أعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية

جلسة مناقشة الدكتوراه

جريدة الوسط، أجرى الحوار/ باسمة القصاب

ما زال الفهم المجازي لمعنى للألوهية وعلاقتها بالإنسان يدير صراعات العالم.

العمل على خطابات تراثية تحمل داخلها رؤية كونية تتجاوز زمنها، هو في حقيقته عمل على لحظة معاصرة

*****

بعد كتابه الصادر في 2007 “مجازات بها نرى” الذي قدّم المجاز بوصفه أداة للرؤية والفهم والتفكير، لا يزال الناقد علي الديري يواصل تفكيكه لآليات التفكير عبر المجاز، هذه المرة من خلال أطروحته للدكتوراة، التي منحت له بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، الخميس الماضي 30سبتمبر الماضي 2010 في معهد الدراسات والبحوث العربية بالقاهرة.

تدور فرضية الأطروحة حول مفهوم أطلق عليه الديري لفظ “الجسد المجتاز”، يبحث مجازات الجسد في الخطاب الصوفي والفلسفي، وقد جعل من خطابي إخوان وابن عربي مادتيه القرائيتين التي قدّم من خلالهما تصورهما الخاص للإلوهية والعالم. أما ما الذي يعنيه الديري بالجسد المجتاز؟ وما علاقة دراسته بالواقع الذي نعيشه الآن؟ وما الجديد الذي يقدمه هذا البحث في موضوع المجاز؟ ولماذا اختياره لخطابي أخوان الصفا وابن عربي بالذات؟ فتلك بعض محاور حوارنا معه..

ما فرضية أطروحتك؟

الفرضية تدور حول ما أسميته الجسد المجتاز. وأعني به أن خطاباتنا عن العالم والله والإنسان والمجتمع والسلطة والدولة تستخدم الجسد أو أحد أعضائه أو خبراته الحية الوجودية المباشرة وتجتاز بها إلى الفكرة التي يريدها الخطاب. لقد اجتاز ابن عربي بمجازات الجسد ليرينا أفكاره عن الله والعالم والإنسان وعلاقتهم. وكذلك فعل إخوان الصفاء. وكلا الخطابين اعتبرا الإنسان صورة للألوهية وللكون، فالإنسان (في مجازاتهم) كتاب الله وحجته ومرآته وكنز تجلي أسمائه وصورته، ومتى فهمنا صورة الإنسان وجسده، فهمنا الألوهية والعالم.

· الفرضية وعنف الواقع

تبدو كأنها فرضية أكاديمية نظرية لا علاقة لها بالواقع؟

بل هي فرضية تحاول أن تفهم العالم وعنفه واحتراباته حول المعنى واللاهوت، مازال العالم حتى اليوم يدير صراعاته حول معنى الألوهية وعلاقتها بالإنسان. أقول ذلك وفي ذهني مثلا كتاب يوسف زيدان حول اللاهوت العربي والعنف ومآلات نصر حامد أبو زيد وكتب محمد أركون. مدخل المجاز بمعناه الحديث يسهم في فهم أفضل لهذا الصراع بل ويقدم حلاً معرفياً لصراعاتنا حول التأويل واللاهوت، فخلافاتنا في معظمها اختلافات حول طرق اجتيازنا، اجتياز مجازات جسدنا للوصول إلى حقيقة الألوهية والمعاني التي نعيش على تقديسها. ومازلنا نحتاج فرضيات لنفهم كيف تتحول مجازات اللغة والخطاب والنصوص إلى معارك عنف وصراعات معنى على مستوى العالم.

مثلا، الاعتراض على مسلسل (السيد المسيح) وتوقف عرضه في رمضان الفائت بلبنان خوفا من حدوث فتنة طائفية، استعاد اختلافاً لاهوتياً يتصل في عمقه بفهم معنى أن المسيح كلمة الله، وقد أوضح هذا الاعتراض مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم، حين قال عن المسلسل”إذ ينكر ألوهية المسيح ويتضمن تحريفاً للأحداث الحقيقيّة”. لو استرجعنا تاريخ الخلافات اللاهوتية حول ألوهية المسيح، سنجدها خلافات مجازية تتعلق بتأويل صور الكتب المقدسة المجازية لمعنى الكلمة والبنوة والأبوة والألوهية والتثليث. هذه الاختلاف المجازية تحكمه دوماً القوة السياسية ومصالحها، فتحوله لحقيقة غير قابلة للشك ولا للتعدد. وكانت روما في ذلك الوقت هي القوة التي تحدد عبر مجامعها المسكونية الكنسية الحقيقة (الأرثوذكسية) مع من؟

· المجاز ولوثة الضلال

ماذا يعني هذا المدخل بالنسبة لمفهومك للخطاب؟

الدخول على الخطاب من هذه الفرضية يعني أن الخطاب ليس مجموعة من الأفكار فقط أو المعاني  أو الحقائق أو الألفاظ أو الصور البلاغية. بل هو حقل ملتبس بكل هذا المكونات  من خلال تجربة الإنسان الحسية وغير الحسية. الخطاب حقل مجازات، ولا يختلف في ذلك الخطاب الفلسفي عن الأدبي عن الإعلامي عن الاجتماعي عن خطاب تواصلنا اليومي.

ما الذي يقدمه مدخل المجاز من فهم جديد للخطاب؟

إن الدخول على خطاب الفلسفة والتصوف من خلال المجاز، يتيح لنا فهم الخطاب لا باعتباره منظومة أفكار مطلقة لا جسدها لها. الخطاب تجربة في الكتابة لا تجربة في التفكير المجرد الفلسفي فقط أو الفناء الصوفي فقط، فهي كتابة، حقائقها محايثة لمادتها، وتتفتح حقائقها من خلال هذه المحايثة، فكتابة ابن عربي يتفتح مفهومها لـ(وحدة الوجود) بمجازات التخلّل والسريان والحلاوة والّلذة والحب والحركة والمكاشفة والفتح، فلا يمكن لخطابه أن يرفع حجب الألوهية من دون هذه الصور التي تتجلّى فيها. إن الدخول على خطاب ابن عربي من خلال أرضه المفهومية (مجازاته) ربما يحل كثيراً من المشكلات المتعلقة بقراءة خطابه التي وصلت إلى حدّ تكفيره واعتبار مجازاته ضلالات دينية.

وكتابة إخوان الصفاء تفتح مفهومها لـ(الفلسفة) بما هي معرفة بالعلل الأولى والوجود بمجازات التشبّه بالإله والطاقة والفيض والقبول والنور والدائرة والجسد. يكون التفكير في علل الكون ووجوده ممكناً عبر هذه المجازات، والإمكان يعني كتابة هذه المجازات لهذه المعرفة لتشكيل خطاب فلسفي.

· الجسد ذهناً كبيراً

ما علاقة الجسد بالتفكير؟

لا يمكن للإنسان أن ينشئ خطاباً من غير تجربة الجسد، فهو لا يمكنه أن يفكر من غير جسد، ولا أن يتصور أو يتخيل أو يتذكر أو يقرر أو يستنبط، عمليات التفكير جميعها تتم عبر الجسد، كما عبّرت عنها فلسفة (ميرلوبونتي) في كتابه فينومينولوجيا الإدراك “إن الوعي كائن يرتبط بالأشياء بواسطة الجسم” ويبلغ هذا الارتباط حداً تكون معه بنية الوعي مماثلة لبنية الجسد، كما تقول فلسفة (ميرلوبونتي) “جسدنا ذاته له بالفعل شخصيته ووجوده الذي يتفاعل ويتداخل مع العالم بحيث تصبح بنية العالم معتمدة على بنية الجسد”. و(ميرلوبونتي)  يعتبر من فلاسفة كوجيتو الجسد، الذين أعطوا للجسد قدرة على التفكير، وصار الجسد معهم ذهناً كبيراً، كما يقول نيتشه. لقد أعطوا للخيال قدرة على التفكير، وقدرة على أن يرينا حقائق الأشياء بوجوه متعددة، بعد أن اعتبره ديكارت مصدرا للضلال والزيف.

· الكفر بالجسد

ما علاقة الجسد بالتكفير؟

الكفر بالجسد واعتباره مصدر للضلال والزيف، لم يكن كافياً لحماية العقل من الضلال. فالعقل راح يستخدم الجسد  ليهتدي إلى أفكاره التي وراء الجسد، فكرته عن الله وعن المطلق وعن الغيب. استخدامات الجسد المختلفة في التعبير عن الله والمطلق جعلت البعض يكفّر البعض، هي في حقيقتها تكفيرات مجازية.

لنأخذ الاختلاف حول نظرية الفيض الأفلاطونية emanation مثلا فالإسماعيليون يعتبرون القول بالفيض كفرا كما يقول الكرماني في كتابه راحة العقل “وذلك أن من شأن الفيض أن يكون من جنس ما منه يفيض ومشاركاً له ومناسباً”. في حين أن إخوان الصفاء يتفلسفون عبر نظرية الفيض ويجدون في هذه الفلسفة طريقاً للتشبه بصفات الكمال الإلهي. إن الاختلاف حول مجاز الفيض يجعله منه طريقاً للتألّه والكفر. هذا ما جعل ابن عربي يمزج التشبيه والتنزيه في فهمه للوجود ورب الوجود وموجوداته.

إن طريقة تأويل الصيغ المجازية التي تصوغ من خلالها المذاهب الدينية والاتجاهات الفلسفية خطاباتها ومقولاتها اللاهوتية أو الفلسفية، لتعدّ دليلاً على أن هذه الخطابات والمقولات ما هي إلا صياغات مجازية للتعبير عن حقائق هذه المذاهب واتجاهاتها في رؤية العالم.

ربما يكون مفهوم (العقل الفعّال) المثال الأكثر حضوراً على أن المذاهب الفلسفية تتأسس على ما يقع بينها من اختلاف في تأويلات الصيغ المجازية، لقد خضعت صفة (الفعّال) لترجمات وتأويلات وتفسيرات متباينة ونتجت عنها مدارس فلسفية متعددة. ما يحدث في الخطاب الفلسفي من تعدد في تأويلات الصيغ المجازية يحدث في الخطاب الديني، غير أن الخطاب الديني يدير تأويله بقوة تمثيل الإله، فيقع القمع والتكفير، في حين أن الخطاب الفلسفي يدير تأويله بقوة تمثيل العقل، فيقع التعدد والتفكير.

· توتر الهويات المستعرة، وهوية الحب

لاثبات فرضيتك اشتغلت على خطابين ينتميان الى حقلين معرفيين مختلفين: الفلسفي ممثلاً في خطاب إخوان الصفا، والصوفي  ممثلا في ابن عربي. لماذا اختيارك لهذين الحقلين بالذات؟

أنا أعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية. تتقاطع فلسفة إخوان الصفاء وصوفية ابن عربي في جعل الهوية محبة للاختلاف والتعدد والمشاركة، وفي مجازاتهما ما يجعلنا نرى الكون محاطاً بالحب.

الخطابين بينهما من التقاطع أكثر مما بينهما في الاختلاف، وما يجمع بينهما هو الحب، وما يجمعني بهما  هو كذلك الحب، والحب هو المعنى الذي كانت تُعرّف به الفلسفة  في عصرها اليونانية والعربي الإسلامي كذلك، وقد استعاد هذا التعريف في الثمانينيات جيل دولوز في تعريفه للفلسفة بأنها عشق المفاهيم. والعشق هو درجة من درجات الحب، حب الحكمة هو المحرك الأول للبحث عن معرفة تصلك بالوجود وعلته وكيفيته وطبيعته. يجعل الحب العالم متعاطفاً أو مشاركاً بعضه بعضاً. وقد جعل أفلوطين (القرن الثالث الميلادي) في تساعياته الفلسفية العالم متداخلا بعضه في بعض كجسد واحد يعطف بعضه على بعض ويشارك بعضه بعضاً، بهذا الحب تكون المعرفة ممكنة، وكان يقول “فمن المحال أن يعرف شيء لا يكون متصلاً بنا أو متعاطفاً معنا على نحو ما، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما هو خارج عنا من كل الوجوه”.

عبر مجاز الجسد المتعاطفة أعضاؤه على بعضها والمشاركة لبعضها والمحبة لبعضها، كانت الفلسفة في العصر الوسيط تفهم العالم والألوهية والإنسان. لقد ذهبت لإخوان الصفاء وابن عربي لأبحث عن هذه الحميمية المفتقدة في العالم اليوم، لم أذهب لهما لأنجز أطروحة أكاديمية باردة، ولا لأثبت أسبقية تراثنا للحاضر أو الماضي، فالفلسفة والتصوف استعادات لا تنتهي، استعادات لنصوص وأسئلة غير مستنفدة.

· الرؤية الكونية المتجاوزة للزمن

ولم آثرت الاستدلال على فرضيتك من خلال خطابات تراثية لا خطابات معاصرة مرتبطة بتواصلنا اليومي؟

لقد قاربت في كتابي (مجازات بها نرى) خطابات معاصرة مرتبطة بتواصلنا الإعلامي والاجتماعي والديني، وفضلت العمل في أطروحة الدكتوراه على خطابات فلسفية وصوفية، وفي ذلك تحد كبير، فالمسألة تتطلب قراءات معمقة لخطابات تراثية مكتوبة بلغة غير معاصرة ومليئة بالمصطلحات الفلسفية والصوفية وتحيل على تراث إنساني بعيد وممتد. والباحث يحتاج إلى العمل على خطابات تفتح له حقولا معرفية جديدة وتفتح فهمه على تصورات مختلفة للعالم. وأعتقد أن تخصصي في تحليل الخطاب قد أتاح ذلك، فتحليل الخطاب قائم على تقاطع التخصصات، فأنا مثلا في هذه الأطروحة أشتغل على خطاب فلسفي وخطاب صوفي وأنا لست متخصصا في الفلسفة ولا في التصوف، وكذلك حين اشتغلت في رسالة رسالة الماجستير على خطاب ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام وهو كتاب  في أصول الفقه، لم أكن متخصصا في أصول الفقه.

من جانب آخر العمل على خطابات تراثية تحمل داخلها رؤية كونية تتجاوز زمنها كخطاب ابن عربي وإخوان الصفاء، هو في حقيقته عمل على لحظة معاصرة، والمهم هو أن تكون رؤيتك تنتمي إلى لحظة معاصرة تستطيع أن تصل النص التراثي بالزمن الآني ، والزمن هو ما يعيشه الإنسان بأفقه وإنسانيته. وما أحوجنا اليوم إلى خطاب إنساني فلسفي وصوفي، يُؤَنْسِن الكون وعلاقاته، ويصل بعضه ببعض، ويرينا الإنسان قادراً على أن يصل السماء بالأرض من دون أن يخلَّ بمنجزات العلم الحديث. إن العقل العلمي البارد لا يمكنه أن يتيح وحده للإنسان أن يعيش متآلفاً مع الكون، هو بحاجة إلى خطاب قادرٍ على أن ينعش روح الإنسان ويجعله يرى في الكون امتداداته وصلاته وعلاقاته، وخطابي ابن عربي وإخوان الصفاء يمثلان هذا الخطاب بامتياز، وراهنيتهما للحظتنا تدفعنا إلى إعادة قراءتهما ووصلهما بحاضرنا.

 لحظة أركونية

هل هناك لحظة فكرية شكّلت توجهك نحو هذا المدخل للدراسة؟

لا بدّ من القول إن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.

ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.

ماذا وجدت بشأن استخدام الخطاب الفلسفي من خلال إخوان الصفاء للجسد؟ وكيف بنى تصوراته وأفهامه؟

يتشكل خطاب إخوان الصفاء الفلسفي بمجازات الجسد والطاقة والقبول والفيض والدائرة والنور ومقتضياتها. بهذه المجازات يتفلسفون بقدر الطاقة الإنسانية من أجل التشبّه بالإله، يبذلون طاقتهم في الاعتبار بهذه المجازات، وهذا البذل هو الذي يحقق لهم حدّ الفلسفة التي يُعرّفونها بأنها “التشبّه بقدر الطاقة الإنسانية بالإله”.

يحضر الجسد في خطابهم بوصفه مكان إظهار، ومكان ترويض، ومكان اعتبار وتركيب. الجسد في خطابهم يُظهر ممكنات النفس، ويروّض العقل، ويتيح له تركيب معرفة اعتبارية.

جسد الإنسان مرآة العالم، ما يقبله هذا الجسد في مرآته من مثالات العالم، يغدو طريق معرفة أو وجهاً من وجوه معرفة العالم، والعالم يُعرف من خلال ما يقبله الجسد من مثالات. إن الجسد يتشكّل خطاباً وفق إمكانات قبوله، فيغدو عالماً صغيراً ومدينة ودكاناً وداراً وفلكاً ومجلساً وقصراً ودفترا للعالم وكتابا للعالم أو( حجة الله)، وهذا ما يجعل من الجسد مشكال رؤية، فهو يرينا العالم بإمكانات مختلفة الألوان والأشكال بحسب طاقتنا على الاعتبار الذي هو فعل تفكير فلسفي، فالاعتبار عمليه ربط ووصل بين جسد الإنسان، وجسد العالم وكائناته. أنت تعتبر بقدر ما تقيم مماثلة تصل أجزاء العالم بأجزاء جسدك وصلاً ينتج معرفة اعتبارية، وهذا ما يجعل الاعتبار عملية فكرية تقوم بها أنت وتشيّد من خلالها معرفة وفلسفة بقدر طاقتك على التخيّل والاعتبار والوصل.

وماذا عن حضور الجسد في خطاب التصوف من خلال ابن عربي؟

على مستوى خطاب ابن عربي، أتاح لنا مدخل المجاز، فهم وحدة الوجود فهماً أكثر اتساقاً وتعيّناً. فعلى سبيل المثال، يؤسس ابن عربي فهمه للعالم ووحدة الوجود من خلال مجاز (النكاح/ المحبة). ويشتغل هذا المجاز كأصل في خطابه تتخلق في رحمه بقية المجازات، لذلك تتداول في خطابه كلمات: تشتاق، تطلب، تمنح، تعطي، تسري، تتخلل، تشفق، ترغب، الهمّة، الولوج، الغَيرة، الحركة.

إن الحنين والشوق والحبّ والتوالج والنكاح والسريان هي المجازات التي يستخدمها ابن عربي لصياغة خطابه عن العالم الكبير، ومرجعيّة هذا المعجم تعود إلى العالم الصغير (المرأة والرجل). ليست المجازات الجنسية والعاطفية المعبّرة عن المشاركة بين الرجل والمرأة أو دلالاتها، عارضة في خطاب ابن عربي، بل هي مكوّن أصيل في خطابه، وهي تمثل جهاز رؤيته وتمثّله للكون وعلاقاته. هي مادة خطابه الميتافيزيقي عن الكون وعلاقة الإنسان فيه، وعن الإلوهية وعلاقتها بالخلق.

تولد الحقيقة من خلال عملية التوالج، هناك حقيقة واحدة تظهر في محال ممكنات كثيرة، تقبل أن تتفتّح صورها فيها، والقبول هنا هو إخراج ما في استعدادها. وتولد الحقيقة عن حركة الحب، والرغبة في التعرّف. ليس هناك حقيقة خارج التوالج. فالأشياء تكون في هذه الوحدة الوجودية من خلال تولدّها عن الحقّ وحركة حبّه “فثبت أن الحركة كانت للحب، فما ثَمّ حركة في الكون إلا وهي حبيّة” فصوص الحكم، ص204

هل تختلف طريقة صياغة المجاز لخطاب ابن عربي عن صياغته لخطاب إخوان الصفاء؟

لقد صاغ المجاز خطابي ابن عربي وإخوان الصفاء، إلا أن صياغته وتمثيله تختلف في الخطابين. هناك مجازات كلية عامة، كمجازات العالم الكبير والعالم الصغير، ومجازات المحبة والشوق، والإحاطة، والاحتواء، واعتبار العالم جسداً واحداً. تمثل هذه المجازات رؤية العصر الوسيط للعالم والإنسان والألوهية. لكن يختلف الخطابان في طريقة تمثّلهما لهذه المجازات. فخطاب ابن عربي يمتدُّ وينمو إلى حيث يعبر به المجاز، في حين يقف خطاب إخوان الصفاء بالمجاز عند الحدود التي انتهى إليها الخطاب الفلسفي السابق عليهم دون أن يتصرف فيه.

يقوم خطاب ابن عربي بتشغيل الطاقة المجازية القصوى للغة، ومدلولاتها الحسية، وسياقاتها التداولية، لصياغة مفاهيمه الصوفية والفلسفية والمعرفية، لذلك فخطابه يُمثِّل تركيبة شديدة التعقيد.

إن مجازات إخوان الصفاء كانت أقرب إلى أن تقوم بمهمة توضيح الأشياء، في حين أن مجازات ابن عربي كانت مهمتها تقليب وجوه الأشياء. مجازات خطاب ابن عربي تُعبُر مفاهيم الخطاب الفلسفي والصوفي المتداولة وتشتق لها طرقاً جديدة، وتصوغ مفاهيم مبتكرة وتنشئ عوالم عابرة.

في رحيل أركون

في رحيل أركون

الظاهرة الأركونيّة إشعار بلزوم قراءة التراث بكل الطرق والمنهجيّات المتاحة

http://www.alwasatnews.com/2939/news/read/475928/1.html

الوسط – محرر فضاءات

رحل أركون في حلكة من الوقت لملمت معه مجموعة من المفكرين من ربقته في الاشتغال على العقل والتجديد ولعل خصوصية أركون فيما بينهم هو إلحاحه الشديد في مجمل كتاباته على إعادة التفكير في النصوص المؤسسة وفك العقل من الارتهان لتاريخية التأويل، والإمعان في التحريض على الاشتغال في النصوص بآليات حديثة.

وفي هذا التحقيق توقفنا مع أربعة قارئين لاشتغالات أركون إذ رأى أستاذ النقد والدراسات بجامعة البحرين عبدالقادر فيدوح أن غياب أركون خسارة للفكر العربي، فيما خصص الناقد علي الديري مداخلته للكلام عن أركون بوصفه صديقاً، أما أستاذة النقد والدراسات بجامعة البحرين فحذرت المتلقي من الوقوع في سطوة الكارزما المتعالية حين قراءة أركون، في حين انتهز الباحث نادر المتروك لحظة رحيل أركون للإشارة إلى لزوم قراءة التراث بكلّ الطرق والمنهجيّات المتاحة.


فيدوح: غياب أركون خسارة للفكر العربي

في البداية تحدث أستاذ النقد والدراسات الأدبية بجامعة البحرين عبد القادر فيدوح حول مشروع أركون فأشار إلى أن المرحوم محمد أركون ـ العالم الفذ ـ أحدث بمشروعه الفكري صخبا مدويا، ناتجاً من أفكاره المستنيرة، بعد أن ترأس قاطرة الوعي العربي الحديث في شقه التنويري بدراساته التي أطلق على منهجيتها «الإسلاميات التطبيقية». وإذا كنا فقدنا المغفور له فإن لمريديه، وأنصار الفكر التنويري، مسئولية القبض على شِدة إرادته، والحرص على مطلوبه.

وأضاف فيدوح: أما بخصوص مكانة مشاريع أركون في ضوء مشاريع الآخرين، أعتقد أن جميع المشاريع التنويرية على مستوى الفكر العالمي حزينة لهذا الفقد، بغض النظر عن دواعي الائتلاف أو الاختلاف مع مشروعه الريادي الذي غلب عليه طابع التحليل الاستفزازي، المثمر، والمحرك للوعي العربي على وجه الخصوص.

فهو إلى جانب بقية المشاريع الأخرى يُعدُّ نقلة نوعية، ومدونة فكرية تستحق التقدير حتى في حال الاختلاف معه وفي كثير من تأويلاته المثيرة للجدل، والمفزعة في الآن نفسه لدى الكثير من الآراء المعارضة لمبادئه.

وحول أهم مقولات أركون الفكرية وإضافاته : أشار فيدوح إلى إن كل ما قاله أركون مثير للجدل، ولعل جميع آرائه تصب في مقولة «النقد والاجتهاد» وهي المدونة التي بنى عليها أفكاره في سياق معظم كتبه مثل: (تاريخيّة الفكر العربي الإسلاميّ أو نقد العقل الإسلاميّ)، (الفكر الإسلاميّ: نقد واجتهاد)، (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلاميّ)، (قضايا في نقد العقل الدينيّ: كيف نفهم الإسلام اليوم؟) وسوف تظل آراؤه النيرة ومساعيه المضنية شاهدة عليه، ولا يمكن أن تحجب عنه وِسْعَ طاقته العظيمة، وريادته الهادفة إلى غاية تفعيل العقل.

أما بخصوص خصوم أركون فأجاب: «لا أدري إذا جاز لي أن أقول ـ في حدود معلوماتي البسيطة ـ أنه لا يوجد خصوم حقيقيون لأركون؛ لأن المنازلة بينه وبين غيره غير متكافئة، بمفهوم منازلة الفارس لنده، ولكن أستطيع أن أسوغ لنفسي القول إن هناك منازعين له فكرياً».

علي الديري مع محمد أركون في الكويت في 2008

الديري: أمشي مع أركون بوصفه صديقاً

في بداية مداخلته أشار الناقد علي الديري أن الموت أعدل الأشياء بين البشر وأفدحها وأوقحها، لا ينتظر حتى اللحظة المناسبة، ولا يسمح لنا حتى باختيار اللحظة المناسبة لإيصال خبر وقعه. هذا ما خطر لي لحظة تلقي خبر رحيل الصديق المفكر محمد أركون، وأنا على أعتاب أيام من مناقشة أطروحتي للدكتوراه حول تشكيل المجازات للخطاب الفلسفي والصوفي.

لقد قلت الصديق أركون لا لأحيل إلى علاقتي الشخصية معه، بل لأشير إلى الصداقة بوصفها مفهوماً يجمع المشتغلين بحب الحقيقة والبحث عنها والتنقيب عن آثارها بين ركام التاريخ وأحداثه السياسية والاجتماعية والدينية. وقد كان أركون في مقدمة هؤلاء المنقبين والمحتفين بالصداقة من خلال إحالاته الأثيرة إلى الخطاب الفلسفي اليوناني الذي بلور هذا المفهوم واشتق منه مفهوم الفلسفة (الفيلياphilia)، ومن خلال إحالاته الحميمية إلى صديقه أبوحيان التوحيد الذي أنجز أطروحته للدكتوراه حوله وحول جيل الإنسان الذي جاء في سياقه. حين قدمته في زيارته الثانية للبحرين قلت: سألني بعضهم ما الفرق بين علاقتك بالفقيه سابقاً وعلاقتك بأركون حالياً؟ قلت: علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.

أن تفقد صديقاً في لحظة حميمة تود أن يفرح فيها معك، ليس لأنك أنجزت شهادة أكاديمية، بل لأنك أنجزت بتأثيره تنقيباً في خطاب من خطابات تراثنا الغزير الملتبس علينا قبل غيرنا. أعرف صداقتي مع أركون لن يحققها التقائي به بل يحققها هذا التنقيب، فالصداقة في المجتمع الفلسفي تتحقق بالمشاركة في البحث عن المفهوم والحقيقة التي تتبدى في أشكال مفهومية لا حدّ لها.

الصداقة تقتضي الحميمة، وهذه تجعل الباحث عن الحقيقة ومفاهيمها في خطاب المجتمع، منخرط في الواقع وتشابكاته، بحرارة ومسئولية، بعيداً عن برودة الرطانة الأكاديمية، لذلك شغل أركون مقاعد الجامعات وأرصفة الشوارع.

وأضاف الديري: يمكنني أن أقول بدافع الوفاء لهذه الصداقة إن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.

ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.


الكعبي: ينبغي أن يقرأ أركون بحذر حتى لايقع المتلقي في سطوة الخطاب المتعالي الكارزمي.

في بداية مداخلتها أشارت أستاذة النقد والدراسات بجامعة البحرين ضياء الكعبي إلى أن أركون المفكر الجزائري الفرنسي الجنسية يعد واحداً من أبرز المفكرين العرب الذين تصدوا لمهمة التنقيب والحفر في العقل الإسلامي ونقد العقل التشريعي بجرأة وشجاعة كبيرة أحسب أن مصدرها كون أركون يستند إلى المؤسسات الأكاديمية والدوائر الثقافية الغربية ويجد في ملاذها الحرية التي تحميه وتتيح له التعبير والبحث كما يريد ومن هنا كانت صولاته وجولاته في المحاضرات الكثيرة التي جاب فيها أقطار العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى الخليج العربي للتبشير بمشروعه الفكري. وقد أخضع أركون نصوص الثقافة العربية الإسلامية للفحص النقدي والتفكيك المعرفي، مستعيناً بأدوات ومعطيات منهجية إنسانية حديثة كاللسانيات والإبستمولوجيا والسيميولوجيا والانتربولوجيا وعلم الأديان المقارن.

وأضافت الكعبي لقد شكل «كونه مع محمد عابد الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني عبدالله العروي وأومليل طائفة من الباحثين العرب الذين أرادوا تفكيك بنية العقل العربي والإسلامي وإن اختلفت مقارباتهم ومرجعياتهم المنهجية. ناهيك عن تأثره الكبير بالتراث العقلاني للمفكرين و للفلاسفة المسلمين كأبي حيان التوحيدي وابن رشد وطه حسين.

وحول نقدها لأركون أضافت الكعبي: ورغم اعتراضي الكبير على ما أسماه أركون بتاريخية الخطاب القرآني في مشروعه عن الإسلاميات التطبيقية حيث أراد تطبيق منهجيات العلوم الإنسانية على القرآن الكريم شأنه في ذلك شأن أي نص بشري دون النظر إلى مصدره الإلهي وإعجازه القرآني فإني أقدر له دعوته إلى إعمال العقل في النصوص التراثية وإعجابه الشديد بالمعتزلة أصحاب التراث العقلاني في الإسلام ودعوته إلى إعادة دراسة مأثوراتهم وإرثهم وتطبيقه بما في ذلك إعادة المجالس الثقافية التي مثل لها بمجلس أبي حيان التوحيدي مع أبي سليمان المنطقي في كتاب الإمتاع والمؤانسة بمقابساته الأدبية والعقلية. وأحسب أن أركون عمق خطابه بين طائفة من مريديه ولكن خطابه ينبغي أن يقرأ بحذر شديد حتى لايقع المتلقي في فخ سطوة الخطاب المتعالي الكارزمي. ولذا فإن هذا الخطاب يجب أن يدرس دراسة علمية نقدية وليس قراءة انطباعية انبهارية تقديسية فأركون نفسه كان يريد التحرر من سلطة المقدس الديني كما صرح بذلك في عدد من اللقاءات الفكرية.

وخلصت الكعبي إلى أنه لاشك أن مشروع أركون الطويل في دراسة العقل الإسلامي بمعطيات غير مألوفة لدى عدد من الباحثين العرب والمسلمين قد أثارت عليه ردود فعل عنيفة طالب بعضها بتكفيره واتهامه بالنزعة التغريبية وبالاستلاب الثقافي. وربما كان أركون نفسه بفرضه خطاباً من طرف واحد سبباً في هذه العدائية؛ فخطابه يحمل قدراً من التطرف الفكري في محاضراته التي لا تقبل الحوارية أصلا. والآن بعد وفاته ينبغي أن يدرس خطابه كما ذكرت سابقاً بقدر من العقلانية والحوار النقدي بعيدا عن التقديس أو الإقصاء. ولاشك أن الدوائر الأكاديمية العربية ينبغي أن تناقش مشروعه الآن بعد اكتماله بوفاة صاحبه.


المتروك: رحيل أركون إشعار بلزوم قراءة التراث بمختلف المنهجيّات المتاحة.

وفي مداخلته أكد الكاتب والباحث نادر المتروك أن محمد أركون استطاع أن يُعيد صياغة أسئلة العقلانيّة الإسلاميّة بما يتناسب مع معضلة المسلمين المعاصرين. هذا الجهد لم يستأثر به أركون، بل أسْهم فيه آخرون أيضاً، إلا أنّ ميزة الإسهام الأركوني قدرته الحيويّة، والمتدفّقة، على تشجيع التفكير النّقدي داخل أوساط التقليديّة الإسلاميّة، ونجاحه في تعميم ظواهر «الخروج» من العقل الجمعي الإسلامي، أو الحسّ المشترك، والتحفيز على إعادة قراءة الذّات الكبرى بين تلك الأجيال التي تربّت على فكر الصّحوة والتعليم الدّيني القديم.

وأضاف المتروك وعلى خلاف الكثيرين، فإنّ أركون – ومثله الرّاحل نصر حامد أبو زيد- كان أشبه بالظاهرة الحتمية في مثل تلك الظروف التي يخلو/يخبو فيها الإصلاح الدّيني. على هذا النّحو، ستكون الظاهرة الأركونيّة – وبعد رحيل شخص أركون – إشعاراً بلزوم قراءة التراث بكلّ الطرق والمنهجيّات المتاحة، وبما يؤدّي إلى تحقيق التاريخانيّة الوظيفيّة التي تمثّل جوهر المشروع الأركوني، حيث كان يسعى لإعادة التموْضع التّاريخي للنصوص المؤسِّسة، وبالتّالي تأكيد ملازمتها للحدود الثقافيّة التي نشأت فيها وانطلاقاً منها، من غير أن يُغْفِل المدخل الانتروبولوجي والاستفادة الميثولوجيّة وتعدّديّة المنهج القرائي، وهي الملامح التي وفّرت خصوصيّة فارقة في القراءة الأركونيّة للنصّ الإسلامي المؤسِّس، القرآن الكريم، وأتاحت له استحضار المعاني الروحيّة والأخلاقيّة في صُلب المساجلة العلمانيّة.

وحول نقد مشروع أركون أشار المتروك إلى أنه من اللافت أنّ أركون كان محاطاً بنقودٍ متعدِّدة الجهات، فإضافة إلى السّلفيين والمؤدلجين، فإن مستشرقين وملحدين ومفكّرين عرب وأجانب اشتبكوا مع أركون شخصاً وفكراً ومواقف، حتّى بدا أن الرّجل اضطرّ كلّ إطلالةٍ لتوضيح أفكاره والدّفاع عنها. الوظيفيّة المركّبة التي تُميّز «الإسلاميّات التطبيقيّة» وفّرت ضمان التأسيس النقدي على أرضية الاحترام الدّيني، وهي علامة حافظ عليها أركون في مختلف كتبه، بما فيها تلك التي ارتكزت على الوضوح في نزْع الاعتبار الشّعائري للنصّ الإسلامي المقدّس، وإحاطته بالمعنى الميثولوجي من جهة، وإثبات توّرطه، أو توريط الآخرين له في الاستعمالات الأيديولوجيّة من جهةٍ أخرى.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2939 – الخميس 23 سبتمبر 2010م الموافق 14 شوال 1431هـ

المشي مع أركون

الموت أعدل الأشياء بين البشر وأفدحها وأوقحها، لا ينتظر حتى اللحظة المناسبة، ولا يسمح لنا حتى باختيار اللحظة المناسبة لإيصال خبر وقعه. هذا ما خطر لي لحظة تلقي خبر رحيل الصديق المفكر محمد أركون، وأنا على أعتاب أيام من مناقشة أطروحتي للدكتوراه حول تشكيل المجازات للخطاب الفلسفي والصوفي.

لقد قلت الصديق أركون لا لأحيل إلى علاقتي الشخصية معه، بل لأشير إلى الصداقة بوصفها مفهوماً يجمع المشتغلين بحب الحقيقة والبحث عنها والتنقيب عن آثارها بين ركام التاريخ وأحداثه السياسية والاجتماعية والدينية.وقد كان أركون في مقدمة هؤلاء المنقبين والمحتفين بالصداقة من خلال إحالاته الأثيرة إلى الخطاب الفلسفي اليوناني الذي بلور هذا المفهوم واشتق منه مفهوم الفلسفة(الفيليا(philia، ومن خلال إحالاته الحميمية إلى صديقه أبوحيان التوحيد الذي أنجز أطروحته للدكتوراه حوله وحول جيل الإنسانة الذي جاء في سياقه. حين قدمته في زيارته الثانية للبحرين قلت: سألني بعضهم ما الفرق بين علاقتك بالفقيه سابقاً وعلاقتك بأركون حاليا؟ قلت: علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.

أن تفقد صديقاً في لحظة حميمة تود أن يفرح فيها معك، ليس لأنك أنجزت شهادة أكاديمية، بل لأنك أنجزت بتأثيره تنقيباً في خطاب من خطابات تراثنا الغزير الملتبس علينا قبل غيرنا. أعرف صداقتي مع أركون لن يحققها التقائي به بل يحققها هذا التنقيب، فالصداقة في المجتمع الفلسفي تتحقق بالمشاركة في البحث عن المفهوم والحقيقة التي تتبدى في أشكال مفهومية لا حدّ لها.

الصداقة تقتضي الحميمة، وهذه تجعل الباحث عن الحقيقة ومفاهيمها في خطاب المجتمع، منخرط في الواقع وتشابكاته، بحرارة ومسؤولية، بعيداً عن برودة الرطانة الأكاديمية، لذلك شغل أركون مقاعد الجامعات وأرصفة الشوارع.

يمكنني أن أقول بدافع الوفاء لهذه الصداقة أن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.

ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.

http://www.alwasatnews.com/2939/news/read/475928/1.html

Arkoun and the Story of the Subject: Violating Common Sense

Arkoun and the Story of the Subject: Violating Common Sense

By: Ali Ahmed Ad_Dairy

ترجمة خالدة حامد

"There are in the world many idols than facts."

Nietzsche

"The subject is the sum of its conditions, i.e., the total of its relations, links and correlations with the objects."

Ali Harb

"I’m seeing routes that will take me to routes that will take me to routes; and a sea as wide as horizon in what I see."

Qasim Haddad

arkon  and ali aldairy

I’m not talking about my subject – as regards its meeting with Arkoun – as being a collection of innate constituents, natural capabilities, moral qualities or mental incentives. Rather, I’m talking about my subject as being a cultural construct, i.e., as an effort, a work, that endeavors to build a not given construction. In this sense, talking about my subject becomes a talk about an experience laden with events, facts, shocks, confrontations, struggles, transformations and cultural contexts that can be read and criticized by relating and interpreting.

-1-

When the subject tells its story; the story of its formation and being under the influence of some event, this event did not take long before it incarnates in it and start talking by its own voice after being absorbed by the subject within its universe and conscious. I feel now that the event of meeting Arkoun is the one that tells my subject, structures its past events, rereads its crossing among boundaries and borders and connects its breaks and ruptures. Arkoun presents in me not as one voice but a group of voices belonging to different times, many contexts, various human sciences and successive cultures. They are the voices of Aristotle, Maskawaih, Al-Jahiz, Abu Hayyan At-Tawheedi, Derrida, Bourdeau, Broadwel, Jack Perk, Foucault, Barths, Jauss and others.

The subject here tells the events of its formation which had arranged in its consciousness eight years ago when it met Arkoun. But it tells them by the consciousness of the current moment threatened by being blown up later, and by the retelling. Whenever the subject retells its tale, it reinterprets its biography by breaking, stretching, omitting or adding to its events.

I ‘ ve written this article celebrating the visit of thinker Mohammed Arkoun to Bahrain in March 2002 by a generous invitation from the Center of Sheik Ibrahim Bin Mohammed Al Khalefa . 

Aristotle had defined the tale as being an act; "the act is what is being done by people in having relations among each other. They weave and grow them till being intermingled and interlaced according to their own logic"([i][i]). According to this definition, the tale of the subject becomes its act and its act is the relations that it weaves in accordance with the logic of its consciousness. When this logic transforms, the relations transform too so that a new tale is formed to tell a new subject.

What does this tale tell?

-2-

In the summer of 1993, I had just taken my BA in Arabic language from Bahrain University . My postponed plan since finishing my high school in 1989 demanded that I join religious studies being pushed to them by a deep ethical sense of the importance of keeping my word to my friends whom I had promised to be the model of a contemporary religious man having a high academic qualification. I was preoccupied by the idea of joining the newly established (Islamic University) in London . I had a deep feeling of the importance of looking for something different but the religious entity that I had inside my subject did not have the power to show me the possible choices. The most it could do was to instigate my motivation to set out to any religious castle trusted with its loyalty and religiosity. I wanted to be specialized in religious sciences modernly. The quality of ‘ modern ‘ did not have any semantic repertoire in my imagination exceeding the ideological meanings which tackles the causes and needs of the age, the struggle meanings against non religious fronts that provoke from their contemporary bases their cynical problematic against the politico-religious attitudes. My understanding for the meaning of modernizing the religious sciences did not go beyond the meanings of political Islam as I understand it now. At that time, the adjectives of ‘ new, modern and contemporary ‘ were in my mind just like a mirage through which you can discern nothing. 

-3-

Within that bewilderment, with all its shades of meanings such as distraction, hesitation, anxiety, indetermination and vagueness, I met Arkoun via his book "From Ijtihad to the Critique of Islamic Reason". It was a coincidence- which I still feel proud of- when I ‘ ve found the book hidden among the shelves of some local library. I didn ‘ t know Arkoun. At the beginning the title of the book – which had always deprived Arkoun and Hashim Salih from sleeping – aroused my religious sensitivity. I thought it presenting a new vision for Ijtihad by criticizing the traditional exercises of the jurisprudents who still not living their age and don ‘ t pay attention to its incipient problems.

My waiting horizon did not expect more than that; it did not have the ability to expect that criticism can extend to include the practices of contemporary jurisprudents preoccupied with public affairs.

My horizon was built upon glorifying and venerating the Mujtahids who enjoy the ability to totally acknowledge religious sciences that no one except them can have so competently. No criticism or suspension can amount to their scholarly practices. Rather, we are not qualified at all to know these practices nor their nature. They were just like a sacred secret that one has to completely subject to. That horizon did not know that there was a criticism that can surpass the practical and social practices and the understanding of Islam. Those were the practices of religious men, the leading religious cadres, the educated religious and the public.

As much nonsense and naivety in that horizon, as there are great changes as a result of meeting Arkoun. That book had made a deep cultural shock in my subject. I became more able to see. I ‘ m still feeling amazed of my overwhelming love to Arkoun. When I restore now the moments of reading, I exactly remember my body positions, the place in which I was reading and my subject talks when turning its pages. Before finishing it I had called one of my friends, who witnessed my bewilderment with all its psychological turns, to tell him that I had known what I wanted. It was hard to explain to him what had crystallized in me. It was enough for me to show my relief and unfathomable spiritual delight as if I had just discovered something new.

– 4 –

That was my first reception from which I was able to determine the nature of the study I was looking for. I had to wait for the second reading for the critical clashes in my subject were looking for solutions of peace and reconciliation. It had taken me two hard years. I was holding Arkoun in my deep inside. I tried to accommodate him with my state but he rejected. He refused to be ideologized in me. My devices could not absorb him in spite of all my conciliating attempts. I had to look for a new subject that could build its relations with the world and its things, objects, values and events in a way different from the relations of my subject which were built upon the institutions of symbolic veneration.

I wonder now why do I feel alienated from Arkoun? An alienation that pushes me to feel strange from him, dislike or disgust his symbolic demolishing for the stairs of my sacred; why that astonishment was the only thing controlling my relation with him? Can the subject enter another world without feeling the pain of alienation? Is astonishment enough to describe what happened? Didn ‘ t it mix with something else? How can criticism, with all its symbolic violence, be turned to a criticizing love?

– 5 –

To explain the love that evolved from a mountain of violence of criticism, I need to reread the end of the border of my experience and read the beginning of the border that I ‘ ve entered. The metaphor of Heidegger ‘ s ‘ border ‘ may help to open the two borders on each other instead of creating a dual clash between them. In Heidegger ‘ s sense the ‘ border ‘ is not an end as much as not being a beginning for something new. In this sense, the border is not a conclusion nor completion, termination or fulfillment. It is a longing to a close beginning, a reach to it, a connection with it and a deep desire to it. The border in this sense is a passage through which the subject passes from a medium into another without revolutionary turns calling for the actions of elimination, canceling and emphasizing all the actions of abolition and canceling and to put an end to all the appearances of these violent actions with their material dimensions. By this transmission the subject can embrace the world with its contradictions, ruptures and resistance to enrich its human experience in exchanging and investing its symbolic savings. 3178

With this spirit I can restore my early mental religious readings for Mutahhari, Fdhul Allah, Ah-Shirazi, As_sader and Sherieti (despite his different paradigm) to have a border relation them – (the ‘ border ‘ relation here is relevant to the above mentioned sense of border) – that opens me, with their advanced religious rationality, to other wider cultural rationalities. With this spirit I can restore my moral and spiritual religious readings for Said Dastegheeb and Al-Fihri to also have a border relation with them that opens me, with their moral and spiritual religious values, to other much wider moral values.

-6-

That border had reached its end which was at the same time a beginning for another border. It had built in my subject a hard certainty, a sharp acceptance and an orthodox faith that never doubts the rightness of my religious group and never suspects its hereafter victory. 

The discourse of that border had crystallized my common sense which was merging me with my group within what Arkoun calls the central rational fence through its mental and reasoning formation our sensitivity, conception, perception, thinking and practical practice are programmed.

What condensed that sense was my very early reading (at high school stage) of the Tijani ‘ s Book "Then I Was Shown the Righteous Way" (thumma Ahtadeit) in which he tells his doctrine journey of transforming from the Sunni doctrine to the Shiite one.

  I ‘ ve found in his discourse an amazing persuasive model for the practice of this central rationality and how it makes common sense. Under the influence of  that sense and  the direction of  its  hidden system, the sensitivity of myself was  formed in  away that I have realized as a model for rationality of argumentative logic having the  irrefutable truth.

_ 7 _

With Arkoun I started rereading that rational formation to discover its fancies, reverent symbols and the transcendental. That discovery may represent one secret of my emotional and cognitive love to Arkoun. I ‘ ve found that Arkoun who was digging in the Islamic mind with his heart and hands in the heart of the zone in which I am with all my fancies, reverent and illusions. It was the first time that I approach the mind with rationality, having the power to read its buried sensitivity under the illusion of universal logic. Arkoun was neither a cold scientifistic nor a stubborn positivtic.  Rather, his letters were hot in my religious emotional veins for being able to read my religion ‘ s imaginative rationality. I ‘ ve perceived the concept of the imaginative with the triumph of conquers because I ‘ ve found in it a scientific tool to expose our concept of ‘ reason ‘ to new areas that can open a wider understanding for the nature of rational practices by any culture, religion and group.

– 8 –

I started reading my collective imagination that had formed along those centuries. I deconstructed their grand joints. They appeared to me as a great metaphor granted by history and veneration to the extent that they looked as facts and unshakable stables.

When your metaphor is shaken, the same happens to your common sense so you lose the safety of your collective facts and their symbolic familiarity that they grant you to dispel get rid of your symbolic estrangement. You can ‘ t look for another safety because all groups construct their security systems metaphorically so that they cannot give you a real security. They can teach you one thing: to discover your collective subject through them. This is what urged the French anthropologist Claude Levy Straus to define anthropology as "a journey to your culture through another culture." ([ii][ii])

Arkoun ‘ s concept of religious anthropology had opened to me another horizon to know not only my collective subject but also my human one. Religious anthropology, as studied by Arkoun, demolishes the illusionary walls separating religions and doctrines in order to study their symbolic systems in producing meanings, venerating things and seeing the world and man. This anthropology pays attention to the comparative study of all spiritual experiences in all human societies. Little details lose their importance here as well as the names that lose their necessity. Behind all that, one can find similar practices expressing the nature of man and his/her way to construct his/her symbolic representations for the world.

For instance, veneration as studied by anthropology is a human phenomenon through which man deifies things, ideas, theories, characters, events, places and times.

– 9 –

With this anthropological spirit we can read the narrative of every religious or non religious group as being a cultural and historical structure made by man who endows it a symbolic or venerating status. This is done in a way that it transcends criticism to grant itself, through what Max Weber calls ‘ veneration managers ‘ , an invulnerability that scares people from cognitively approaching it.

I didn ‘ t feel that Arkoun uncovers my collective subject through criticizing my religious or racial group as much as uncovering my human subject by criticizing all groups that take their values and knowledge from the ultimate meaning. This, on the other hand, may explain my love to him and my obsession with his critical play with my ultimate and transcendental.

The anthropological entry opens the critical and cognitive practices to the history of human groups as is done in their immediate daily life without restoring to abstract judgments, value classifications and racial preferences. It is the imaginaire taken from man ‘ s daily life and its concepts, theses and hypotheses without any mental givens.

– 10 –

Arkoun’s multi-instrument and wide open to memory and imagination cognitive experience made me see in my religions experience, with its practices, relations and additions, a topic for reading. Besides, Arkoun’s enterprise, that he called ‘ Islamogies ‘ evolves from "the everyday life of individuals and with every society live problems to deduce its relevant religions teaching, cultural creations, political and economic purposes and ideological conceptions." ([iii][iii])

Man cannot read his/her subject before being something else. The subject cannot become other only when it replaces its religions and the sum of its additions with another net. Only then, it can read its experience that it had departed. If man cannot depart or be detached from the things, ideas and concepts in which he is absorbed, their shadows keep chasing him/her in copies.

-11-

I ‘ ll claim that I’ve departed my first subject to have the right to read it. I’ll assure this claim by restoring my reading of the concept of social frameworks of knowledge. This term, used by the sociologist George Gorvich, means that all types of knowledge are not allowed within any social framework. For example, the frameworks allowing free debates, during the rise of Islamic classic age among Muslim, Christian and Jewish thinkers are no longer the same ones that prohibit, today, free discussions of the issue of the Islamic reason, as done by Arkoun for instance.

I’ve recognized this term for the first time in Arkoun’s employment for it in his reading for the cognitive frameworks controlling the Islamic societies. This term had a special impact on me. I used to repeat it with my friends just as a student who is keen to memorize new things in order not to fleet him. Now I can explain my deep concern with this concept with better consciousness. This term had opened to me a space to think of my subject away from the power of doctrine group by which I was able to have a distance between my subject and my group. I became able to see their cognitive frameworks that made them a coherent community. When you have the ability to see yourself outside your group, you can see your collective subject in critical perspective. Only then you can declare your new birth, the birth of an individual inside you!

Some concepts take their strength and effect from the metaphorical material significances dwelling them. This is what one can realize from the conceptual metaphor of the framework. The framework, in its direct material linguistic sense, has the meanings of prevention and separation. It prevents your involvement and separates you from others ([iv][iv]). Social frameworks work as barriers and border that separate one society from another. Unless you can cruise them over, you cannot evaluate the volume of symbolic violence they practice on your individual subject, nor the burden of commitments by which they tie you, nor the blindness by which they inflect your inside.

Today I can feel the oppressiveness of violence of these frameworks, which formed me all my life after being the topic of my reading. Only now, after emancipating from them, I can deconstruct them and deconstruct all the objects through which I was seeing my tradition, subject, religion, doctrine, group, identity and thinking system.

– 12 –

Frameworks are not just a border on which we stop. They are much more than this. They are our authority to which we resort when we want to make a judgment or an opinion to discern something, interpret a metaphor, except some event, read a text or be represented as group.

Frameworks are embedded as forms of trickery and they take various shapes: givens, criteria, theories, concepts, power, experience, institution, discourse, text, narratives, doctrines, ideas, tenets, postulates, hidden systems, proverbs and sayings, sacred characters, prevalent values, …etc.

Frameworks, with their different shapes, represent our common sense that combines us to our cultural sensitivity by which we meet the world.

Frameworks, with their authorizing job that enables individuals to interpret the outside events and facts, represent our mental systems and symbolic representations by which we build our social constructions within the framework of a certain ideology. ([v][v])

When the subject replaces its group framework, it replaces its own subject, life, world, tale, narrative and great certainties on world, history, man and God

The subject cannot deviate from the power of collective frameworks without being subjected to archeological digging, i.e., historical exposing. This is because that these frameworks present themselves as a representation of nature, innate character, right, truth, reason, pure meaning, a typical mental state or necessary determinants. In that way, it imposes itself, practice its violence, perpetuate its existence and abandon the historical and mundane systems. With that trickery, frameworks empathy the subject so that it turns it to an eternal calmness that resists movement, change and transformation.        

Arkoun ‘ s enterprise endeavoring to crystallize a free and open secularism to a new faith that is based on freedom, tolerance, abandoning fanaticism and veneration with the resistance that it receives from traditional religious men who are controlled by static cultural frameworks represents a model for how frameworks control ourselves, behavior and vision.

I wish I could keep on telling how these frameworks had formed my life, with all its practical practices, personal relations, choices, taste, readings, places, activity, faith, ritual, sacral and representations but the sensitivity of social and cultural context can not accept what is outside the power of its sense.

Let me say that it is the fear to have the fate of the scabby camel.

-13-

In this sense we can understand culture as being a group of traditions, conventions and values governed by a social and collective framework that programmed man behavior and determines his/her way of thinking and judgments ‘ criteria and portraits his/her vision of life. We can understand its discourse that is produced within its frameworks being a symbolic institution governed by a hidden network of cultural concepts, rules and criteria to which the sayings or selves of the symbolic representatives of that discourse are subjected.

    As long as there is a culture formulating man ‘ s cognitive and social frameworks, governing his/her thinking and cognitive systems (epistemes) and determining his/her horizon, man ‘ s historical position in every context will be formed within two levels:

1. The level of what a speaker can talk about. It is related to the speaker ‘ s domination of the language he/she uses and to the peculiar abilities of every language a speaker has chosen among human languages. It is also related to what is available by thought , conceptions, doctrines and systems of a certain group to which a speaker belongs or addresses and to the historical period of the development in that group. In addition, it is related to what is permitted by the existing power in the society or a nation with which the speaker consolidates.

2- The level of the unthought because of a forbidding caused by narrowness of reason itself or being closed to a certain phase of knowledge. The unthought is also caused by what is prohibited by political power or the public opinion if it is unanimously considered its doctrine and values as sacred and made them a base for its being and originality.

Within the theoretical practice of any tenant, theory or subject, the structure of these levels subjects to historical conditions in which the cognitive is intervened with the political and the mundane with the religious in a way that man cannot surpass easily. Accordingly, to understand the way in which we ourselves are formed, we need a historical reading that seeks different sciences in order to detect the formulations of these two levels; the level of the thought and the level of the unthought as well as their discourse and vision.

– 14 –

Then, as long as the subject is within the frameworks themselves, its Ijtihad (individual judgment), no matter how clever is, become captive to a certain historical state. That ‘ s why we need to criticize the Islamic reason for it reveals and exposes all the practices and frameworks that tightly hold the subject and represent its vision and transformation.

Critique of Islamic reason, as demonstrated in Arkoun ‘ s enterprise, is not a critique of Islam or its spiritual experience, as is shown in the revelation. In stead, it is a critique for its historical embodiments in man ‘ s practices as well as a critique of social and collective frameworks that formulated it and the sciences that had understood it. We are really indebted to Arkoun today for the wide areas of thinking he has opened, and for the vast capabilities of knowledge he has laid for investment. I am myself indebted to him and to his every sound uttering my new myself and its modern tale. This is what I could tell of the tale of my subject while reformulating the world inside itself in accordance with its Arkounic shock.

إلى شيخ الطريقة بقلم حسين خلف

بقلم حسين خلف

جريدة البلاد البحرينية

إلى " شيخ الطريقة"!

01

ربما  وصلتك مقولة انه لا يجب "الابتلاش" بالديري!، أي بانتقاد علي الديري علناً، لأنه كما جرت العادة يمحق خصومه محقاً ويسحقهم سحقاً، لغوياً وفكرياً ليغدو ناقدوه بعدها أثراً بعد عين، ويذهبون مَثلاً في المقبل من الأيام وربما الأجيال.

رغم هذا التهديد، قررت كصديق كتابة ملاحظاتي الخاصة عن جلستنا الأخيرة، الملاحظات هي عن الصديق والحبيب أبا أماسيل، كما أحب تسميته دائماً.

كان علي الديري بالنسبة لي في العام 2002 هو "المرتد" و"الحداثي الذي يبطن كفراً بكل شيء"، كنت حينها ذا قناعات صارمة تُلزم المؤمن بها بـ"اتخاذ موقف" إزاء أي تحريك لمياه بحيرته الهادئة.

نعم. تغيرت كثيراً، وغدا الديري لي صديقاً أحبه وأحترمه، أبوح له بأسرار وأحب متابعة تجدده، أهم سبب للتغير النفسي تجاه الديري كانت أخلاقه الرفيعة وصدره الواسع لأشرس الانتقادات المباشرة، وهاتين الصفتين لم يتغيرا في أبا أماسيل حتى اللحظة.

كل ما قلته ليس جديداً، أعلم ذلك، لكن الجديد هو انني دائماً ما رغبت ببرفلة شخصية الديري على الورق،  وكانت الفكرة جاهزة، وعنوانها الثابت الذي بُحت به هو"شيخ الطريقة"!.

الديري بالطبع ليس شيخاً وهو لا يريد ذلك، ربما كان يضحك الآن من تصوّر نفسه شيخاً، لكن  عنونت شخصيته بهذا الإسم، لأني طالما تصورته باحثاً  من الطراز الرفيع، باحث عن الحقيقة، حقيقة كل شيء، حقيقة هذا الكون، وحقيقة صانعه، وحقيقة الدين، وحقيقة النبوّة والكتاب، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة وهو طالما أشعرنا، وأكد شعورنا بأنه قاريء متعمّق للنصوص الدينية والفكرية التي تبحث في هذه الحقائق، محاولاً نفض الغبار عما ارتحنا له دهوراً…

كان  يقفز بسرعات مذهلة، وكنت لا ألبث ألهث وأنا أتابع قراءاته وحواراته المدهشة.

وكانت الدهشة هي ما يميز الديري، يمر على الحجر بجانب الطريق فيراه بعين مدهوشة، عينٌ ترى أن للحجر معنىً،  وفكرةً لا تخطر على بال العابرين أمثالي.. كان كالضوء الكاشف الذي ينير الزوايا المعتمة..

تابعت مسيرة الصديق الديري الأخيرة ودخوله عالم المجاز، وأخيراً عالم ابن عربي، كنت أحدث نفسي دائماً أن الديري سيتصل لي يوماً ليقول: وجدتها!.

لكن شيئاً من ذلك لم يحصل أبداً، دققت في حواراتي معه على ركائز مقولاته الأخيرة، استبدلت هذا التركيز بالتركيز على الديري نفسه، نفسيته الرائعة المتفائلة وكيفية تحركها وتأثيرها وتفاعلها مع ما يقوله هو ويتلوه من مقولات.

في آخر جلستين، وبالذات الأخيرة في الأول من يونيو 2010 الذي صادف يوم ثلاثاء، بدأ التأمل يعطي قراءة جديدة لهذا الصديق العزيز والخلوق..

خلاصاتي…

خلاصة تأملي، أن هذا الديري تخلى عن الدهشة، بدأ يتعوّد على رؤية الأحجار المرمية على جانبي الطريق،  لقد تسلل التعب سراً إلى ذلك العقل النشط، وبدت الراحة جميلة، الديري كما أراه الآن، لديه تصوره الخاص لـ"القوة المطلقة" جعلها إلها وتصالح معه كما قال لي، وأنا أعلم أن الديري لم يتصالح مع أي إله وإنما الديري تصالح مع نفسه،  تحدث معها، ظنّ أو اعتقد أنها الحقيقة الأخيرة، وشيئاً فشيئاً ارتاح، وهكذا غدت القراءات والمصطلحات الجديدة غير مدهشة له، فبإمكانه تطويعها عبر النفس المطمئنّة، والعقل غير المندهش، وفهمها بطريقة خاصة به أي بالديري.

لقد خلق الديري إلها وديناً وعالماً بيديه، كما صنع الأولون أساطير عن الأرض التي تقف على قرني ثور، صنع الديري أسطورته من غير قرنين بالطبع، وأصبح يغذيها بما يقرأه، فبعد قراءات لعدة صفحات من أفكار ابن عربي، يرفع الديري صوته بعبارة واحدة كأنها أعجبته "نتذكر ألوهيته وننسى ألوهيتنا"، يتأوّه، يفتتن، يُكرّر العبارة ويضع تحتها خطًا، نعم فهي ربما ستصبح فيما بعد ركنا من أركان الأسطورة.

لم أكن أعتقد أنه مثلنا، كان شيئاً يشبه شريعتي، لكنه الآن ما بعد بعد شريعتي،  كان مشروع فيلسوف سيطلق يوماً صرخته التي ستبقى مع الزمن، هو من لم أعتقد أنه سيتعوّد على شيء عادي…

يهيم على وجهه بين آلاف صفحات العرفان الراقي ومصطلحاته، يفتح المصطلحات بقاموس سعاد الحكيم،  لكنه كمن يجري داخل حجرات قلبه مأسوراً بسلسلة لا تصدر صوتاً ولا ضجيجاً، لا يصرخ: وجدتها!، ولا يبحث عمن هو ماثل أمامه وفيه، يقف يحاكي غيره وهذا الغير ليس سوى: نفس علي بن أحمد الديري.

يعجن مصطلحات الإيمان ، ليصنع منها قواعد الحيرة والشك، يقرأ  منازل الآخرة والجنّة،  ليبني منها أبراجاً دنيوية…

هل يعيش صديقي عالمه الخاص الذي صنعه بيديه، كما أحسب وأظن؟، كم سأتمنى بعد الآن  إن كان ظني في مكانه، أن يصحو هذا الصديق يوماً ليجد أن  ما صنعه يشبه صنم القرشي الذي جاع فأكل صنمه الذي صنعه من التمر.

كفّ الديري عن كونه يبحث، الآن هو يؤكد أسطورته الخاصة وفهمها للإله والعالم والدين والإنسان وكل شيء، وقد غدا مطمئناً للقاء الموت "الآن وفي هذه اللحظة" كما قال لي.

  إنه اطمئنان يخيفيني.

بعيداً وبالمناسبة

أكثر ما يمكن لي التساؤل حوله، أن الإمام الخميني (رحمه الله) الذي تمر الذكرى  السنوية لرحيله اليوم الخميس 3 يونيو، وكذلك علي الديري هما عاشقان لإبن عربي وفكره، فيما هما نقيضان إلى حدٍ كبير، الإمام الخميني غدا زعيماً عالمياً لفكر يؤيد مركزية الدين دولةً وأسلوب حياةٍ، يرى المجتمع والعالم ويفسر الأشياء  بطريقة معينة، بينما الديري يعتبر كل ما قاله عديله في العشق أمراً غير صحيح على أقل تقدير وأهون تعبير…

غريبٌ، أن كل منهما يستشهد بابن عربي هذا،  ليجتمع فيهما تعاكس الشرق والغرب.

مدونة الباحث د.علي الديري