كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

في انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟ 3-2

من يقتل كمال أتاتورك؟
من يقتل كمال أتاتورك

لتنزيل بروفايل جريدة الوقت من يقتل كمال أتاتورك؟ pdf

تتفاوت البلدان بتفاوت أفق انتظارك لها، هناك بلد تنتظره بأفق وبلد تنتظره من غير أفق، حتى كأنك لا تنتظره، تركيا، تكاد تكون البلد الأكثر انتظاراً بالنسبة إلى أفقي، والانتظار ليس حالة سلبية، كما تخبرنا أدبيات انتظار الخلاص، فهو حالة توقع، تدفعك إلى أن تمدّ عين ينك إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة، والإنسان لا يمدّ عينيه إلا ليقرأ بهما ويؤول من خلالهما، لذلك فالانتظار نشاط تأويلي محكوم بأفق السياق الذي تعيشه. كانت تركيا، بالنسبة إلى أفقي، الجغرافيا التي لم أعاين تاريخها بحواسي كلها، والتاريخ يكون عصياً على الفهم حتى تمشي بقدميك في جغرافيته التي حدث فيها، وتاريخ تركيا عصي على الفهم أكثر لأنه تاريخ مازال يشتغل في الحاضر بلغات متعددة وحضارات متعددة وجغرافيا متعددة، فكيف يمكنك أن تقيم صلة أليفة مع هذا التاريخ، من غير المشي فيه؟
في الحلقة السابقة: تركيا بحاجة إلى قتل الأب، أي التخلص من سلطته التي تمارس حضوره الطاغي عليها، ويحول دون تخطيها أو تجاوزها له. وهناك قلنا إن تركيا تقاوم قتل أبيها الحديث، وهناك من يقف دون ذلك، وهناك من يهدد بالثأر إن حدث ذلك، وهناك من يطلق صيحات التحذير التي تقرأ في كل حركة تهديداً بهذا القتل.
الكنيسة الكمالية
ي مكن معاينة هذا الخوف على هذه الأبوة الرمزية، من خلال تقرير «ماذا يجري في تركيا؟» الذي أعده الصحافي الألماني المقيم في إسطنبول، غونتر زويفرت، عن الجدل العام الذي رافق المظاهرة التي خرجت العام الماضي أمام ضريح أتاتورك في أنقرة التي شارك فيها مئات الألوف، كانت «جمعية الفكر الأتاتوركي»، أحد محركات هذه المظاهرة، وتضم في مجلس إدارتها القائد السابق للشرطة التركية والبروفيسور نجلاء أرادت المدافعة عن تدخل الجيش في الحياة السياسية «لماذا نقلق إذا عندما يفصح الجنود عن رأيهم؟».
لابدّ من أن يبدي الجيش رأيه حين تهدد «الرجعية الدينية» علمانية الدولة. وقد حددت رئيسة المحكمة الدستورية العليا سومرو شورت أغلو في خطابها بمناسبة الذكرى الـ 139 السنوية لتأسيس المحكمة مفهوم «الرجعية الدينية» بقولها «كل حركة لا تتفق مع مبادئ وإصلاحات أتاتورك هي رجعية دينية».
يعترض الكاتب والمفكر الليبرالي في إسطنبول مراد بلجه، على هذا التعريف الاختزالي، ويتساءل ماذا عن النماذج السياسية الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية التي لا تتفق كثيراً مع العالم السياسي لأتاتورك.
لقد خاطب عضو مجلس إدارة «جمعية الفكر الأتاتوركي»، البروفيسور علي أرجان، أثناء مظاهرة أنقرة أتاتورك في ضريحه قائلاً «القائد الكبير مصطفى كمال أتاتورك.. لقد مضى على رحيلك 24992 يوماً، وها نحن نقف اليوم أمامك وكلنا عار وحزن عليك».
وقد علّقت الكاتبة التركية بريهان ماجدن في عمودها بشكل ساخر: «ليتني كنت عضواً في الكنيسة الكمالية وأعيش مثل طفل موصَى عليه للأبد. أتمنى أن أضع جبهتي على رخام ضريح أتاتورك وأقبّل التمثال على القبر وأقول: يا والدي إنني أشعر بأني وحيدة! ثم يأتي صوت من الظلام يقول: إنك لست وحيدة! بجوارك رئيس أركان الجيش التركي الجنرال يسار بويوك أنيت الذي يعتبر نفسه نائباً عني، وبجوارك أيضاً دنيز بيكال الذي يعتبر بمثابة رئيس حزبي (حزب الشعب الجمهوري)، وبجوارك مئات الألوف من الإخوة والأخوات الذين لا يفقهون كثيراً من الديمقراطية مثلك».
الكنيسة العلمانية
في سخرية الكاتبة بريهان ماجدن كثير من الحكمة، وجملتها الأخيرة التي صاغتها ساخرة على لسان أتاتورك «وبجوارك مئات الألوف من الإخوة والأخوات الذين لا يفقهون كثيراً من الديمقراطية مثلك» فيها قلب الحكمة، والجملة قابلة لأن نتصرف فيها، وذلك بتقليبها، لنقول: إن بجوار هذا الأخ كثير من الإخوة والأخوات الذين لا يفقهون كثيراً العلمانية ليس بمعناها العام فقط، بل حتى بمعناها الأتاتوركي القابل لتأويلات حديثة، تناسب الحداثة السياسية التي يجب ألا تتوقف عندها الدولة.
يمكن فتح معنى العلمانية الأتاتوركية، باسترجاع خطابات أتاتورك التي قدمها في بدايات تأسيس الجمهورية التركية، فهذه الخطابات تكشف أن أتاتورك لم يكن يسعى إلى تأسيس دولة لا دينية أو معادية للدين، ولا حتى دولة تريد أن تسقط الخلافة بقدر ما تفصلها.
لقد أجرى الصحافي الفرنسي موريس برنو، في العام ,1923 مقابلة مع أتاتورك عن معنى الإصلاحات السياسية التي قام بها، وكان مما قاله له «لقد أمر نبينا أتابعه بأن يهدوا أمم العالم إلى الإسلام، لكنه ما أمرهم بتولي حكم هذه الأمم، إن سياستنا ليست فقط بعيدة عن أن تكون لا دينية، بل إننا نشعر أيضاً أنه مازال ينقصنا، من المنظور الديني، شيء ما.. ينبغي أن يصير الشعب التركي متديناً أكثر، أقصد متديناً بقدر أكبر من البساطة.. إن ديني، الذي أؤمن به إيماني بذات الحقيقة، لا ينطوي على شيء يناقض العقل»(iv).
لن نقول إن أتاتورك كان صاحب مشروع إصلاح ديني، لكنه لم يكن صاحب مشروع دولة لا دينية، كان يريد دولة منفصلة عن الدين، وقادرة على أن تتيح للإنسان أن يمارس تدينه بشكل عقلاني وخاص، وهذا يتطلب رفض أشكال التدين المتخلفة التي كانت تستغلها الخلافة لتثبيت نفسها، وإذا كان مشروعه لم يكتفِ بأن يحقق ذلك فقط، بل ذهب بعيداً عن ذلك، فبالإمكان التعويل على مقاصد خطابه، كي لا يشعر أتباعه بالعار عند ضريحه، وكي يتمكنوا من توسيع تعددية الدولة من دون شعور بذنب خيانة الأتاتوركية.
كان خطاب أتاتورك يدعو الأتراك إلى أن يتركوا وهم سيادتهم للعالم عبر فكرة الخلافة التي لا تعني شيئاً «كما أنني وجهت تحذيراً إلى الشعب بقولي: ينبغي أن نكف عن خطأ اعتبار أنفسنا سادة العالم»(v). ومع أن أتاتورك أعطى للقومية التركية حساً سيادياً، لكنه يحسب له أنه أبقى هذا الحس في إطار الدولة لا في إطار العالم، لكن لا يحسب له أن جعله خاصاً بالعرق التركي، لا بالمواطن التركي، لذلك كي تمضي الدولة في مشروع التخلص من وهم السيادة العرقية الخاصة بجماعة في إطار الدولة، عليها أن تفتح الدولة لتشكيل هوية أعراقية (جمع عرق) دستورية متساوية، لا يشعر فيها عرق بأنه فوق عرق آخر في الدولة.
هكذا نخرج الدولة من الكنيسة الكمالية، ومن الكنيسة العلمانية. لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون مشروع يأتي من خارج الكنيسة، إنه مشروع عضوية الاتحاد الأوربي.
شرعية الاتحاد الأوربي
يبدو مشروع عضوية الاتحاد الأوربي، الذي بدأت تركيا تتطلع إليه منذ 1963 وتوقف بسبب الانقلابات العسكرية في 1970 و,1980 اليوم، هو وسيلة الضغط على المؤسسة العسكرية، كي تفتح علمانيتها على ديمقراطية تعددية، وبحكم منطق التغيير فهذه المؤسسة اليوم مضطرة إلى إصلاح نفسها وتقليص وصايتها وإعادة تعريف مفهومها للكمالية، «لقد قامت المؤسسة العسكرية مراراً بإعادة تعريف الكمالية لكي تكون معاصرة لبيئتها»(vi).
يمكننا أن نقرأ هذه الإعادة من خلال انقلاب طريقة الجيش في الانقلاب، لقد قام الجيش بأربعة تدخلات مباشرة في الدولة، لكن تدخله الأخير وصف بأنه انقلاب ناعم، أو انقلاب ما بعد حداثي(vii)، وهو انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997 عندما حشد الجيش الرأي العام ووسائل الإعلام لفرض استقالة حكومة تحالف يقودها حزب الرفاه الإسلامي. لقد أخرج الجيش حزب الرفاه من السلطة السياسية، لكن من دون أن يسيطر سياسياً على السلطة. لقد فهم حزب العدالة والتنمية اللعبة، وجد أن شرعيته السياسية لن يكتسبها بإقناع الجيش بالخروج من كنيسته الكمالية أو كنيسته العلمانية، سيكتسبها، من المضي بمشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى الأمام، فقام بالتخلص من قياداته التقليدية، وحدّث خطابه السياسي، قبل بمبادئ السياسة الليبرالية، خصوصاً ما يتعلق باقتصاد السوق، وتمكن بعد فوزه في انتخابات 2002 من إنعاش الاقتصاد التركي، أزال ستة أصفار من العملة التركية في ,2003 وصار معدل النمو 7%(viii).
بهذا الإصلاح سيتمكن الأتراك من الخروج من وهم سيادة العالم الذي صاحب مشروع الخلافة، وقد جاء مشروع أتاتورك ليخرجهم منه، وسيتمكنون من الخروج من وهم سيادة العرق التركي، ومن وهم كمال الدولة الأتاتوركية، ومن وهم الكنيسة العلمانية، وسيدركون من موقعهم الجغرافي وحراكهم الثقافي والسياسي بالفعل أنهم وسطاء بين الحضارات «في العادة يرى عامة الأتراك أنفسهم كوسطاء بين الحضارات»(ix).
معاناة المحافظ
لا أدري ما هو المقابل اللغوي لمفهوم المعاناة في اللغة التركية، لكن هناك مشكلة تثيرها هذه الكلمة، ففي افتتاحية هذا المهرجان (مهرجان تشقروّة العالمي «Cukurova») قدم الكاتب السوري مالك صقر كلمة نيابة عن الكتاب العرب المشاركين في المهرجان، وأشار إلى أن الكتّاب الأتراك والعرب يشتركون في هموم المعاناة الإنسانية، فكل كاتب يعاني هماً إنسانياً يدفعه للكتابة. عبر الترجمة الفورية فهم المحافظ الذي جاء لافتتاح المهرجان، المعاناة بمعنى محافظ، فأشار في كلمته التي تلت كلمة الكتاب العرب إلى أنه يختلف مع مقدم كلمة الكتاب العرب، في مسألة المعانة، فالكتاب الأتراك لا يعانون من شيء، وكل الأمور ميسرة لهم، ولا قيود عليهم، وأن وضعهم على ما يرام.
لقد فسر البعض الاختلاف إلى خلل في الترجمة، يتعلق بالكلمة المعبرة عن المعاناة، لكن الأمر بدا فيما بعد أقرب إلى أن يكون سوء فهم يتعلق بمفهوم معاناة الكاتب وسوء فهم يتعلق بمفهوم الكتابة نفسها، فالمحافظ يبدو كان حريصاً على أن يظهر الدولة التي يمثلها كراعية وحاضنة للكتاب، وأنها تبلغ في تقديرها لهم أنها لا تترك فرصة للمعاناة كي تقترب منهم. والكتاب لا يختلفون عن بقية أصحاب المهن في الدولة في مفهوم المحافظ، ويبدو أنه قد فهم تعبير معاناة الكتاب بفهمه لتعبير معاناة العمال نفسه. لقد أصبحت كلمة المعاناة مادة أثيرة للسخرية بين الكتاب المشاركين في المهرجان، وصار الكتاب العرب، ينالون من الكتاب الأتراك حين يقولون لهم: أرجوكم أن تسكتوا فأنتم ليست لديكم معاناة.
في كلام المحافظ وجه مما تعانيه تجربة العلمنة الأتاتوركية، فقد صارت هذه العلمنة مقدسة ومحنطة وأنتجت موظفين بيروقراطيين يخشون النقد ويحرصون على أن يقدموا وجها رسمياً ينفي النقص، فالنقص ضد الكمال، والكمال في مفهومهم مشتق من مصطفى كمال أتاتورك الذي يعني الدولة الكمالية التي هي نفسها الدولة الكاملة. هنا تقع الدولة في تأليه لا نفسها، بل في تأليه نموذج منها، فتظل محنطة في هذا النموذج حتى يتحول إلى عبء عليها.

هوامش

جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص118
v ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص127
vi ) مجلة الثقافة العالمية، مسيرة العسكريين الأتراك نحو الاتحاد الأوربي، بقلم إرسل أيدينلي، نيهات علي أوزكان، دوغان أكياز، العدد,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص58
vii ) مجلة الثقافة العالمية، تركيا تتجه غرباً، بقلم سولي أوزيل، العدد ,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص.38
viii ) مجلة الثقافة العالمية، تركيا على الحافة، بقلم فيليب غودون وعمر تاسبينا، العدد ,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص.25
ix ) مجلة الثقافة العالمية، تركيا على الحافة، بقلم فيليب غودون وعمر تاسبينا، العدد,147 مارس/ آذار – أبريل/ نيسان ,2008 ص .40

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114830

انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك؟1-3

من يقتل كمال أتاتورك
من يقتل كمال أتاتورك

لتنزيل بروفايل جريدة الوقت من يقتل كمال أتاتورك؟ pdf

تتفاوت البلدان بتفاوت أفق انتظارك لها، هناك بلد تنتظره بأفق وبلد تنتظره من غير أفق، حتى كأنك لا تنتظره، تركيا، تكاد تكون البلد الأكثر انتظاراً بالنسبة إلى أفقي، والانتظار ليس حالة سلبية، كما تخبرنا أدبيات انتظار الخلاص، فهو حالة توقع، تدفعك إلى أن تمدّ عينينك إلى الأمام مرة وإلى الخلف مرة، والإنسان لا يمدّ عينيه إلا ليقرأ بهما ويؤول من خلالهما، لذلك فالانتظار نشاط تأويلي محكوم بأفق السياق الذي تعيشه. كانت تركيا، بالنسبة إلى أفقي، الجغرافيا التي لم أعاين تاريخها بحواسي كلها، والتاريخ يكون عصياً على الفهم حتى تمشي بقدميك في جغرافيته التي حدث فيها، وتاريخ تركيا عصي على الفهم أكثر لأنه تاريخ مازال يشتغل في الحاضر بلغات متعددة وحضارات متعددة وجغرافيا متعددة، فكيف يمكنك أن تقيم صلة أليفة مع هذا التاريخ، من غير المشي فيه؟
زهرة القطن
إذاً، لابد من المشي إلى تركيا وإن تأخر السفر، إنها زيارتي الأولى لتركيا، وهي تأتي تلبية لدعوة من «مهرجان تشقروّة العالمي» (Cukurova) الثاني، كنت بمعية الصديق الشاعر علي الجلاوي. كانت تجربة غنية في قراءة تركيا من جزئها الأقرب إلى العالم العربي، ففعاليات المهرجان الذي اتخذت من تفتح زهرة القطن البيضاء في الأراضي الزراعية المنخفضة شعاراً لها، كانت في مناطق أضنة ومرسين وأنطاكية التي يمكنك أن تراها من مدينة حلب السورية.

في هذه المنطقة الجغرافية لن تعدم عرباً أتراكاً، يتقنون العربية والتركية، ويحملون باتجاهاتهم اليسارية هموم القضايا العربية السياسية، ويسعون بحماس للانفتاح على الأدب العربي والثقافة العربية، وجزء أصيل من رسالة هذا المهرجان تكمن في التعريف بأدباء الشرق، وهذا ما دعا الأديب التركي الذي يتقن العربية بطلاقة محمد قراصو إلى أن يطلق على هذا المهرجان الذي يقام سنوياً ف ي أنطاكية في شهر مايو/ أيار عنوان «تلاقي أدباء الشرق الأوسط». وقراصو عضو في أكثر من عشرين جمعية أدبية في العالم، وهو باحث وقاص، وله مجموعة من المؤلفات الإبداعية والبحثيّة، كما له جهود عظيمة على صعيد التواصل الثقافي بين الثقافتين التركية والعربية، وهو بصدد إصدار أنطولوجيا عن الكتاب في الأردن وفلسطين.
أنت خبز
مع أنك لا تلمس حضور جلال الدين الرومي في الثقافة التركية بمقدار حضوره في الثقافة الإيرانية، التي تسمي كتابه «مثنوي» «قرآن بهلوي» أي «قرآن الفارسية». إلا أن تركيا كانت وفية لرأسه الذي لم يسقط فيها، لكنه استقر فيها، وأقامت فيه متحفاً باسمه، في «قونية» التي وصلها وفي الرابعة والعشرين، وتوفي فيها في 17 ديسمبر/ كانون الأول العام .1273
لكن هذا المكان قبل أن يكون قبراً وقبل أن يكون الآن متحفاً، كان تكية أنشأها جلال الدين لتكون بيتًا للصوفية، وتُعد من أجلِّ العمائر الإسلامية وأكثرها روعة وبهاء بنقوشها البديعة وزخارفها المتقنة، وثرياتها الثمينة، وطُرُزها الأنيق، ويظهر على الضريح بيت من الشعر يخاطب به «جلال الدين» زواره قائلاً:
يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدِّ الرحال
قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال..
لقد جعلت اللغة التركية جزءاً منها لصيقاً باسم الرومي، حين منحته من تقاليد لغتها لقب «مولانا»، أي أستاذنا وسيدنا باللغة التركية، ومع أن الكلمة عربية، لكنها في هذا الاستخدام تركية. صار هذا اللقب خاصاً به، ولا يحضر اسم جلال الدين إلا مسبوقاً بـ «مولانا». لقد استحق جلال الدين هذا اللقب، لأنه أستاذ في هداية القلوب والعقول وتوجيهها لتبحث عن ذاتها وتكتشفها، ويمكنك أن تعرف عما تبحث، وعما تبحث في تركيا خصوصاً، ومن أنت، أو من ذاك الذي يمكن أن تكونه في تركيا، حين تقرأ عبارته «إن كنت تبحث عن ضيفك فأنت إنسان، وإن كنت تبحث عن لقمة خبز فأنت خبز، وإن كنت تعرف هذه الجملة يعني أنك تعرف العمل.. عن ماذا تبحث فأنت ذاك». كانت عبارة «مولانا» مصباحي في تركيا، عن ماذا كنت أبحث في تركيا؟ التجربة العلمانية لتركيا، هي ما كنت أبحث عنه، وهي الأكثر انتظاراً في أفقي المشحون بتاريخ تركيا الطويل، وجدت نفسي أبحث عن العلمانية الأتاتوركية، ومع أني أعرف أني علماني، لكني لست علمانياً أتاتوركياً، وللدقة أنا كنت أبحث عن مآلات العلمنة الأتاتوركية، فأنا علماني يحسن الإصغاء إلى هذه المآلات.
دكتاتورية إصلاحية
منذ المرحلة الثانوية، بدت العلمانية الأتاتوركية، لأفقي الإسلامي، تغريباً، يحاول النيل من الإسلام، ولاحقاً بدت العلمانية الأتاتوركية – كما تلقيتها من محمد أركون – لأفقي العلماني، دكتاتورية تمارس استبداداً، باسم الحداثة. لم تكن تمثل العلمانية القائمة على احترام تعددية الحقيقة والعرق والدين والثقافة. وبسبب غياب هذه التعددية أصبحت هذه العلمانية شكلاً من السلطة لم تعرف حتى التعددية الحزبية إلا بعد مضي 23 عاماً من حكم الحزب الواحد الذي تمكن من التغلغل في الدولة والاستفراد بالنطق باسمها وباسم مصلحتها وسياستها العليا وأمنها الأعلى، وهذا جعل العلمانية الأتاتوركية دكتاتورية إصلاحية(i)، يصعب أن يُطلق اسم «الديموقراطية» عليها، كما يقول أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة الألمانية كلاوس كرايزر. غير أن هذه الدكتاتورية الإصلاحية، هي أساس جمهورية تركيا، الذاهبة اليوم بعيداً في سباق أن تكون دولة أوربية، مكتملة التجربة.
الأتاتوركية ليست مجرد صفة تاريخية للعلمانية التركية، أي مجرد صفة تشير إلى لحظة تاريخية تذكر باسم شخص، بل هي تشير إلى حدث تأسيسي يشبه الحوادث التأسيسية للديانات التي تظل مرتبطة بأسماء أنبيائها، ولا تغادرهم، فكما نقول الديانة المحمدية، نقول العلمانية الأتاتوركية، وكذلك نقول الدولة الكمالية، بالمعنى نفسه الذي يشير إلى نمط الدولة التي أسسها كمال أتاتورك «الكمالية أي عبادة الدولة الموضوعة فوق المجتمع والمكلفة بصنع الأمة»(ii).
لقد استندت الكمالية في تحقيق فوقيتها إلى الجيش الذي مازال إلى حد كبير، يختزل الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في القومية، من دون أن يتمكن من أن يستوعب أن «القومية مرحلة معينة بتاريخ الشعوب»(iii)، وأنها قابلة للتحديث باستمرار. ويعتبر «مصطفى كمال باشا» المولود في العام 1881 في المدينة المقدونية تسالونيكي، التي كانت حتَّى العام 1912 عاصمةً لإحدى الولايات العثمانية، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة. أمَّا لقبه «أتاتورك» فقد أُطلق عليه بأمر منه مع نهاية مسيرة حياته في العام 1934 من قبل مجلس الشعب التركي (البرلمان). إلاّ أنَّ العالم يعرفه باسم «أتاتورك» (أبو الأتراك) – هذا الاسم يختلف عن اسمه الأوَّل «مصطفى» ويختلف عن الاسم الذي أطلقه معلِّمه عليه «كمال». كذلك لم ينس الناس في تركيا اسميه الفخريين «غازي» و«خلاصكار» (أي المنقذ والمخلِّص).
قتل أتاتورك
تركيا بحاجة إلى قتل الأب، والقتل هنا، ليس حرفياً، فقتل الأب مفهوم، يحيل في الميدان النفسي والأدبي إلى التخلص من سلطة الشيء الذي يسبق ويمارس عليك حضوراً طاغيا يحول دون تخطيك أو تجاوزك له، تركيا، تبدو اليوم، في مخاضاتها العسيرة، تقاوم قتل أبيها الحديث، وهناك من يقف من دون ذلك، وهناك من يهدد بالثأر إن حدث ذلك، وهناك من يطلق صيحات التحذير التي تقرأ في كل حركة تهديداً بهذا القتل. وليس هناك أكثر قتلاً لأب الأتراك أو تهديداً بقتله أو الخطوة على طريق قتله، من الحجاب ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وحركات الأكراد الانفصالية التي أتاح لها غزو العراق إمكانات انفصال تراها الدولة ممكنة أكثر من أي وقت مضى.
يأتي الخوف من هذا القتل من جهات عدة: من جهة الأقليات العرقية التي لم تتسع لها علمانيته القومية، ومن الاتجاهات الإسلامية التي لم تتعدد بها علمانيته، ومن الاتجاهات الليبرالية التي لم تتمقرط وفقها علمانيته، ومن الاتجاهات اليسارية الأممية التي لم تستوعب علمانيته إنسانها.
كانت تركيا تمثل أبوة العالم الإسلامي، وهي بهذه الأبوة الإسلامية استوعبت في عاصمتها أعراقاً مختلفة، وإذا كانت علمانية أتاتورك، قد تمكنت من قتل هذه الأبوة الرمزية متعددة الأعراق والثقافات بأبوة خالصة التتريك، أي بأن يكون أبو تركيا أباً للأتراك وحدهم، فإنه لم يتمكن من قتل هذه الأعراق فعلياً رغم تاريخ الاضطهاد، ولم يتمكن من قتلهم رمزياً ليكونوا أتراكاً بالعرق والثقافة، بدل أن يكونوا أتراكاً بالمواطنية.
الخط الأحمر
حين سألت مرافقنا ومترجمنا الدائم أسعد جوناي: ما أبرز القضايا الساخنة في تركيا؟ قال تغلغل التدين في جسد الدولة والمجتمع عبر واجهته الأبرز «حزب العدالة والتنمية»، والهويات القومية غير المستوعبة في الدولة، وفي مقدمتها القومية الكردية.
أسعد جوناي، في العقد الخامس من عمره، عربي تركي، درس الطب في سوريا حتى السنة الرابعة، وعمل في إذاعة دمشق أثناء دراسته الجامعية، انخرط في اليسار الماركسي منذ سنواته الجامعية، يمتاز بشخصية مبدئية وفية لتكوينها الأيديولوجي، فهو يساري في IMG_3779كل شيء، يترحم على الاتحاد السوفيتي، ويلعن بنبرة صوتية (شيعية علوية) مفككي الاتحاد السوفيتي، يتحدث عن علويته التي غادرها منذ صباه، بروح علمانية، لكنه لا ينسى أن يشيد بانحياز (الطائفة العلوية) للحق والعدالة التي كانت تجده في نموذج الإمام علي، وهو يتحدث عن الإنسان الأممي الخارج من أطره الدينية والقومية والمذهبية، ويتحدث عن العمال وانخراطه في نقابتهم، وعمله اليدوي اليومي الذي يفاخر به، بالمستوى الذي يفاخر به بقراءاته للأدبيات الماركسية الأساسية وإلمامه بحركات المعارضة والثورة في التاريخ الإسلامي، وهو لا يكف عن تكرار أن الإنسان مجرداً من أية إضافة هو مرجعيته في النظر إلى الأمور.
يقول «لدينا حرية في تركيا، لكن هناك خطاً أحمر، اسمه أتاتورك، لا يمكنك أن تتجاوز هذا الخط، لقد صار مقدساً، وعليك أن تلتفت يمنة ويسرة فقد يكون هناك مخبر، مهمته حراسة هذا الخط الأحمر من جرعة الحرية التي قد يفهمها الناس بشكل يفوق سقف هذا الخط. هناك خوف ليس على الدولة، بقدر ما هو خوف على تراث الأبوة الرمزية لمؤسس الدولة».
هوامش
i ) موقع قنطرة:

http://www.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-340/_nr-39/_p-1/i.html

ii ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص102
iii ) جورج طرابيشي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية ـ إسلامية، ص102

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114529

هل النساء مقياس الديمقراطية؟

مع تزايد الحظوظ النسائية في الفوز بمقاعد نيابية في انتخابات مجلس الأمة 2008، استبدل الخطاب الاجتماعي المضاد لترشح المرأة وتمكينها من حق الانتخاب، بلاغة الهجوم والجدية المفرطة في المعارضة، وأدوات الفتاوي وأحكام الولاية العامة والخاصة، لقد خفف أو استبدل هذه البلاغة، ببلاغة السخرية، وكأنه ضمنياً يعد نفسه لتقبل حقيقة أن المجلس النيابي لن يكون مجلس ذكور ينوبون عن المرأة وغيرها، بل سيكون مجلس إناث أيضا، وسيتولون النيابة عن المرأة وغيرها.

cvhyftryur ولم تجد هذه البلاغة أفضل فاعلية من المسجات التلفونية(SMS)، التي تتداولها النساء قبل الرجال، فإحدى الليبراليات الأكاديميات، حين سألتها عن تقييمها لحظوظ المرشحات في الفوز، أرسلت لي المسج التالي:

مصطلحات برلمانية نسائيه جديدة:

شهالمصاخه : (سؤال نيابي)

شهالعبّو : (نقطة نظام)

شدعوه ياحافظ : (إستجواب)

سليمة تصكك ومالت عليك : (طرح ثقة)

هو هو هو : (اختلاف وجهات النظر)

في النكتة سؤال نيابي، لكنه ليس من نوع (شهالمصاخة)، إنه من نوع ( واخزياه)، بمعنى، أن النكتة تسأل بالنيابة عن الجميع: هل سيوقعنا التمثيل النيابي النسائي في حرج، وذلك بأن يتحول المجلس النيابي إلى مجلس نسائي، تحكمه النساء ببلاغة (شهالمصاخه، شهالعبّو، شدعوه ياحافظ) التي تقارب الأشياء وتحكم عليها، بأعراف المجالس النسائية، وهي أعراف توطن نفسها للنيل من الآخرين من منطلق الذاتية والمزاج والغيرة والهوى، على عكس البلاغة الرجالية التي تحكمها أعراف الحق والعدل والعقل والحكمة والجدية وابتغاء وجه الله والحقيقة.

كان هذا منطق الديمقراطية اليونانية التي هي آدم الديمقراطيات، كانت تضع النساء والصبيان والعبيد في خانة من لا عقل لهم ولا بلاغة لهم، من ثم فهم لا يستطيعون أن يكون في مجلس المدينة. وهذا وجه من وجوه هذه الديمقراطية التي لم تمثل الإنسان مجرداً عن جنسه ولونه وعرقه.

كما كانت الديمقراطية اليونانية تقول الإنسان مقياس الأشياء كلها، يمكننا أن نقول المجتمع مقياس الديمقراطية، فالديمقراطية تأتي وفق معايير المجتمع ومقاييسه وأحكامه، والديمقراطية الكويتية في موقفها من المرأة، إنما تكشف مجتمعها ومنسوب حظه من الديمقراطية ومنطقها، وهو يعيش اليوم منتصف عقدها الرابع.

كانت المرشحة (رولا دشتي) الأكثر حظاً بالفوز تقول:" أنا أفكر بطريقة منفتحة وأقدم خطابا جديا وعمليا . خطابا يعتمد على الحلول وليس الشكوى". كأنها بهذا الخطاب ترد ضمنيا على منطق ديمقراطية مجتمعها الكويتي الذي لم ينصفها بعد، ولم ينصف تقييمه لبلاغتها التي ما زال يراها بلاغة مجالس نسائية وليست مجالس نيابية.

(هذه الفقرة نشرت خطأ بالجريدة وأعيد نشرها مصححة)

في يوم الاقتراع، اختلقت جريدة ”الشاهد” الأسبوعية، صورة قديمة لرولا دشتي مع السيد حسن نصر الله مرتدية الحجاب. تأتي هذه الصورة كأداة انتخابية توظفها الجريدة ضد دشتي، في وسط ذو ذائقة سياسية معينة. وكأن بلاغة الخطاب المضاد حين أعجزته بلاغة المرأة التي ظهرت بها رولا دشتي، لجأ إلى حيلة أخرى، وكي يحمي نفسه قانونياً وإعلامياً وأخلاقيا، استخدم بلاغة مفضوحة يقول فيها " ويقال إن الصورة مفبركة". ولكن البلاغة المفضوحة لا تحمي صاحبها من الاختلاق والفبركة. فالاختلاق ليس تركيب صورة، بل تركيب خطاب الصورة. وحتى لو كانت الصورة صحيحة، فالخطاب ليس صحيحاً بل مختلقاً ومدان أخلاقيا حتى لو كان بريئاً قانونياً.

يرصد أحد التقارير شعبية (رولا دشتي) بقوله أن شعبية (رولا) تمتد حتى في أوساط الرجال الذين يرون فيها امرأة رصينة وتتحدث بطريقة واقعية وليست " نسائية شعبية". لا أحد يقول عن مرشح رجل إنه يتحدث بطريقة واقعية وليست "رجالية شعبية". لماذا لا يقول أحد ذلك؟ لأن الشعبية تصف بلاغة النساء (عقلهم ومنطقهم ورؤيتهم للأمور) لا لغتهم، فالرجل حتى لو تكلم بالعامية، تبقى بلاغته واقعية ورصينة.

هكذا، الديمقراطية مازالت بعد لم تنصف حتى منطق بلاغة النساء فضلا عن النساء، ومازالت تجد فيها بعد أربعة عقود، مادة للسخرية، وإمعاناً في منطق السخرية، تسوق نكتة أخرى، شكل المجلس الجديد الذي ستشكله هذه البلاغة، بقولها:

"المجلس اليديد :

حمرة طايحة تحت الكرسي .

شيلة شوارسكي ناسينها .

علج بصري لازق على الطاولة .

فاتورة الجمعية بين الأوراق .

ووحدة تكلم السايق : بابو عقب ماتقط سبجو المدرسة مرني ، وييب وياك نص دينار سمبوسة"

للنكتة قدرة تمثيلية وقدر نيابية، فهي تمثل الأصوات الاجتماعية على اختلافها، وهي تنوب عن القوى الاجتماعية في التعبير عن موقفها من الأحداث والتغيرات والمستجدات. وربما تكون النكتة النسائية هي الأكثر تمثيلاً والأكثر نيابية، وذلك لأنها تعبر عن قطاع لا يملك قوة كافية للتعبير الصريح، ولأنها من جانب آخر تعبر عن القطاعات المحافظة التي تجد حرجاً في معارضة المشاركة النسائية في ظل الوعي الجندري، وفي ظل غلبة الخطاب الإعلامي الداعم للمرأة ولحضورها في الميدان العام.

تبقى البلاغة النسائية قادرة ترطيب المصطلحات البرلمانية الجافة (استجواب، نقطة نظام، طرح الثقة) بلغة أقرب إلى الشعب، ومن يملك اللغة الأكثر قرباً من الشعب، فهو الأجدر بتمثيله والنيابة عنه، فهل سيشهد البرلمان الكويتي

فهل سنقول لرولا دشتي أو أسيل العوضي أوسلوى الجسار (قرة عينش) بشوفة قاعة المجلس المستطير بعيون الرجال التي لا تبرد قلب الوطن.أم سنقول (غميضة) ولا قرة عيون الرجال؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6968

http://www.awan.com.kw/node/69709

مراجعة كتاب طوق الخطاب لحامدي

ظاهرية ابن حزم أو تطويق المطوًّق: قراءة في كتاب طوق الخطاب لعلي الديري

بقلم: مبارك حامدي

ملحوظة: منشورة في العدد الأخير من مجلة البحرين الثقافية.

طوق الخطاب ( دراسة في ظاهرية ابن حزم) كتاب الباحث علي أحمد الديري صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، وعن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة بالبحرين أواخر سنة 2007، ويمكن إدراج هذا الكتاب في سياق القراءة الفلسفية اللسانية لأحد روافد الفكر الأصولي الإسلامي، وكان مقصد الدراسة تقليب النظر في الأسس الفلسفية واللغوية التي شكّلت الرؤية الظاهرية في قراءة الخطاب الديني المؤسس متمثّلا في القرآن والسنة، وكان من أهداف المؤلِّف في هذه الدراسة بلورة المفاهيم التي استند إليها ابن حزم، وإظهار المضمر منها، والربط بين مفاصل " النظرية الظاهرية" والكشف عن مسبّقاتها وفرضياتها ومسلماتها التي اشتغلت في بناء نظرية المعرفية وإشكالية الفهم، انتهاء بالجانب التطبيقي، وهو تفسير الخطاب، وسنحاول في سياق هذا التقديم تبيّن منهج الكتاب في بلورة النظرية الظاهرية وحدوده، والوقوف على ما توصّل المؤلف إلى بنائه من الفكر الظاهري مُظهره ومضمره، أصيله ووافده.

إdairy cov

شكالية التسمية: طوق الخطاب

أشار المؤلف في تصديره إلى الطابع الضدّي لمعنى "الطوق"[1] ، فهو يعني القيد كما يعني القدرة والطاقة والوسع، ولهذا الطابع الضدّي أساس مكين في توصيف منهجنا وفكرنا في مباشرة الأشياء والأفكار، ففي الوقت الذي يحدّ فيه المنهج من رؤيتنا بفرض قواعد وزوايا للنّظر بعينها ، يفتح لنا آفاقا ، ويكسبنا قدرة على ارتياد تلك الآفاق، فهل يمكن أن نقول بذات المعنى إن قراءة الديري لابن حزم هي نفسها طوق يحدّ ويُقدر في آن، وأن قراءتنا لقراءته طوق أيضا، وهكذا تصبح كل قراءة طوقا، ولا تحمل سمة الزينة والجمال منها إلا ما وسّعت وأقدرت وفتحت لا تلك التي ضيقت وحدّت وأغلقت؟

إن اختيار المؤلف لهذا العنوان – بما هو علامة – يكشف عن فهم لوظيفة القراءة الضدية، وما تطرحه من صعوبات قد لا يكون أهونها لبتر المدوّنة المقروءة وتضييقها أو تسطيحها وابتسارها.

في بنية الكتاب ومضمونه:

قسّم المؤلف الكتاب إلى فصول أربعة مع مقدمة وخاتمة

– الفصل الأول: نظرية المعرفة الظاهرية

– الفصل الثاني: فهم ابن حزم للظاهرة اللغوية

– الفصل الثالث: الظاهرية ومشكلة الفهم

– الفصل الرابع: قوانين الظهور ( قوانين تفسير الخطاب)

يلاحظ المتأمّل في بنية البحث تدرج المؤلف من العام إلى الخاص، ومن الأصل إلى الفرع، ومن التنظير إلى التطبيق، وهو ما أضفى على الدراسة تمشّيا متماسكا وتمفصلا واضحا بين الأقسام يفهم فيه اللاحق في ضوء السابق، وهكذا يظفر القارئ برؤية واضحة للنظرية الظاهرية في كلّياتها وجزئياتها، لا بل إن تحديد الكليات يجعل ما لم يذكر من التفاصيل واضحا بمجرد تطبيق الأولى على الثانيةغير أن مضمون الفصل الثالث: الظاهرية ومشكلة المعرفة، كان أشبه أن يكون – في رأينا – أن يلي الفصل الأول، وذلك لأن إشكالية الفهم شديدة الصلة بنظرية المعرفة وهي كالمنطوية تحتها، لا تحت الظاهرة اللغوية التي سبقتها، وهي أقلّ عموما إن شئنا مراعاة هذا المقياس أيضا،وممّا يدلّ على الاتّصال الوثيق بين نظرية المعرفة وإشكالية الفهم عودة الباحث إلى الحديث عن العقل والعقلانية، وموانع الفهم (أي المعرفة) في ثنايا القسم الثالث المخصّص لمعالجة قضية الفهم[2]

ونختم التعليق على بنية الكتاب بملاحظة شكلية تتمثّل في انعدام التوازن بين الفصول بشكل واضح بحيث دخل الضيم على تساويها (أو على الأقل تقاربها )، فكان أطول الفصول هو الفصل الرابع: قوانين الظهور(61صفحة) بينما كان الفصل الثالث الموسوم بـ:فهم ابن حزم للظاهرة اللغوية في(39 صفحة) فقط، واستأثرت نظرية المعرفة بـ: (59 صفحة) والظاهرية ومشكلة الفهم بـ: (45 صفحة)، فكيف يمكن فهم "تهميش" إشكالية اللغة، وهي من البحث في قلبه، وعليها مدار الدراسة من حيث هي "عمدة الخطاب"؟

الفصل الأول: نظرية المعرفة الظاهرية

تدرج المؤلف في تحليل نظرية المعرفة من الأسس المعرفية إلى العقل وفاعليته إلى مفهوم الحقيقة وصولا إلى أدوات التفكير اليقينية، متوخّيا في كل مستوى تعريف المفهوم عموما ملتمسا تجسّده عند ابن حزم ملمّا في جميع ذلك بأجزاء المفهوم ومعانيه، وآية ذلك عرضه لمفهوم المعرفة، فمعنى التسويغ والأسس والأصول، وقس على ذلك في تناوله لفاعلية العقل، فقد عرض لمفهوم العقل في المعاجم الفلسفية، ففاعلية العقل، فمعانيه ووظائفه عند ابن حزم، وصولا إلى موقفه من مصادر المعرفة المناوئة للعقل الخ…

صدر الباحث، مستندا إلى موسوعة لالاند الفلسفية،من عدد من الأسئلة الفلسفية العامة التي على أساسها تتحدّد اختيارات المفكر في مباشرته لموضوع تفكيره، وهذه الأسئلة هي: ما المعرفة ؟ كيف تعرف الذات موضوعها؟ ما المشكلات الفلسفية الناشئة عن العلاقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك،أو بين العارف والمعروف؟ إلى أي حدّ يبدو ما يتمثله البشر مماثلا لما هو قائم؟ وكيف يمكن للذات أن تثق بصحة معرفتها، أو أن تتيقّن من معرفتها؟ وكيف تبرر معرفتها؟ وإلى أي مصدر تستند في تسويغ معرفتها أو يقينها؟[3] وتعتبر هذه الأسئلة، بحق، الأساس الفلسفي المتين الذي تتحدد وتتمايز المشاريع الفكرية بحسب نوع الإجابة عليه، وكان ما تلا هذا المهادَ النظري بحثا من قبل المؤلف عن إجابات ابن حزم عليه، ساعيا بذلك- أي المؤلف – إلى تطويق المدونة، وإبراز اختياراتها الفلسفي، وانتهى إلى أن ابن حزم قد طلب المعرفة في درجتها اليقينية التامة، وهي المعرفة التي مبرهنة مطابقة للشيء تمام المطابقة، وأن ضمان تلك اليقينية هذه المطابقة تتأتّى من مصدرين لا يرقى إليهما الشك في رأيه، وهما الحسّ والبدهيات الضرورية أو ما يسميه بأوليات العقل[4] وفي هذين المصدرين كلام يطول يبدأ بخداع الحواس عند ديكارت(ت.1650)، ولا ينتهي بمسبّقات العقل عند كانط (ت.1804)، غير أن الباحث لم يخصص قسما لنقد ابن حزم ، وهو اختيار لم يلزم نفسه به، وإن كنا نرى عكس ذلك إن رمنا تطويق فكر ابن حزم حقيقة أي بيان قدرته وطاقته التفسيرية.

وفي معرض تحليل الكاتب لفاعلية العقل في خطاب ابن حزم بين مفهوم العقل في المعجم الفلسفي مركزا على هذا المفهوم عند ابن سينا، وعلى ما ورد في موسوعة لالاند الفلسفية متوسلا بهما إلى معاني العقل عند ابن حزم ووظائفه، ولئن تتبع المؤلف معاني العقل عند ابن حزم، فعدد منها أحد عشر معنى، مرجعا إياها إلى أصولها الأرسطية، ومبينا اختلاف ابن حزم عن أرسطو في اعتبار العقل كيفية عند الأول وجوهرا عند الثاني، رغم استناد المشروع الظاهري إلى المنطق الأرسطي ونظريته في المعرفة، ولئن شرح المؤلف ذلك، فإنه في رأينا قد فاته أن يعلّل ذلك أن العقل عند ابن حزم هو عقل الاسم وعقل النص، بينما هو عند أرسطو عقل الفعل بالمعنى الذي يتبنّاه الفيلسوف المغربي عبدالله العروي في كتابه مفهوم العقل[5]، وإن كان قد أشار إلى خصوصية العقل عند ابن حزم في أنه منقاد إلى الشّرع أي النص[6]

أما إيراد معاني العقل عند ابن سينا ولالاند فلم نر توظيفا له في حدّد العقل عند ابن حزم، إذ لم نجد مقارنة أو تعليقا أيّا كان نوعه بحيث يمكن الاستغناء عنه دون أن يحس القارئ بأيّ خلل في التحليل، فقد أحاط المؤلف بالعقل عند ابن حزم إحاطة شاملة، وربطه بأصوله الأرسطية، وبيّن وجوه الاختلاف بينهما، غير أنه كان بالإمكان في المقابل العودة إلى مفهوم العقل في اللغة العربية والبحث عن صلة ما بين معاني العقل كما وردت عند ابن حزم ومعانيه، وبين تلك التي وردت في المعاجم، وهي صلات موجودة من منظور فيلولوجي (أي آني)، ولئن افتقرت العربية إلى معجم إيتيمولوجي يؤرخ لأصول معاني المفردات وتطورها كما هو معروف في اللغات الأخرى، فقد ركن الباحثون في ظل هذا النقص إلى التدرّج من المعاني العامة إلى المعاني الخاصة ومن المعاني المحسوسة إلى المعاني العقلية، ومن المعاني الحقيقية إلى المعاني المجازية، على اعتبار أن المعاني العامة والمحسوسة والحقيقية أسبق معرفيا وتاريخيا[7]، وأن الأولى أصيلة والثانية مولّدة، ومن تلك المعاني: الربط والإمساك والحبس والدّيّة والتقلص والإسقاط وصولا إلى الدلالة على معنى الفهم والإدراك، دون أن تنفك هذا المعاني الثواني عن ظلال المعاني الأول[8]، ولا شك أن ابن حزم كان ، وهو يحدّ العقل، واقعا تحت تأثير اللغة التي يكتب بها ويفكر من خلالها، من خلال مجازاتها وتصوراتها للأشياء والعالم.

أما الأمر الثاني الذي نرى أنه كان من الواجب الإشارة إليه واستثماره في توضيح معاني العقل عند ابن حزم وخاصة في معرض بيانه لمدى فاعليته فهو علاقة العقل بموضوعه من حيث القدرة المحدودة أو غير المحدودة على الإحاطة بموضوعه، فإذا كان المذهب التجريبي والمادي والذرائعي والوجودي يرى محدودية العقل،فإن المثالية والحدسية والماهوية والقصدية أو الظاهراتية ترى لا محدودية العقل [9] ، ويقع تصور ابن حزم للعقل في منطقة وسطى ، فهو يرى أن العقل عاجز عن فهم الحروف المقطعة في أوائل السور مثلا، وهو عاجز كذلك عن إدراك ماهية الجوهر المتعالي.

إن استحضار كل هذه الأبعاد كان من شأنه إدراك حصريّة ابن حزم ومحدودية فهمه لفاعلية العقل، ورفضه لما أسماه بمصادر المعرفة المناوئة للعقل كالقياس والتأويل الاستقراء لأنها في رأيه من الظنّيات، وانحيازه لما سمّاه بالبرهان، وهو برهان يقع ضمن النص، وإن استند إلى البدهيات وأوليات العقل ينشد بهما معرفة يقينية, كما يقول.

الفصل الثاني: فهم ابن حزم للظاهرة اللغوية

حلّل المؤلف أصل اللغة عند ابن حزم، وشدّد على تميّزه بالقول بأن اللغة والإنسان متزامنان استنادا إلى النص القرآني، وأن اللغة الأصلية التامة الكاملة قد اندثرت، وحتى إذا كانت موجودة فأننا لا نعرف هذه اللغة على وجه التحديد، وبذلك ساوى بين اللغات الموجودة، واستبعد القول بفضل بعضها على بعض، وتكمن أهمية هذا الرأي كما يقول المؤلف، بحق،أن ابن حزم يعترف بالبعد الميتافيزيقي، ولكنه يستبعده، فيحرر بذلك اللغة البشرية من الأحكام المعيارية غير الموضوعية المفاضلة بين اللغات،ثم عالج المؤلف علاقة الأسماء بمسمّياتها عند ابن حزم، وتوقف عند قوله بأن المسميات هي المعاني من أشياء وموجودات حسية وذهنية، أما الأسماء فهي عبارات عنها[10] وقد ألمح الكاتب إلى علاقة هذه الإشكالية بشواغل كلامية تتعلق أساسا بالذات الإلهية: هل الاسم علامة تشير إلى مسمّاها، أم أن الاسم هوعين المسمّى؟

ومن المفاهيم المركزية التي حلّلها المؤلف مفهوم البيان لدى ابن حزم الذي عرفه بأنه أن يكون "الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه" فالبيان، كما يقول المؤلف،معلق بشرطين هما: الإمكان والإرادة، وبذلك فإن المعنى يقع ضمن منطقة الإشكال والالتباس، ولا يمكن له،أي المعنى، أن يخرج من هذه المنطقة إلى منطقة إمكان الفهم حقيقة إلا عن طريق التبيين أو الإبانة، وهذا خلاف ما روّج له المعادون للظاهرية الذين فهموا ظاهر المعنى بمعنى المظهر أو السطح الذي يحتاج إلى إمعان وتفكر واستخراج[11]. ويسترسل الأستاذ الديري في معالجة الظاهرة اللغوية عند ابن حزم، فيبين مفهوم اللغة وعلاقته بالفكر، مميّزا بين لغة الإنسان ولغة الحيوان، موضّحا أنه لا يصحّ إطلاق مصطلح لغة إلا على ما توفر فيه شرط التصرّف والقصد في مقابل الطبع والعفوية.

ولما كانت اللغة هي التصرف في العلوم والصناعات كانت والفكرَ شيئا واحدا أو لنقلل: وجهين لشيء واحد هو الإنسان[12]

وقد كان همّ الباحث أن يبين أن إصرار ابن حزم على ر بط الأسماء بمسمّياتها، وتعريف البيان على ذلك النحو إنما كان لأنه -أي ابن حزم- يعتبر اللغة هي الوسيلة التي لا يمكن من دونها الوصول إلى حقيقة الأشياء، وليتمّ ذلك لا بدّ أن يدلّ كل لفظ من ألفاظها على معناه الحقيقي من غير تشغيب، ويكشف هذا الحرص على اندراج نظرية ابن حزم برمتها، ومفهومه لظاهرة اللغة في صلب الحجاج والردّ على باقي المذاهب التي توسّعت في التأويل إلى الحدّ الذي صار معه المعنى الأصلي استثناء، والمعنى المجازي المعدول به عنه قاعدة، غير أنه كان بوسع الباحث أن يشير إلى آثار الأخذ بنظرية ابن حزم التي تتلخص في أن "الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضى لفظه فقط" المنبنية على فرضية منطقية مفادها أن "القضية لا تعطيك أكثر من نفسها"[13] . كان بإمكان الباحث أن يبين الوهم القائل بأن اللغة تعبر عن الأشياء، أو هي الوسيط المباشر بين الذات والموضوع، إذ الأمر أبعد من ذلك، يقول الفيلسوف الألماني جوتلو- فريجة: " إن مرجع اسم علم هو الشيء ذاته مما نشير إليه بهذا الاسم،، أما التمثل الذي نربطه به، فهو ذاتي خالص، وبين الشيء والتمثل، وعلى حدودهما يكمن المعنى الذي هو ليس ذاتيا كالحال مع التمثل، وأيضا ليس هو الشيء ذاته"[14] ، فبيننا وبين الشيء تمثّل هو أمر ذاتي، ومعنى هو بين الذاتية والموضوعية، وخطورة نظرية ابن حزم تتمثل في تطويق الخطاب القرآني والنبوي بزعم إمكانية القبض على معنى واحد صحيح مرة واحدة وإلى الأبد، وهو تسطيح وتحكّم تكذبه نظريات اللغة والقراءة والتأويل الحديثة، ولهذا المذهب تعلق بمفهوم الحقيقة كما تصورها ابن حزم: حقيقة واحدة مكتملة وموجودة، وما على العقل البشري إلا اكتشافها، ويمثل هذا الاعتقاد بداية كل إرهاب وتسلّط.

الفصل الثالث:الظاهرية ومشكلة الفهم.

عرض الباحث في هذا القسم إشكالية الفهم، فبين ما تطرحه من ثنائيات كالجوهر والجسم والظاهر والخفي والقراءة الصحيحة و القراءة الباطلة، ومفهوم الدليل الخالص والعقل الخالص منتهيا بقراءة نقدية لكل ذلك في ضوء مفهوم انصهار الآفاق عند جادامير، وما يمكن التفكير فيه، وما لا يمكن التفكير فيه عند محمد أركون والحجاج والبرهان عند طه عبد الرحمان واضعا قراءة ابن حزم في إطارها التاريخي الذي حاولت الإيهام بتجاوزه، وإعلان الحقيقة المطلقة، فبيّن الباحث انشداد قراءة ابن حزم إلى الشرط التاريخي والحضاري واللغوي الذي أنتجت فيه، وتفاعلها مع قراءات أخرى مضمرة مثّلت بالنسبة إليها آفاقا ساهمت في تشكلها بطريقة أو بأخرى، إلاّ أن ذلك كان بشكل موجز جدّا، وقد رأينا آنفا أن هذا الفصل يلحق إشكاليا ومنهجيا وبمباحث الفصل الأول الموصولة بإشكالية المعرفة.

الفصل الرابع: قوانين الظهور ( قوانين تفسير الخطاب)

يستهل المؤلف هذا الفصل بالتذكير بالأداة المعرفية التي توصل إليها الخطاب الظاهري وهي "الدليل"،وكان قد بسط القول فيه في الفصل الثاني[15]، وأعاد التذكير في هذا الفصل بأهميته وكيفيته اشتغاله وعلاقته بالنص المقدس بشقّيه: الإلهي والنبوي، مبينا أن هذا النص نفسه دليل، وأن دلالاته تظهر عبر آليات الخصوص والعموم والاستثناء والتخصيص والنسخ، وهي آليات تتجاوز حدود علم النحو إلى علم الخطاب.ككل ذلك في إطار رؤية تنظر إلى النص باعتباره بناء منسجما كآية واحدة،وإن فُرّقِت في التلاوة والقراءة، دليله فيه لا في خارجه، ولا يمكن فهم ما فيه إلا وفق ما يعرضه هو، وما يبدو لنا تعارضا ينبغي أن يعالج " داخليا"بين أجزاء النص وفق الآليات التي عرضها كالنسخ والخصوص والعموم والانطواء الخ…

ويشير المؤلف إلى أن موضوع الخطاب الأصولي الذي عمل ابن حزم على إظهاره من العمق إلى السطح هو (الأمر)، وبذلك فالخطاب " بالنسبة له مجموعة من الأوامر التي يجب فهمها استنادا إلى مرجعية نظرية "[16]

ويسترسل الأستاذ الديري في هذا القسم الإجرائي التطبيقي في ضوء ما بينه من خطوط نظرية عند ابن حزم، فيستعرض وظائف الدليل في (الأمر) وصيغ الأمر وعلاقة الفعل بالأمر وصفة الأمر الخ… وهو لا يتناولها من وجهة نظر نحوية أوبلاغية بل خطابية متلبسة بقضايا لاهوتية على نحو ما فعل في التمييز بين الفعل والأمر، قال:" يرد الأمر في صيغة خطاب يفرض فرضا، أما الفعل فهو يقوم به النبي مجردا من خطاب الأمر[…] إذ أن المعصية التي حذر منها الرسول (ص) في قوله "من من عصاني فقد أبى"إنما هي مخالفة الأمر، لا ترك محاكاة الفعل وما فهم قطّ من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته "[17] وبهذا يكون أمر الشارع لا فعله هو منشئ فعل المكلفين.

وخلاصة القول في هذا الفصل أن قوانين الظهور تعمل في مجمل الخطاب المقدس " فقانون الاستثناء يعمل بوصفه تخصيصا لظهور العموم، وقانون النقل والتأويل يعمل بوصفه تحويلا أو نقلا للظهور، وقانون النسخ يعمل بوصفه تعفية (إلغاء) لظهور مراد طوال مدة يظهر آخر، وقانون تعارض النصوص يعمل بوصفه حلا لمشكلة ما يبدو أنه تعارض بين ظواهر النصوص "[18]. كل هذا على اعتبار أن النص واضح منسجم مكتف بذاته ولا يحتاج إلى سياق أيا كان نوعه، وقد كان للأستاذ الديري إمكانية خصبة للنقد لو شاء، سواء بعرض آراء ابن حزم على اجتهادات عصره، أو على ما توصلت إليه علوم اللسان وفلسفة اللغة والنقد الأدبي الحديث متمثّلا في نظريات القراءة والتأويل، ولكن يبدو أنه أختار العرض والتحليل دون النقد، وهو ما حرم القارئ من إمكانية تبيّن قيمة ما أنتجه ابن حزم والمذهب الظاهري عموما.

خاتمـــــــة

وصفوة القول فقد تمكن الباحث خلال هذه الدراسة أن يعيد تركيب البناء النظري الظاهري من خلال كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم، فانطلق من المهاد الفلسفي إلى الرؤية المنهجية وصولا إلى قوانين تفسير الخطاب، فبيّن أن طلب المقدمات اليقينية قد أسلم ابن حزم إلى تبنّي عقلانية برهانية لا ترى في النص غير ما فيه، وأن ما عداه موقوف على دليل يثبته، وإلاّ بطل أن يكون معرفة، وفي ضوئه – أي في ضوء الدليل- صيغت القوانين الإجرائية لفهم الخطاب المقدّس، هذا الخطاب الذي رأى ابن حزم أن موضوعه الأمر، وقد لاحظنا في حينه أنه كان بإمكان المؤلّف أن يبيّن حدود هذا البناء النظري، فما يدعى بعقلانية برهانية هو طوق آخر يحذّ من طاقة اللغة، ويحرم النّص من إمكانيات التأويل والاستقراء وغيرها، وهي منافذ محدودة أصلا لأن العقل هو عقل النصّ، إي خضوع له ووقوع حتميّ في التّبرير والتّوقّف،أي ،باختصار،أن المشروع الظاهري هو تطويق للمطوَّق أصلا، على خلاف العقل الذي يكون موضوعه الوجود والطبيعة والصناعات: مغامر ورائد ومنفتح.

إن ما أشرنا إليه من افتقار الدراسة إلى البعد النقدي لا ينال من قيمتها العلمية والأكاديمية في إغناء المكتبة العربية بمثل هذه المؤلف القيّم الذي يسلّط الضوء على جانب من تراثنا الثقافي والديني، وقد اختار المؤلّف ألاّ يكون من أهدافه تقويم فكر ابن حزم، وهو اختيار لا تثريب

عليه فيه، وحسبنا أنه أتاح لنا هذا الحوار الخصب مع قراءته ومع المدوّنة نفسها.


[1] – علي أحمد الديري، طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2007.ص13

[2] – نفسه ص143، وما بعدها وخاصة ص158

[3] – نفسه، ص 30

[4] – نفسه، ص ص31إلى 34 .

[5] – عبد الله العروي، مفهوم العقل (مقالة في المفارقات) ط3. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي،ص358

[6] – طوق الحمامة، مصدر سابق،ص.164

[7] – انظر في هذا المعنى: محمد القاضي،الخبر في الأدب العربي(دراسة في السردية العربية)،ط1، بيروت/ تونس، دار الغرب الإسلامي،كلية الآداب بمنوبة، 1998.حيث يقول في معرض تعريفه للخبر:نستهدي بما ضبطه أوقست فيشر(August Fisher) من مبادئ لاستجلاء المراحل التاريخية التي قطعتها الكلمة، والحاصل من هذه المبادئ أنّ الدارس لتطور معاني الكلمة يحسن به أن يرتب تلك المعاني من العام لإلى الخاص، ومن الحسّي إلى العقلي، ومن الحقيقي إلى المجازي ص46

[8] – ابن منظور، لسان العرب، مادة: (ع.ق.ل)

[9] – الموسوعة الفلسفية العربية، مجلد1، ط1، بيروت، معهد الإنماء العربي، ص600 ومابعدها

[10] – طوق الخطاب، مصدر سابق،ص102 وما بعدها

[11] – نفسه ،ص109- 110

[12] – نفسه، ص115

[13] – نفسه، صص 131- 132

[14] – نقلا عن مجموعة مؤلفين من ضمنهم المؤلف، المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث، ترجمة عبد القادر قنيني، بيروت، أفريقيا الشرق 2000، ص132

[15] – طوق الخطاب، مصدر سابق،ص108

[16] – نفسه،ص179

[17] – نفسه، 188

[18] – نفسه، ص227

حوار مع عباس بيضون

على هامش مشاركته في أنشطة مركز الشيخ إبراهيم.. عباس بيضون لـ«الوقت»:

الشعر ما عاد ديوان أي أحد

هو فن منقرض بلا سوق وأستغرب وجود شعراء شبّان

22222

الوقت – حسين مرهون، علي الديري

كون المرء اليوم شاعراً يفترض في الأقل إقراراً بالشعر كمقترح إبداعي ما يزال قادراً على قول رؤى جديدة لم يتم قولها. إلى حد ما هذا صحيح، لكن ليس مع عباس بيضون. فالشاعر الستيني اللبناني الذي تخفق راية تجربته على ضفاف خمسة عقود يقول ‘’صار الشعر حيواناً منقرضاً’’. كونه لايزال شاعراً ليس بالضرورة أمراً بذي معنى. يقول رداً على سؤال ‘’لا معنى لبقائي شاعراً حتى اليوم’’. غير أنه لا يجد دافعاً لسؤال نفسه عن الجدوى من أنه ما يزال يكتب الشعر ويحيي الأمسيات الشعرية. ويرى أن ذلك ينبغي أن يكون سؤال الأجيال الجديدة تحديداً، فهي وفدت على الشعر في فترة كان يشهد فيها كساداً حتى أنه لم يعد ديوان أي شيء. ويستدرك ‘’حين كتبت الشعر، كان لما يزل ثمة مكان يُتوخّى من الشعر وثمة مكانة’’. على رغم كل ذلك، فهو لم يقتنع حتى الآن بموت الشعر، على الأقل ما دام هناك شعراء شبان يأتون إلى الصنعة غير آبهين بظلام النهايات. وهو يدافع عن المشروعية التي يصدر عنها الشعراء الجدد، حتى وهي مشروعية تقف على إقصاء اللغة والأدبية لصالح اللّحظي سريع التبدل وشحيح العاطفة. يقول ‘’أنا واحد ممن دافعوا عن مشروعية هذا التوجه’’. ‘’الوقت’’ التقت عباس بيضون على هامش إحيائه أمسية شعرية الأسبوع ما قبل الماضي في بيت الشعر – بيت الشاعر إبراهيم العريض وحاورته.

* ربما عدّ بلدك لبنان مهداً ثانياً بعد العراق بالنسبة إلى تجربة الشعر الحديث، خصوصاً مع مرحلة مجلة شعر أواخر الخمسينات وبداية الستينات، وهي المرحلة التي تنتمي تجربتك إليها. لنبدأ من الآخر، دعنا نطالع في مآلات هذا المهد الشعري، وتحديداً في أوراق الشعر الشبابي في لبنان اليوم؟

– لست أدري ما إذا كان هناك شعر شبابي أو كتابة شبابية أو لا. لكن عموماً، فإن ما يدخل ضمن إطار ما تسميه الشعر الشبابي – من دون أن تكون لهذا المصطلح قوة موضوعية بالضرورة – لايقدم اقتراحاً أو تجربة جديدين. هو إن شئت، إحساس مختلف بالأشياء، بالزمن، المكان، الحياة والمشاهد. وطبعاً غير الإحساس الذي كانت تتوفر عليه الأجيال السابقة. من هنا فأنا أفترض أن الشعر الشبابي، هو بمثابة الانتقال إلى إحساس بالحياة مختلف، إلى حياة ثانية، وهذا ليس حكم قيمة بالضرورة. إذا ما أردت أن نتوسع قليلاً، يمكن القول إن الكتابة الشعرية تختزن داخلها أمكنة عدة، منها الصحراوي ومنها الريفي. حتى في الكتابة النثرية الأمر نفسه موجود. مثلاً القصيدة النثرية التي تعتمد كثيراً على الصوت، والتداعي الصوتي هي قصيدة صحراوية. وحين أقول صحراوية فأنا لا أدين أحداً، فقد تكون كذلك وتكون قصيدة آسرة جداً. مثال آخر، تجد المنطقة التي يخرج منها شعر (الشاعر السوري الكردي) سليم بركات (1951)، والتي تقوم على اللغة بشكل رئيس، هي منطقة صحراوية. كونها تعتمد على الإقامة في مكان واحد رئيس، وهو اللغة كما أسلفت، ما يعني أن قصيدته ساكنة إلى نفسها، وما دام الحال كذلك فإننا هنا بإزاء إحساس الصحراء. أما المنطقة الريفية، فيمكن إدراج شعر (الشاعر السوري) محمد الماغوط (1934 – 2006) في دائرتها. ثمة شعراء كثر، يمكن توزيعهم بضمن هاتين الدائرتين.

* حسناً، فأين يمكن أن نجد قصيدة المدينة إذن، قصيدة بيروت إن شئت؟

– تجدها لدى الأجيال الجديدة. إنني أفترض إن هذه الأجيال هي أجيال مدينية، بمعنى أن إحساسها بالزمن، المكان والعيش بصورة عامة، هو إحساس مديني. وفي التفصيل يمكن القول إن واحداً من مظاهر الإحساس بالمدينة هو الحضور الكبير للحظة السريعة. للسرعة نفسها، السرعة في تناول الأشياء بما يجعل من القصيدة أقل إيغالاً حتى لا أقول أقل عمقاً. مظهر آخر، هو التركيز على اللحظة البصرية مصحوباً ذلك بشحّة عاطفية فضلاً عن شحة أدبية إضافة إلى غنائية سريعة. تلك هي أهم مظاهر الإحساس بالمدينة، وهي نفسها المظاهر التي تتخلل معظم التجارب الشبابية الطالعة. وكما أسلفت، فإن هذه المظاهر لا يمكن أن تحول على تجربة أو مقترح جديدين بقدر ما تحول على إحساس بالأشياء مختلف. لكن حين نتحدث عن شعر شبابي، فإنني أفترض هنا أن هناك مكاناً للشعر، وليس للعمر فقط. العمر لايعني شيئاً، قد يتدخل في الحسم أو ربما لا يتدخل، لكن الشيء الأساس في هذه العملية كلها، هي الرؤية.

القصيدة الراهنة بلا لغة

* هل برأيك ما تسميه هنا رؤية يمكن تلمسها من التجارب الراهنة للشباب، حتى لا نقول الشعر الشبابي؟

– نعم، موجودة بدرجات متفاوتة. ومرة أخرى، أرجو ألا يفهم من رأيي تصديراً لحكم قيمة، أسوأ أو أفضل. لكن في المجمل، تجد في معظم الشعر المنجز اليوم من طريق أصوات شابة، سيطرة للحظة المرور السريعة بالأشياء، العواطف الأقل إيغالاً، الغنائية السريعة، والاستغراق في المشهد البصري. ليس ثمة منعرجات أو دواخل في القصيدة إلى حد يمكن معه القول إن شعر هذا الجيل هو بدون لحظات تأملية كبرى. وربما أمكن القول هنا إن ثمة انعداماً للمؤلف، خصوصاً بعد أن تم التخلي عن اللغة. صارت اللغة مجرد أداة إبلاغ، وهو الأمر الذي قاد إلى نوع من اللغة الواحدة، اللغة التقريرية التي يمكن أن تكتب بها كل شيء.

*هل تعني أنه ما عادت هناك أسلبة؟

نعم، إذ صار من الممكن الحديث عن عمل من دون مؤلف. وهي بالمناسبة سمة تلتصق بالفن الحديث عموماً. عدد كبير من الفنون ما عادت ثمة بصمة لمعديها بمثل ما كان الحال عليه في السابق. وفي الشعر، انتقل الأسلوب إلى العمومية، إلى اللا أسلوب تقريباً، وبالتالي إلى اللا أدب. إن شئت، من هنا يمكن أن نتحدث عن شعر شبابي.

* يبدو أن حكمك قاسٍ حيال التجارب الشبابية؟

أبداً أبداً، أنا لديّ موقف إيجابي كثيراً من هذه الظاهرة. وقد دافعت عن الشباب من هذه الزاوية بالذات. من وجود فن شبابي معاصر يمتلك مجموعة من السمات ربما لايتحملها شعراء من جيلي أو 222 من الجيل الذي قبلي. لقد أشرت في أكثر من مقام ومقال عن شعر معاصر، شعر بلا مؤلف أو خصوصية أو أسلبة انطلاقاً من أن معظم الفن الحديث مبتنى على هذه الأفكار تحديداً. انظر، لقد اعتبرت أن كلامي السابق قاسٍ، في حين كان الكلام وصفياً. لم أفهْ بأية كلمة هجومية. إن دلّ ذلك على شيء، فهو يدل على أننا نتوفر على مجموعة من القيم المختلفة.. أنت شاب وأنا كهل. ثمة كلمات ما إن تلقى تشحذ لها أحكام قيمة. كلمة خصوصية مثلاً، ما إن تدخلها في التداول، تقول مثلاً إن هذا الشعر بلا خصوصية حتى تظهر وكأنها شتيمة. بالمقابل، فإن الشعر ذا الخصوصية، يظهر كما لو كان شيئاً ذا شأن عظيم. فهذه الكلمات تستبطن أحكام قيمة. في حين كان رأيي بشأن التجارب الجديدة يتوخى التوصيف ليس إلا.

كل تجربة الحداثة ضد الخصوصية

حين تقول إنها تجارب من غير مؤلف، فأنا أفهم الأمر على جهة أنها تجارب منتفية الفردية. وما إن تنتفي فرديتها فهي تكف عن أن تصبح شعراً. وإلا ما رأيك؟

نعم، لكن معظم الشعر الأميركي اليوم هو شعر منتفي الخصوصية. جزء كبير من الفن الحديث مبني على انتفاء الخصوصية، بل هو ضد الخصوصية أصلاً. ثمة اختلاف هنا، بين الحداثة (Modernism) وما بعدها. ما بعد الحداثة (Post Modernism) هي نفي للخصوصية.

* لكن نفي الخصوصية لا يعني نفي الفردية.

نعم، لكنني لا أصدر حكم قيمة هنا. كل ما أحاول قوله هو أن جزءاً كبيراً من كتابة الشباب اليوم يقوم على عدم الأسلبة، على عدم الاكتراث للغة أو للأدبية بصورة عامة.

*هناك رأي لصديقك حازم صاغية يرى فيه أن الأيديولوجيات الشمولية هي التي لا تؤسلب مستعيضة عن ذلك بالمضمون. وعلى العكس من ذلك تماماً أيديولوجية الفرد الحديث، أو الفردانية التي تعتني بالأسلوب كثيراً. كيف نوفق بين هذا الرأي ورأيك القائل بانتفاء الأسلبة عن تجارب شباب ولدوا وظهرت تجاربهم فيما كانت الأيديولوجيات الشمولية الكبيرة تنهار تاركة الفسحة لظهور الفرد حيث هو القيمة أولاً وأخيراً؟

نفي الخصوصية لا يعني بالضرورة أن الحال قد آل لمصلحة التوليتارية إنما لمصلحة السوق. لمصلحة شيء يتجاوز الفرد. في الأدب أو في الفن، ما عاد ثمة من يكترث للأفراد إنما للسوق. تفتح "غاليريه" لتبيع لوحاتك، تكتب رواية للشيء نفسه، وقس على ذلك.

* معنى ذلك أن السوق أصبحت شرط العمل الإبداعي.

نعم السوق، الفردية ما عادت تعني أي شيء. في الزمن الحداثة كان ثمة مكان للفردية، لكن في الزمن المابعد الحداثي انتفى ذلك. لقد استطاع الكتاب والرسامون في السابق أن يفرضوا احترامهم على المجتمع، حيث كان ما يزال من يعطي الأولوية للفرد. حالياً، اختفى هذا الاحترام، ولم تعد الفردية قيمة بقدر ما القيمة في السوق. مثلاً، إذا ما وجد فنان على قدر من الاحتراف في رسم الوجوه، يستطيع أن يفتح له "غاليريه" ويلقى إقبالاً ورواجاً، فيصبح فنه هو الفن.

الشعر فن منقرض لا يعني أي شيء

* هل نستطيع القول إن الزمن السائد حالياً هو زمن سوق بمعنى (Consumption Culture). وبالتالي فالقصيدة قصيدة سوق بهذا المعنى وبما يعني في المحصلة أنها ابنة زمنها؟

لست أدري ما إذا كان يصح هذا الوصف أو لا. لكن أطمئنك، ميزة القصيدة اليوم، الجيدة والرديئة على السواء، أنها قصيدة بلا سوق. لم يعد لها سوق أصلاً، الشعر كله خرج من السوق، العرب والعالمي معاً. لو تابعت المجلات الثقافية الأجنبية في السنوات الأخيرة، على الأقل في فرنسا، ستجد أنها لا تكترث للشعر بتاتاً.

* يبدو أن الشعر ما عاد ديوان العرب، ربما ولا ديوان أي شيء.

نعم، لم يعد الشعر يعني شيئاً. هو فن منقرض، وبالتالي فن بلا سوق.

لكن ألا ترى أن ما ينطبق على الشعر، وهو شعر شعراء الحداثة تحديثاً، ينطبق أيضاً على كل ما يتم الاصطلاح عليه عندنا، فن حديث من مسرح وتشكيل وموسيقى ودراما إلخ إلخ. فجميع هذه الفنون في ورطة وتتزايد الشكوى من نخبويتها الموغلة، فهي أيضاً من دون سوق؟

بداية أنا أعترض على استعمل كلمة حديث أو حداثة هنا، إنها كلمة كبيرة. كلمة حداثة واحدة من ديانات المثقفين العرب التي لايوجد لها معنى. الحداثة انتهت من زمان ولم تترك من أثر علينا، ولا حتى أي أثر. في مجتمعات أخرى، الأوروبية مثلاً، نعم، وهي لذلك ولجت في ما بعد الحداثة. أما الحداثة عندنا، في المجتمع العربي، فقد انتهت بإنتاج أدب متعبد بالحداثة وممتدح لها. دعنا نخرج من هذا المصطلح.

* لقد كانت تسمية مقترحة، لكن حسناً.. هل يروك لك استخدام كلمة "شعر راهن"؟

نعم، هذا أفضل. ذلك أن الحداثة مجموعة من العناصر المتداخلة، لك أن تسميها منظومة، وهي لا تعني بالضرورة كل جديد. "الراهن" كلمة أقل ادعاء وأقل أيديولوجية. يأتي باستمرار عند الكلام عن الحداثة، جدل سوفسطائي، من قبيل هذا الشيء حديث وهذا غير حديث، حبذا لو خرجنا من ذلك واستخدمنا مصطلحاً آخر قادراً على أن يصل بنا إلى شيء.

الفنون كلها في مأزق

* طيب، لننتقل الآن إلى الإشكالية الرئيسة، وهي أن مأزق الشعر اليوم هو نفسه مأزق التشكيل والمسرح والموسيقى إلخ. ربما باستثناء الرواية.

أيضاً هنا أعترض، فالرواية نفسها في مأزق. كون أن لها رواجاً لا يعني أنها خارج المأزق. ربما رواجها الشعبي تحديداً، هو الذي يكمن سبباً في مأزقيتها، ذلك أنه جعل من أرباب السوق يتدخلون كيما يتحكموا في شكل الرواية وفي الإنتاج الروائي عموماً. ليس صدفة مثلاً أننا بعد كل التجارب الروائية الكبيرة، انتقلنا شيئاً فشيئاً إلى زمن ليس فيه رواية كبيرة. الرواية هي الأخرى انتكست، وصارت تميل إلى السهولة والتبسيط وعدم الاستغراق في الدهاليز الشكلية. برأيي، الرواية في طريقها إلى الوصول إلى ما وصلت إليه السينما. فإذا ما عدت إلى التجارب السينمائية ما قبل المرحلة الحديثة، سينما (المخرج الإيطالي) فدريكو فليني Federico Fellini (1920 – 1993) مثلاً، ستكتشف أنها سينما لا تتكرر، لا يوجد لها مثيل في كل إنتاج السينما الحديثة. وحتى لا يمكن مقارنتها بأي من الأفلام الحائزة على جوائز "أوسكار" هذه الأيام. المسرح هو الآخر، ما عاد فيه ثمة تجارب كبيرة. بدأنا ندخل في عصر، الفن فيه عموماً بلا تجارب كبيرة. الفن كله اليوم أمام خيار صعب، وبالتالي فأنا أفترض اتفاقاً إلى حد كبير مع الفرضية الموجود في سؤالك.

* لنبقَ في حدود الشعر. إذا كان الشعر فناً مقترضاً وبلا سوق، كما لم يعد ديواناً لأي شيء. فبأي معنى أنت شاعر، وأنت مدعوّ في الأساس لإحياء أمسية شعرية؟

– لايوجد أي معني. لكن أشير هنا إلى أنني في الوقت الذي بدأ فيه أكتب شعراً، لم يكن الشعر قد وصل بعد إلى المستوى الذي وصل إليه اليوم. كان ثمة مكانة له آنذاك، وربما أمكن القول إنه كان لما يزل ديوان العرب. لذا فأنا أفترض أن هذا السؤال ليس مطروحاً عليّ، إنما هو مطروح على الشعراء الشباب في الأساس. أنا نفسي أسأل: لماذا ما يزال هؤلاء شعراء في عصر نشهد فيه انحسار الشعر. على رغم ذلك، فثمة شيء إيجابي هنا، فكون الشعر بلا سوق، فهذا ترك على الأقل فسحة لتطوير إمكانية أن ينتج بشروطه.

سبب كافٍ لبقاء الشعر

* هل تجد أن ثمة مشروعية للسؤال اليوم عن جدوى الشعر أو مشروعية لتثمير مصطلح مثل "موت الشعر"؟

– يجب التفريق هنا بين الجدوى والرواج. إذا كانت الجدوى تعني الرواج فإن الشعر حتماً بلا جدوى. لكن دعنا نعقد مقاربة أخرى. أرى الجدوى تحديداً في كون الشعر مقاوماً للموت. كونه ما يزال موجوداً وما يزال ثمة شبان يجهدون على أن يصبحوا شعراء، رافضين شروط السوق، فهنا تماماً تكمن الجدوى. إنه شيء مفاجيء ما من شك، أن يخرج شبان شعراء في مجتمعات لاتعطي وزناً للشعر. وهذه بالمناسبة لا تقتصر على البلدان العربية، حيث لدى الشعر تقاليد قديمة ومايزال الشعراء يحظون ببعض من المكانة، وتجد أخبار إصداراتهم صدىً لها في بعض الملاحق الثقافية، بل حتى في الدول الغربية. ما يزال هناك شبان يأتون إلى الشعر، بالمئات، مصرّين عليه على رغم قلة الحظوة والمكانة، وذلك بنظري مبرر كافٍ وحده لكي يبقى الشعر، وإن كان غير بقادر على إيقاف موته.

* هل تشكل من هذا الأفق في رؤية للشعر دافعك إلى نقد جيلك، جيل الحداثة الشعرية وجيل مجلة الشعر الذي أوحى ذات يوم، بواسطة البيانات الشعرية وغيرها، أن الحداثة العربية إنما تبدأ من الشعر أساساً؟

كانت هناك أوهام كبيرة. لكن آنذاك، كان الشعر مايزال الفن الأول. كانت الرواية موجودة، ولكن كان الشعر هو الفن الرسمي. برأيي إن شعراء الحداثة أعطوا الشعر هذه المكانة، كونه حتى تلك اللحظة، كان فعلاً "ديوان العرب" ثم أنهم وجدوا ميزتهم في الشعر. لقد طوروا هذه الفكرة إلى حدّ تمت فيه أسطرة الشعر، صار شيئاً أقرب إلى الأسطورة. وهو ما جعل منه فناً لا تاريخياً، فناً متجاوزاً للتاريخ، وبمثابة الرسالة الشاملة. لقد وقعوا في وهم أن الواقع يمكن أن يبدأ من الشعر، وكذلك النهضة والانبعاث والخلق الجديد، فيما تمّ عطف الشعراء على ما يشبه العرق الخاص. وهو ما أوقع الشعر في حالة من الطوبى الشاملة ذات القدرة السحرية.

الأوهام.. من أين جاءت

إن شئت، فإن عمل الرواد الأوائل تمثل في إعطاء الشعر قيمة سحرية وجعل الشعر ملكوتاً مستقلأً، كما تمثل في منحه قوة تاريخية "نيتشوية" – نسبة إلى الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشة – يقع عليها التثوير والتخريب وإعادة الخلق. فصار الشعر معهم أقرب إلى "سوبر مان" superman. بنظري إن وهم هذا التصور، أتى من مكانين. أولاً، من عبادة الحداثة، حيث اعتبر الشعر رسول الحداثة كونه التكنيك الذي رفعها على صعيد التجربة العربية. ثانياً، من تزامن عبادة الحداثة (أولاً) مع سيادة الوعي القومي الناصري، أو قل التخريب القومي. ولأول مرة صارت هناك أمنية عامة تعبر عن نفسها من خلال لغة مشتركة، تاريخ ومستقبل مشتركين ينصهران كلاهما في عنصر الأمة المرجوّة. ومرة أخرى، استُعمل الشعر بوصفه الحاضن للثقافة القومية، فأعطي وظائف تتجاوز وظيفة الشعر. حتى راح من راح يبحث في الشعر عن كل شيء، تاريخنا الماضي والمستقبل الآتي. هذان العاملان وضعا الشعر في اللاتاريخ. لكن هناك ممن بقي من جيلنا أو الأجيال التالية التي عاشت انهيار هذا السحر، افتضاحه وزواله، من سعى لنقد هذا الوهم الكبير. فجرت بإزاء ذلك، عملية عكسية تتغيّا إعادة الشعر إلى الشعر ونزع السحرية عنه، فضلاً عن نزع رساليته العامة. وعلى ذلك يمكن القول، صار الشعر شيئاً آخر، صار فناً بالكاد يكفي نفسه. أما الشاعر فقد تحول إلى مجرد مراقب أو صاحب حرفة. وهو ما كفّ معه الشعر في المحصلة، عن ممارسة دور البطل أو عالم الملكوت المستقل.

تساءلت في أحد مقالاتك ‘’من هو الشيعي في لبنان؟’’ منتقداً احتكار حزب الله وأمل لتعريف الشيعة في لبنان. ماذا يعني السؤال اليوم عن من هو الشيعي أو من هو السني في ظل عودة الهويات القديمة إلى السطح وسيطرتها ليس على تعريف الشيعة فقط في لبنان إنما على تعريف العرب قاطبة؟

– يمكن وضع ذلك في الإطار التالي.. إن لدى العرب حالياً ملجأ واحد هو الملجأ الأيديولوجي. بمعنى آخر، حين يتحدث العربي اليوم عن ماضيه فإنه يتحدث عن ماضٍ غير موجود، لكن الأيديولوجيا تطرح إمكانية استعادته. من هنا تغدو ملجأ. أيضاً حين يتحدث العربي عن الوحدة، فهي الأخرى غير موجودة، لكن الأيديولوجيا تعمل على إشاعة وهم فوقي أن ذلك أمر ممكن. وعلى هذا فإن التمسك بالأيديولوجيا – وحتى بسرابها وبتاريخ مفقود إضافة إلى وحدة لاوجود لها – هو الشيء الوحيد الذي يحفظ للعرب صورة، فيما تتحطم كل الصورة المفترضة خارج ذلك. لهذا سبب فأنت ترى أن صدام حسين أو أسامة بن لادن شخص يمكن أن يأتي في أي لحظة بينما لا يؤثر مرور الزمن على أي شيء. وهو الأمر الذي يمكن إيعازه إلى أن هذه الصور المفترضة محفوظة وخالدة إلى حدّ كبير من دون أية صلة لها بالواقع أو التجربة. هي صور سبحانية تأخذ قيمتها من نفسها وليس لها أي مقابل تاريخي. عندما تقول للعربي إنك ‘’مغدور’’ فهذه الكلمة وحدها كافية لإثارة غريزته. ولا مرة سعى إلى أن يجد مقابلاً لهذه الكلمة، ذلك أن كلمة مغدور جزء من البنية الأيديولوجية خاصته. أيضاً عندما تقول له إن عليك أن ‘’تقاتل’’ تجده يهب إلى داعي القتال فوراً. ولا مرة حاول أن يسأل نفسه عن الحاجة إلى القتال. هذه الكلمة أيضاً جزء من البنية الأيديولوجية. إنه في حالة حداد قائمة استمراريتها على الرغبة في استرجاع شيء مفقود. قد يكون اسم المفقود هذا، ‘’الوحدة’’ التي لم تتحقق ولا مرة أو أي اسم آخر. ثمة دائماً شيء مفقود يسعى العربي إلى استعادته، فيما لا يمكن تحقيق هذه الاستعادة إلا بحرب. وهو ما يفسر أننا كنا دائماً مجتمعات عسكرية، على الأقل ثمة ما يدعو إلى العيش في وهم هذه الحالة. وكما ترى فإننا موجودون في وسط عالم من الصور الأيديولوجية التي لا تتزمّن أو تناقش، وهو الأمر الذي يعني إما بقاءها مهيمنة وإما عودتها المستمرة. ما جرى أو يجري حالياً على أكثر من ساحة هو بمثابة عملية عودة إلى هذه الصور. صورة انهيار الوحدة العربية (1958 – 1961) أو صورة نكسة حزيران (1967) أو صورة النهاية الشنيعة للثورة الفسلطينية. تجد أنها صور تتكرر باستمرار من دون أن تجري الاستفادة منها في أي شيء.

الديمقراطية في خدمة الديكتاتورية

كانت لك إشارة في أحد مقالاتك تحمل فيه الديمقراطية مسؤولية تحرير الهويات القديمة. وفي مقالات أخرى صرحت ‘’الديمقراطية ليست حلاً’’، ‘’الديمقراطية تعطيل للسياسة بدل إطلاقها’’، ‘’الديمقراطية من غير ديمقراطيين’’، ‘’الديمقراطية وفق النمط الميليشياوي’’ إلخ. ما تفسير كرهك للديمقراطية؟

– أحد مآخذي على الليبراليين هو تحولهم إلى دعاة للديمقراطية. أنا شخصياً لست كذلك، لست داعية ديمقراطية ولا أجد فيها حلاً. الديمقراطية اللبنانية منحة أعطيت للبنانيين وهي مبنية على التوازن ف22قط. أنا إن شئت، لا أجد نفسي متحمساً لهذا النموذج. المؤكد بالنسبة لي أن الديكتاتورية في العالم العربي ليس مردها خطأ سياسي، فالديكتاتورية هي الأيديولوجية العربية. تجد أن العرب حتى في البلدان الديمقراطية يفتقدون إلى عقل ديمقراطي. بل لدي موقف يذهب أبعد من ذلك، إن الديمقراطية كلمة تعميمها من أجل إفساح المجال أمام الديكتاتورية. وإلا ماذا يعني تسييس كل فئات الشعب أو جعل السياسة شعبوية. برأيي إن ذلك يحصل من أجل إعطاء قاعدة أكبر للديكتاتورية. بالتالي فإن الديمقراطية لم توجد في بلادنا إلا لخدمة الديكتاتورية، وهي كانت دائماً مرحلة مؤقتة من أجل عودة الديكتاتورية. وعلى ذلك فإن الموضوع لا يتعلق بالهويات فقط إنما بمشاكل أعقد.

تبدو فاقداً إلى أي أمل؟

– إنني أتحدث عن سبب عودة الشعبي الدائمة في رؤيا العرب بعامة. لم نستطع البتة أن نتجاوز كوننا قبائل باتجاه إنشاء مجتمع مدني في أي بلد عربي. إن الكلام عن عربي واحد أو أمة عربية  مجرد وهم. حين تتكلم عن الغربي أو الأوروبي فأنت تتكلم عن بناء ثقافي وسياسي أدى إلى نشوء كيان اسمه الغرب أو أوروبا. العرب يفتقدون إلى شيء مشابه، فالعربي اللبناني غير العربي البحريني. بنظري إن ما يجري في لبنان حالياً سببه إمكانية أن يشذ لبنان عن هذه القاعدة ولقابليته في أن يتغير. إن النموذج اللبناني مؤهل دائماً إلى أن يتغير على أساس مختلف. وكلما سعى بهذا الاتجاه نشبت حرب أهلية.

«السفير الثقافي» ليس أنا

في ظل هذه الأجواء كانت لديك تجربة طويلة مع رئاسة ملحق ‘’السفير الثقافي’’. كيف اقتربت من هذه الموضوعات الإشكالية عبر الملحق وما نوعية الخطاب الذي كان مسيطراً عليه بين مرحلة وأخرى؟

– الملحق الثقافي ليس مجلة نظرية ولا حتى مدرسة أو اتجاهاً أو تياراً. الملحق صحيفة بالمعنى العلمي للصحيفة. بإزاء ذلك فأنت لا تعمل شيئاً سوى أن تعكس ما أمكن التنويعات الثقافية الموجودة. تستقبل كل الآراء، كل الإنتاجات، شريطة أن تكون على قدر من المستوى. الملحق ليس عباس بيضون. الصفحة الثقافية صفحة تجارية تملك كل المقومات التي تملكها الجريدة. الجريدة تقدم كل الآراء، تقدم المشهد السياسي وتترك لكل الأطراف أن تعبر عن نفسها. بالتالي فإن الصفحة الثقافية لا تعمل شيئاً آخر وليس منتظراً منها غير ذلك.

لكن في بعض الأحيان قد تكون شاعراً فتأخذ الصفحة الصبغة الشعرية، أو ناقداً أدبياً فتأخذ صبغة النقد الأدبي، وقس على ذلك. ألم يكن لك بصمات على الصفحة عكست عبرها طبيعة خطابك؟

– لا أدعي أنني في الملحق أعمل شيئاً من هذا القبيل. ربما كنت ناشطاً أو متحمساً في المجال الثقافي لكن النشاط والحماس هذين لايتعديان النبش في القضايا أو استقبال السجالات والآراء المختلفة حين يتعلق الأمر بالصفحة الثقافية. إنني أحاول أن أترك لكل الآراء كما كل أنواع الإنتاج الأدبي والثقافي أن تعبر عن نفسها من خلال الصفحة. أعطيك مثالاً هنا، حتى القصيدة العمودية أنا دائم البحث عن قصيدة جيدة لكي أنشرها. كما أنني دائم البحث عن قصيدة التفعيلة. برأيي إنه لايحق للصحافي أن يأخذ موقفاً ضد أي نمط إبداعي، بما في ذلك القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة.

هل تحاول من خلال ذلك أن تدفع عن نفسك تهمة؟

– لا أبداً، لا أحتاج لدفع أية تهمة. بنظري إن على الصحافي أن يعبر عن الموجودات وعن عناصر الحياة الثقافية ما أمكن، مع تنوعها وحتى مع عدم الاتفاق معها. في حين الشيء الوحيد الذي يتبقى لك شخصياً هو تقرير المستوى.

أنا وعدة من نفرٍ آخرين

لكن خطابك يختلف عن خطاب ‘’السفير’’ في المطلق. على الأقل دعنا نقول الخطاب ذاك الذي تعبر من خلاله عن موقفك من طبيعة الصراع الحاصل في لبنان اليوم؟

– هذا الأمر لا يقتصر علي فقط، فلست الوحيد. هناك عدد من المحررين في الجريدة يقفون في الموقع المقابل من الخطاب العام للجريدة وفي مستوى ثانٍ من خطاب حزب الله. وهؤلاء من أعمار مختلفة لكن تجاربهم السياسية انتهت بهم عند هذا المطاف. إنهم يشكلون عدداً لا بأس به، وهم في الناتج يمنحون الجريدة قدراً من التنوع والاختلاف.

لو طلبنا منك عقد مقارنة بين ملحق ‘’السفير’’ وملحق ‘’النهار’’ بإشراف زميلتك جمانة حداد. كيف تجد المقارنة؟

– لا أعرف، لست أنا من يتوجب عليه أن يعقد المقارنة أو حتى يُعتمد عليه في ذلك. القارئ وحده من يستطيع عمل هذا الشيء. لكن بطبيعة الحال، كل من الملحقين أسس لتقاليد معينة. إلى هنا وأكتفي من دون أن أجد أي داعٍ للمقارنة أو المباهاة. أنا مجرد صحافي، والملحق الثقافي ليس أنا. إنه ملحق موجود في جريدة تخاطب كل الناس، بالتالي فهو الآخر أيضاً ملحق يخاطب كل الناس. ألفت هنا إلى أن ملحق ‘’السفير’’ ليس ملحقاً بالمعنى الدقيق للملحق، هو إن شئت جزء من الجريدة اسمه ‘’السفير الثقافي’’. في حين ملحق ‘’النهار’’ مستقل ويشكل لوحده نوعاً من المجلة المستقلة التابعة للجريدة. وبما أنه كذلك فما من شك يستوجب أن يكون متوفراً على جهاز إداري، في حين ‘’السفير الثقافي’’ مجرد ملحق أسبوعي من 4 صفحات. وهو الأمر الذي يعني أنه لا يوجد مجال للمقارنة.

لكن هل يعني شيئاً مثلاً بالنسبة إلى المثقفين اللبنانيين حين يقومون بنشر نص أو مقال في ‘’السفير’’ بدلاً من نشره في ‘’النهار’’؟

– لا أبداً فالنشر متاح لهم في ‘’السفير’’ و’’النهار’’ وفي بقية الصحف الأخرى. لا يوجد حق حصري ولا يعد نشرهم شيئاً في الصحيفة هذه أو تلك دليلاً على أي شيء

موقف واضح.. وقديم

حسناً، بالثقافة.. كيف تقارب اللحظة المشهدية الحاصلة في لبنان الآن. كيف ترى إلى أفق الانسداد المستحكم من وضعيتك كمثقف؟

– هذا سؤال سياسي.

لنقل إنه سؤال سوسيو – ثقافي نابع من كونك في الأصل تكتب مقالاً سوسيو – ثقافي أسبوعياً من خلال منبر ‘’السفير’’. إضافة إلى أنك تملك إرثاً سياسياً جاور الشعري في بعض الفترات وقد تمثل ذلك في عبورك على الورشتين البعثية فاليسارية؟

– نعم، هذا قديم جداً. لكن أقول هنا إن لدي موقفاً قديماً وليس غامضاً. لقد عبرت عنه باستمرار من خلال مقالاتي ويعرفني الناس من خلاله. أنا أحد نقاد حزب الله بصورة خاصة.

على ماذا يرتكز هذا النقد تحديداً أو ما هي مواضيعه. هل فقط على ما سبق وأن كتبت على وضعية احتكار حزب الله لتمثيل الشخصية الشيعية أم أن ثمة مرتكزات أخرى يمكن سوقها بهذا الصدد؟

– لا، ليست هذه كل القصة. أشير أولاً إلى أن كوني مولوداً شيعياً لا يعني أنني أطالب بحق شخصي. كما لا أقول بعدم أحقية حزب الله في تمثيل الشيعة في لبنان. فهو وإن لم يكن يمثل الشيعة فعلى الأقل هو يمثل جوهم العام. أنا فقط أضع هذا التمثيل موضع تساؤل. لكن إن شئت، فذلك لا يعبر عن جوهر خلافي معه. خلافي الحقيقي نابع من رؤيتي إلى مستقبل لبنان وربما إلى وجوده. وهو الأمر الذي يجعل من الاختلاف شيئاً ضرورياً لا غنى عنه. فحين يتعلق الأمر بمستقبل البلد، أو بوجوده، فهنا يغدو الموقف السياسي نوعاً من الالتزام، أي لا يمكن التخلي عنه أو تجاوزه. ضمن هذا التوصيف أشير إلى أن الخيارين المطروحين على لبنان حالياً ضمن أجواء الصراع، هما أن يكون لبنان دولة ثورية مارقة حاملة لواء مواجهة الإمبريالية حالها حال كوريا الشمالية أو إيران وسوريا وفنزويلا، أو يكون دولة طبيعية مثل أي دولة من دول الأسرة الدولية لديها التزاماتها العامة حيال حالتي الحرب والسلم وحتى حيال السلام مع إسرائيل. بعد 30 سنة من الحروب المتواصلة أجد نفسي نابذاً لفكرة الحرب، بصراحة لم تعد تروق لي. ثمة مشروعان في المنطقة، مشروع الحرب المستمرة وثمة المشروع السلمي. إن شئت فأنا مع المشروع الأخير وضد الحروب المستمرة. إن هذا هو موقفي بعد تبسيطه. برأيي، إن الحرب المستمرة فكرة مخيفة تماماً، بل خرافية في أي مكان وجدت. وبالنسبة إلى حزب الله فهو حزب جنود. والجنود وظيفتهم الأولى والأخيرة هي القتال. قد ينخرطون في الحياة المدينة قليلاً أو كثيراً لكن عملهم الفعلي هو القتال. وحين لايقاتلون يلجأون إلى تقسيم المجتمع ووضعه على حافة حرب أهلية. بالنسبة لي، كل تسييس للدين هو مشروع حرب أهلية، أكان ذلك في لبنان أو غيرها، الآن أو لاحقاً. في الحقيقة، إن ذلك ما هو حاصل في العراق وفي فلسطين أيضاً. تسييس الدين لا يؤدي إلى مكان آخر غير الحرب الأهلية. هم (حزب الله) يريدون الحرب الأهلية؟. حسناً، إنهم أحرار في ذلك لكن أنا شخصياً ضد هذه الحرب. مشكلة المشروع الثوري في كل العالم أنه لا يحسب حساب الواقع. فيما الواقع اللبناني لا يتحمل هذا المشروع المقترح عليه، إلا حين يكون المطلوب هو تدميره.. تدمير المجتمع والدولة وكل شيء. شخصياً، فأنا لست مع تدمير لبنان، تلك هي كل القصة.

سيّان مدحت على الهوية أو قتلت!

ما تعليقك على قيام أحد الزعماء السياسيين بتوظيف موقفك في سياق المغالبة الحاصلة بين الفرقاء السياسيين عبر الإشارة إلى كونه يصدر عن مثقف شيعي؟

– لقد نشرت مقالاً رددت فيه على (رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي) وليد جنبلاط. قلت بالحرف الواحد.. إن المدح على الهوية مثل القتل على الهوية تماماً، ولا يوجد أي فرق. بل قلت أكثر من ذلك.. لقد انشققنا على الجماعة منذ نعومة أظفارنا أنا وآخرون ليس من أجل أن يأتي أحد بعد كل هذه السنوات ليتذكر عنا ذلك. إنما انشققنا بسبب أن عندنا رؤية كانت تخاطب المستقبل. لذلك تجد مثلاً أن نقاد حزب الله الرئيسين كلهم من مثقفي ومفكري الشيعة. ليس أنا فقط إنما وضاح شرارة وأحمد بيضون وعلي حرب وحسن قبيسي وآخرون كثر. لكن ألفت هنا بالمناسبة إلى أن موقفي من حزب الله لا يعني أنني مع الفريق الآخر. طالما سخرت في كتاباتي من 14 آذار بسبب أنها جماعة تقليدية. حزب الله عبارة عن حزب ثوري والطريقة التي يفكر فيها استراتيجية. في حين الفريق الآخر عبارة عن جماعة تقليدية، زعماء طوائف ليست لديهم أية فكرة عن نموذج. يكذبون حين يقولون إنهم يتطلعون إلى صناعة دولة. إنهم بلا خيال حتى… ومشروعهم سخيف، لكن الفرق بينهم وبين حزب الله هو أن لدى هؤلاء مشروعاً سلمياً. هنا تحديداً ربما تجدني ألتقي معهم. خصوصاً مع عدم وجود خيار ثالث. بالمناسبة أنا أنتقد باستمرار الذين يتحدثون عن طريق ثالث، خاصة حين يكون البلد مهدداً. ثمة شعور لدي أن هناك مشروعاً تدميرياً للبلد، وكائنة ما كانت النوايا فأنا أعتقد أن تحميل البلد أعباء من دون أن يكون مستطيعاً تحمل تبعاتها، فهذا لا يعني شيئاً سوى تدميره. أنا أعتقد أن هذا البلد يستحق أن يستقر وينمو. ليس لأنني لبناني فقط، فأنا لست وطنياً، أي ليست لدي أية عصبية وطنية. إنما أولاً لأن هذا البلد ضعيف وثمة من يعمل على التواطؤ عليه، بالتالي فأنا من موقع أخلاقي أتعاطف معه. أصلاً أنا كل مواقفي نابعة من أخلاقيات أكثر مما هي نابعة من السياسة، فأنا لست معلقاً سياسياً أو أعمل على تظهير توقعات سياسية. ثانياً، لأنني أرى أن هذا البلد يدفع ضريبة محاولته أن يتقدم إلى الأمام ويكون مختلفاً. ثمة استعداد كامن في هذا البلد إلى أن يصبح حديثاً. تجد أنه بلد تتقاطع على حدوده ثلاث لغات، أقل الطبقات الاجتماعية ثقافة تتحدث بأكثر من لغة. كما تجد احتراماً لحريات الناس الفردية وللحب الحر، فضلاً عن تفتت القبيلة ووجود ملامح أولى لنشأة مجتمع. هذا البلد كان يسير في هذا الاتجاه. وتدميره برأيي هو بمثابة عقاب له لكن في حال نجح هذا التدمير فإنه سيصيب كل المنطقة.

22222

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114098