءة ظاهرة اليهود واليهودية؟

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=131783

حوار مع علي الديري حول طوق الخطاب

علي الديري متحدثا عن كتابه الفائز بجائزة التميز 2008 “طوق الخطاب”:

أنا خارج طائفتي.. والخروج على «الأطواق» هو الرابط بين كتبي

النص حمّال ظواهر ولكل ظاهر طوق دنيوي

الاشتغال على تحليل الخطاب، لتحرير منظور الإنسان إلى العالم..

أجرت الحوار: أفراح الهندال

ما الذي يجعل ناقد مختص بتحليل الخطاب، مثل علي الديري، يذهب في كتابه الأخير “طوق الخطاب”، إلى دراسة رجل شريعة، مختص بعلم أصول الفقه، مثل ابن حزم؟ كيف بدأت العلاقة بينهما؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف أمكن للديري المناكف دفاعاً عن تشعيب الأنفاس وتعدداتها وتنوعاتها، أن يتذوق جماليات خطاب ابن حزم بحدته وحقيقته وبحسمها ويقينياتها؟ كيف يمكن لمزاج ابن حزم الذي يقول بأن “النص يعطيك ما فيه”، أن يكون مستمرَءاً من قبل مزاج ناقد، يرى أن النص يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية؟ كيف تذوق الأخير ظاهرية خطاب ابن حزم الأصولي؟ وهو القادم (سوسيولوجيا)، من تكوين عقائدي يحمل ابن حزم منه ومن مصادر معرفته موقفا سلبيا؟ وأخيراً كيف يفهم الديري شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة، من خلال شخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) الفقهية المتجهمة الحادة الأصولية؟

كان هذا بعض ما أخذنا إليه الحوار مع علي الديري. صاحب كتاب “طوق الخطاب” الصادر في 2007، عن مركز شيخ إبراهيم للدراسات والبحوث.

* تركز على الرمز والاستعارة والمجاز، ما وجه تركيزك هذا؟

الديري: أنا أرى أن الخطاب هو حقل من المجازات والاستعارات والتشبيهات والحكايات، بمعنى أن مكوّن أساسي من مكونات الخطاب، هي المجازات والاستعارات، وعبر المجازات والاستعارات يبني الخطاب مقدّماته ويرى العالم ويخلق نسبه، ويُقيم استدلالاته، ويبني حججه، فأنا معنيّ بالمجاز وبالاستعارات باعتبارها تشكل هوية الخطاب، وتخصصي الأساسي هو تحليل الخطاب، وبالدرجة الأولى أنا معنيّ في تحليل الخطاب بمكوّنه المجازي والاستعاري.

 الذهاب إلى ابن حزم

* من أي زاوية درست ابن حزم في كتابك طوق الخطاب؟

الديري: درست ظاهرية ابن حزم. لقد ذهبت إلى ابن حزم على وجه التحديد، لكي أرى إسهام ابن حزم من خلال علم الأصول في تحليل الخطاب أو ما تسميه اللسانيات اليوم بعلم تحليل الخطاب. كنت أريد أن أرى ما الذي أسهم فيه هذا التخصص أو ما الذي أسهم فيه هذا العلم العربي القديم (علم أصول الفقه)، وهو يعتبر بالمناسبة من العلوم الإسلامية الأصيلة، بمعنى إنه من العلوم التي لم تستوردها الحضارة الإسلامية من حضارة أخرى، وإنما أنشأتها هي إنشاءً، لكي تضع مجموعة من القواعد النظرية لدراسة الخطاب الديني المقدس، وهو خطاب القرآن وخطاب الحديث، ولكن هذه القواعد ممكن أن ننظر إليها اليوم، بأنها قواعد غير محدودة فقط بخطاب القرآن والحديث النبوي، وإنما هي قواعد تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات البشرية، فهي تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات الاجتماعية والسياسية والإعلامية.

لقد ذهبت أنا إلى ابن حزم في البداية لهذا السبب الأكاديمي، ولكني وجدت فيما بعد في طريق الذهاب إلى ابن حزم، أهدافا أخرى، ووجدت غايات أخرى ووجدت موضوعات أخرى في هذا الطريق. وربما يكون ما كتبته في هذا الكتاب، جزءاً مما وجدته، ويبقى الجزء الأكبر والأهم يتعلق بما لم أكتبه، لكنه حاضر في أفقي.

 دليل ابن حزم

* ولكن كيف تحددت الهوية، هوية الخطاب من خلال دراستك لأصول الفقه عند ابن حزم؟

الديري: لن أقول هوية الخطاب، لكي لا نستعمل مصطلحات قد توقعنا في لبس، سأقول ما هو مقوّم الخطاب، مقوّم الخطاب يعني ما هو الشيء الذي يقوم عليه الخطاب ويعتبر ركنا أساسيا من أركان الخطاب؟ أنا وجدت أن المجازات هي أحد هذه المكونات، لكن دراستي لابن حزم لم تكن اشتغالا على هذا المكون، فهذا المكوّن لم يشتغل عليه ابن حزم، هذا موضوع اشتغلتُ عليه تاليًا بعد انتهائي من ابن حزم.

موضوع ابن حزم في تحليل الخطاب ، كان الدليل ، وابن حزم يفهم الخطاب والدليل وفق إطار المنطق الأرسطي، فبالنسبة له أن علم المنطق الأرسطي هو العلم الذي يمكن من خلاله وضع قواعد نظرية لتحليل الخطاب، وهنا أريد أن ألفت إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن علم أصول الفقه علم يجمع عدة علوم مع بعضها ويستثمرها لتوليد علمه، فعلم أصول الفقه هو علم مكوّن من علم المنطق والفلسفة واللغة والبلاغة وعلم الكلام وعلم النحو، بل وحتى علوم الطبيعة تدخل فيه. جميع هذه العلوم يستثمرها هذا العلم ويولّد هو من خلالها أدواته فيما بعد

إحدى المكونات الرئيسية التي أسهم فيها ابن حزم في تشييد هذا العلم، وكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) يعتبر رابع أربعة كتب في تأسيس علم أصول الفقه في الحضارة الإسلامية، وقد أسهم إسهاما كبيرًا في إدخال المنطق الأرسطي ليكون مكوّنًا من مكونات علم أصول الفقه.

* على الرغم من استفادة ابن حزم من منطق أرسطو إلا أنه كان معروفًا بحدته وحدة كلماته، حتى كان يُضرب بها المثل بمقارنتها بسيف الحجّاج. كيف تفسر ذلك؟

الديري: فعلا لغة ابن حزم لغة على مستوى الحِجاج لغة حادة وحاسمة ويقينية ولا تقبل بفكرة تعدد الحقيقة، وأنا أُرجع ذلك إلى المنطق الأرسطي الذي يستند إليه ابن حزم في مفهومه للحقيقة. المنطق الأرسطي يعتمد على الحقيقة الموضوعية بمعنى الحقيقة التي هي موجودة خارج الذات، فنحنُ نصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجنا بتجردنا من كل هوىً، من كلّ ميْلٍ، من كلّ خطأ، من كل ضعف نظرٍ أو ضعف ذهنٍ، فأنت إذا توفرت على هذه الخصائص المتجردة من هذا الكل، استطعت أن تصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجك أنت، وستصل بطريقة موضوعية وسليمة ويقينية.

هذا المنطق اليقيني الذي استند إليه ابن حزم في فهم الحقيقة جعل من لغته لغة حادّة لا تقبل أنصاف الحقائق ولا تقبل ما يسميه هو بالمغالطات والتشغيب والتي في حقيقتها هي آراء أو حقائق أخرى لا يقرها دليله الظاهري. هناك قواعد منطقية تحدّد الحقيقة تحديدا صارمًا في المنطق الأرسطي، وقد صاغ ابن حزم من خلالها مفهومه للدليل الذي يحدد وفقه معنى الخطاب، وقد بلغت حدّة ابن حزم درجة أنه كان يقول: إن الذي لا يعرف أو لا يتقن المنطق الأرسطي لا يمكننا الثقة في علمه أو في فقهه، حتى لو كان فقيهًا. لكن علينا أن نقرأ هذه الحدة بإيجابية أيضا، فهي تستند إلى انفتاح ابن حزم على علوم الغير، وأقصد هنا المنطق الأرسطي الذي هو منطقٌ نشأ في حضارة غير الحضارة الإسلامية بل وفي بيئة غير دينية إذ هي بيئة وثنية لا علاقة لها بالدين السماويّ.

 كشف التلاعبات

كأن ابن حزم يريد أن يقول إنه لا يمكننا أن نفهم النصوص الدينية إلا باعتماد هذا المنطق، لذلك فأنا أفسّر حدّته بهذا الجانب العلمي. أيضا هناك مكون آخر بطبيعة الحال يتعلق بالجانب الاجتماعي وهو الجانب المتعلق بالمعارضات التي كان يواجهها ابن حزم من المذاهب الأخرى، وهذه المعارضات كانت ناشئة من كون أن الظاهرية التي يمثلها ابن حزم هي منهج جديد بالنسبة إلى بلاد المغرب والأندلس التي اعتادت الفقه المالكي، فحين يأتي فقيه بمدرسة جديدة هي المدرسة الظاهرية وهي مدرسة من المعروف أن أصلها مشرقي وكان ابن داوود الظاهري هو المؤسس لهذه المدرسة في القرن الثالث قبل أن يتسلمها ابن حزم ويتسلم معها كتاب ابن داوود (الزهرة) وهو كتاب في الحب. لقد تسلم ابن حزم ظاهرية الخطاب وظاهرية الحب وذهب بها بعيدًا في القرن الخامس الهجري.

تنشأ معارضات عند دخول نظرية جديدة أو مذهب جديد على حقل قد رتّب أوضاعه وأعرافه مصالحه ورتّب قواه وعلاقاته، وهذا ما توضحه نظرية “بروديو” في الحقل الاجتماعي وهي نظرية تفسّر الصراعات الاجتماعية في الأوساط العلمية والثقافية، سواء كان الأمر في حقل الأدب أو الفقه أو السياسية أو الوجاهة.

يمكننا أن نفسر حدّة ابن حزم بأنها نوع من ردّة الفعل على خصومه الذين كان يشنّعون عليه ويواجهونه ويحاولون أن يؤلبوا عليه الناس ويؤلبوا عليه ملوك الطوائف في تلك الفترة، وبالتالي نشأت لديه حدّة في مواجهتهم والرد عليهم من أجل الدفاع عن مذهبه ومنطقه، أي من أجل أن يموضع نفسه في الحقل العلمي الذي كان يكتب فيه.

أيضا هناك سبب ثالث يمكننا أن نفسّر من خلاله هذه الحدّة، وهو السبب المتعلق بأن ابن حزم كان شاهدًا على حكم الطوائف وكان أبوه شاهدًا على حكم استقرار الخلافة الأموية في الأندلس وقوتها، حين اهتز هذا الحكم وهذا الاستقرار، وجاءت ملوك الطوائف، وأخذ كل ملك ينشئ مملكته في طائفة أقل، حدث نوع من التشرذم في القوى التي كانت تحكم الأندلس، وهذه التشرذمات التي حدثت دفعت ابن حزم ليعبّر عن سخطه على التشرذم الموجود، أو لنقل هو يريد أن يدين أحد أسبابه، هذا السبب هو أنّ هذا التشرذم الموجود على المستوى السياسي والذي تبدى على مستوى ضعف الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، يأتي من أنّ كل أمير أو كلّ ملكٍ استقلّ بطائفة كان يستند في حكمه السياسي إلى حكم فقهي، والحكم الفقهي يضعه فقيه، لذلك لابدّ أن يكون هناك فقيه يتكيف أو يكيّف الناس لكي يُعطي مشروعية لهذا الحاكم، فوجد ابن حزم أن جزء من التلاعب في قراءة النصوص الدينية وتأويلها، يأتي ليحقق هذه المشروعية. هذا التلاعب هو المسئول عن التشرذم السياسي الموجود، فهو كأنه أراد أن يجعل من منهج الظاهرية منهجًا يفضح ويكشف هذه التلاعبات في قراءة النصوص.

 دنيوية الظاهرية

ينبِّه إدوارد سعيد في كتابه (العالم والنص والناقد) إلى ما لدى المدرسة الظاهريّة من أفكار في تفسير النصوص لا تعزل النص عن تفاعلاته الواقعيّة والبشريّة والثقافيّة، فالنص ظاهرة تعبيريّة ظرفيّة، يقترن معناها باستعمال وظرف محدّدين أي بوضع تاريخي وديني.

وتحقق ظاهرية ابن حزم ذلك بأن تجعل للنصوص والأشياء في العالم كيفيات بدل أن تكون لها جواهر باطنة وأسرار خاصة. وكيفيّات النصوص هي ملفوظاتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وظروفها السياقيّة، وطرق إنتاجها، ومدلولاتها. تمثل هذه الكيفيّات ظواهر النصوص التي على العقل الاشتغال عليها، من أجل فهمها. وظاهريّة ابن حزم في قراءة الخطاب تمثل اجتهاده الخاص في قراءة هذه الكيفيّات في الدنيا. لذلك فالظاهرية قراءة دنيوية للنصوص، وهي حمّالة ظواهر، لأن في الدنيا لا يوجد غير الاختلاف.

 جماليات ابن حزم

لذلك ابن حزم لم يكن متصالحًا مع السلطات السياسية في عصره وتعرّض أيضًا إلى محاكمات قادته إلى سجن، وكان يقول دائمًا إنه ما كتب كتابًا أو ما كتب ورقة إلا وهو على قلق بسبب أنه إما أن يكون في سجنٍ أو يكون على هجرة أو يكون على هربٍ أو يكون على قلاقل سياسية.

هذه التركيبة أسهمت في تكوين مزاجه الحاد في الكتابة وفي الدفاع عن وجود حقيقة للنص واحدة ومعنى للنص واحد ظاهر لا يقبل التأويل، أي لا يقبل اللعب، ولا قبل التوظيف السياسي، ولا يقبل ميوعة في المعنى. ولعل جملة ابن حزم المكثقة “النص لا يعطيك إلا ما فيك” تخلص ظاهريته وموقفه من المرجعيات غير النصية التي تعطي معناها الخاص .

أنا أفسّر حدية مزاج ابن حزم بذلك، ومع ذلك أقول أنا قد استمرأتُ هذه الحدية ووجدت فيها جمالية أخرى، هي جمالية القلق المعرفي. وهذا جعلني متفهما لمزاج ابن حزم وعصره ولقلقه المعرفي الذي كان يشغله. المفكر أو الفيلسوف أو العالم، هو ليس فقط حصيلة علمه، وإنما هو أيضا خلاصة عصره وخلاصة القلاقل السياسية والاجتماعية التي يخوضها، والمفكرون العظماء أو العلماء العظماء تفكيرهم دائمًا يكون تفكيرا خارج الأطر الضيقة للعلم، فبالتالي هو يفكّر من خلال سياق العصر الذي يعيش فيه.

* كيف راقتك هذه الحدية وأعجبتك؟ هل هي ما جعلك تستند وتخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه وهذه الأمور.

الديري: دعيني أوضّح أولاً بأني لم أجد أن حدّة ابن حزم تتناسب معي، فأنا لستُ حادًّا في نقدي، ولستُ حادًّا في نظرتي للمسائل، ولست ممن يقولون بوجود حقيقة واحدة للنص، فالنص في مفهومي لا يعطيك ما فيه كما يقول ابن حزم، بل يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية، النص يعطي ما في أنفاس الخلائق. فأنا مختلف تمامًا في هذا المزاج، ولكن استطعت أن أتفهم هذه الحدّة، وأن أتذوق جمالياتها التي تحمل في داخلها قلقا معرفيّا وقلقا وجوديا وقلقا سياسيا للوضع الكائن في العالم، وجوانب من هذا القلق يمكن أن تفسر حدّة ابن حزم ضد التلاعب بالنصوص وبالحقيقة وبتوظيفها. استطعت أن أستوعب ذلك في هذا السياق، واستطعت أن أقرأ جماليات فيها أيضا وأن أتفهمها وأن أتذوقها بهذا المعنى. ولعل من المفيد أن أذكر هنا بعبارة شبنهاور “إن لم أجد شيئاً يقلقني، فهذا في حد ذاته يقلقني” التي يرددها دوما الصديق الأديب كريم هزاع، في سياق تبيانه لسيكيولوجيا المثقف.

 هوية المثقف

* أنت نشأت في بيئة دينية شيعية، وأَلِفْتَ مدوناتها التأسيسية، فما الذي جعلك تخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه؟

لماذا لم أذهب إلى المدونات والنصوص الشيعية بحكم قربي من هذه المدونات؟ أريد أن أوضح هذه المسألة الهامّة جدّا بالنسبة لي، أولاً أنا لم أدرس في الحوزات الدينية، كانت هذه أمنية من أمنياتي التي رافقت تكويني المعرفي والفكري فترة من الفترات. كانت لدي رغبة مقدسة للذهاب للدراسة في الحوزة، وهذه الرغبة أستطيع أن أقول إنها قد انتهت بعد السنة الأولى من تخرجي من مرحلة البكالوريوس في العام 1993، فقد دخلت مرحلة معرفية جديدة خرجت فيها من أطري الأيديولوجية والدينية والطائفية وبدأت أنفتح على العلوم الإنسانية بما هي أدوات لفهم الدين والتاريخ والمعرفة والحقيقة خارج المذهبيات والتحزبات والطوائف.

بهذا الخروج انتهى مشروع ذهابي إلى الحوزة، ولكن بحكم تكويني السابق على هذا الانفتاح، اقتربت من أجواء الحوزة واقتربت من كتبها، ودرست بعض مقدّماتها.

خروجي من هذه الأطر، جعلني أنظر إلى تراثي الإسلامي العربي الحضاري نظرة شمولية، لا يمكن أن أنظر إليه بعد هذا الخروج نظرة ضيقة، بأن أذهب إلى الكتب الشيعية وأبحث فيها، وكأنها تؤسس لحقيقة خاصة ومستقلة عن البقية، أو كأن لديها المنهجية الحقّة، وكذلك أصبحت لا أحمل دافعًا لخدمة مذهبي بأن أشتغل على تراثه بشكل خاص، لقد انتفى لديّ هذا الدافع الرسولي الذي كان حاضرا بقوة كما كان خالقا فيّ الرغبة المقدسة في الذهاب إلى الحوزة.

كما أنني لم أكن أيضًا أحملُ همّا، يتعلق بإبراز تفوّق علماء مذهبي، باعتبارهم هم السبّاقون أو المؤسسون أو الذين وضعوا أسس كل معرفة جديدة. لقد تخلصت من هذه الهواجس، وأصبحت لدي كل كتب حضارتي متساوية من حيث الأهمية، وأصبحت لدي كلّ الشخصيات الفكريّة في تراثنا متساوية، كلّها متساوية بمعنى أن كلّها لدي مسافة نقدية واحدة منها، ولديّ مسافة أيضا علمية واحدة، ولديّ إحساس بأنها تشكّل جزءًا من هويتي ليس لأحدٍ منها تكوين يفوق التكوين الآخر في هذه الهوية، وهذا شرط معرفي لمقاربة تراثنا. وإذا لم يكن لديك هذا الأفق الذي يجعلك ترى تراثك كلّه على مسافة واحدة، فأنت تُخلّ بشرط معرفي، ولا يمكّنك أن تقترب من هذا التراث، وتعرف حقيقته.

اتخاذي من ابن حزم موضوعاً أشتغل عليه، يأتي في هذا السياق، وبالمناسبة لم أدخل على ابن حزم بوصفه أديبا ولم أدخل عليه بوصفه أشهر من كتب في الحبّ، وإنما دخلت عليه من الشقّ المتعلق بالفقه، فهو الشق الأكثر تحدّيا بالنسبة إلى أي باحث يريد أن يتأكد فعلاً أنه غير متورط بأي انحياز مذهبي، أقول ذلك ونحن نعيش اليوم سُّعارا طائفيا بلغ أوج اشتعاله بعد حرب العراق، وأنا آتٍ من بيئة هي بيئة البحرين وهي البيئة القريبة من بيئة العراق، وهما البيئتان الأكثر حدّة في المسألة الطائفية، إذا ما وضعت هذا السياق في الاعتبار، فهذا يشعرني بشيء من الرضا لأنني قد ذهبت إلى ابن حزم، من دون أي اعتبار لموقفه الحاد من الشيعة ولموقف الشيعة الحاد منه، ودون اعتبار للحساسيات الطائفية المشتعلة اليوم. مع أني قد ذهبت إليه قبل هذا السُّعار، فأنا أنجزت هذا الكتاب في عام 2002 ، ونشرته في 2007.

* هذا سيجعلك تقع في دائرة أخرى، وهي دائرة النقمة من أهل مذهبك بتهمة الانتصار للمذهب الآخر؟

الديري: أنا خارج طائفتي من الناحية المعرفية، والمثقف إذا لم يكن خارج طائفته لا يعول عليه، المثقف ليس ناطقا باسم طائفته، عليه أن يكون ملعوناً من طائفته، كما كان الأمر مع الفيلسوف اسبينوزا.

 خارج الشحن العقائدي

دعيني أستكملُ لكِ الإجابة على سؤالك، أنا ذهبت لابن حزم وكنت أريد أن أرى إسهام علم أصول الفقه في مجال علم تحليل الخطاب، ولم أكن معنيًّا بهذه الهواجس كلها، وبالفعل وأنا أقرأ ابن حزم، لم تستوقفني جمله أو عباراته التي كان يظهر فيها موقفا مشنعاً من المذهب الشيعي، ومن مصادره المعرفية المعتمدة، حاولت أن أتفهم هذا الموقف في سياق عصره وفي سياق العلاقة بين الشرق والغرب وفي سياق الاحتدامات السياسية والصراعات المذهبية والجدل الكلامي، ولم تتحرك فيَّ بتاتًا نوازع الدفاع أو التصحيح أو التأثر بأن هذا ضد مذهب أنتمي إليه في مرحلة تكويني العقائدي، أو أنتمي إليه سوسيولوجيًّا حاليا. أنا وجدت نفسي خارج هذا الانتماء الديني الضيق، وإن كان هذا الخروج المعرفي لا يخرجك سوسيولوجيا، ولكنه لا بدّ أن يُخرجك على المستوى المعرفي، وهذا أقوله اليوم باعتزار، أن تستطيع أن تخرج عن تكويناتك الضيقة، وأن تذهب إلى الأشياء لتقرأها بتجرّد أكبر وبحقيقة أطلق (أي أكثر طلاقة) وبأفق أوسع. أقول هذا الكلام اليوم وأنا أعيش هذا الشحن الطائفي بشكل يثبت أن التاريخ انقطاعات وتراجعات وانه لا يسير إلى الأمام دوما ولا يصل إلى نهايته.

سألني أحد الأشخاص بعد أن قدّمت محاضرتي حول هذا الكتاب في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث: كيف يمكن أن يكتب شخص من قرية الدير الشيعية عن ابن حزم؟ فابتسمت له، وقلت له: أنا لم أذهب إليه بصفتي شيعياً، ذهبت إلى ابن حزم بصفتي محلّل خطاب، ومحلل الخطاب لا يحلل الخطاب من منظور مذهبي أو منظور ديني أو أي منظور ضيق، محلل الخطاب بقدر ما هو يُخضع تحليله لأدوات معرفية، فإنه يتحرر من هذه الأطر الضيقة التي تفرض عليه منظورات خاصة، كذلك جاءتني اعتراضات كثيرة كلها تصبّ في هذا المنحى، فأحدهم كتب لي: كيف تكتب عن هذا الناصبي؟!! إنه مصطلح مشحون بتاريخ الخلافات المذهبية، وإذا لم تخضع هذا المصطلح إلى تحليل نقدي وتاريخي، يجعلك على مسافة من الخطاب الذي يمثل بيئته العقائدية، فإنك لن تكون أكثر من مجادل عقائدي يهدر وقته في الانتصار لمذهب يعتقد أنه سينجيه يوم القيامة.

 قواعد الإحكام

* طوق الخطاب يُشير إلى طوق الحمامة بينما الكتاب لا يتناول هذا المنحى ولا هذا الكتاب، فما الرابط بينهما؟

الديري: موضوع طوق الخطاب ليس طوق الحمامة، موضوع طوق الخطاب هو كتاب ابن حزم في أصول الفقه وهو الإحكام في أصول الأحكام، هذا الكتاب يتكوّن من ألف صفحة تقريبا، موضوعه علم أصول الفقه، وما هو علم أصول الفقه؟ الأصول تعني قواعد أو قوانين، الفقه هو الفهم وأصول الفقه تعني قواعد الفهم أو قوانين الفهم، فهم ماذا؟ قواعد فهم الخطاب، الخطاب القرآني والخطاب النبويّ، فأصول الفقه هي أصول بمعنى قواعد وقوانين فهم خطاب القرآن وخطاب الحديث النبوي، منظورًا إلى الخطاب هنا بما هو مجموعة من الأوامر التي تحدد للإنسان ما يجبُ عليه وما لا يجوز له وما يستحب أن يقوم به وما هو مكروه، بمعنى أنه علم قواعد فعل الأمر الموجود في الخطاب، وهذا فعل الأمر يأتي تارة للمنع والنهي، وما بين النهي والأمر يأتي المستحب والمكروه، فكل هذه القواعد تحاول أن تقرأ هذا الفعل – فعل الأمر وفعل النهي – في مدوّنة كبيرة جدا هي القرآن والحديث.

نحن هنا بحاجة إلى قواعد تبيّن لنا وتفسّر لنا صيغ الأمر لهذا الخطاب، فلذلك عنونت الكتاب بعدة عناوين قبل أن أستقر على العنوان الأخير، منها “قوانين تفسير الخطاب” ” قواعد تفسير الخطاب” “قوانين الإحكام” ” قواعد البيان” ” أصول البيان” لأن الفقه عبارة عن بيان، فعندما تفقه الشيء تستبين ما فيه، أي تطلب بيانه، وأيضا ممكن أن نقول إنها أصول تفسير الخطاب، تسميات كثيرة ممكن أن تعبّر عن موضوع هذا العلم، لكنّي فضلتُ أن استعمل عنوان ” طوق الخطاب”، فلماذا استعملت هذا العنوان؟

هناك سبب أوليّ يتعلق بطوق الحمامة، أردت أن ألعب على عنوان كتاب ابن حزم طوق الحمامة وأشتق منه وأفهم من خلاله عمله في علم الأصول، وهنا أريد أن استرجع حادثة وقعت لي في أوّل مرة وقعت فيها على كتاب ابن حزم في علم أصول الفقه (الإحكام في أصول الأحكام) وجدت أن لغته وموضوعه غريبان على صوة ابن حزم التي في مخيلتي. انتابتني لحظة شك، هل اسم ابن حزم المكتوب على هذا الكتاب هو نفسه ابن حزم صاحب كتاب (طوق الحمامة) الذي يتحدث عن الحبّ بلغة أدبية جميلة وبحرية ليست محكومة بقواعد الأمر والنهي.

 بين طوقين

كنت أقارن شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة كما رسمتها مخيلتي، بشخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) التي بدت لي شخصية عالمية فقهية متجهمة وحادة وأصولية، رحت أراجع سيرة ابن حزم حتى تأكدت أن صاحب ذلك الكتاب (طوق الحمام) هو نفسه صاحب هذا الكتاب (الإحكام في أصول الأحكام)، ولكن بقى هذا التساؤل لدي من دون إجابة. ولم أسع للإجابة عليه، لأنه لم يكن ضمن حدود بحثي، كان حدود بحثي فقط هذا الكتاب بغض النظر عن ذاك الكتاب، فذاك الكتاب يخصّ الدراسات الأدبية أكثر، هذا الكتاب وجدته خاصا بالدراسات المتعلقة بدراسات تحليل الخطاب.

بعد انتهائي من الكتاب بفترة، حاولت أن أفهم معنى الطوق، الطوق هو علامة تدل على الجمال، وتدل على القدرة، وتدل على الطاقة.كيف يمنحك قدرة؟ لأنه يعطيك قوة ويجعلك متماسكا، فحين تطوّق شيئا تجعله متماسكا، فكأن طوق الحمامة يُماسك الناحية الجمالية لديها، فيعطيها الزينة، ويعطيها القدرة لكنها تبقى مقيدة به.

هذه المعاني وجدتها أيضا حاضرة في كتاب الإحكام، ما هو الإحكام؟ الإحكام هو عبارة عن تقييد الشيء، فأقول أنا أحكمت الطوق، وحين تحكم الشيء تعطيه قوة، وأيضا في إحكامك تعطيه جمالا، لأنك تبرزه وتظهره بشكل ما، فكأنك أظهرت تماسكه، فوجدت أنا إن قواعد ابن حزم لتحليل الخطاب أو أصول ابن حزم هي عبارة عن طوق للخطاب، بمعنى أنها تقيّد فهمك وقراءتك للخطاب وفي الوقت نفسه هذا القيد يمنحك قدرة، لأنها مجموعة من الأدوات التي تعينك لقراءة الخطاب، وهي تمنحك قدرة بمعنى طاقة، والطوق من فعل الطاقة والطاقة هي عبارة عن قدرة، قدرة على قراءة الشيء أو على التمكّن من الشيء، وفي الوقت نفسه أرى أنها تمثل ناحية جمالية لجهد إنساني، وأي جهد إنساني نحن ننظر إليه من ناحية جميلة، لأن الجهد الإنساني جميل بالمعرفة التي ينتجها، فأنا سميت طوق الخطاب دراسة في ظاهرية ابن حزم وكنت أعني بذلك مجموعة الأدوات التي وضعتها الظاهرية لقراءة الخطاب، نظرت إلى هذه الأدوات على أنها تعينك وتمنحك قدرة قراءة الخطاب، وتقيّد قراءتك للخطاب وأيضا هي عنصر جمالي بما هي جهد إنساني. بعد ذلك عليّ أن أرجع إلى قواعد التفكيك التي هي أيضا جزء من ممارسة تحليل الخطاب، وقواعد التفكيك، لأن علم تحليل الخطاب ليس محصورا في منهجية معينة، ولا في أدوات معينة، هناك أدوات كثيرة في تحليل الخطاب، ومدارس كثيرة وعلوم كثيرة ومنهجيات كثيرة فأنا أيضا أخرج على طوق ابن حزم لكي أقرأ طوقه، وفي قراءتي لطوق ابن حزم حاولت أن أفسر أيضا هذا الإحكام أو هذا الطوق في القراءة. لماذا كان ابن حزم يقيد قراءة النص بالدليل الذي لا يسمح إلا لحقيقة واحدة أن تظهر؟

 مقاربة مختلفة

* قمتَ بتقديم كتابك في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، لماذا لم تقدم كتابك في كلية الشريعة أو مكان ينتمي للشريعة باعتبار دراستك تعني المعنيين بدارسي أصول الفقه، وهل تعتقد بأنهم مهتمون بالإطلاع على هذا الكتاب؟

الديري: أنا أتمنى أنهم غير مهتمين وأتمنى أن لا يُفهم كتابي أنه متعلق بعلم الشريعة بتاتا، هو ليس كتاب في الشريعة.

كان في محاضرتي أستاذ جامعي عراقي قضى أكثر من ثلاثين عاما في كلية الشريعة، ويدرّس المناهج الفقهية فيها، قدّم مداخلة أشاد فيها بمحاضرتي، وقال إن هناك العديد من الأمور التي لا يتفق فيها معي، ولكنه قال إنه يحترم وجهة نظري وأفقي في دراسة ابن حزم.

كنت حريصا أن أبيّن أن مقاربتي لابن حزم مختلفة عن مقاربة علماء الشريعة لهذا الموضوع، هم يذهبون إليه كصاحب مذهب، وأنا أذهب إليه كصاحب طوق، أنا أذهب إليه كعالم لديه مجموعة من الأدوات منبثقة من أفق نظري في قراءة الخطاب، فلست أراه صاحب مذهب في مقابل مذاهب أخرى، أنا معني بإبراز منظومته المعرفية في قراءة هذا الخطاب، لذلك كنت أتحدث عن خلفيته المعرفية والفلسفية والمنطقية وكنت أتكلم عن فهمه، وأحاول أن أعرف في منظومته ما هو الفهم وما هي المعرفة وما هي اللغة وما هو الخطاب وما هو العقل وما هو الدليل.الإجابة عن هذه الأسئلة تحدد لي الأفق المعرفي الذي يشتغل من خلاله ابن حزم، لذلك أنا لست معنيا بالقراءة الشرعية وصحتها.

* هناك من يذهب إلى أن علم أصول الفقه هو علم خاص برجال الدين والحوزات وبالتالي فأنت لست سوى متطفل لا تفقه فيه ولا تفهم. ما رأيك؟

الديري: كما قلت لكِ فحسب تفسير (بروديو) للحقل، كل تخصص يحتكره أصحابه، وحين يدخل شخص من خارج الحقل أو تدخل نظرية جديدة أو مفهوم جديد إلى الحقل، يُستفزّ بعض المشتغلين في الحقل، فيبدؤون يدافعون عن أعرافهم وبعضهم يستوعب الجديد ويكيف آليته وفقه، وأنا أتفهم هذا البعد، لذلك أقرأ الاعتراضات التي أبداها البعض، في هذا السياق، وقد لاحظت أن بعض آلية الدفاع عن الحقل تقوم على آلية التجهيل، وذلك بأن يحاول أن يُجهّل معرفتك أو يحاول أن يبحث عن أخطائك ويقلل من فهمك لهذا العلم، ليُسقط مقاربتك بهذه الطريقة، وهذه مسألة صارت معروفة، فعوضا أن أُستفزّ من خلالها أو أردّ عليها، أحاول أن أفهمها.

 فخ الطوق

* إذن أنت أوقعت الكثير في الفخّ، هناك من أخذ الطوق إشارة إلى طوق الحمامة، وهناك من أخذ ابن حزم وكتاب الإحكام إشارة إلى الشريعة والفقه. فهل تعتقد بأنه موجه لدارسي علم الخطاب؟

الديري: الكتاب فعلا يُوقع في هذه الالتباسات والأفخاخ، وكلما كثرت أفخاخ الكتاب، فتح شيئا جديداً، أو لنقل أنه ينقل الجدل إلى منطقة جديدة، وبالفعل حدث ذلك، وأنا بالدرجة الأولى أقول هو يقع ضمن تخصص تحليل الخطاب، ولكن هذا التخصص مفتوح على كلّ التخصصات، الإنثربولوجيا وعلم الكلام والفقه والمنطق والفلسفة واللغة وعلوم الذهن. ولأنه مفتوح على تخصصات معرفية متنوعة، فهو تشكيلة من العلوم، بل هو يدفعك إلى أن تنفتح على العلوم المختلفة وأن تبحث عن تواشجاتها واتصالاتها وحواراتها الداخلية، وترى كيف أن إعطاء معنى للنص هو محصلة التقاء علوم كثيرة وحوارات داخلية ثرية بين علوم كثيرة.

كان ابن حزم يعتقد أن دليله وحده قادر على أن يعطي معنى النص، وأن علم الأصول وحده قادر على أن يعطينا معنى الخطاب، ومع انفتاحنا على مختلف العلوم، سنكتشف أن كل علم يعطينا شيئا من معنى الخطاب. وليس هناك تخصص يحتكر حقل المعنى.

* ما الرابط بين الكتب الثلاثة التي أصدرتها؟

الديري: أنا أجد هناك روابط كثيرة، كتابي الأول ” التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية، كيف تُنتج المؤسسة الذت” كنتُ معنيّا فيه بطوق الثقافة بما هي فعل تربية، لأقول التربية بمعناها الأوسع، التربية بما هي صناعة فرد وإقناع ووجهات نظر ومجموعة من القيم المعدة لتطويق الإنسان، التربية بهذه المعاني أجدها طوقا، هي خطاب يطوّق فهمك، ويطوّق فكرك ويطوّق ذاتك، ويطوّق كل ما فيك في إطار معيّن.

كتابي الثاني في الحقيقة هو (طوق الخطاب) الصادر في 2007، وكتاب الثالث هو ( مجازات بها نرى) الصادر في 2006 وهو يحاول أن يقارب المجازات والاستعارات والتشبيهات، بما هي طوق للحقيقة، فالمجاز يطوّق الحقائق ويجعلها تبدو جميلة ومقنعة ومحكمة ولديها القدرة على الإقناع والتنوير والرؤيا، فالمجازات والاستعارات هي أدوات للإقناع وأدوات للرؤيا وأدوات للفهم وأدوات لصناعة القناعة وتشكيل العقل، وهي أدوات كل خطاب، لذلك فالخطاب هو حقل من المجازات.

وهذا الكتاب هو أيضا يرى أن علم أصول الفقه أداة، أي هو طوق يطوق الحقيقة ويطوّق المعرفة ويطوق التأويل والنص. بل يطوّق فهم الإنسان والجماعة وفهم عصر من العصور، فالكتب ثلاثتها ممكن أن نقاربها بما هي طوق على الحقيقة، وطوق على الإنسان وطوق على العقل، فكيف يستطيع الإنسان أن يفهم أطواقه المختلفة في أشكاله المختلفة.

 تحرير المنظور

* إلام تريد أن تصل؟ أقصد ما همك الأول، ما الهاجس المسيطر عليك؟

الديري: تحرير الإنسان أو أقل تحرير منظورات الإنسان في النظر إلى العالم والنظر إلى الحقيقة والنظر إلى الإلوهية والنظر إلى ذاته والنظر إلى الموضوعات العامة، تحرير هذا المنظور يحتاج إلى جهد كبير جدا، هذا المنظور ليس جهازا مادياً، فهو جهاز معنوي يتبدى في شكل خطاب، ويتبدى في شكل لغة، ويتبدى في شكل ثقافة، ويتبدى في شكل تربية، ويتبدى في شكل مؤسسة، إذا كنت أريد لهذا المنظور أن يتحرر لابدّ أن أعرف كيف يتجسد في هذه الأشكال، أجد إن علم تحليل الخطاب هو الميدان المعرفي الذي يمكن أن يقدم لي معرفة ما أريده.

* من يعرفك يعرف ابن عربي وتعلقك الشديد به، على الرغم من منهجيته وأسلوبه ومعتقده وفكره المخالف تماما لابن حزم. فكيف تجمع الاثنين ؟

الديري: قراءتي لابن عربي قد جعلتني أستوعب ظاهرية ابن حزم بشكلٍ أكبر. وهذا السؤال سأرجئه لحوار آخر، فهو بحاجة إلى اتساع يليق بحجم الرجلين.

جريدة أوان الكويتية

http://www.awan.com.kw/node/106177

جريدة الوقت البحرينية

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=128121

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=129026