أن تكون عربياً في أيامنا «1-2»

 

جانب من ندوة كتاب  آن  تكون عربيا

17467_1347109721448_1342458236_31001914_4734988_n

 

هل القومية فكرة فاشية بالضرورة؟ هل هي فكرة يمينية؟ هل هي أيديولوجيا عرقية؟
في خطاب عزمي بشارة هي ليست كذلك، هو يعمل على تحريرها من الفاشية واليمينية والأيديولوجيا العرقية والثقافية. وهو يقرّ أن المشروعات السياسية التي قامت على فكرة القومية في العالم العربي، كان مصيرها الفشل، وأنها لم تستطع أن تخلق لها مناخاً ديمقراطياً، وهذا ما جعل القومية قرينة الدكتاتورية، وهذا ما جعل من القوميين ديناصورات آيلة للانقراض.
يضع عزمي بشارة القومية على طريق الديمقراطية، منطلقاً من يقين صارم، أن الديمقراطية هي الإكسير الناجع لجعل القومية ممكنة الحياة بفاعلية في المجتمع السياسي والمدني. في طريق الديمقراطية ليس هناك يقين مطلق، والقومية حين تكون في هذا الطريق تتخلى عن مطلقاتها ويقينياتها ووثوقياتها، تغدو طريقة من طرق تكوين المجموعات. كيف يضعها عزمي بشارة على هذا الطريق؟
بإعادة فهمها بالاستعانة بالعلوم الإنسانية الحديثة لتخليصها من يقين الأيديولوجيا، وبإعادة إنتاجها وفق مقاس الدولة الوطنية لتخفيف نبرتها الرومانسية المتخيلة، وبإعادة صوغها ضمن مفهوم أمة المواطنين لتخليصها من الشمولية والاستبداد. بهذه الإعادات الثلاث يمكن الحديث اليوم عن القومية لا كتاريخ منقضٍ، بل كجواب لما يحدث اليوم من تشرذمات طائفية وعشائرية، هي تشرذمات وليست تعدديات.
في الحلقة النقاشية التي نظمها شباب «كلنا نقرأ» عن كتاب عزمي بشارة «ماذا يعني أن تكون عربياً» طرحت مشكلة لغوية تتعلق بالاشتقاق اللغوي لمفاهيم: أمة وقومية وجنسية. قلت إنها مشتقة من مواد لغوية مختلفة في لغتنا، وهذا سبب من أسباب اضطراب هذه المفاهيم في تصوراتنا الأيديولوجية المركبة لها. في مقابل ذلك هناك مادة لغوية واحدة تشتق منها هذه المفاهيم الثلاثة في اللغة اللاتينية «Nation» (أمة) و«Nationalisme» (قومية) و«Nationalite» (جنسية).
بسهولة نسبية يمكن للذهن أن يركّب علاقة أو أن يتخيل علاقة بين هذه المفاهيم منسجمة، كأنها تصدر عن شيء واحد، فالأمة مكونة ممن ينتسبون لقومية واحدة وحقوقهم الوطنية القومية مشتقة من هذه الرابطة الوطنية المجسدة في أرض جغرافية واحدة تحكمها هيئة سياسية واحدة.
كان اعتراض عضو مجلس الشورى سميرة رجب، يذهب إلى أن اللغة العربية ثرية في مفرداتها، ولسنا بحاجة لفهم هذه المفاهيم للغة أخرى، وتكفينا لغة القرآن، وقد ورد ذكر القوم في القرآن عشرات المرات. خالد الخاجة، وهو أحد الشباب النابهين من أمة «كلنا نقرأ» أجاب على اعتراض سميرة بأن اللغة ليست مجموعة من الكلمات فقط، كما أن القومية ليست مجموعة من الأفراد فقط.
الخطاب الذي تنطلق منه سميرة، هو نفسه الذي يراجعه عزمي بشارة ويدعونا لتجاوزه، كي نعيد فهمنا لمفهوم القومية بشكل آخر، يخرجها من مآزقها الأيديولوجية المغلقة والسياسية الفاشلة بامتياز.
أحد هذه المآزق، يكمن في تصورها اللاهوتي للغة، التصور اللاهوتي يقوم على الأفضلية، فهناك دين أفضل من دين، ومذهب أفضل من مذهب، ولغة أفضل من لغة، وعرق أشرف من عرق. ليست اللغة العربية بعدد كلماتها ولا بعراقتها، بل بالمحمول الذهني الذي ترينا من خلاله العالم، وهذا ما أردت أن أبينه في بداية مداخلتي للدخول على كتاب «معنى أن تكون عربياً اليوم». فليس اشتقاق اللاتينية لثلاثة مفاهيم من جذر واحد نقصاً فيها، وليس اشتقاق العربية لثلاثة مفاهيم من ثلاثة جذور لثراء فيها. ليست المسألة هنا في الأفضلية، بل في اختلاف تجربة اللغة مع الواقع أو لنقل مع واقع الناس الذين استعملوها. فالناس في اللغة اللاتينية عرفوا في واقعهم المدينة والقانون الذي يحكم المدينة وحقوق من يعيشون في المدينة في مجموعة مدنية، فجاءت لغتهم حاملة تجربة هذا الواقع. ولغتنا العربية لم تعرف هذا الواقع. وحين أهلها عرفوا هذا الواقع في عصر النهضة من خلال تجربة الآخر، أرادوا للغتهم أن تترجم واقع الآخر، ليستفيد منه واقعنا، فاجتهدوا من خلال ثلاثة جذور لغوية. وكل جذر له تجربته في الواقع الذي عاشه العربي مع قومه وجنسه وأمته.
ونحن حين نعرف تصورات اللغات لمفاهيم الأمة والقومية والمواطنة، إنما نتعرف على تصورات اللغات للعالم، وكيف يبني ناسها تصوراتهم لأمتهم «الناس لا يُولدون أمة، الأمة تُبنى»[2]، ولا نبحث عن أفضلياتها، فكل لغة ناقصة للغات الأخرى؛ لأنه لا يمكنها أن تكتفي بتصورها. من هنا فالترجمة تلبي حاجة إلى فتح نافذة رؤية للعالم، وليس لسد نقص في معلومة فقط أو معرفة مقابلات الكلمات ومرادفاتها في اللغات.
التصور القومي العربي في صورته المتصلبة، ظن أن جميع اللغات مدينة للغته، ومشتقة من لغته وهو ليس بحاجة لبقية اللغات ليكتشف ما لم تمكنه لغته من رؤيته. وإحدى علامات التصلب لجوء الخطاب إلى الإحالات اللاهوتية لتثبيت حججه، كما هو الأمر مع «خطاب سميرة» الذي يعتقد أن آدم وحواء نزلا من الجنة إلى أرض العراق، ومن هناك تبلبلت اللغات عن اللغة الأم التي نزل بها آدم العراقي، وستبقى اللغات المبلبلة (من برج بابل) جميعها ناقصة، وهي دون اللغة الأم التي نزل بها آدم التي هي اللغة العربية.
إذا كان الفقيه ابن حزم الظاهري تجاوز ذلك، ورفض أن تكون اللغة العربية لغة الجنة واعتبر ألا تفاوت بين اللغات، فإن التصور القومي في صيغته الطفولية (على صيغة اليسار الطفولي) لم يتجاوز ذلك. من هنا الحاجة إلى المراجعة العميقة التي يقدمها عزمي بشارة لمفاهيم القومية والأمة والعروبة.
في مراجعته الناضجة، يقول عزمي «سوف يضطر الفكر القومي إلى تجديد نفسه في الشأن الديمقراطي ومسألة المواطنة كعضوية في الدولة لا عضوية في القومية» [3]ما الفرق بين العضويتين؟
للحديث بقية.
[1] انظر: وجيه كوثراني، بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه: الدولة والمواطن، دار النهار، ص.25
[2]، [3] عزمي بشارة، أن تكون عربياً في أيامنا، ص,58 ص.16

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12645

استقامة «أجورا»

agora_5%20%D9%82%D8%B5%D9%8A%201

يجري التحريض ضدّ هيباتيا في أجورا: الساحة العامة، في الدائرة المشتركة لسكان مدينة الإسكندرية، لقد تم تسميم بئر هذه الدائرة وصارت خاصة بجماعة، ولم تعد صالحة ليرتوي منها الناس ثقافة جامعة مشتركة، من هنا خطورة تسميم هذه الدائرة المشتركة، وهي دائرة تجد فيها السلطة المستبدة دوماً مكانها المفضل لتسميم الأفكار والشخصيات التي لا ترغب فيها، السلطة تريد أن تكسب قوة الناس (الشعب) بسلب قوة العقل، ليغدو من في هذه الساحة أداة سهلة الاستعمال والتحريك والإخضاع والركوع.
تحرك السلطة يد أجورا، لترمي من تشاء بحجارتها. لقد جرى رمي هيباتيا وسحقها وسحلها بالعبث في شكل هذه الساحة الدائرية بتحويلها من الانحناءة إلى الاستقامة، حتى صارت مصدر خوف (Agoraphobia أجورا فوبيا)[1] الخوف من جماهير الساحات العامة، والضحية دوماً هم الأقلية أو المثقف الذي يفكر خارج السلطة ولا تسعفه أدواته في تهييج الجمهور، هكذا ذهب الحلاج والسهروردي وكتب ابن رشد وابن عربي ضحية تهييج هذه الساحة من قبل السلطة السياسية في حلفها المقدس مع السلطة الدينية. في لحظات معاناة أبيها «ثيون» الرياضي الفيثاغورثي من آثار الضرب الذي تلقاه من عبده «ميدروس» الذي كشف عن إيمانه المسيحي في لحظة اهتياج أجورا، وهي لحظة قد ساهم في تأجيجها هذا العالم الرياضي الفذ، حين لم يسمع اعتراض هيباتيا، ودعا إلى ضرب المسيحيين الذين تمادوا في السخرية من آلهة الوثنيين، في هذه اللحظات أدرك خطأه فقال لابنته في اعتذار نادم، أردت لك أن تكوني حرة دوماً. فقالت له: أنا حرة.
هو كان يشير إلى حريتها العقلية التي أتاحها لها بتعليمها الرياضيات والفلسفة، وحريتها في المشي في «أجورا» والحديث فيها مع الناس وإثارة أسئلتها فيهم، وبعد هذا الاهتياج الذي تسبب هو أيضاً فيه، أصبح متعذراً عليها الخروج إلى الساحة العامة وصار عليها البقاء خلف أسوار المعبد والمكتبة، لم تعد تملك حرية الكلام، وحين نفقد هذه الحرية نقترب من الموت.
وجواب هيباتيا يشير إلى أنها حرة من ضغط الساحة العامة والخوف من جماهيرها (أجورا فوبيا)، كان خوفها فقط على مخطوطات مكتبة الإسكندرية، فهي تجد حريتها العقلية والدينية مدينة لهذه المخطوطات التي ابتكرها العقل الإنساني واعتبرتها المسيحية هرطقة ووثنية ومرضاً وسماً، فقد أطلق القديس غريغوريس (330 – 390م) هجاءه على مدينة أثينا (إنّ أثينا لمشؤومة) ومن قبله كان القديس هيبوليتس (ت236م) الذي كان يطيب له أن يلقب نفسه بأسقف روما قد قال: وراء كل هرطوقي فيلسوف. وأصدر الإمبراطور قسطنطين في العام 323م مرسومه بحرق كتب الفيلسوف فرفوريوس. ولاحقاً الإمبراطور يوستنيانس (527 – 565م) أمر بإغلاق جامعة الفلسفة في أثينا في 529م، ومنع الفلاسفة الذين سمَاهم (المرضى بالجنون الإغريقي) من التدريس.[2]
في 415م تمّ رجم هيباتيا أو سحلها أو حرقها أو كشط جلدها على اختلاف الروايات في تصوير بشاعة اغتيالها، لم يكن هذا الفعل وليد لحظة وشاية أو خيانة، بل هو محصلة (عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى) كما يسميها جورج طرابشي، وهي تسمية دالة تجمع بين الحقيقة التاريخية التي واجهتها الفلسفة وبين المحنة النفسية التي عاشها الفلاسفة.
حين قالت هيباتيا: أنا فيلسوفة وأؤمن بالفلسفة، كانت تثبّت على نفسها تهمة الهرطقة والشؤوم. الساحات العامة التي كان يشغلها سقراط بمهاراته الحوارية، رافضاً أن يعتزل في الأوراق أو في الجبال، مفضلاً أن يمشي في الأسواق ليعلم الناس الفلسفة بحواراته المولدة للمعرفة عن الحق والعدل والفضيلة والحقيقة والجمال والإنسان، صارت هذه الساحات طرقاً إلى كنائس لا تتسع لغير المؤمنين. في لحظة ما لم تعد الساحات العامة تتسع لدائرة سقراط الفلسفية ولم تعد تسع مشيه في الأسواق وهو يقول «ليس بإمكان الأشجار التي في الجبل أن تعلمني شيئاً».
وحين حكم عليه بالموت رفض أن يهرب بعد أن مهّد له تلاميذه طريقاً للهرب، وفضل مواجهة الموت، لأنه مشروع بقاء أبدي، فتجرّع سم الشوكران الذي حكم عليه به. ويبدو أن هيباتا قد أتقنت درس سقراط وجعلت من موتها درساً فلسفياً، درساً يقول إن الساحة العامة متى تم العبث بها بإشعالها بمهيّجي الجماهير فقدت قدرتها على أن تكون ساحة مشتركة للحوار والجدل والبحث عن الحقيقة. والفيلسوف أو المثقف متى خضع لسلطة الحلف المقدس بين السياسي ورجل الدين، فقد صدقيته وانسجامه الداخلي وقدرته على أن يتكلم بما يراه. في هذه اللحظة يبرز الموت مقابلاً للكلام، وهذا ما يشي به كتاب مصطفى صفوان «الكلام أو الموت»[3].
في مشهد الركوع، كما يحلو لي أن أسميه، في فيلم «أجورا»، وقف الأسقف «سيرل» يتلو من الكتاب نصوصاً تحقّر المرأة وتحتكر الحقيقة فيما ينص عليه الكتاب المقدس فقط، وتفرض على الجميع الامتثال لهذه النصوص. بعد موعظته رفع الكتاب المقدس إلى الأعلى وأمر جميع رجال الدولة بالركوع لهذه النصوص تعبيراً عن الامتثال لها وتعبيراً عن صدق إيمانهم بالمسيح، ركع الجميع على مضض ورفض المحافظ تلميذ هيباتيا وعاشقها «أوريسيوس» الركوع وسط ضغط توتر جمهور «أمونيوس» الذي كان يهتف له بأن يركع. لم يركع وكان يصرخ أنه مسيحي، لكنه لن يركع لتلاعبات «سيرل» بالنصوص المقدسة للنيل من هيباتيا، فقال له صديقه وزميله السابق في دائرة درس هيباتيا الأسقف «سينيوس»: لكنه (سيرل) كان يقرأ من الكتاب المقدس ولم يكن يفسره، فاضطر أن يركع لاحقاً، ليحافظ على منصبه السياسي. في الحقيقة لم يكن «سيرل» يقرأ النصوص المقدسة بقدر ما كان يضع قانوناً للكلام في أجورا «إن قانون الكلام هو المؤسس للكلام»[4].
الركوع خضوع لسلطة من يُمثل الله في الأرض أو من يدّعي ذلك، يريد «سيرل» ممثل التحالف المقدس أن تركع أجورا كلها لقانون كلامه، ليس بقوة الحجة بل بحجة القوة. أي الركوع لقوة السلطة الدينية المسنودة بقوة سلطة السياسة، وليس لقوة حجة العقل والخطاب. حجة العقل تصنع دائرة وحجة السلطة تصنع خطاً مستقيماً. صنعت هيباتيا دائرة بطلابها وأرادت لأجورا الإسكندرية أن تكون دائرة تتسع لخطابات الجميع، والمسيحية في تحالفها المقدس مع روما صنعت خطاً مستقيماً وفرضت على الجميع أن يتطابق معه ويركع له، والنقطة التي تخرج عن الخط، سيكون مصيرها المحو، وإلى هذا المصير آل جسد هيباتيا، لكن بقيت هالة دائرتها ترفرف في التاريخ، في حين أن الذين تماثلوا مع الخط فقدوا حتى ظلهم.

[1] http://en.wikipedia.org/wiki/Agoraphobia
[2] انظر: الفصل الثاني من: كتاب مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، جورج طرابيشي.
العقل المستقيل في الإسلام؟، جورج طرابيشي، ص.134
[3]، [4] الكلام أو الموت: اللغة بما هي نظام اجتماعي: دراسة تحليلية نفسية، مصطفى صفوان، ترجمة د.مصطفى حجازي.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12596

دائرة هيباتيا

 240000120432_600x400q100

«جعل شكل الفلك كروياً لأنه أفضل الأشكال الجسمية»[1]
بشيء من التصرف يمكنني أن أعرف أجورا ذات الأصل اليوناني، أنها دائرة الساحة العامة التي يلتقي فيها الناس وأصحاب الأفكار من المثقفين والفلاسفة والشعراء ورجال الدين، ليعبروا عن أفكارهم ومواقفهم وانحيازاتهم. هذه الدائرة هي الميدان المشترك بين الناس في المدينة، وهي إحدى سمات المدينة.
في فيلم «أجورا» Agora للمخرج الإسباني أليخاندرو امينبار، كانت الفيلسوفة هيباتيا وريثة الفلسفة اليونانية، مهمومة بفكرة الدائرة. تعلم تلاميذها في مكتبة الإسكندرية إلى جانب أبيها (ثيون) الرياضي الفيثاغورثي رئيس مكتبة الإسكندرية، تعلمهم أن الدائرة أتم الأشكال، لأن جميع النقاط فيها على مسافة واحدة من المركز.
شاهدناها طوال الفيلم ترسم الدوائر الفلكية لتكتشف تمام الأشكال الفلكية محاولة معرفة أسرار مساراتها. وشاهدناها تدور بين أفلاك أديان الناس، لتقنعهم أن دائرة الساحة العامة (أجورا) تتسع لوجودهم في مدينة الإسكندرية. كانت تعوّل على تلاميذها ليكونوا رسل دائرتها ذات المركز المحايد تجاه جميع النقاط الموجودة في الدائرة، لكن تعويلها لم يكن في محله، فمركز الدولة صار مسيحياً والتلاميذ عَلِقُوا في هذا المركز، من هم من صار محافظاً فيه ومنهم من صار أسقفاً، ومنهم من صار تابعاً لجماعته المتطرفة.
في مقابل الدولة التي لم تتسع دائرتها لغير المسيحية في شكلها المتطرف، اتسعت دائرة درس هيباتيا للتشكيك والسخرية والتأييد والرفض والنقد لكل ما يصدر عن مركزها من أفكار، حتى أنها كانت تستخدم ببراعة اعتراضاتهم التي تأتي في شكل ساخر لمراجعتها لنظريات الفلاسفة حول دوران الأفلاك.
حين أراد أحد تلامذتها (أورستس) أن يجعل منها تامة منسجمة بمركزها من دون نقاط تلامذتها، رمت في وجهه خرقة ملطخة بدم نقصها (دم الدورة الشهرية) وأشارت له لينظر إلى السماء ويتأمل انسجام دائرة الفلك وتمامها، فكأنها تقول له: نحن دائرة تامة، أنا أصير دائرة تامة بكم، أما أنا وحدي فلست تامة، بل ناقصة. المركز إذاً يصير دائرة حين يجعل المسافة بينه وبين كل ما يقع في محيط الدائرة على قدر واحد.
لقد فقدت (أجورا) الإسكندرية تمام شكلها حين ضيّقت على بقية النقاط واتسعت لنقطة واحدة، بمعنى حين انحازت للمسيحية واتخذتها مركزاً كلياً للحقيقة، وأقصت بقية النقاط الأخرى من الدائرة (الوثنية واليهودية والتأويلات المسيحية الأخرى التي عدت فيما بعد هرطقات). لقد شاهدنا في الفيلم كيف خرقت هذه النقاط كلها عقد الدائرة، الوثنية حين هاجمت المسيحيين في الساحة العامة بسكاكينها وسيوفها وفؤوسها، والمسيحية حين دمرت علوم مكتبة الإسكندرية وتماثيلها وجعلت منها زريبة وأعملت سيفها في رقاب الوثنيين وحجارتها في رؤوس التي لم تتعمد بمائها، وأجبرت الجميع على التماثل مع مركزها، واليهودية حين ردت بحجارتها على حجارة المسيحيين المهتاجة بتحريضات (أمونيوس) في (أجورا) الإسكندرية التي فقدت شكلها الدائري.
وحدها هيباتيا بقيت تحمل هم الدائرة، دائرة السماء ودائرة الأرض. دائرة الأديان وأشكال تصوراتها للسماء، ودائرة المدن وأشكال تجسداتها في الأرض. ظلت هيباتيا منسجمة تماماً مع فكرة الدائرة، محترمة المسافة بين النجوم والكواكب وبين الأديان وبين التأويلات. بقيت هيباتيا تامة وعظيمة بهذا الانسجام الذي لم يخترق إيقاع المسافة، حين استنطقوها عن ديانتها وإيمانها ليحكموا عليها، قالت: أنا فيلسوفة، أؤمن بالفلسفة.
من خرقوا عقد الدائرة لم يحترموا المسافة ونسبها الرياضية. لقد تعلّمت وعلّمت هيباتيا الرياضيات ووظفته في فهمها للفلك السماوي وفي فهمها للفلك الأرضي، حيث الإنسان يصنع نقاطه في صورة دوائر مطلقة يسميها أديان ومذاهب وطوائف، وباسمها يحتل ساحة الدائرة العامة ويريد من الجميع أن يمتثل له، والدولة متى سلمت ساحتها العامة المشتركة لمركز حكمت على نفسها بالانغلاق والنهاية.
الدولة دائرة تامة، متى كان مركزها محايداً تجاه النقاط التي في دائرتها (الأديان والمذاهب والطوائف والتأويلات والأيديولوجيات). الإمبراطورية الرومانية المشهورة بمسارحها الدائرية وساحاتها العامة التي ورثتها عن الثقافة اليونانية، بدأت تفقد تمامها حين بدأت تفقد حيادها تجاه الفلسفة اليونانية خصوصاً واعتبرتها هرطقة وأخذت تنحاز تجاه نقطة المسيحية وسلمت أجورا إلى أمثال الأسقف (سيرل) الذي قاد الدعوة إلى اعتبار الفتك باليهود المقيمين بالإسكندرية واجباً مقدساً، وهو الذي صلى على جثة (أمونيوس) واعتبره شهيداً، واعتبر من فضائله تهييج الجماعات المسيحية لاقتحام مكتبة الإسكندرية.
سلطة الدولة لم تُبق لأحد أن يختار نقطته في محيط الدائرة، بل لم تعد هناك دائرة، منذ توطدت الوحدة المقدسة بين الكنيسة والدولة في الربع الثاني من القرن الثالث الميلادي، الجميع عليه أن يتماثل مع المركز، غير أن هيباتيا عشقت الدائرة وفضّلت الموت على أن تعيش من دون دائرتها، وكأنها كانت تتحدى سلطة الدولة في تحالفها مع سلطة الكنيسة. فكان ثمن تحديها أنها صارت شهيدة الدائرة، الدائرة بما هي علامة فلسفية ووجودية للتمام والحياد والتوازن والانسجام والتعايش مع المحيط.
الدولة لم تترك خياراً حتى لتلاميذ هيباتيا الذين كانوا بقلوبهم في دائرتها، وبأيدهم في جسد الدولة القابضة على كل الدائرة حد هصرها، وكانت يد دافوس تلميذها العبد الذي حررت عقله بعلمها ورقبته بعطفها، يد الدولة في وحدتها المقدسة مع الكنيسة حين أطبقت على نفسها، لتغادر أجوراً الإسكندرية وهي تنظر إلى السماء من خلال الدائرة.
«عذابات الفلسفة في المسيحية الأولى»[2] وجدت مظهرها الأكثر إيلاما في عذابات هيباتيا، كما وجدت البشرية بحسب وجهة نظر المسيحية عذاباتها في جسد المسيح المخلص، غير أن جسد هيباتيا لم يكن يزعم أنه جاء ليخلصنا من عذاباتنا، بل جاء شاهدا ليرينا كيف نصنع نحن عذاباتنا الدنيوية.
هوامش
[1] أخوان الصفاء، رسائل أخوان الصفاء، ج,4 ص.197
[2] انظر الفصل الثاني من: كتاب مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، جورج طرابيشي.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=12547

سيرة العم حجي عباس في جنة أصدقائه

سوق جنة خادم الإمام الحسين الحاج عباس فضل

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=192777

     هناك شخصيات لا تفقدها مرة واحدة، بل مرات تظل تشعر أنك فقدتهم أكثر من مرة لأنهم يحضرون بقوة في أكثر من موقف، الحاج عباس فضل(1932-2009) الذي ارتبط اسمه واسم جده بمأتم حجي عباس بالمنامة، من صنف هذه الشخصيات، عاشوراء هذا العام هو الأول الذي مرّ من دون أن يتقدم الحاج عباس موكبه. كانت لافتات صوره في وسط المنامة هذا العام تعبر عن حجم فقده في قلوب من أحبوه في هذه الأجواء. في هذه الجنة، يروي أصدقاؤه ملامح من سيرته فيهم، وهي جزء من كتيب سيصدر قريباً عن سيرته.

حجي عباس

– عزة النفس

«عزة النفس» هي الكلمة التي يمكنها أن تعبر عن شخصية الحاج عباس فضل. يقول الدكتور عبدالهادي خلف: قبل سنوات سمعتُ نقلاً عن الخال الحاج عباس بن فضل كلاماً. وفي كلام الحاج عباس حكمة جيل سبقنا ولكنه يعايش ما نعايش. فلقد أجاب على كل الأسئلة (أسئلة الصمود) في عبارة من كلمتيْن: «عزة النفس». فمن لا يحافظ على عزة نفسه أو يستخف بها لا يستطيع أن يرفع رأسه في وجه صاحب سلطان، سواء أكان هذا يحمل سيفاً أم صرة ذهب. ومن دون عزة النفس يباع التاريخ والمستقبل وتنكسر الأعين وتمتد الأيدي ذليلة تطلب العطايا بدل أن تطالب بالاستحقاقات. لقد عبّر مجايلوه ورفقاء دربه عن عزة نفسه بعبارات العصامية والاتساع والثقة والعفة وكلها تحيل إلى عزة النفس.

– بنيان القلوب

كيف تصف شخصاً، هو ذاتك نفسها، هذا لسان حال القريبين من أصدقاء الحاج عباس فضل، من أمثال الحاج عبدالوهاب خمدن والسيد علي سيد ماجد لا تكفّ قلوبهم تردد: كان الحاج عباس، شقيق روحي، كأنه قطعة من ذاتي، لا نكاد نغادر بعضنا، ولا يغادرنا فريق الحمّام، في هذا المكان توحدت قلوبنا، وتكونت مصائر طفولتنا، تعلمنا من احترافنا مهنة البناء أن تكون قلوبنا بنياناً مرصوصاً، فكانت كالبنيان المرصوص أو أشدّ قوة.

حين بدأت يدي الحاج عباس تشكيل الأسمنت والحجر، لم تكن صناعة الطابوق قد عرفت بعد، فقد كانت الأحجار هي مادة تشييد البيوت، الصبي ورفقته يتشكلون على أساتذة البناء في ذلك الوقت: الأستاذ خدادة الذي بنى مأتم المديفع والصفار وغيرها من بنايات المنامة، والأستاذ زاير حيدر والأستاذ كَلْ محمد.

مع دخول عصر صناعة الطابوق، سيصير الصبي أستاذاً، وسيشاركه الأستاذية السيد علي. وسيمارسان هذه الأستاذية مع رفاقهم بجمعية ذو الفقار، في تشييد مأتم الحاج عباس، كان ذلك في الخمسينات، المأتم قد هُجر والماء تمكن من إغراق جزئه السفلي حتى صارت أبوابه لا تفتح. لكن بقي يحمل لافتة اسم مؤسسه، ظل وفياً لهذا المؤسس الحاج عباس الكبير الذي كان يعمل في بيت الدولة، وهو جد الحاج عباس فضل. سيأخذه هذا الجد نحو الحلم بإعادة إحياء هذا المأتم، لم يكن الحاج عباس يملك غير يديه الماهرتين في هندسة الحجر والأسمنت، وسيعوض عوز اليد بغنى القلب، إنه غنى رفقته في جمعية ذو الفقار، فهؤلاء الرفقة المجتمعة على قلب واحد، كانت تحمل نبضاً شبابياً تحرّكه روح الفزعة المحلية، ولشدة طغيان هذا النبض صاروا يعرفون بجماعة الشباب، وظل هذا الاسم لصيقاً بهم، ومازالت بقايا هذا الاسم حاضرة في موكب عزائهم «موكب شباب مأتم حجي عباس». كما أنهم عرفوا بالتعبير الشعبي «الملحان»، وذلك لأنهم كانوا خارج الأسر الكبيرة المسيطرة على إدارة المآتم، وهم ينتمون إلى طبقات العمال المشتغلين في البناء والمراكب.

كانوا يضعون كل حجرة بأرواحهم ويرصونها بقلوبهم، طوال سنوات ثلاث، حين استوى هيكل المأتم احتاجوا إلى جسر حديدي (بيم) طوله 42 قدماً، لم يكن المال متوافراً والتبرعات قد استنفدها البناء، هنا اقترح عليهم (أحمد عوافي) الرجل القادم من الإحساء والمتحول إلى التشيع حديثاً، الذهاب إلى مقهى الفارة، بحسب ما تروي ذاكرة سيد علي، هناك ستكون التبرعات بقدر طول الجسر، كانت الفكرة مغامرة شبابية، ومغامرات الشباب جسور وصل بين الأجيال، هكذا تمّ لهم ما أرادوا، فصار الجسر حقيقة تنجزها مغامرة.

كانت تجربة مشروع المأتم مدرسة تعلمَتْ من خلالها رفقة الشباب مهارة تعجز المدارس اليوم عن إكسابها لطلابها، كان بناؤهم للمأتم في الخمسينات بمثابة مشروع تخرجهم على أيدي أستاذة البناء حينذاك، شعروا بأنهم أساتذة بناء حقيقيين حين تمكنوا من تشييد المأتم، وسيحمل الحاج عباس هذه الخبرة معه حتى منتصف الثمانينات حيث تقاعده، عن البناء لا عن خدمة الإمام الحسين، وسيثير معمار مأتم الحاج عباس، مأتم بن سلوم، وسيطلب منه أن يعيد بناء مأتم بن سلوم على منوال مأتم حجي عباس.

لقد تعلموا في هذه المدرسة، بناء ذواتهم بقيمها التطوعية، كان عنوان خدمة الإمام الحسين، تعني خدمة المجتمع المحلي الذي يحيط بهم، وتعني تعلم قيمة أن تعطي من روحك وجهدك وراحتك ومالك من أجل العمل في المجتمع. وتعني تعلم العمل كفريق واحد.

-الخروج من مأتم مدن

الحاج إبراهيم المنصور ورث رعاية مأتم مدن عن أبيه، وتمتد علاقته بالحاج عباس إلى مرحلة الشباب في الأربعينات، يقول وهو متكئ على أريكة مكتبه الصغير في وسط مدينة المنامة: هنا كان يجلس حجي عباس يومياً، يوم وفاته، خرج من هنا متوجهاً إلى المسجد، ليؤدي صلاته الأخيرة، نذكره يومياً، لا يغيب عن مجلسنا، نذكر هدوءه الرائع، واحترامه لخصوصيات الآخرين، والتزامه حدود حرمة الأشخاص، لا يدخل على ما يخص الأشخاص، وهذه ميزة نادرة في بيئة كل شيء فيها يدخل على كل شيء حد انعدام الخصوصية. حجي عباس نموذج للشخص العاف الكاف. يكتفي بمحبة الناس، ولا يطلب منهم أكثر من ذلك. لديه مفتاح مكتبي الذي صار مجلسنا اليومي في الضحى، كما لديه مفتاح قلوبنا، ينتظرنا أو ننتظره، هنا حيث تجلسين أنت الآن (يشير إلى فضاء بنت حجي عباس)، كان مكانه المفضل، تمتد علاقتي بالحاج عباس إلى الأربعينات، ولا تسألني (وهو يضحك) كم كان عمرنا، فالأعمار بيد الله وهي سرّ من أسراره، لكن تستطيع أن تقول كنا على مشارف الحلم، الحلم في العمر والحلم بالحياة، حلمنا، تشكله فرقاننا القريبة من بعضها ومآتمنا التي كانت ساحة نشاط شبابنا. كنا نعمل في مأتم مدن، بتاريخه العريق، فهو من أوائل من عرف ضرب القامة مع مأتم الحساوية، بعد مأتم العجم الكبير. وكعادة المآتم في الاختلاف والانشقاق وتوليد المآتم من خلافات المآتم، خرجت مجموعة من مأتم مدن، وكان من ضمنهن حجي عباس، لم يكن في خروجهم حرب ولا عداء، بدليل أن علاقتي الأخوية الحميمة بحجي عباس استمرت، وظل يأتي مأتمنا الذي لم أغادره قط، ونذهب إلى مأتمهم.

– بناء مأتم بن سلـوم

للحاج أحمد بن سلوم علاقة متفردة بالحاج عباس يسترجع هذه العلاقة بحميمة وفية لسيرة الحجي، يقول: جاءت علاقتي بالحاج عباس، امتداداً لعلاقته بأبي من جانب وامتداداً لأبوته الرمزية لشعائر إحياء كربلاء من جانب آخر، حين توفي أبي كان عمري خمسة عشر عاماً، وتشرفت في 1980 بمسؤولية إدارة مأتم بن سلوم ولم أتجاوز عشرين عاماً، كنت يتيماً من الجهتين، جهة الأبوة التي فقدتها، وجهة الخبرة التي لم أتوافر بعد عليها، لقد شكل الحجي عباس أبوتي في الجهتين، احتضنني بعطفه وقلبه الكبير الذي كان يسع الجميع، واحتضنني بخبرته وحكمته في إدارة مؤسسة المأتم، مازلت مديناً لدرسه في تسيير شؤون المأتم وشؤون الموكب، وسأظل أفتخر بأبوته التي أتاحت لي قرباً خاصاً منه، وسأظل تلميذاً يقتفي خطو حكمته وحنكته.

بعصاميته المتفردة، تمكن من إعادة بناء مأتم حجي عباس، برفقة الشباب حينها الذين دفعتهم الفزعة، لبناء المأتم، ولما كان عمي معجباً ببناء مأتم حجي عباس، طلب مباشرة من الحاج عباس، أن يبني مأتم بن سلوم وفق تصميم مأتم حجي عباس، كان ذلك في العام ,1964 ومازال مأتم بن سلوم محتفظاً بهذا التصميم وبآثار أيدي الحاج عباس في جدرانه ونسب مسافاته، كما أني ما أزال محتفظاً بأثر حجي عباس في إدارتي للمأتم وموكبه. لذلك أقول كم مدين مأتمنا لهذا الرجل! وكم هو محظوظ به، لم يعد رجال المآتم اليوم يتوافرون على هذه الصفات الشخصية المتفردة التي كان عليها جيل الحاج عباس.

في كل موقف أمرّ به معه، أكبره وأرى تعاليه على صغائر الأمور مهما بدت كبيرة، لما حصل الخلاف المؤسف حول مأتم حجي عباس، لم يتمكن موكب عزاء الديه من المشاركة في المنامة في العام الذي تلا الخلاف، حينها، استأذنته بأدب من يقدر رتبة المكانة، في أن أستقبل موكب عزاء الديه في مأتمنا، فلم يخيب ظني فيه، جاءت موافقته برحابة جعلتها أقرب إلى المباركة منها إلى الموافقة، وهنا لابدّ أن أعترف بفضله في تعليمي أهمية الاحتفاظ بالمعزين، وكيفية إدارتهم بحكمة، وكسب قلوبهم قبل صدورهم، وربما قد أعطى هذا الدرس ثمرته في الموكب الذي تفرد بحجمه مأتم بن سلوم طوال فترة التسعينات الملتهبة.

– امتداد الأبوة

(أبوحسّان) الحاج علي الونان، من أبرز الشخصيات التي كانت تلازم الحجي، وتعرف تفاصيل شخصيته وسيرة مأتمه، يقول في شهادته: كان امتداداً لأبي، كأني ورثت حجي عباس عن أبي، من أجمل الأشياء التي تركها لي أبي. ولد أبي في 1920 وقد أسس مع الحجي جمعية ذو الفقار، وخاض معه السنوات الصعبة في بناء مأتم حجي عباس، كانا قريبين من بعضهما، وكنت قريباً من علاقتهما الحميمة، أبي يكبر الحاج عباس بأربعة عشر سنة تقريباً، لقد جعل فارق السن علاقتهما أشبه بالأب والابن، أبي كان أباه، ولما توفي في 1985 صار حجي عباس أبي، صار في قلبي وصرت في روحه. وجدت في كنفه أبوة حانية وأخوة ندية وصداقة متينة، لم يكن أحد غير حجي عباس قادراً أن يجمع في قلبه الواسع بين هذه الصفات، صفات الأبوة والأخوة والصداقة، يناديني أحياناً يا ولدي، وأحياناً يا (أبوحسّان) وأحياناً يا أخي. وهذا ما جعله واسطة تصل أجيالاً مختلفة ببعضها، يجد فيه الشباب متسعاً لحماسهم المفرط واندفاعهم، ويجد فيه الكبار مكاناً للحكمة والتروي، لذلك أحبه الجميع، واحترمه حتى من اختلفوا معه، وهو قليل الخلاف. لا أذكر أني اختلفت معه إلا فيما كنت فيه مندفعاً من دون حسبة لما سيؤول إليه الأمر، في هذه اللحظات، يوقفني ليردني باتساع حكمته إلى ما هو أكثر عقلانية واتزاناً. لذلك لا عجب أن أحبه بإفراط، وأثق فيه بإفراط أكثر، فروحه الشفافة البيضاء لا تترك لك مجالاً أن تسيء للحظة في ذمته أو دقته، حتى أني لم أسأله يوماً وأنا القريب منه، كم لدى الجمعية من المال؟ بل كنت أقول له: في حدود كم من المال أتحرك للقيام بهذه المهمة؟ ليست ثقتي فيه نابعة فقط من يقيني ببياض سيرته، وكفاف يده وتعفف روحه التي لم تعرف يوماً غير التعالي على صغائر الأمور مهما كانت كبيرة، بل كانت مبنية كذلك على معرفتي بطرق توثيقه للحسابات، وحرصه على بيانها بوضوح في دفاتره.

– المبيت في الزنزانة

إنها ربما المرة الأولى التي يبيت فيها حجي عباس في ليالي محرم، خارج فريق الحمّام، في أيام عشرة محرم، لا يغادر ليالي الحي، يظل حتى ساعات الفجر الأولى يتفقد موكب العزاء واحتياجاته، ويتابع ما يستجد من أحداث، ويحل ما يتعقد من مشكلات. إنها ليالي الاستنفار، وكلما تقدمت ليلة في محرم زادت حالة الاستنفار، وارتفعت درجة القلق، فكل مراسم العزاء تتم في منطقة جغرافية صغيرة نسبياً إذا ما قيست بعدد المشاركين في الشعائر، وهناك احتقانات سياسية تجد متنفسها في المواكب العزائية.

في إحدى ليالي أحداث التسعينات، كان محرم قد هلّ، والجميع في أقصى حالات توتره، لا نعرف كيف سيكون الأمر، يقول أبوحسّان، ويدنا على قلوبنا من أن ينفجر الوضع لأي سبب من الأسباب. أتذكر في إحدى ليالي العشرة، كنا في اجتماع للهيئة في بيت منصور بن رجب، وقد اشتدّت بعض الاختلافات، وصار الوضع متوتراً في الداخل كما هو في الخارج، فالأحداث السياسية تترك آثارها على اجتماعات الهيئة. كنت والحاج عباس قد خرجنا من الاجتماع، ونحن في الطريق، أخبرونا أن الشرطة تبحث عنا، وحدثت بلبلة في الموكب بسبب توزيع مناشير. لم نرجع إلى بيوتنا، ولم يعرف أحد من بيت الحجي عن الأمر، فقد اعتادوا تأخره في ليالي العشرة، بتنا في سجن مركز شرطة الحورة، فيما كان حجي عباس، يجلس بهدوئه الجليل مستنداً إلى الجدار، كنت أنا في توتري المعهود، أذرع السجن ذهاباً وإياباً، تبرع أحد الموقوفين بقطعة بسكويت وآخر تبرع بمرتبة النوم، مع أذان الفجر، صلينا وأخذنا نترقب الصبح وما يسفر عنه، مع الساعة التاسعة، تفاجأنا بأن لغة الحوار معنا تغيرت والمعاملة الجافة صارت ترحيباً، وفناجين القهوة دارت بيننا، عرفنا فيما بعد أن الحاج أحمد منصور العالي، قد تفقدنا في اجتماع للهيئة في مبنى الأوقاف الجعفرية ولم يجدنا، وحينها أدرك أن اجتماعاً لا يحضره ممثلون عن موكب مأتم حجي عباس، سيكون ناقصاً بشكل كبير، فقد كان لموكبنا ثقله. أجرى الحاج أحمد اتصالاته، وتدخل بقوة لإخراجنا حالاً، وهذا ما كان، خرجنا من المركز في التاسعة والنصف إلى الاجتماع مباشرة.

بيت أم عاشور

بيت أم عاشور، هو أول وقف يسجل باسم مأتم حجي عباس، وحالياً هو مطبخ جمعية ذو الفقار التي تدير أمور موكب العزاء، ولأم عاشور حكاية تمتزج فيها الحقيقة بالأسطورة، لقد عايش الكثير من أهل الفريق أم عاشور، ورأوها امرأة فارعة الطول بيضاء متأنقة في لباسها، قبل أن يباغتها الحزن ويضع عصابة سوداء على جبينها، كأنها شامة لا تغادرها، صار لا يغادرها السواد ولا الحزن، زوجها عبدالرضا المسكتي جاء من لنجة، وهي جاءت من العراق، غادرت ديانتها اليهودية مبكراً، على يدي زوجها، عشقت حب الإمام الحسين من خلال زوجها، وشاركته إحياء عاشوراء، يقال إن زوجها هو أول من عرّف الناس بطبخة البرياني، فقد كان بخير ويسهم من أيام الجد الكبير حجي عباس فضل في طباخ مأتم حجي عباس، ترك لها الصبي عاشور بعد وفاته، وحين بلغ مبلغ الرجال، وحانت ليلة زفافه، فجع أمه بوفاته صبيحة أيام عرسه، فلبست الحزن الكربلائي، وظل عاشور عاشوراءها اليومي. لم تجد وفاء لزوجها وابنها غير أن تهب بيتها للإمام الحسين، ونحن اليوم هنا بفضل هذه المرأة.

يقال فيما يشبه الأسطورة، إن عاشور جاءها ذات يوم من أيام طفولته، يخبرها أنه لمح أخواله اليهود في الطريق، فوضعت جمرة في يده، ليتعلم درساً قاسياً في النسيان، نسيان اليهودية وأهلها الذين غادرت ديانتهم، وليتذكر أنه يجب أن ينسى. أتذكر اليوم، طعم «الآجار» اللذيذ الذي كانت تصنعه وتبيعه في الفريق لتبقى بكرامتها من دون أن تمد يدّ المساعدة لأحد، كما أنها كانت تبيع من شجرتها (لصبار) بطعم حموضته اللاذعة. يتذكرها اليوم الناس بمحبة بالغة، ولقد تركت لها ما يبقيها حية في قلوبنا وفي حيّنا.

– أم حـسن

أم حسن في السبعينات من عمرها اليوم، ارتبطت ذاكرتها بحجي عباس من خلال إقامتها في بيت أم عاشور وقيامها على شأن مطبخ مأتم حجي عباس، تستقبلنا بحرارة من غير مقدمات، لتقول: البارحة رأيت أباك )تخاطب فضاء بنت حجي عباس) في منامي يقول لي: ستأتيك ابنتي غدا ومعها طفلها فاستقبليها. فإذا بك الليلة هنا، أحلامي يحضر فيها من أحبهم، وأعرف في الأحلام ما سيحدث، لقد رأيت الأئمة كلهم في أحلامي، ولم أعرف من أحد موت حجي عباس، بل رأيته في الحلم قبل شهرين من وفاته، كان يطمئنني بأنه أوصى أبناءه بي خيراً، ويقول لي لا تخافي، فأبنائي هم أبناؤك وسيكونون سنداً لك. (لم يغال علي شيئاً في حياته) يستقبلني بتحيته دوماً وابتسامته التي لا تفارقه وحنانه الذي غمرنا به، بكيته بكاء العزيز في وفاته، وسأظل وفيةً لذكره حتى وفاتي، أوصي أبنائي دوماً بقراءة الفاتحة على روحه وزيارة قبره. لقد عرفت حجي عباس، منذ جئت إلى هذا البيت الذي كانت تسكنه أم عاشور، فبعد أن وهبته وقفاً للإمام الحسين لصالح مأتم حجي عباس، صار مكاناً للإيجار، فانتقالنا إليه بإيجار رمزي، وحين أراد أصحاب المأتم أن يستخدموا ساحته للطبخ، قلت لهم أنا سأكون طباختكم، وسأجعل من أبنائي وبناتي خدماً للمأتم، وهذا ما كان فكان الأولاد في المطبخ والبنات يتولين فرش السجاد وتنظيف المأتم بعد العزاء. كنا نطبخ على الحطب، ويتم جمع الأخشاب قبل شهرين، وتذبح الذبائح أمام الموكب والنساء تتولى تنظيف الرز وتحضير البصل وتنظيف اللحم إضافة إلى الطبخ قبل أن يصبح مهمة للرجال. لمّا كان حجي عباس في صحته وقوته كان يتولى بنفسه إدارة القدور، ولم تكن تفتح أغطيتها قبل أن يحضر الحجي بنفسه. نحن في هذا البيت منذ أربعين عاماً، تغيرت خارطة البيت حسب تغير مطبخ المأتم، في كل مرة يتم فيها تطوير المطبخ، يتغير تبعاً له بيتنا، تزداد غرفه أو حواجزه أو طوابقه.

إسطرلاب العارف

جريدة أوان الكويتية

السبت 21/11/2009 العدد:728

http://www.awan.com/pages/culture/253334

«الإنسان إسطرلاب الحق، والإسطرلاب لا محالة يحتاج إلى منجم عارف كي يستعمله، ألم تر البقال يعرض الإسطرلابات في دكانه، إلا أنه لا يستفيد منها. إذن الإسطرلاب مفيد في يد المنجم فقط»

جلال الدين الرومي

الإسطرلاب مقياس السماء، أو لنقل مقياس الأرض للسم اء. فالإسطرلاب يقيس زوايا النجوم ومسافاتها ويحدد اتجاهاتها، ويدل الإنسان على جغرافيا الأرض من خلال خارطة السماء. الإسطرلاب دليل السماء. هو مرآة السماء في الأرض، بمعنى السماء تُعرف بهذه المرآة، هو يرصد Astrolabe_planisf%C3%A9riqueالسماء كي يصل الإنسان إلى أماكنه في الأرض. من السماء نرى الأرض رؤية مركبة غير مباشرة، فالإسطرلاب ليس مرآة مسطحة، هو مركب من صفائح ودرجات ومؤشرات شديدة التعقيد، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه القدرة على التركيب ورؤية الأشياء من خلال أشياء أخرى.

قيل إن الإسطرلاب كلمة يونانية الأصل تتألف من مقطعين: أسترون astron وتعني نجماً، ولامبانين lambanein وتعني «الأخذ»، أي هي «أخذ النجوم» star taking. وقيل إنها لفظة فارسية عُرِّبت، «ستاره ياب» ومعناها مدرك النجوم. أطلق عليه القدماء اسم (آخذ النجوم)، ويمكننا أن نتأول هذه التسمية وفق ما نريد ونقول: هو يأخذ النجوم إلى الأرض، يقربها من الأرض، ويصلها بها، ويجعلها تتمرأى فيه، كي يمكن رؤيتها.

الإسطرلاب يأخذ السماء إلى الأرض، السماء البعيدة المتعالية الأخّاذة، يجعلها الإسطرلاب في متناول تصرف الأرض، في متناول حركتها وحركة إنسانها، وحركة ملاحته البحرية، وأعماله في المساحة والتثليث الخاصة بقياس الأرض، السماء المجهولة الغامضة وغير المدرَكة، يجعلها الإسطرلاب في متناول معرفة الأرض، كأن الإسطرلاب حاسة الأرض التي تُدرك بها السماء، ولأن الإنسان منجذب إلى السماء بطبعه، فقد أوجد الإسطرلاب، ليكون مرآتها، فهو أَخْذُها وهو إدراكها وهو صورتها.

بكل ما يتوافر في الإسطرلاب من هذا، وجد المتصوفة فيه صورة الإنسان، فأطلقوا على الإنسان إسطرلاب الحق، لأن ما وراء السماء، لا يمكننا أن نراه أو نعرفه أو ندركه إلا بهذا الإسطرلاب (الإنسان).

وقد أدرك السفسطائيون ما في الإنسان من إسطرلاب فقالوا: الإنسان مقياس الأشياء كلها، أي مقياس حقائق الأشياء، فالأشياء لا نعرفها حين تكون مجردة من ذات الإنسان، بل نراها عبر مقاييس فهمه الذاتية (إسطرلابه) للحق والحقيقة والجمال والعدل والألوهية، هكذا نعرف ربنا وعالمنا وحقائق كثرته، عبر إسطرلاب الإنسان. ويقول الرومي «إن الإنسان الذي يتعرف إلى ربه ويسعى باستمرار إلى معرفته يمكنه من خلال إسطرلاب وجوده أن يرى تجلي الخالق عز وجل وجماله الذي لا مثيل له لحظة بلحظة، ولن تخلو مرآته بتاتا من ذلك الجمال». الإنسان يأخذ جمال الخالق يأتي به إلى الأرض، فيجعله مُدرَكاً بالحواس. يعدد لحظاته ويعدد تجلياته ويعدد وجوداته ويعدد مراياه من خلال إسطرلاب وجوده (تجاربه وتجلياته وحكاياته). من يأتي إلى الأرض بغير الجمال، فهو لا يأتي به من السماء، وهو في غير ما فيه من إسطرلاب الحق، بل في كتاب الرومي (فيه ما فيه) يقول: «الإسطرلاب مرآة الأكوان»، أي أن الإنسان بما فيه من أكوان تتجلى في إسطرلاب وجوده.

الإسطرلاب يرسم من يستخدمه، وهو لا يكون مرآة الأكوان ما لم يكن في يد منجّم أو منجِّمة تعرف كيف يمكنها به أن ترى وتحسب وتقيس وترصد وتراكم وتدرك وتأخذ. من هنا فالفلاسفة منجمو حقائق العالم. يحسنون استخدام تجارب الإنسان وقصصه مقياساً لتشييد حقائق العالم. الفلسفة ضرب من ضروب التنجيم، أو فن من فنون استخدام الإسطرلاب. لقد طوّرت البشرية بحضاراتها المختلفة أنواعاً كثيرة من الإسطرلابات، لتدلها على العالم وسمائه، كذلك ابتكر الفلاسفة مقاييس كثيرة للإنسان لرؤية العالم بأرضه وسمائه بمقاسات مختلفة وزوايا مختلفة.

من لا يحسن استثمار تجارب الإنسان وحكاياته لرؤية العالم، يشبه بقّالاً لا يحسن استخدام الإسطرلابات المصفوفة في دكانه.

لهذا كان الإنسان إسطرلاب المتصوفة والفلاسفة والعرفاء والعلماء، وخارج هذا الإسطرلاب لا يمكنك أن تدرك سماء أو تهتدي إلى أرض أو تأخذ حقيقة.

مدونة الباحث د.علي الديري