كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

صك الولاء

يتبدى مفهوم الولاء في الدولة، ليس من خلال دعوات السياسيين والمثقفين بضرورة التحول من الولاءات الضيقة والخاصة إلى الولاء العام للدولة، فتلك لا تتجاوز أن تكون أمنيات في أحسن الأحوال، وفي أسوأها تلاعبات خطابية، لكن مفهوم الولاء، تظهره أصوات الخطابات الاجتماعية حين تشتد أزماتها في موقع الدولة.
خطاب الزميل محمد المحميد في عموده اليومي بصحيفة ”أخبار الخليج”، الذي كان تحت عنوان ”الشعوب ليست سامان ديغة”، يمثل خطاباً من خطابات الجماعات السياسية في الدولة، ومع أن العمود اليومي، هو مكان للرأي الذي يمثل الشخص، غير أنه هذه المرة لم يكن يمثل الشخص، بل كان صوت الجماعة فيه ينطق بما يدور فيها. غير أن هذا لا يعني أن هذا العمود محسوب على جماعة، بل هو محسوب على صاحبه فقط، وإن كان ينطق باسم جماعة و”الناطق باسم المجموعة هو الذي يؤكد على وجودها من خلال شرعية كلامه التي يظهرها[1]” وشرعية كلام هذا الخطاب تأتي من حجة صك الولاء الصامت.
ما الذي يقوله هذا الخطاب؟ وما المفهوم الذي يصدر عنه للولاء؟
يقول ”ونقولها اليوم وبكل جرأة وصراحة لأصحاب القرار والحكم في تلك الأوطان، جمهورية أو إمارة أو حتى مملكة، إن كان من يحرض على القتل والتحريض والتخريب وقلب نظام الحكم يكون ثوابه اليوم اللقاء معكم والجلوس عندكم واستلام العطايا والمناصب منكم، فإن الشعوب الصامتة في 2387079716_da5833c9bcأوطانكم بيدها أن تفعل ما يفعلونه وأكثر، وأن صك الولاء والصمت الأبدي الذي تتصورون أنكم ملكتم به الشعوب فإنها في حل منه، وليس له وجود ولا اعتبار وقد تم إلغاؤه، في اللحظة التي تشعر الشعوب أنها مجرد «سامان ديغة» أو «طنبور طين»، وهذا ما لا ترتضيه لكم ولا لها، لأن وجودها مرتبط بوجودكم، ومستقبلها موثوق بمستقبلكم، غير أن ما تقومون به أثار التساؤلات والاستفهامات والاستغرابات، مما يجعل بعض الشعب مضطرا لأن يطالب بإعادة ترتيب البيت والمستقبل بكم أو حتى من دونكم.. اقرأوا التاريخ.. وأعيدوا تقليب صفحاته، وناقشوا مستشاريكم ومن حولكم، فإن الشعب الصامت يوشك أن يتحرك ويثور جراء السياط والمظالم التي تنزل يوميا على ظهره بسبب قراراتكم وتحولاتكم ولقاءاتكم وعروضكم[2]”.
يصدر هذا الخطاب عن مفهوم للولاء، لا يتسق وشكل الدولة الوطنية الحديثة، فهذا الخطاب يتمثل الولاء وكأنه طاعة خاصة تقدمها جماعة لولاة الأمر، وفي مقابل هذه الطاعة الخاصة على ولاة الأمر أن تعطي هذه الجماعة وحدها مما عندها من ملك، كي تلزم صمتها، ويتهدد هذا الصمت بالثورة وإعادة ترتيب البيت من دون ولاة الأمر في حالة أن الجماعة لم تحصل على مبتغاها من أعطيات ولاة الأمر أو ذهبت إلى جماعة أخرى لا تلتزم صك الصمت الذي تلتزم هي به. هذا الخطاب ناطق إذن باسم جماعة تفهم مواطنيتها في صيغة صك سكوت. لقد قلت إن هذا المفهوم للولاء لا يتناسب وشكل الدولة الوطنية الحديثة، لأن صك الولاء القائم على صك الصمت يغلق الدولة، لأنه يغلق المواطنة التي لا تقوم إلا بحق النطق بالاحتجاج في الميدان العام.
هذا الصك يغلق الدولة على جماعة، ويغلق أبوابها العامة المفتوحة على المجتمع، والمجتمع المفتوح هو المجتمع الذي لا تغلق الدولة أبوابها من دون نطقه. الدولة جامع الولاء، أو هي مجمع الولاءات. الدولة ليست عقداً تصكه جماعة معها، بل هي تقوم على عقد يصكه المجتمع معها (Social Contract)، وهو ليس عقد صمت بل عقد نطق، وذلك لأنه حدق ينص على أن تحمي الدولة نطقهم المختلف والمتعدد والمتضارب المواقع والمصالح، بمعنى أن تكون الدولة نطاق نطقهم الآمن.
وإذا كانت الدولة (السلطة) في طور من أطوارها البدائية، تعطي صكوك غنيمة لجماعة من دون جماعة مقابل صكوك ولائها الصامت، فإنها لن تستطيع أن تكون دولة حديثة ووطنية من دون استيعاب جميع الجماعات المتعددة ضمن صك واحد، هو صك العقد الاجتماعي.
لذلك فهذا المفهوم للولاء، يجعل من صاحبه ناطقا لا باسم الولاء للدولة، بل باسم حقه من الولاء الشخصي أو الجماعي للسلطة في الدولة. ومجاز الصك يحيل إلى السوق وعمليات البيع والشراء، فالصك نوع من أنواع الأوراق التجارية، وكأن الولاء هنا هو عملية بيع تجارية تتم بورقة تجارية، وحين لا يكون لهذه الورقة ما يعادلها، في الخزينة أو في الحساب تفقد قيمتها، وتسقط من قانون التبادل التجاري. الولاء للدولة في شكلها الحديث، لا يمكن أن يستوعبه مجاز الصك، لأن ولاء الصك محكوم بأفق الغنيمة، فمن يملك صك الولاء ينتظر غنيمة من الدولة، والغنيمة في العرف القبلي، هي ما تأخذه القبيلة بالقوة عن طريق الغزو، وتعطيه لحلفائها وشركائها. وهذا النمط من الولاء الذي ينطق بك هذا الخطاب، يعزز من الصور النمطية التي عمل على تكريسها كثير من الكتاب الغربيين والتي هي اليوم محل مراجعة نقدية وعلمية.
فهذه الصور ترى أن دول الخليج [3] ليست إلا قبائل بأعلام tribes with flags، وأن الخليجي لا يشعر بمواطنته في دولة حديثة بل كعضو في تحالف قبلي واسع يمحض فيه ولاءه للشيخ المترئس للتحالف مقابل حصوله على نصيبه من الغنائم. وأن التراث القبلي الطويل المتسم بشراء الولاء والإخلاص تعزز عبر أُعطيات الدولة التي توزع المنافع والمنح لسكانها. والتي يتم توظيفها في شراء الشرعية من خلال الإنفاق العام إضافة إلى الأعطيات الممنوحة لأغراض كسب الولاء الشخصي.
إن منطق الدولة الوطنية الحديث، لا يمكن أن يتناسب وشكل هذا الولاء الذي يصدر عنه الخطاب الذي كان (المحميد) ناطقا باسمه، إنه يفرغ مفهوم الولاء الوطني من قيمته الجوهرية القائمة على أن الدولة وطن لكل الجماعات، وهي تعطيك لمواطنتك، لا لجماعتك، ولولائك لقوانينينها. وحتى لو خالفت قوانينها، فهي تعطيك ما تقرره هذه القوانين أيضا، أما مفهوم الولاء الذي يضيق بأي جماعة تشاركه في الغنيمة، وتزاعمه في النفوذ والسلطة، فهو يناسب القبيلة قبل أن تكون دولة. وهذا المفهوم للولاء المقرون بالغنيمة هو ما يؤكده نطق هذا الخطاب ”وتقديم الهبات والعروض والمناصب والمسؤوليات.. الأموال والمناصب فأعطوهم ما تشاءون، ولكن لا تبخلوا ولا تمنعوا الخير عن أبناء الوطن الآخرين المخلصين[4]”.

http://alwaqt.com/blog_art.php?baid=6747

الهوامش

[1]علي سالم، البناء على بيار بورديو، ص98.

[2] ، [4] جريدة أخبار الخليج، العدد 10987 ،الثلاثاء22 أبريل 2008 م

http://www.akhbar-alkhaleej.com/ArticlesFO.asp?Article=235003&Sn=RYTH

[3] انظر:محمد عبيد غباش، سلطة أكثر من مطلقة.. مجتمع أقل من عاجز .. الدولة الخليجية

http://editorials.blogunited.org /

حوار مع ابتسام الكتبي

ابتسام الكتبي لـ«الوقت»: المجتمعات الخليجية أكثر حداثة من نخبها الحاكمة
الإصلاحات في الخليج رهن أسعار النفط.. والمطلوب رهنها بإطار ثقافي

الوقت – حسين مرهون، علي الديري:
وصفت دائماً أنها راديكالية وصاحبة مواقف متشنجة. رغم ذلك فإنها مقتنعة إن صوتها ليس فريداً وتتشارك معها فيه نخب كثيرة. غير أن ابتسام الكتبي تقول مستدركة ‘’الاختلاف الوحيد يكمن في أن صوتي أكثر جرأة’’. عندما كانت في الثانوية العامة سمعت لأول مرة عن ‘’الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وعمان’’، وحين سافرت للدراسة في القاهرة أتيح لها تكوين علاقات رفقة مع الشبيبة البحرينيين من منتسبي الجبهة والأعضاء في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع القاهرة، في الوقت نفسه. تقول ‘’شكلت هذه الرفقة البواكير الأولى لتنشأتي السياسية’’. وآنذاك كانت مدينة القاهرة ولاتزال تنبض بدقّات وعي قومي عريض خلفته الحقبة الناصرية. والحال فقد تواءم هذا مع تنشئتها الأولى لينتج في المحصلة حماساً ضافرياً حيال قضايا كان يندر المتحمسون لها في البيئة التي يصدر عنها صوتها. مع نهاية عقد التسعينات أكملت كورس التنشئة السياسية بنيلها درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية، فعادت إلى بلدها الإمارات ليبدأ كورس التجريب وامتحان الحصيلة المعرفية التي راكمتها على ضفاف الرفقة البحرينية والدرس في قاعات الأكاديميا معاً. فكانت مواقفها تتدفق جائلة عبر أثير الفضائيات وهادرة بالقضايا المطروحة على الدولة الخليجية وضرورات التحديث السياسي. الآن تشغل الكتبي كرسيّ العلوم السياسية بصفة أستاذ مساعد في جامعة الإمارات، داعمة بذلك ظهورها الإعلامي بالسجالات اليومية مع الطلبة التي تعوّل عليها كثيراً. قالت ‘’تأسيس ثقافة الانتخاب أهم من صندوق الانتخاب نفسه’’. ‘’الوقت’’ التقت بابتسام الكتبي على هامش تقديمها ندوة في البحرين قبل نحو أسبوعين بدعوة من جمعية المنتدى. فيما يلي مقتطفات من الحوار معها:
ينظر إليك بوصفك صاحبة صوت راديكالي بعد كل مواقفك الصريحة الموجهة حيال نقد النخب الحاكمة في الخليج. دعينا نفهم بداية البيئة الثقافية التي ينبثق منها صوتك. هل هناك في تراث عائلتك مثلاً، ثقافة سياسية دعمت ولادة هذا الصوت؟
– لا أستطيع أن أدّعي هذا الشيء. ليس في عائلتي فقط، إنما حتى في عموم بلدي الإمارات. ليس ثمة تراث سياسي على غرار التراث الموجود في البحرين بالنسبة إلى وجود عوائل تشتهر بالمعارضة أو حتى بالنسبة إلى وجود ثقافة سياسية عامة لابأس بها. لكن أستطيع أن أقول إن هذا الصوت بدأ في التشكل في مرحلة الثانوية، حين كنت أتابع أخبار الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وعمان. في الواقع، أدين إلى الجبهة بتشكل بدايات وعيي السياسي، وقد تأكد هذا العامل لدى ذهابي إلى الدراسة في مصر واحتكاكي بالطلبة البحرينيين الأعضاء في الاتحاد الوطني لطلبة البحرين – فرع القاهرة. في العلوم السياسية يتم دراسة مفهوم اسمه ‘’التنشئة السياسية’’، وهو يتوجه من بين ما يتوجه إلى جماعة الرفاق المحيطين بوصفهم مؤثراً في عملية التنشئة. وهو ما كان عليه حالي بالنسبة إلى علاقتي مع الجبهة والطلبة البحرينيين. زد على ذلك، أن مصر كانت تغلي آنذاك. فحتى مرحلة الثمانينات كان لا يزال البعد القومي طاغياً. كنت أشاهد التحركات الشعبية، المظاهرات وطرق التعبير العامة وكنت أتأثر. توافق ذلك مع وجود تيار بين الإماراتيين أقرب إلى الأيديولوجية اليسارية. كل هذه الأمور شكلت البيئة الثقافية والسياسية التي وجهت قناعاتي لكي تسير في اتجاه معين، أنت سميته ‘’راديكالياً’’.
إلى أي درجة يمكن القول إنك معارضة؟
– في المجمل، لا أحبذ تعريفي على جهة أنني معارضة. لكن إن شئت، فأنا معارضة فقط للسياسات التي لا تدفع باتجاه وجود دولة القانون والمؤسسات والحريات والمواطنة. أرى من غير المناسب في هذا العصر أن تظل دولنا محكومة بالمنظومة التقليدية السابقة نفسها. معارضة أيضاً لكلمة ‘’تدرج’’ التي أرى أنها تستخدم من أجل عمل فرملة لعمليات التغيير، كما لو أن شعوب الخليج غير شعوب العالم قاطبة أو أنهم الوحيدون الذين لا يمكن لهم أن ينضجوا. رغم أنهم من بين أكثر الشعوب العربية تعليماً، وتكاد تنعدم فيهم الأمية. وحتى في الحداثة التكنولوجية، فالدول الخليجية هي الأكثر تحديثاً.
لست وحيدة لكنني الأكثر جرأة
لكن كان لديك تصريح سابق تصفين فيها الشعوب الخليجية بأنها شعوب ‘’حديثة’’ عمرياً بمعنى أنها ليست بعراقة شعب مثل شعب المصري. على صلة بذلك أن الحداثة التي تشيرين إليها ليست نتاج عملية تاريخية، وهي ارتبطت بظهور النفط. الأمر الذي يدفعنا إلى سؤالك عن: إلى أي حد يمكن التعويل على الثقة بهذه الشعوب التي سبق وأن وصفتها بأنها أكثر من حداثة النخب الحاكمة؟
– حسناً، لن أسميها حداثة أو أي شيء لكن أسميها خلخلة. لقد عمل النفط على خلخلة العلاقة بين المجتمع الخليجي والنخب المهيمنة لصالح الأخيرة. في الفترات التاريخية السابقة لظهور النفط، صحيح كان ثمة شعور اجتماعي سائد عن الحاكم بوصفه أباً أو راعياً لكن لم يكن ثمة خنوع. أيضاً، الملكية لم تكن موجودة بالشكل الذي نجدها فيه اليوم: ملكية الأرض ومن عليها. كان هناك نوع من التشاور ولم يكن المجتمع ملغىً بشكل كلي. لكن كل ذلك غدا موجوداً اليوم بفعل الثورة النفطية التي أنتجت نوعاً من الاكتفاء لدى الحاكم يكون قادراً معه على الاستغناء عن المجتمع. لذلك تجدني أكرر باستمرار أن النخب الخليجية قد أخذت بكل أسباب الحداثة التكنولوجية والاقتصادية، في حين وقفت عاجزة أمام الحداثة السياسية. فهنا فقط يجري الإلحاح على أن هذا لايتناسب مع قيمنا العربية أو الإسلامية. شيء محير جداً، تجد أن السلط القائمة، الخليجية أو حتى العربية، تشجع شعوبها على الخروج في مظاهرات منددة حين يجري المس ببعض الرموز الدينية. لكن هذه الدول نفسها لا تستنكف من قمع شعوبها حين تتوجه المظاهرات إلى المطالبة ببعض الحاجات اليومية الملحة، الحريات أو ارتفاع الأسعار أو ما شابه.
هل يجد خطابك مقبولية لدى النخب الإماراتية أو هل استطاع أن يخلق له أرضية للحوار مع المشتركين في القناعات نفسها؟
– خطابي ليس فريداً، هناك الكثير ممن يحملون هذه الأفكار، إنما الفرق بيني وبينهم هو أنني أجهر بصوتي. جزء من الإشكال الذي يقع فيه المثقفون هو أنهم يريدون أن يكونوا مثقفي السلطان وفي الوقت نفسه مثقفي الشعب. لا، هذا غير ممكن برأيي، لا بد من اختيار مكان بين المكانين. أستطيع أن أزعم أن هناك تياراً يتعاطف معي، لكنه لايجد وسيلة للتواصل. ليس ثمة قنوات لذلك، غير الكتابة في الصحف أو الظهور في التلفزيونات، لكن طبعاً خارج نطاق الصحف والتلفزيونات المحلية لأنها لاتسمح بتمرير الأفكار التي تنوي تمريرها بحرية.
ثقافة ديمقراطية ممنوع أن تسود
كيف وجدت كتاب ‘’رؤيتي’’ لحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي على أساسه قامت مدينة دبي. هل تتفقين مع بعض النقد الموجه بشأن أنه عجز عن رؤية التحديث السياسي الذي على أساسه ينبغي أن تكون المدينة قائمة؟
– لقد أنجزت دبي الكثير في المجال الاقتصادي لكن من دون أي منجز سياسي. ربما لأنها تسير في ذلك على خطى النموذجين الكوري والصيني في التنمية. إذ كلا النموذجين يقومان على تحديث اقتصادي من دون تحديث سياسي. دبي غير معنية أساساً بالسياسة، وهذا ليس من الآن. إنها لا ترسم لنفسها نموذج دولة سياسية، إنما دولة مفتوحة للاقتصاد. وفي الاقتصاد المطلوب هو الاستقرار من أجل جذب رؤوس الأموال لا أكثر أو أقل، أما السياسة فهي لا تتناسب مع ذلك.
لكن هل يمكن أن تكون هناك مدينة قائمة على تحديث اقتصادي من دون تحديث سياسي؟
– المشكلة أن سكان دبي قطرة في بحر عمالة أجنبية مائج، ناهيك عن مشكلة موازية تتعلق بضعف الثقافة السياسية. أضرب لك مثالاً، في السنوات الأخيرة جمع بعض السكان الأجانب المقيمين في دبي قرابة 20 ألف توقيع وأرفقوها بعريضة احتجاج نظراً لأن مستثمراً أراد بناء مبنىً كان سيحجب عنهم رؤية الشاطئ. وهو الأمر الذي لم يجرؤ أحد من الإماراتيين على فعله. هذا لا يعني أن ليس لدى الإماراتيين مطالب ملحّة، لكن ثقافتهم السياسية، فضلاً عن ممارستهم، لا تؤهلهم للتفكير في أسلوب العرائض كوسيلة من وسائل الاحتجاج أو المطالبة. في حين أن معظم العمالة الأجنبية آتية من بلدان ديمقراطية تعد فيها وسائل التعبير هذه بمثابة خبز يومي. ثمة مشكلة أخرى هنا، وهي أن هذه الثقافة السياسية الراسخة من غير المرجح أن تحدث تأثيراً لدى المواطنين الإماراتيين، على غرار مثلاً التأثير الذي أحدثته العمالة الفسلطينية في الكويت، كون الاحتكاك بين العمالة الأجنبية والمواطنين معدوماً. فالإماراتيون كما سبق وأن أشرت قطرة في بحر، ثم إن دبي تعيش في ما يشبه الكانتونات، حيث إن كل جالية معزولة عن الأخرى.
الانتخابات ليست كل شيء
عملت في فترات مختلفة في لجان لها علاقة بإعداد برامج أو مناهج تعليمية تتعلق بالثقافة الوطنية. هل استطعت أن تعكسين جملة أفكارك المتعلقة بالحداثة السياسية والثقافة الديمقراطية داخل هذه البرامج؟
– لا أستطيع القول إنني عكست الحداثة السياسية، لكنني سعيت إلى وضع معارف سياسية يكون مؤداها النهائي إيجاد نوع من التثقيف السياسي. معارف من قبيل عملية الانتخاب وأشكال أنظمة الحكم وأيها يمكن أن يكون ديمقراطياً وأيها لايكون انطلاقاً من أسس الأنظمة الديمقراطية. في منهج حقوق الإنسان مثلاً، جرى التركيز على الحقوق المدنية والسياسية من باب تعريف الطالب بحقوقه. في هذه الحدود كنت أمارس دوري، خصوصاً وأنه بالنسبة إلى منهج علمي فالواجب الأول هو الالتزام بالنظرية، أي أنك لايجب أن تصدر عن انطباعات أو آراء سياسية. تلك كانت وجهة نظري، وربما لو كان لدى آخرين وجهة نظر أخرى تصدر عن غير توجهي لجاءت المناهج بصيغة أخرى. تماماً كما كانت في السابق مناهج التربية الوطنية، حيث يجري التركيز على التاريخ وتصوير الانتماء على أنه مجرد الارتباط بأرض وعلم. إن شئت، تلك الأشياء التي عكستها من خلال شغلي لهذه الوظائف.
كان لديك رأي أيضاً حول أن التأسيس لثقافة الانتخاب أهم من صندوق الانتخاب نفسه. هل يعني ذلك اقتناعك بأن التحديث السياسي على صعيد المجتمع يكون سابقاً تحديث الدولة؟
– برأيي، إن الإطار العام الذي تأتي الانتخابات بموجبه أهم من الانتخابات نفسها. ذلك أن هذا الإطار يتصل بالثقافة الديمقراطية. فالانتخابات هي التي أوصلت هتلر (1889 – 1945) إلى السلطة، وكان ذلك عبر الممارسة الديمقراطية. بالتأكيد، حين لاتكون هناك ثقافة انتخابية سابقة للعملية الديمقراطية فإن النماذج التي ستأتي هي من شاكلة هتلر، والعكس صحيح أيضاً. مشكلة الأنظمة أنها تهتم بصندوق الانتخاب لتحسين وضعها وامتصاص ضغوط الداخل والخارج معاً، فتجد فيها انتخابات لكن في الوقت نفسه تجد الحريات الصحافية مخنوقة. نعم، قناعتي أن الانتخاب ليس كل شيء، فمسألة الشفافية أهم، كذلك الحال بالنسبة إلى الفصل بين المالين العام والخاص. هذه أسئلة جوهرية ينبغي أن تطرح وتناقش اليوم في الخليج.
لهذا السبب الخليج تأخر
هناك أكثر من مقاربة تطرح في عملية تفسير الخلل في الدولة الخليجية. ثمة أطروحة تقوم على تحليل عنصر القبيلة، وثمة أطروحة تقوم على تحليل الميراثية، وثمة أطروحة ثالثة أخيراً تقوم على تحليل الريعية. كيف تجدين هذه الأطروحات الثلاث، وإلى أي منها تميلين؟
– كلها مجتمعة، لكن دعني أقف هنا عند الأطروحة الريعية. لقد تزامن ظهور النفط مع نقص حاد في عدد السكان. الأمر الذي أنتج سهولة في توزيع ريع النفط واستخدامه في شراء الولاءات. لهذا قلت إن ظهور النفط خلخل العلاقات لصالح السلط الحاكمة على حساب المجتمعات. في السابق كان هناك نوع من المشاركة. كانت هناك دورة نخبوية ماشية، وكان أفراد القبيلة يتدخلون في اختيار الحاكم، نظراً لكون الظروف الصعبة آنذاك تستوجب اختيار حاكم يصل بهم إلى برّ الأمان. فكان الحاكم لا يعبر عن سلالة فقط إنما كان الأحكم والأقدر أيضاً. أتى الاستعمار وخلخل هذه المعادلة عن طريق ما كان يدفعه من أموال وإيجارات مقابل تأمين خطوط المواصلات واحتكار حقوق التنقيب عن النفط في بيئة مستقرة لكن على حساب الديمقراطية. ومع اكتشاف النفط، اكتملت عملية الخلخلة، فأصبح الحاكم مستقلاً عن الناس تماماً، صار هو المعطي والواهب. تلك كانت السيرورة التاريخية التي مرت بها معظم دول الخليج، ربما باستثناء الكويت. هذا يفسر إلى حد ما أن شعوب المنطقة تقاعست عن التعبير عن أية مطالبات سياسية في الوقت الذي كانت شعوب العالم كلها تطالب. فالريع جعل الحاكم يستغني عن الضرائب وبالتالي عن الاحتياج إلى المحكومين، وصار العكس، الناس هم المحتاجون للحاكم ومعتمدون على ما يضن به عليهم. وأصبح الدخول إلى دورة الريع مرتبطاً بدرجة القرب أو البعد من الشخص الواهب. هذا جزء من الصورة، الجزء الآخر يكمن في الثقافة السياسية. فقد ظلت الذهنية العامة تنظر إلى الحاكم بوصفه أباً وراعياً، الأمر الذي أعاق تعميق فكرة تداول السلطة. يجب ألا ننسى العامل الخارجي أيضاً، الذي لم يفصح عن مبادرات جدية حيال عملية الإصلاح. وحتى حين ارتفع صوت الغرب أخيراً بشأن إصلاح الأوضاع في الدول العربية، سرعان ما ظهر كذبه.
الأطروحة الريعية.. نواقص في التحليل
ناقشت في رسالة الدكتوراه أطروحة الدولة الريعية التي هي في النهاية نموذج تفسيري يحلل قصور بناء الدولة وعدم إنجازها. ما هي أوجه قصور هذه الأطروحة بنظرك في تفسيرها للدولة الخليجية؟
– لدى مناقشة الأطروحة الريعية تواجهك مشكلة أن جميع المقاربات السابقة لها كانت تقتصر على مقاربة البعد الاقتصادي. لم يحاول أحد تناولها من زاوية البعد السياسي والعلاقات التي تخلقها على هذا المستوى. بالنسبة لي، فقد كان اشتغالي على هذا البعد تحديداً. بمعنى آخر، أن المقاربات السابقة ركزت على كيف أن الاقتصاد الريعي أنتج منظومة ريعية ملاكها وجود أفراد يأنفون من العمل اليدوي ثم يتلقون مكافأة لا تتناسب والجهد المبذول. وهو الأمر الذي تم التسالم على تسميته ‘’العقلية الريعية’’. لكن أحداً لم يسأل عن انعكسات هذه العقلية على الدولة والمجتمع. في الواقع إنني لا أريد حتى استخدام كلمة دولة، نظراً لعدم وجود دول بالمعنى الحقيقي للدولة. ثمة سلط سياسية موجودة، والريع همش المجتمع لصالح هذه السلط. لو دققت قليلاً في الفترات التي سعت فيها السلط القائمة إلى الدخول في تسويات ولو شكلية مع مجتمعاتها لوجدت أن ذلك يحصل في الفترات التي يتراجع فيها مردود العائد النفطي، أو ينحصر تأثيره. سترى أن الإصلاحات التي عمّت بعض دول المنطقة حصلت في الفترة التي أعقبت تحرير الكويت (1991). وقد تزامنت مع نقصان العوائد النفطية طيلة الفترة التي تلت منتصف الثمانينات. صحيح إن الحرب رفعت أسعار النفط، لكنها أوجدت عجوزات مالية كبيرة في الموازنات بسبب كلفة الحرب. فكان ثمة انكشاف مالي للدول الخليجية بموازاة من الانكشافين الأمني والعسكري. وهو الأمر الذي أظهرها في صورة هشة. وآنذاك سادت موجة الحديث عن الإصلاح أغلب دول المنطقة، ولأول مرة ظهرت مطالبات سياسية في السعودية. وفي البحرين تم العمل بنظام مجلس الشورى. المشكلة أن هذه الإصلاحات، لاتسير ضمن وتيرة واحدة. فحين تكون هناك عوائد نفطية كبيرة تنتكس العملية الإصلاحية وتسود القبضة الحديدية، وعلى العكس تتسارع وتيرتها مع انكشاف العائد النفطي. تلك الجوانب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأطروحة الريعية، لكن أحداً لايفضل تناولها فيما يجري التركيز كما أسلفت على الأبعاد الاقتصادية.
ثمة أيضاً البعد الثقافي المتعلق بمفاهيم الناس عن الحاكم وفصل الديني عن السياسي والمواطن الفرد، الأطروحة الريعية لاتضع كل ذلك في الاعتبار. دعينا نتحدث بصراحة هنا عن مسألة العلمنة.
– هنا أيضاً تجد أن النخب الحاكمة ركبت الدين واستخدمته كأساس لشرعيتها. ظلت فكرة العلمانية التي هي فكرة محايدة حيال الأديان والطوائف بعيدة عن ممارساتها. بل على العكس، لقد أضافت على الدين تراثها القبلي. وهو الأمر الذي أوجد عندنا دولة قبلية بلباس عصري. لذا فأنا أقول صحيح كان هناك تحديث لكنه ظل تحديثاً خارجياً لم يطل الجوهر. الجوهر ظل تقليدياً. ظل الحاكم نفسه شيخ القبيلة. في حين أن الحداثة تستوجب قيماً جديدة غير القيم الموجودة. نتحدث عن العلمانية بوصفها فكرة حيادية ونتحدث عن الدولة المدنية. وهنا لا توجد مشكلة من أن يكون المجتمع متديناً في الوقت الذي تكون فيه الدولة مدنية.
ثقافة للديمقراطية أولاً
ألا يحوي هذا الكلام تناقضاً، ذلك أن الدول الموجودة عاكس موضوعي للأحوال في المجتمع. دعينا نأخذ القبلية التي تحدثت عنها، أليست السلط الموجودة عاكساً ليس إلا للروابط القبلية في المجتمع، بمعنى أنها لم تقم باستحداثها. الأمر الذي يؤشر على أن الخلل مجتمعي قبل أن يكون متعلقاً بالسلطات المهيمنة؟.
– هذا يرجعنا إلى الكلام الذي قلناه بشأن تأسيس ثقافة للديمقراطية. بوجود ثقافة ديمقراطية لن تكون هناك نخب مستبدة. أزعم أن الدولة في الخليج لا تعكس المجتمع.. المجتمع أكثر حداثة من الدولة. ثمة مطالب اجتماعية تنادي بالانفتاح والحريات في حين الدولة لاترضى بهذا. لو كانت الدولة عاكسة لذلك لتمثلت هذه الأفكار في مؤسساتها.
ماذا تقولين إذن بشأن نماذج الانتخابات التي جرت في بعض الدول العربية وأفرزت قوىً غير حديثة، إما قبلية أو إسلامية؟.
– أقول إن سبب ذلك غياب ثقافة ديمقراطية. في ظل القهر لابد أن تأتي مثل هذه التيارات. متى تضعف هذه التيارات؟. فقط بالممارسة. خذ مثال الإسلاميين في تركيا الذين يعدون مثالاً ناجحاً. صحيح إن تركيا بلد غير عربي، ولكنها مثال فقط على أن الإسلاميين يمكن أن يصلوا إلى مواقع متقدمة من دون أن يقوموا بتغيير قواعد اللعبة. شخصياً، ليست عندي مشكلة في أن يحكم الإسلاميون شريطة أن يحترموا قواعد اللعبة السياسية ولا يقصون الآخرين.

http://alwaqt.com/art.php?aid=110631

تجـــريم المــولــوتــوف

بعد مقتل الشرطي ماجد أصغر، قررت هيئة مكتب مجلس النواب بشكل عاجل إدراج مشروع قانون تجريم المولوتوف ضمن جدول أعمال جلسة مجلس النواب بعد أن أدخلت لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني بمجلس النواب بعض التعديلات البسيطة عليه. وقد تم في جلسة مجلس النواب إقرار قانون (تجريم المولوتوف). وينص القانون على أن يعاقب بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع عبوات قابلة للاشتعال أو الانفجار بقصد استخدامها لتعريض حياة الناس أو أموالهم للخطر أو حاز أو أحرز ما صنع منها بذات الغرض.
شخصياً، ليست لدي اعتراضات على القانون، ولا تحفظات بشأن إمكانية إساءة استغلاله، ولا حتى على الطريقة التي تمّ بها إقراره.
لكني، أأسف أن القانون لن يحمل ذاكرة وطنية ولا إنسانية، ليس لأن هذا القانون لن يحمي المجتمع من العنف، أو يحد منه، وليس لأن ماجد أصغر (رحمه الله)، لم يكن مواطناً بحرينياً، وليس لأنه لم يكن في مهمة وطنية، وليس لأن حادثة القتل نفسها ليست مستنكرة إنسانياً. 
بل، لأن السياق الذي جاء فيه القانون، يحمل خلفية اجتماعية وسياسية شديدة الاختلاف والتضارب والانقسام وتصفية الحسابات. نعم، هناك إجماع وطني على إدانة القتل، لكن ليس هناك إجماع وطني على تفسير القتل، ولا على حكايته، ولا على تداعياته، ولا على الموقف من إدارته، ولا على ما بعده، وربما ولا على ما بعد بعده.
القانون لا يستمد قوته من الشرعية الدستورية والمؤسسية فقط، ولا من إجماع القوى السياسية فقط، بل يستمد قوته أيضاً من المجتمع الذي يضعه، ومن التاريخ الذي يأتي في سياقه، ومن الحكاية التي تفسر من خلالها الناس غايته البعيدة. خصوصاً قوانين التجريم التي ترتبط بأوضاع خاصة وأحداث يمر بها المجتمع ويحتاج من خلالها إلى وضع قانون يحمي به نفسه ويحقق من خلاله العدالة.
علينا أن نفهم أن المجتمع أكبر من الجمعيات السياسية والقوى السياسة، مهما كانت درجة تمثيلها للمجتمع، وإذا كانت القوانين تقرّ أحياناً بسبب التسويات السياسية أو الصراعات السياسية، فإن ذلك لا يعني أنها تمثل إجماعاً وطنياً، يمكن أن نثق فيه ونعول عليه. ونطمئن أنفسنا بقدرة القانون المقر بهذه التسويات على أن يحمينا من العنف.
لقد وجّه رئيس تحرير جريدة أخبار الخليج أستاذ أنور عبدالرحمن يوم التصويت على قانون تجريم المولوتوف (رسالة عاجلة إلى حضرات نواب الأمة) في الصفحة الأولى من جريدته، يقول فيها: الإخوة الأفاضل.. السادة أعضاء مجلس النواب الموقرون، فلقد أراد الله أن تجيء هذه الكلمة مقياسا لأدائكم وإخلاصكم لوطنكم وموقفكم منه ومن قضاياه! يا أصحاب المقاعد الجليلة.. أسماؤكم اليوم ستكون في وجدان وميزان العمل الوطني.. تسلمونها إلى ذاكرة التاريخ التي لا تخطئ ولا تشيخ، كما تخلد هذه الكلمة في ضمير الأمة والوطن شاهدة عليكم بأنكم أبناء الوطن الذين أدانوا الإجرام في حق الوطن وتصدوا له.. أو باركوه!’’
يربط هذا، نداء هذه الرسالة القانون بالذاكرة والتاريخ والوطن، وهذا ما يؤكد أن القانون بحاجة دوماً إلى ذاكرة وتاريخ يستمد منهما قوته، لقد صوّت النواب على إقرار القانون، مع امتناع ثلاثة منهم عن التصويت، فهل ستكون أسماء النواب الذين أقروا القانون في وجدان وميزان العمل الوطني؟ أنا أشك في ذلك، ليس لأن هذا الإقرار لا يستحق أن يدخل ميزان العمل الوطني ووجدانه، بل لأن هذا الميزان لا يحتكم إلى معايير أحد ما، هو ميزان يحتكم إلى من يشكلون هويته الوطنية، وهم أمة المواطنين، وهؤلاء يكادون يحطمون هذا الميزان، لشدة اختلاف أوزانهم ومقاييسهم ومعاييرهم، بل منهم مطففون، وهناك فرق بين المطففين والطائفيين، فالطائفيون مطففون، ولكن المطففين قد يكونون غير طائفيين، لكنهم يلعبون بالميزان الاقتصادي لا العقائدي.
ميزان الذاكرة الوطنية، لا يحتكم إلى قانون، ولا يمكن لنداء أن يحكمه أو يحكم عليه، وهو لا يشتغل بالأمنيات، ولا باللعب بالمكاييل، ولا بالخطب العصماء، ولا بالتطمينات، ولا بزيارات القيادات السياسية العليا.
قد يكون القانون وطنياً، لكنه لا يحمل ذاكرة وطنية، فمسألة الذاكرة متروكة للزمن والتاريخ، ونحن لا نفعل أكثر من أن نتوقع ونتنبأ وفق السياق الاجتماعي الذي ينتج الأحداث والقوانين. لذلك حين أقول إن قانون تجريم المولوتوف لا يحمل ذاكرة وطنية، فأنا أقولها استناداً إلى ما أقرأه من احترابات خطابية في المجتمع، وليس استناداً إلى موقفي من القانون.
لذلك لا يمكن لقانون لم يهيأ له أن يحمل ذاكرة وطنية، كما هو قانون المولوتوف أن يسهم في تعزيز اللحمة الوطنية، كما يعوّل على ذلك الأستاذ على سيار مثلا ‘’قرار تجريم المولوتوف، لابدّ وأن يسهم في تعزيز اللحمة الوطنية وتقوية سلطة الأجهزة الأمنية المسؤولة عن الحفاظ على أمن المواطنين وسلامتهم، وسلامة ممتلكاتهم، وهو ما يطمح إليه ذلك المواطن الذي يعرف قيمة الانتماء إلى الوطن وقيمة المحافظة على أمنه’’.
كي يحقق القانون غايته البعيدة لا عقوباته القريبة، هو بحاجة إلى سياق يحفظ له ذاكرة تاريخية. وإذا كان هذا القانون سيمكن وزارة الداخلية من أن تمد ذراعها الأمني بشكل قانوني، حين يمور قاع المولوتوف، فإنه لن يمكنها من أن تمدّ ذراعها حتى بشكل ودي، كي توقف ما يمور في قاع المجتمع من احترابات وتجاذبات. فما يمور في قاع المجتمع يشبه ما يمور في قاع المولوتوف، ونحن بحاجة إلى قانون يحمينا مما يمور في قاع الأول، كي نضمن القاع الثاني.
لقد أحال الخطاب الإعلامي، كل ما ارتبط بالحادثة إلى ‘’الإجماع الوطني’’، وكمراقب للخطابات وكلماتها، أشك أن الإحالة كانت إلى الإجماع الوطني، فقد كان هذا الأخير حاوية كبيرة تتسع لا للمواطنين ولا إلى ما يجعل منهم مواطنين (من قوانين ومشاريع وإنجازات ودساتير وروابط مدنية) بقدر ما كانت هذه الحاوية في استخداماتها المبتذلة تتسع إلى من يحقق مكاسب سياسية لأطراف لديها خصومات سياسية.
أخشى أن يتحول تجريم المولوتوف إلى تجريف المولوتوف، حينها لن نكون أمام خطأ مطبعي بين تجريف وتجريم، بل أمام خطأ وطني.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6679

حوار مع حازم صاغية 3

حازم صاغية يفتح ملفاته لـ«الوقت»: قبل كل شيء…

مشكلتنا في لبنان ثقافية (3-3)
الطبقة الوسطى العربية جبانة ومستقيلة عن دورها التنويري

الوقت – حسين مرهون وعلي الديري:
في مطلع الثمانينات كان حازم صاغية واحداً من بين جمهرة شبان يافعين ممن راحوا مطلقين قبضاتهم في الهواء هاتفين بحياة ثورة إيران الخمينية وحياة قائدها الروحي روح الله الخميني. لكن زخم الهتاف لم يدم طويلاً، إذ لم تكد تنقضي أشهر قليلة حتى كانت القبضات تتراخى تحت وطأة انكسار أفق التوقع وسرعان ما أتى الطلاق. الأمر نفسه كان من نصيب تطواف له سابق على ذلك – وهتافات وقبضات حماسية لقائد شعبي يروح وقائد يجيء! – حَرَثه ما بين الورشتين الناصرية فاليسارية. الآن، فإن قبضات حازم لم تعد تهتف بشيء. قال ‘’انتهت الخرافة.. الشعوب ليست عظيمة، إنها أسوأ من الأنظمة بكثير’’. حديثاً جداً عاد ليستقرّ في عاصمة بلده (بيروت) بعد إقامة طويلة دامت نحو العقدين في مدينة الضباب (لندن). يبدو متخففاً كثيراً من ‘’روشتات’’ الوعد والخلاص، ‘’الروشتة’’ الوحيدة المتبقية لديه والتي تمثل اليوم أقصى مطمح عنده ‘’تقريب الناس إلى بعضهم، يصبح الشيعي أقلّ شيعية والسني أقلّ سنية، ومثل ذلك المسيحي’’ لا أكثر أو أقل. ‘’الوقت’’ التقت بحازم صاغية على هامش زيارته إلى البحرين قبل أسبوعين بدعوة من جمعية المنتدى، وفيما يلي الحلقة الأخيرة من الحوار معه:
قلت في سيرتك الفكرية ‘’إن فضيلة الماركسية تعليم حاملها نقدها هي نفسها’’. ويبدو أن الناقد قد صاحبك حيث انتهيت بعد تطواف ضافٍ على الورش الأيديولوجية إلى جعل فكرة الدولة مبتداك ومنتهاك. على صلة بذلك، فقد مرت تجربتك الصحافية بتحولات عدة وكنت الناقد مرة أخرى، لكن إلى الصحافة باعتبارها مكوناً من مكونات الدولة الحديثة. دعنا نبدأ من تجربتك الصحافية في ‘’السفير’’.. ماذا تقول عنها؟.
– أجواء العمل في ‘’السفير’’ قريبة من أجواء العمل النضالي، حيث يتوجب على الصحافي الداخل إليها أن ينهض بأعباء من جنس النضال الأيديولوجي. وآنذاك كنت يسارياً شاباً، وكانت ‘’السفير’’ تحتضن إليها مجموعة من الصحافيين اليساريين، منهم شباب مثلي ومنهم كبار أيضاً، من أمثال ياسين حافظ وميشيل كامل وغيرهما. لكن افتراقي مع ‘’السفير’’ حصل مبكراً جداً، تحديداً منذ العام .1981 ويمكن لأي شخص أن يراجع ما كنت أكتب في تلك الفترة ويقارنه مع ما كان يصدر عن الخط العام للجريدة ليكتشف بسهولة أنني كنت بمكان والجريدة بمكان آخر. كان رأيي عهدئذ، وهذا واحد من بين افتراقات أساسية مع ‘’السفير’’، أنه ينبغي أن توجد دولة حتى يتمكن المرء من معارضتها. ولكن أن تتم معارضة دولة غير موجودة أصلاً، فإن هذا أسهل طريق إلى البربرية والفوضى المطلقة. يحكم من يحكم، لا يهم، المهم أن يأتي من يحكم ومن ثم يمكن معارضته لو توفرت ضمانات. إذاك نشأت عندي فكرة تقول إن الأمور لا تعرّف سلباً إنما تعرّف بالإيجاب. أعطيك مثالاً هنا، في العام 1985 انسحبت إسرائيل من صيدا وجرى التهليل لذلك من أطراف عدة، في ‘’السفير’’ وغيرها. لكن بالنسبة لي فقد كتبت مختلفاً مع أجواء التهليل، قلت إن هذا ليس تحريراً. التحرير ليس أن ينسحب العدو، إنما أن يتم إلحاق الأرض التي انسحب منها إلى المركز/ إلى الدولة. كان رأيي أنه إذا ما انسحبت إسرائيل من صيدا وحلت مكانها العصابات والطوائف والميليشيات المسلحة فإن هذا الشيء ليس منه فائدة سوى لإسرائيل كونها قامت بالتخلي عن مسؤولياتها باعتبارها دولة محتلة حيال صيدا. لا، لم يكن هذا تحريراً يفرح به، فالتحرير أن تأتي بالأرض من العدو وتربطها بدولة، اقتصادياً وأمنياً وتعليمياً. ولكن مجرد أن تنسحب إسرائيل فهذا شيء أقرب إلى الاجتماع القبلي، تذهب قبيلة وتأتي أخرى، وليس الاجتماع القائم على العيش ضمن دولة. لهذا قلت إنني تحوّلت من التعريف السلبي للأمور إلى التعريف الإيجابي. وهكذا، فأن تكون وطنياً ليس معناه أن تكون ضد أحد، إنما تكون مع أحد، وفي موضوعنا هو الدولة. كان ذلك منعطفاً أساسياً في التفكير، بين ما كنت عليه من قناعات وما كان عليه خط ‘’السفير. 
وكيف جرى الفراق مع ‘’السفير’’؟.
– بمودة بالغة، فطلال سلمان (ناشر صحيفة السفير) صديق عزيز، وكان قادراً على أن يستقطب لصحيفته أصواتٍ متعددة. وإلى حد الآن تجد ‘’السفير’’ قادرة على القيام بهذه التوليفة. فصحافيون مثل عباس بيضون وحسام عيتاني ووسام سعدي وغيرهم يكتبون بشكل مختلف عن الخط الذي يصدر عنه طلال. لكن في الحقيقية، فالحياة مع ‘’السفير’’ لم تنته، إنما انتهت من بيروت. وتحديداً حين توفر لي عرض في لندن لدى افتتاح مكتب صحيفة الحياة هناك (مطلع الثمانينات). ويومذاك كانت بيروت مدينة لا تطاق، لا ماء ولا كهرباء ولا حتى قابلة للعيش. جاء العرض، وذهبت، فكان الفراق.
أنا في مكان ‘’والسفير’’ في آخر
هل كانت تجربة لندن مع ‘’الحياة’’ امتداد للتحول الذي بدأ من ‘’السفير’’ أم اتخذت ملمحاً آخر؟
– لا طبعاً، كانت امتداداً للتحول الذي بدأ في بيروت منذ مطلع الثمانينات. لكن طبعاً، ففي لندن استفدت من مناخ صحافي أكثر غنىً.
لكن هل كنت مستوعباً من قبل الخط العام في ‘’السفير’’، في حدود السنوات القلائل التي عملت فيها معها، أم كان ثمة شد وجذب؟.
– بالنسبة إلى الخط العام، فكما ذكرت، كنت بمكان والجريدة بمكان آخر. أسوق مثالا آخر إضافة إلى الأمثلة التي توقفت عندها. في العام 1983 وقفت ‘’السفير’’ ضد أمين الجميل في ‘’الجبل’’، وكانت تريد إسقاطه، وكان موقفي على العكس. لم أكن أحب الجميّل لكن لم يكن إسقاطه شاغلي. أيضاً وقفت الصحيفة ضد اتفاقية 17 مايو/ أيار (اتفاقية جرت إثر سلسلة من المفاوضات بين لبنان وإسرائيل بعد 32 جولة من المفاوضات وجرى عرضها على البرلمان اللبناني) في حين كنت أنا معها. كان رأيي وقتذاك انه إذا ما كان ممكناً عقد صلح مع إسرائيل وتعود الأراضي اللبنانية فلم لا. فالنزاعات في آخر الأمر لابد أن تكون لها نهاية، ولايوجد نزاع في المطلق ينتقل من جيل إلى جيل، وإلا أصبحت نزاعات لا تاريخية. ولا سيما أن أثر هذه النزاعات، على لبنان تحديداً، هو أنها منعت من تحوله إلى دولة.
ما الذي أخذت من ‘’السفير’’ إذن؟.
– أخذت أشياء كثيرة، تعلمت أن أكتب وأساجل كما تعرفت إلى أصدقاء عزيزين جداً، وكثير منهم لا يزالون أصدقاء إلى الآن. في الواقع، هناك الكثير الذي أخذته.
هل توافق صديقك وليد نويهض توصيفه للمراحل التي مرّت بها ‘’السفير’’ لجهة خطابها الصادر، بين ‘’شقفة’’ قومية عروبية استمرت لغاية خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان (1982)، ثم بعد ذلك ‘’شقفة’’ من خطاب المقاومة و’’شقفة’’ من الحريرية وإعادة الإعمار استمرت إلى وفاة رفيق الحريري (2005)، لتنتهي أخيراً ابتعاداً كلياً عن مشروع الدولة لصالح مسار المقاومة ومعارضة حزب الله – عون؟
– إلى حد ما صحيح. لكن للإنصاف، فأنا طيلة هذا الوقت كنت في لندن. أي أنني لم أتابع ‘’السفير’’ بدقة كما لو أنني كنت في بيروت، فالجريدة لم تكن متاحة بصورة يومية. كنت أتابعها بين وقت وآخر.
تخدير التناقضات
نقل عنك إبراهيم الأمين قولك ‘’إن طلال سلمان يملك سحراً غريباً. تختلف معه في السياسة، وتختلف معه في المهنة، وتشكو من قدرته على التلاعب بك، ولكنه ينجح في كلّ مرة في إقناعك وأنت خارج من مكتبه بأنك أمام فرصة العودة للعمل في المكان الأحب إليك’’. ما الذي كنت ترمي إليه من وراء إطلاق هذه المقولة؟.
– طلال شخص لطيف جداً، ولديه قدرة كبيرة على تخدير التناقضات بينه وبين المختلفين معه. ينسيك إياها قليلاً، ويشغلك بهمومه.
يبدو أنك أنت أيضاً قادر على تخدير التناقضات. موت جوزيف سماحة الذي يمثل الطرف النقيض لك على مستوى المواقف السياسية، موته في بيتك في لندن مثال واحد على ذلك. ماذا تقول؟.
– ربما، لكنني وجوزيف لم نكن نخدر تناقضاتنا. كنا مختلفين جداً، وكنا كلما سنحت الفرصة للقاء نتشاحن ونتشاجر. المنطلقات السياسية شيء والصداقة شيء ثان.
حسناً، قبل أن تذهب إلى جوزيف لإيقاظه لتجده قد فارق الحياة فيما قرأنا عنه من نهاية تراجيدية في حينه. ما الذي كنتما تتشاجران بشأنه معاً قبل خلودكما إلى النوم؟.
– في السياسة تحدثنا قليلاً، ذلك أن الوضع لم يكن ملائماً للكلام فيها. فأنا كنت مهموماً بوفاة زوجتي مي (غصوب) – توفي جوزيف بعد أسبوع واحد من وفاة مي – وفي الوقت نفسه لم يكن جوزيف بصحة جيدة. عرفت ذلك لاحقاً. لذا لم نتحدث في السياسة.
لكن هل هي سمة لصيقة بجيلكم الصحافي.. أنت وجوزيف ووليد نويهض والبقية. فعلى الرغم من كمّ التناقضات بينكم جميعاً إلا أنكم قادرون على الحفاظ على جو الصداقة فيما بينكم؟.
– تحييد السياسي عن الصداقة شيء موجود، على الأقل إن شئت عند عدد من الأشخاص معروفين لدينا جميعاً.
كيف تلقت صحيفة ‘’الأخبار’’ التي هي مشروع صديقك جوزيف قبل أي شيء، نقدك الكاسح إليها، فيما كتبت عنها في ذكرى مرور عام على تأسيسها؟.
– طبعاً لم يسرّوا به، لكننا احتفظنا بصداقتنا، بيير صعب وخالد صاغية وآخرين.
لهذا السبب تقول يعجبني فلان
تكتب مقالاتك بناء على تكنيك خاص يقوم على استثمار اللغة العربية من حدودها القصوى. وواضح أن لعبتك الأساس تقوم على مقترح اللغة الذي يبدو جزءاً مكوناً أصيلاً من مكونات تجربتك الصحافية. من أين جاء هذا الولع باللغة؟.
– أولاً أنا أحب اللغة العربية كثيراً، لأسباب تتعلق بجدتي كما ذكرت في سيرتي الفكرية، وثانياً لأنني أعتقد أن على الكاتب أن يعنى باللغة. أي أن الكتابة ليست فقط أن تقول فكرة إنما أيضاً بأية طريقة تقولها. في الأحزاب الشمولية ليس مطلوباً ذلك، إذ المهم قول الفكرة ولا يهم بعد ذلك كيف تقال، ذلك أن المهم هو المضمون.. مع كذا أو ضد كذا. وهو ما تكتشف مع مرور الزمن أنه (المضمون) قد مرّ عليك ألف مرة، ما يعني ذهاب الشكل والمضمون على السواء. لا، بنظري إن على الكتابة أن تعيد الاعتبار للغة، وليس كافياً أن يكون الرأي قويماً وصادقاً، فهذا الشيء يعطي واعظاً، لكن لا يعطي كاتباً بنظري. الكاتب يجب أن تكون لديه علاقة خاصة باللغة، وهو ما يجعلك تقول إن فلاناً تحب أو لا تحب أسلوبه. في الحياة المعتقدية ليس مطلوباً الأسلوب، المهم هو إعلان موقف، وعلى هذا تجد أن لغة الحزبيين تقترب من لغة البيانات. ينتفي الأسلوب في الأنظمة المعتقدية التي تلغي الفرد وخصوصيته.
الملحوظ أيضاً أن كثيراً من تقنياتك الكتابية ترجع إلى المكون الفلسفي أو الفكري بشكل عام. فلجوؤك أحياناً إلى القيام ببعض التفريقات المفاهيمية من قبيل ‘’الأشياء تُعرّف إيجاباً لا سلباً’’ أو ‘’لست مع الغرب لكن مع أن أكون مثله’’ كلها تقوم على تشغيل المكون الفكري وتظهيره عبر آلة اللغة. هل يمكن أن نعزو ذلك إلى مكون خاص؟.
– ربما الثقافة الغربية لها دور، ذلك أنها ثقافة تهتم بالتفاصيل كثيراً. ألفت هنا إلى واقعة لست متأكداً من صحتها. يقال إن جمال الدين الأفغاني التقى في باريس بفيكتور هيغو. فكان أن سأله هذا السؤال: ‘’ما هو أعظم شيء في العالم’’. وفيما يروى أن هيغو استغرب للسؤال بداية، لكنه عاد ليستأنف قائلاً: ‘’الوردة’’. وحصل أن انتقل الاستغراب إلى الأفغاني نفسه، وكتب يقول إنه توقع من هيغو أن يجيب بأشياء من قبيل المروءة والشجاعة والكرم إلخ إلخ. بنظري إن هاتين طريقتان في التفكير، طريقة تخرج من أرض الواقع، أعني من التفاصيل، وأخرى تهبط من سماء الأفكار الكبيرة.
قبل كل شيء فمشكلتنا ثقافية
نلحظ أيضاً أن كتاباتك مشفرة جميعها بجهود مفكرين كبار لهم لمساتهم الواضحة على حقل الفلسفة خصوصاً. أسماء مثل ميشيل فوكو، جنونه، ألتوسير، وبنيويته، سيغموند فرويد، ومركزية الطفولة.. وغيرهم كثر ممن تتضافر توظيفاتهم بين كتاباتك. وفي مقارباتك لمشهد الاجتماع اللبناني نلحظ تركيزك على المدخل الثقافي وضرورة جعله مقاربة ضمن المقاربات المطروحة. ما أهمية ذلك؟.
– ثمة مسألتان هنا، أولاً إن افتراضي الأساس يقوم على أن المشكلة الأساسية عندنا في لبنان مشكلة ثقافية. فمثلاً تصالحنا مع فكرة الحداثة من خلال الدولة راجع إلى تصور ثقافي قبل كل شيء. وثانياً، يتعلق بمزاجي الشخصي فأنا أحب الثقافة أكثر من السياسة. ربما شغلت السياسة الحيز الأكبر من كتاباتي، ولكن تظل الكتابة الثقافية أحب الأشياء إلى نفسي. وشخصياً أفضل أن أحضر فيلما في السينما أو أشاهد مسرحية على أن أتابع أمراً سياسياً. برأيي إن الثقافة هي التي تؤنسن السياسة. السياسة بلا ثقافة شيء قاسٍ وكالح ويمكن أن تقتل إنساناً من دون رفة جفن، فيما تعلمك الثقافة الانتباه إلى الألم. تستطيع لدى قراءتك رواية ما أن تحب بطلين مختلفين في الوقت نفسه، أو تخرج من فيلم محتاراً وتجد العذر لنفسك. في حين يتعذر ذلك في السياسة. بهذا المعنى أقول إن الثقافة تؤنسن السياسة. 
إلى أي حد تجد الصحافة اللبنانية، والعربية عموماً، قادرة على أن تشتغل بالتفاصيل، تبتعد عن لغة المجموع وتقترب من لغة فردية؟.
– الصحافة مرآة الحالة الثقافية العامة، والمشكلة بنظري مطروحة على الحياة الثقافية العامة قبل أن تكون مطروحة على الصحافة. في لبنان يتحدثون عن المشكلة الإثنية، على رغم أهمية هذه المشكلة، إلا أن الكتابة المستمرة عنها تعطي انطباعاً أن لبنان محور الكون. لا، لبنان ليس محور الكون. بنظري، مطلوب استدخال عناصر عالمية جديدة في النظر إلى الأمور. لا يمكن أن تناقش تجربتك مع غض النظر عن تجارب الآخرين. خذ مثالاً على ذلك، في ظل كل الضجيج السياسي القائم بشأن عداء أميركا للإسلام لم يستوقف أحد أن أميركا نفسها هي من أوجدت دولة مسلمة في أوروبا، وهي كوسوفو. لم يتوقف أحد عند ذلك، لأن أحداً لا يريد أن يقف. ثمة ميل جماعي نحو عدم إدخال عناصر جديدة على وعينا.
كان العراق فضيحتنا جميعاً
هل تجد أن للفرق الكامن بين الإسلام العربي والإسلام غير العربي تأثيراً على ما تسميه الميل إلى عدم إدخال عناصر جديدة. في أفغانستان مثلاً، لم نشهد على رغم التدخل الأميركي، تفجيراً للهويات القديمة بالمستوى الذي شهدناه في العراق؟.
– ثمة عيوب لاحصر لها رافقت الحرب على العراق. لكن حتى هنا، ثمة وعي سحري جاهز يفترض أن الطائفية لم تكن موجودة في العراق، وأن الأميركي هو الذي أوجد هذه الطائفية. لا، هذا وهم، لا يوجد شيء يحصل بين ليلة وضحاها. لقد كانت هناك طائفية، وكان صدام حسين كابتاً عليها بقوة تاركاً إياها تعتمل في الخفاء، أي تحت الأرض. حين أزال الأميركان صدام، خرج إلى السطح وجه العراق الحقيقية. وبهذا المعنى، فقد كان العراق فضيحة لنا كلنا.
في سياق الحديث عن التفاصيل الصغيرة، كانت لك مساهمة على مستوى خطاب الفردانية من خلال كتاب ‘’مأزق الفرد في الشرق الأوسط’’. لم نجد هذا التفصيل، أي الفرد ومشتقاته، بعيداً عن خطاب زملائك الليبراليين في حين تستحوذ قضايا أخرى، سياسوية في الغالب أو سوسيوثقافية، على جل اشتغالاتهم؟.
– بنظري مسألة الفردية أو الفردانية (تمييزاً لها عن الأنانية) هي مسألة أساسية في عملية التقدم. فحين تعامل نفسك كفرد فإنك تتعامل معها كمواطن. فحين تقترع مثلاً، فإنك تقترع لمن يلائم مصالحك وقناعاتك، ليس لأن العشيرة تريد هذا الشخص أو جماعتك أو أو. وفي مسألة الفردانية، فأنا أعرف أشخاصاً أفترض أنهم حداثيون وتقدميون لكن في الوقت نفسه أسمع منهم بين فترة وأخرى أحاديث عن رغبتهم في تزويج بناتهم لفلان من الناس. أو أنهم يريدون لأولادهم وبناتهم بعد استكمال دراستهم الرحيل عن أوروبا خوفاً عليهم. ولست أدري حقيقة ما علاقتهم بذلك! هم أفراد وأولادهم كما بناتهم أفراد. يتصل بذلك، الموقف من العلاقة بالحياة. برأيي إن الإفراط في الإقبال على الشهادة له علاقة بعدم نظرتنا لذواتنا كذوات، ذوات بمعنى جمع ذات. فالذي يدرك أنه فرد لايقتل نفسه بهذه البساطة، لكن الذي يفكر أنه جزء من كل، أمة، دين، طائفة وشعب، فإنه يقتل نفسه ببساطة. إن حب الحياة مربوط بالفرد.
تزوجت مي غصوب بـ’’المدني’’
كيف تمثلت خبرتك الفردية في علاقتك بشريكة حياتك.. مي غصوب؟
– كان بيننا حب كبير جداً، وكانت هناك استقلالية كبيرة فيما يتعلق بالرأي وباتخاذ القرارات. لم يكن أحد منا يلزم الآخر بأشياء لا يريدها. بعض الأصدقاء كنت أحب السهر معهم، وكانت هي لا تحب. بالمثل، كان لديها أصدقاء وصديقات كثر ليسوا من جملة أصدقائي. كان ثمة تعاقد بين الاثنين على الاستقلالية والحرية يجعل منا متساويين.
؟ كيف كان زواجكما، وفق أية صيغة من العقود؟.
– من خلال عقد مدني.
؟ هل كان الزواج حصيلة التقاء أيديولوجي معين؟.
– لا أبداً، كنا نختلف على أشياء ونختلف على أخرى. كان الجامع الأكبر بيننا، اهتمامات ثقافية وفكرية. في السياسة كنا نتفق أحياناً، ونختلف أحياناً أخرى.
؟ بعد موت مي، إلى من آلت دار الساقي أو كيف صار وضعها؟.
– لا أعرف، لم تكن لي علاقة بالدار إلا من خلال مي آنذاك. لكن أتصور أنها بخير.
لكن لماذا لم تكتب شيئاً عن مي. قطعة صغيرة في ‘’الحياة’’ فقط؟.
– برأيي لا يزال الحدث طازجاً. لكي تكتب عن شيء فأنت بحاجة لمسافة زمنية. ساعتذاك تستطيع أن تنظر إلى المسائل بـ’’رواقة’’ أكثر.
إلى أي درجة تؤمن بما يقال عن أن المال الخليجي قد أفسد الصحافة اللبنانية، والميديا بشكل عام؟.
– كل مال يفسد الإعلام، لكن كل إعلام لا ينشأ بدون مال. هذه لعبة جدلية لا يوجد مهرب منها. برأيي إن المسؤول عنها ليس الشخص الذي يدعم ويقدم المال إنما عدم وجود طبقة وسطى شجاعة في العالم العربي. لماذا لا تبادر الطبقات الوسطى إلى إصدار صحف مستقلة!؟ أين الطبقات الوسطى العربية!؟ لماذا هي مستقيلة تماماً من مهماتها!؟ لماذا هي جبانة وغير قادرة على مصارحة الجماهير بعدد من المسائل!؟ لماذا الطبقات الوسطى لا تتحدث عن الإصلاح الديني أو يكون لديها هم على مستوى تعميم الوعي بالحداثة!؟ أسئلة كثيرة…
قبل أن نختم، كيف تصف تجربتك مع جريدة ‘’الحياة’’؟.
– مقنعة ومريحة، وهو أمر واضح من خلال ما أكتب. ليس ثمة الكثير من المشاكل. أكتب المقال وأشرف على ملحق ‘’تيارات’’.
وكيف تصف الصحافة اللبنانية اليوم؟.
– مازلت جديداً على لبنان. إذ لم تمر غير شهور ثلاثة منذ أن عدت للاستقرار في بيروت.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=109385

رابطة علماء الشريعة

أعلن حديثاً في البحرين، إشهار جمعية ”رابطة علماء الشريعة بدول مجلس التعاون الخليجي”. 
عبداللطيف الشيخ رئيس اللجنة التأسيسية، أوضح بأنها جمعية علمية إسلامية شرعية مستقلة تتكون من مجموعة من العلماء في العلوم الإسلامية من دول مجلس التعاون الخليجي. مشيراً إلى أن الجمعية تستهدف القيام بأنشطة دينية وثقافية واجتماعية وخيرية وتوعوية وعلمية، وتعمل على إيجاد التقارب بين علماء الشريعة في الساحة الخليجية، وتوحيد الآراء الفقهية والفكرية، والاهتمام بقضايا المسلمين العامة وتنبيههم إلى الأخطار التي تهدد هويتهم العقدية والثقافية، إضافة إلى الحوار مع التيارات والمذاهب الفكرية المتعددة، وإقامة الدورات الشرعية لتأهيل العلماء والدعاة، وإصدار النشرات الدورية حول القضايا الإسلامية، وعقد المؤتمر والندوات العلمية[1].
الرابطة الشرعية التي يقدم هذا التجمع هويته من خلالها، ويحدد وظائفه وأهدافه استناداً إليها، هي نفسها تشكل مشكلة تحول دون أن تكون الرابطة المدنية لمواطني دول الخليج على مستوى دولهم أو على مستوى تجمعهم الخليجي مرجعاً إليهم، فالدولة الخليجية ما زالت لم تستكمل بعد رابطتها المدنية المواطنية. وتعاني هذه الرابطة المدنية من مشكلات تتعلق بالتكوين القبلي والديني.
ما يتعلق بالتكوين الديني في شكله الطائفي خصوصاً، أصبح بعد غزو العراق مشكلة متفاقمة ومصدرا للانقسام، ولا يمكن معالجة هذه المشكلة بأدوية هي نفسها سبب في المشكلة. فالرابطة الشرعية التي صارت ملجأ للطوائف، بحاجة إلى دواء من خارجها. بمعنى أن إنشاء تنظيمات باسم الشريعة أو الدين على مستوى دول الخليج أو على مستوى كل دولة من دول الخليج كافة، يفاقم من هذه المشكلة. نحن بحاجة إلى تكوين مؤسسات أو تجمعات عابرة، والحل فيما أرى أن تكون هذه المؤسسات العابرة تحمل رسالة تعزيز الرابطة المدنية، وذلك إما بإنشاء روابط تنتمي للمجتمع المدني أو روابط فكرية تقدم قراءة جديدة للمكون الديني (الشرعي).
لو كانت رابطة علماء الشريعة تحمل في خلفيتها ما يشي بهذه المهمة، أي تقديم خطاب ديني جديد عابر للطوائف والمذاهب وأشكال التدين التقليدي أو الأيديولوجي أو الجهادي، لحققت بالفعل مهمة مدنية تعزز من تكوين الدولة غير المنجزة في المجتمعات الخليجية. لكن مع الأسف، ليس هناك على مستوى الأهداف التي تحملها هذه الرابطة ولا على مستوى التسمية، ولا على مستوى الأسماء البارزة في هذه الرابطة ما يشير إلى إمكان تقديم خطاب يتجاوز بالفعل المشكلة التي تعاني منها الرابطة المدنية أو المواطنية على مستوى الخليج.
فعلى مستوى التسمية (رابطة علماء الشريعة)، هناك إشكالية في استخدام عنوان الشريعة، وجل التنظيمات الإسلامية، تقدم نفسها بوصفها ممثلاً للشريعة وتقيم جميع احتراباتها واختلافاتها على أساس أنها الممثل الحقيقي أو الصحيح للشريعة.
وهذا ما يشير إليه رضوان السيد بقوله ”المسألة العقدية تتمثل في ذهاب سائر الإحيائيين (حتى المعتدل منهم) إلى أن أصل المشروعية في الإسلام يقوم على الشريعة، وليس على الجماعة. وقد رأى الفقهاء المسلمون قديما أن الجماعة المعصومة التي تحتضن الشريعة هي الأصل في المشروعية. فقد آمنت بدين الله، وهي تعيشه، ويعصهما إجماعها من الضلال، بل ومن الخطأ والخطل الكبيرين، من دون أن يشمل ذلك أفرادها طبعا. أما القول إن الشريعة هي أصل المشروعية، فهذا يعني وضعها خارج الجماعة، وارتهان جماعة المسلمين لحاكم أو قلة تزعم أن الشريعة بيدها[2]”.
وعلى مستوى الأهداف، ليس هناك ما يشير إلى تقديم خطاب جديد، وأعني بالجديد هنا، الخطاب الذي ينظر إلى واقعه وعالمه من منظور العلوم الإنسانية الحديثة المتجاوزة للتوظيفات الإيديولوجية أو السياسية أو السلطوية. وهي ما تعاني منه خطابات الإسلام الحركي بمختلف اتجاهاته، والإسلام الأصولي، والإسلام التقليدي والإحيائي والسلطوي، إلى آخر الأسماء التي تشير إلى إسلامات غير منتهية.
ليس في أهداف هذه الرابطة ما يشير إلى الصدور عن خطاب جديد. ولا ما يشير إلى مراجعة نقدية إلى خطاب الإسلام الحركي أو الإسلام التقليدي. وليس هناك، في هذه الأهداف، ما يبشر بقيم مدنية حديثة كالتعددية والانفتاح والتسامح وفهم الآخر. هناك ”توعية بالإسلام الصحيح، وتوحيد الآراء وأحكام الشريعة، والتنبيه إلى الأخطار التي تهدد هوية المسلمين العقدية والثقافية” المنظور الذي تصدر منه هذه الأهداف هو نفسه منظور خطاب الإسلام الحركي والإسلام الأصولي، وهو نفسه مصدر أزمتها.
وهذا المنظور ما لم يتم مراجعته نقدياً لن يفعل سوى إعادة إنتاج أزمة الخطاب الديني من جديد ولكن هذه المرة بتنظيم جديد وواجهة جديدة. وهذا يقودنا إلى القول إن كل تجمع باسم الإسلام أو باسم الشريعة أو باسم الدين، يهدف إلى خلق كيانات تنظيمية جديدة من غير خطاب جديد متجاوز لأزمة الخطاب الديني السائد، لن يكون أكثر من مشكلة أو أزمة جديدة كما هو شأن هيئة علماء المسلمين السنة بالعراق، وكما هو شأن المجلس العلمائي في البحرين، فهذه الكيانات التنظيمية وإن اتخذت لها وضعية قانونية مدنية، لن تكون أكثر من رابطة، أو جبهة، ناطقة بما يجعل منها سلطة ومرجعية لطائفة، أو لفهم لا يستوعب الرابطة المدنية العابرة للمذاهب والطوائف والقبائل والولاءات الطفيلية.
ستكون هذه الروابط، رابطة للون من الدين، الذي يتصالح مع جماعات دينية معينة أو سلطات سياسية معينة على تسويات برجماتية، لكنها لن تتصالح مع عصرها وقيمه الحديثة. وستتحول هذه الروابط إلى واجهات سياسية تستخدم بقصد أو بغير قصد الشريعة، لتكسب قوة اجتماعية تخولها أن تعالج الأمور المستجدة على الساحة بما يحقق مصالحها، لا بما يحقق مصالح الخلق، وتنطق بما تريده هي، لا بما تقصده الشريعة.
وعلى مستوى العلماء الذين يتصدرون رابطة الشريعة، مع احترامنا لمقاصدهم الخيرة، ومراميهم النبيلة، ومكانتهم الاجتماعية، ومرجعيتهم الدينية، فإنني لا أستطيع أن أصادق على خطابهم أو أعول عليه في معالجة أزمة الدولة الحديثة في مجتمعاتنا الخليجية. فهذا الخطاب الذي مازال مشغولاً بموضوعات من قبيل ”هل الوزارة ولاية عامة أو خاصة؟”، ”الحاجة قائمة وملحة لحماية العفة وصيانة الأعراض في منع الاختلاط والخلوات في أروقة العمل”، ”المجتمع الذي تموج فيه الفتن والانحلال الأخلاقي[3]”، كما هو شأن خطاب الدكتور عجيل النشمي الذي فاز أمس برئاسة الرابطة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6618

الهوامش

[1]انظر:جريدة الوقت العدد 782 السبت 12 أبريل/نيسان 2008 على الوصلة: http://www.alwaqt.com/art.php?aid=108299
[2] راجع: ”تجديد الخطاب الديني في الزمن الأميركي: العنف.. والإصلاح الديني” على موقع ”إسلام أونلاين” عبر الوصلة:
http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2004/02/article02c.shtml
[3] انظر الوصلتين:
http://www.alraimedia.com/Templates/frNewsPaperArticleDetail.aspx?npaId=20826
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperPublic/ArticlePage.aspx?ArticleID=