ندوة تاريخ العرق الفارسي في البحرين

«تاريخ العرق الفارسي في البحرين»

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=184648&hi

فريق مركز الحوار:

علـــي الديـــري

باسمــة القصــاب

أحمـــــد الســاري

فريق الضيوف والمشاركين:

د. علي أكبر بوشهري «باحث تاريخي»

موسى الأنصاري «أمين عام جمعية الإخاء»

يوسف أمر الله «عضو إداري – جمعية الإخاء»

جعفر عابدين «عضو – جمعية الإخاء»

ناصر حسين «عضو – جمعية الإخاء»

محمود القصاب «نائب الأمين العام لجمعية التجمع القومي الديمقراطي»

New Picture (5)

* الوقت: القضية الثالثة التي سنطرحها في مركز الحوار في صحيفة «الوقت»، هي عن تاريخ العرق الفارسي، أو من يعرفون بالعجم في البحرين. جلستنا فكرية ثقافية بعيدة عن أي تعصبات عرقية أو أيديولوجية. نريد أن نعرف مسيرة قرن أو أكثر، كيف جاء هذا العرق إلى البحرين؟ وكيف صار جماعة؟ وما التحولات التي طرأت على هذه الجماعة وثقافتها؟ وكيف كان مآل هويتها؟ وكيف عاشت انتماءها العرقي والثقافي والوطني والقومي؟ وما الحوادث السياسية التي امتحنت فيها؟ وكيف هي علاقتها ببقية الجماعات؟ وكيف تفهم ولاءها الوطني والقومي والديني؟ وما هو وضعها الحالي؟

نبدأ مع علي أكبر بوشهري ليقدم لنا نبذة عن تاريخ هذا العرق.

– علي أكبر بوشهري: من ناحية المستندات التاريخية، فإن أقدم مستند موجود لدينا لتواجد العجم في البحرين هو العام .1828 لكن هذا لا يعني أنهم غير موجودين قبل هذه الفترة. هذه الوثيقة الموجودة بين أيدينا الآن. لكنهم دوماً كانوا موجودين قبل هذا التاريخ. الوثيقة هي لبيت موجود في المنامة، وكان يشتغل في التجارة. الإيرانيين دوماً يهاجرون. سنة 735 كان حاكم البحرين هو نفسه حاكم بوشهر. وهذا يدعو إلى ازدياد الهجرة المتبادلة بين الطرفين. الهجرات زادت في فترات لاحقة، لكن العجم استمروا وبنوا منشآتهم وبيوتهم ومؤسساتهم وتوافقوا مع المجتمعات الثانية في المنامة والمحرق.

* لنقل إن العام 1828 هو التاريخ الذي يمكن أن نستند إليه. لكن منذ ذلك التاريخ إلى الآن، هناك محطات تاريخية مهمة لتواجد العجم على شكل جماعة وليس على شكل عرق فقط.

– بوشهري: هم دوماً جماعة عرقية. استوطنوا الجزيرة، وبمرور الزمن صاروا كثراً، وصلوا إلى الانتماء إلى الجزيرة. أحبوها. كونوا فرجاناً ومآتم ومؤسسات. ارتبطوا مع مجتمعات ثانية.

* من حيث العدد؟

– بوشهري: في السابق كانوا قليلين؛ لأنه ليس لدينا إحصائيات، لكن إذا ذهبنا إلى أوثق إحصاء لعدد البحرينيين الفرس العام 1905 كان .1650 أما حالياً حسب حساباتي الشخصية فهم 20% من مواطني البحرين. نحو 100 ألف على الأقل.

ما الذي أثر على هذه الزيادة، وفي أي فترة تاريخية كانت الهجرة أكبر؟

– بوشهري: الهجرات كانت على فترات تاريخية مختلفة. بدأ العدد يزداد بشكل ملحوظ العام ,1850 وبسبب الإشكالات الطبيعية التي واجهتها الساحة الإيرانية من قلة الأمطار والمجاعة، أدت تلك إلى الهجرة إلى البحرين. فحسب اعتقادي، لا أحد يترك وطنه وأرضه وعشيرته إلا إذا كان مضطراً.

* هل تميز في رصدك التاريخي بين العجم الشيعة والعجم السنة والهولة؟

– بوشهري: أولاً أن يطلق على العجم السنة بأنهم «هولة»، هذه تسمية خاطئة. الهولة هم قبائل وأسر عربية الأصل، هاجروا من الساحل العربي إلى الساحل الفارسي في الخليج. أما عجم السنة فهم ليسوا هولة، هم من الفرس. لكن مذهبهم سني. العجم في البحرين جماعة غير طائفية، منهم السنة ومنهم الشيعة.

* هل العدد 100 ألف يضم الهولة؟

– بوشهري: طبعاً لا. الهولة من العرب. هم ينتمون إلى قبائل معروفة.

لو رجعنا إلى فترة الخمسينات، كيف كان وضع العجم من حيث العدد؟

– بوشهري: منذ الثلاثينات صارت النسبة ثابتة. 20% من عدد السكان البحرينيين. أعني من المواطنين البحرينيين قبل الزيادة الهائلة الآن في عدد السكان بسبب التجنيس. أي 20% من الـ «550 ألف بحريني».

* من أين حصلت على هذه النسبة الإحصائية؟

– بوشهري: عملية مطولة. أخذت العدد الذي ذكر في إحصاء ,1905 ثم تابعت جوازات البحرين، كانت توجد إحصاءات تذكر أعداد الداخلين والخارجين. وإحصاءات عن عدد من دخل البحرين. مثلاً يذكر أن هكذا عدد قد دخل من إيران وهكذا عدد من السعودية أو عُمان أو أي مكان آخر. ثم أخرى تبين عدد من خرجوا، المتبقون هم الذين يبقون، بمقارنتها مع الزيادة السكانية، توصلت لهذه النسبة.

* لأي تاريخ يستطيع العجم الآن أن يؤرخوا لعائلاتهم المهاجرة إلى البحرين؟

– بوشهري: بعض العائلات لديهم مستندات ولديهم اهتمام بتاريخهم. فهم يدونون تاريخ عائلاتهم. في عائلتي أنا قمت بالتدوين كباحث تاريخي، طوال حياتي أبحث في تاريخ العائلة. قابلت الكثير منهم. كتبت التاريخ كبحوث، وجمعت وثائق. لكن لم أنشرها.

* لأي سنة أرجعت تاريخ عائلتك؟

– بوشهري: عائلتي ليست قديمة بالنسبة إلى غيرها. ترجع إلى .1860 قبلنا كانت عائلات كثيرة.

* هل لدى أحد منكم ما يتعلق بالبعد التاريخي لعائلته؟

– جعفر عابدين: نحن لم ندون تاريخ عائلتنا، لكن بالتقدير أستطيع أن أقول إن جدي اشترك في بناء قصر القضيبية القديم العام .1926 جدي كان مولوداً في البحرين. هو والد أمي. كان يتكلم ونحن في طريقنا إلى عين أم شعوم من تليغراف – أي شارع الزبارة في القضيبية – كان يقول: نحن بنينا هذا الجزء أو ذاك. لكن نحن لم نكن ندون. الأمر الآخر يوجد مأتم «كلبهرام»، عمره أكثر من 170 سنة. هم يدعون بأنهم هم من بدؤوا الحيدر من هذا المأتم لسبب معين. كان مكان المأتم في فريق العوضية الآن جنب مقبرة الشيعة. وقتها لم يكن العوضية متواجدين في تلك المنطقة ولم يكن اسمه فريق العوضية. كان الميناوية ساكنين في مكان مرتفع. المأتم من برستج.

كان يوم جمعة ومصادف للعاشر من محرم حين أتى الميجر (ديلي) وطلب من «كلبهرام» ألا يخرج مأتمه للعزاء. سأله عن السبب فقال إن إخوانكم المسلمين السنة سيصلون الجمعة، فلا تخرجوا للعزاء كي لا يحدث تداخل بين المعزين والمصلين. قال كلبهرام للميجر ديلي: حسناً، نحن لن نخرج يوم الجمعة، لكن سنخرج يوم الأحد، فعليكم أن تغلقوا كنيستكم في هذا اليوم لأننا نريد أن نعزي. وقد كانت هناك كنيسة الإرسالية الأميركية، يمر عليها المأتم في طريق عزائه. اعترض ديلي وقال: كيف نغلق الكنيسة لكي تخرجوا للعزاء؟ قال كلبهرام: «إذاً، كيف تريدنا أن نوقف العزاء من أجل أن إخواننا سيصلون الجمعة. نحن سننتهي من العزاء قبل وقت الصلاة، أو سنبدأ بعد أن ينتهوا من الصلاة، أنت لا دخل لك بيننا نحن وإخوتنا السنَة. لا دخل لك بين الشيعة والسنة هنا. نحن نتدبر أمورنا معاً بشكل جيد». خرج المأتم في حيدر ولبسوا الأكفان. كان المغيسل في عين الحورة أمام المأتم. النخل اسمه «باغ سيدو»، هناك قتلت امرأة اسمها حورية، لا نعرف تماماً سبب مقتلها حتى الآن، ثمة معمّر واحد فقط يعرف الحكاية، هو كبير جداً في السن، وقد رواها لي ولم أستوعبها جيداً لأن كلماته غير مفهومة تماماً. المهم أنه تمت تسمية هذا النخل باسمها «نخل حورية». ومنه تمت تسمية المنطقة بالحورة.

– ناصر حسين: هناك عجم سنة وشيعة، وهناك هولة. الآن كل عجمي سني صار يعرف بالهولي. هناك حوادث سياسية حدثت. بعض العائلات السنة المحافظين هربوا خوفاً من رضا شاه الذي فرض على النساء نزع الحجاب. كان ذلك في الثلاثينات. أما في 1146 هجرية كان حاكم إيران هو نادر شاه. نادر شاه كان شخصية غازية. لديه فتوحات كثيرة وغزوات. وصل إلى الهند مرات عدة. ومن الغنائم التي حصل عليها نادر شاه موجودة في طهران، في البنك المركزي حالياً قطعة ألماسة كبيرة معروفة باسم «درياي نور» أي بحر النور، وقطعة ثانية من هذه الألماسة موجودة في بريطانيا. ولكثرة ما هجم على الهند، انتصر على ملك من ملوك الهند اسمه محمد، ثم زوج ابنه من ابنة الملك. حاول أيضاً الانتصار على البرتغاليين؛ لأنهم كانوا يحكمون جنوب إيران. وفي الوقت نفسه كانوا يحكمون البحرين. الإنجليز تمكنوا من طرد البرتغاليين. وفي الوقت نفسه الإيرانيون صاروا يحاربون الإنجليز. العجم كانوا يعانون من رضا الشاه ومن الإنجليز. هاجر بعضهم إلى البحرين طلباً للرزق، وبعضهم هرباً من السياسة خوفاً على حياتهم لأنهم كانوا يحاربون الإنجليز. كانوا يأتون من بوشهر. المسافة من بوشهر إلى البحرين 18 ساعة باللنج. كان ذلك بين الأعوام 1920 و1940 قبل الحرب العالمية الثانية.

– محمود القصاب: في تقديري أن العجم موجودون قبل الفترة التي حددها بوشهري. في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، كان الخليج هادئاً ومستقراً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، حتى على مستوى التجارة. الحراك ما بين السواحل الفارسية كان يتم بكل هدوء ومن دون أية مشكلات. بشكل طبيعي وهادئ كانت القبائل العربية ترحل إلى الخليج العربي شرقاً والمجاميع الفارسية تأتي إلى السواحل العربية غرباً من دون أي مشكلات. متى بدأت المشكلات؟ عندما قدمت الدول الاستعمارية؛ البرتغاليون تحديداً. في هذه الفترة كانت هناك دولة اسمها «هرمز» تبعد عن سواحل الخليج بنحو 12 ميلاً. تتنازع بين من يحكمها، الفرس أم البرتغاليون. هي نشطة اقتصادياً، لكن حكمها ضعيف. كانت إذا وجدت نفسها مهددة من البرتغاليين لجأت إلى عباس الصفوي، أي إلى الصفويين، وإذا صار العكس لجأت إلى البرتغاليين. هرمز كان يخضع لها الساحل العماني كله. احتلت البحرين، أكثر من منطقة في الخليج العربي. البرتغاليون يتنافسون لإثبات سيطرتهم على هرمز والبحرين وكل الدول التابعة لها. أعتقد أن الفرس كانوا موجودين في البحرين لهذه الأسباب أيضاً وإن بنسبة قليلة. الحوادث السياسية التالية زادت من وجودهم. الهجرات ليست جميعها هجرات سياسية. الدولة الصفوية كانت دولة طامعة. لا أحد ينكر أن لها أهداف استعمارية في البحرين. وبالتالي تتم بعض الهجرات تحت دوافع استعمارية. كذلك كان البرتغاليون والعثمانيون، بمعنى أنه إذا كانت هناك هجرات لدوافع الرزق وهرباً من القمع والبطش وطلباً للأمان هناك أيضاً هجرات منظمة لأغراض سياسية استعمارية.

New Picture (4)

الانتقال والهجرة

* ما المرويات والحكايات التي سمعتموها من آبائكم وأجدادكم عن تاريخ الانتقال والتحول إلى هذه الجزيرة؟

– موسى الأنصاري: لو نظرنا إلى الماضي، فإنه في السابق لا يوجد بترول ولا مصانع ولا معامل تكرير. العالم كله يعيش على الغزوات. الغزوات هي مصدر الرزق. سواء أكانت كانت إيران أم تركيا أم روسيا أم أي دولة في العالم. والأقليات موجودة في كل دول العالم. دائماً هناك مهاجرون من بلدان الجوار. ليس فقط في البحرين أو أي دولة بشكل خاص. كان عصر نادر شاه هو أقرب وقت إلى احتلال البحرين من قبل البرتغاليين. نادر شاه هو أقوى قائد وأيامه أقوى الأيام بالنسبة للحكم الشاهي. وكما تفضل الأخ محمود أن العرب والفرس كانوا يتنقلون بين السواحل. فبقيت مجموعات من الفرس هنا. تغيرت بعض المسميات. العنصر الفارسي الذي صار يسمى بالعجم، أنا لدي تحفظ على هذا المسمى الآن، سابقاً كان هذا الاسم صحيحاً؛ لأنه لم يكن هناك وجود لأي لغة ثانية في البحرين إلا الفارسية، ولأن كل من لا ينطق اللغة العربية فهو أعجمي حسب القرآن واللغة، فإن إطلاق التسمية في ذلك الوقت على هذا الأساس كان صحيحاً. لكن بعد اختلاط الأعراق وتدفق الآسيويين وغيرهم إلى البحرين صار المعنى مختلفاً. الآن العجم بالمعنى القاموسي هم ليسوا الفرس فقط، بل جميع من لا يتحدثون باللغة العربية وهم كثر. حالياً عندما يقال أصول فارسية، دائماً يعنون بها العجم الشيعة. لكن هناك أصول فارسية من السنة، وهناك أيضاً الهولة ذوو أصول عربية. الأصول الإيرانية تشمل البلوش وعرب السواحل وعرب خوزستان والأذربيجانيين والأكراد والتركمانيين في أقوام مختلفة. كانت تسمى فارس (بارس)، ثم بدلت إلى إيران لتشمل كل هذه القوميات.

اليوم الفرس يشكلون أكثر من 55% من إيران. أما البقية هناك فكلها أعراق أخرى. الأعراق الأخرى لديها حريات. بنظرة بسيطة للجانب السياسي هناك، فإن القيادات في إيران اليوم من أصل آذرية، من أصل عربي. من يحكمون اليوم إيران هم من أصول عربية. في الأصل لا يوجد «سيِّد» من أصل فارسي. ذرية الرسول أصلها عربي. لكن هذا الوجود العربي في إيران صار له مئات السنين. وصار جزءاً من الفرس. الآذريون الآن صاروا قيادات. ربما أختلف مع المرجعيات الدينية في إيران والقادة، هذا شيء يخصني، لكن هناك نوع من الحريات. هناك 50 صحيفة بالعربية. هناك محطات بالعربية. هناك مذياع بالعربية. لكن اللغة الفارسية هي المعمول بها في كل إيران.

– ناصر حسين: بعض الإيرانيين الذين هاجروا إلى الهند. حتى اليوم يسمونهم «بارسي» فارسي. في البحرين تسمية العجم في البحرين لاتزال قائمة.

– محمود القصاب: أعتقد أن العجم أنفسهم قد ساهموا في ترسيخ هذه التسمية. تسمية مأتم «العجم الكبير» مثالاً، على كل حال هذه التسمية لا تحمل أي نقيصة أو أي مضمون سلبي من العجم وغالبية العجم لا يرفضونها ولا ينكروها.

– موسى الأنصاري: الأخ ناصر يتحدث عن الإيرانيين في الهند، إنهم لايزالون محتفظين بتسمية الفارسي؛ لأنهم احتفظوا بدينهم الأصلي، الدين الزرادشتي، وهم قلة هناك. هؤلاء بعد الإسلام لم يتقبلوا الدين الجديد وانسحبوا جهة الهند وباكستان، وهم قلة قليلة.

– جعفر عابدين: كان العجم يساهمون مع أشقائهم العرب في كل الأعمال هنا في البحرين. في الغوص والبناء والتجارة. كثير من تسميات البحر كلمات فارسية الأصل. مثلاً كلمة النوخذة أو ربان السفينة. الأصل كلمة فارسية مكونة من مقطعين: ناو ويعني باخرة، ثم خدا ويعني: رب. فكلمة «ناو خدا» يعني ربان السفينة. العرب نطقوها نوخدة. القرقور أيضاً كلمة فارسية أصلها كولغير، أي مغلق ومحكم.

– يوسف أمر الله: الهجرات العربية إلى البر الفارسي تفوق أضعاف الهجرة الفارسية إلى البر العربي. في صحيفة «الوقت» يوجد لديكم شيء جميل أنكم تهتمون بتاريخ الأسر. هناك أسر مرموقة من الصف الأول في البحرين، كثير منهم هاجروا إلى إيران. وكثير منهم تعرضوا إلى الاضطهاد أو لوجود متطرف ضيق عليهم سياسياً واجتماعياً. الإيرانيون أيضاً كانت هجرتهم نوع اًمن الثورة البيضاء على رضا شاه. لأنه حاول أن يفعل مثل علمانية أتاتورك المتطرفة ضد الدين. كثير من العائلات الفارسية المحافظة هاجرت. هذه هي الهجرات الحديثة. كثير من العرب هاجروا إلى البر الفارسي بسبب قطاع طرق أو خوفاً من بعض المتطرفين الوهابيين. تركوا رؤوس أموالهم في بلدانهم وهاجروا.

* في العام ,1937 أمر حاكم البحرين، آنذاك سمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (1923 – 1924)بإصدار جوازات سفر بحرينية جديدة. هل أقبل العجم على الجواز البحريني في ذلك الوقت؟

– موسى الأنصاري: قانون الجنسية في البحرين كان العام ,1937 سأبدأ بنموذج حديث. البارحة كان أحدهم يروي لي أنه ذهب لعمل البطاقة الذكية، قال أعطوني موعداً بعد 15 يوماً. قبل سنوات لم يكن أحد يهتم بالبطاقة الذكية. الآن صار الوضع ملحاً ولا يمكنك أن تمارس أي جزئية من حياتك من دونها، لهذا صار التوجه لها مكثفاً إلى هذا الحد الذي لا تستطيع الحصول معه على موعد قريب. سقت هذا المثال لأوضح أن الحاجة هي التي تخلق التوجهات في كثير من الأحيان. وهي التي تدفعك للذهاب إلى الشيء والاهتمام به أو عدم الاكتراث به. سابقاً لم يكن هناك جواز. الناس تذهب الى الخارج بورقة وتعود بورقة. البوانيش تذهب إلى إيران وتأتي بالفاكهة. البحرين أيضاً ينقلون إلى إيران الشاي والسكر. لم يكن أحد يهتم بالجواز. في الأربعينات والخمسينات صار ممنوعاً السفر من دون جواز. هنا صار الجواز يمثل مشكلة. الحكومة البريطانية كان لها دور أيضاً. الحكومة البريطانية استقوت بالطرفين في عهد القاجار. عهد القاجار قبل العهد البهلوي. هو من أسوأ العهود التي مرت على إيران.

* الثورة المشروطية كانت في عهدهم..

– موسى الأنصاري: نعم، في آخر أيامهم كانت الثورة المشروطية. في أيامهم ذهبوا الى أحضان الغربيين، إلى تغريب إيران. في الوقت نفسه أعطوا البريطانيين كل الحرية في الجنوب. العهد القاجاري كان الأضعف في إيران.

* نعم، نحن نريد أن نركز الآن على البعد التاريخي. في الثلاثينات عندما ظهر قانون الجنسية، ما عدد العجم الذين تجنسوا؟

– موسى الأنصاري: هناك جانبان، هناك جانب اقتصادي وهناك جانب الإهمال. اقتصادياً، النمو التجاري الذي شهدته البحرين كان متأخراً، أي في بداية السبعينات مع الطفرة النفطية. قبلها كانت الطبقة الوسطى متقاطعة ومتلاقية بدرجة كبيرة مع الطبقة الثرية. الفجوة بين الطبقتين اقتصادياً لم تكن كبيرة. لم يكن الوضع مثل الوضع الآن. طبقة فقيرة في الطرف وطبقة غنية في الطرف الآخر. لم تكن توجد مغريات في البحرين ليهتم الإيرانيون بأن يحصلوا على الجنسية. كان التفكير بالنسبة إليهم أن الوضع واحد في البحرين كما في إيران، هنا سأعيش في برستج ولو رجعت إيران سأعيش في برستج أيضاً. الناس لم تكن منشغلة بموضوع الجنسية خلال الثلاثينات. في الخمسينات والأربعينات عندما صار الجواز ملحاً، حرموا من الجنسيات. الإنجليز لهم دور في ذلك. قبل 71 كان الإنجليز هم من يدير البحرين. في المحرق مثلاً كانوا يضعون العجم في جيب ويسفرونهم. أتحدث هنا عن مرحلة سابقة لمرحلة الثمانينات واشتعال حوادث الثورة. كان ذلك في الأربعينات والخمسينات. عندما تذهب إلى إيران وتلتقي بأبناء الناس الذين تم تسفيرهم، ستجد بعضهم يقولون لك: «أنا أبي من البحرين، لكن سفرو»،

عانى العجم كثيراً في تلك الفترة على يد الإنجليز، أنا من مواليد ,1943 أعرف ناس كانوا من الأوائل في التوجيهي وحرموا من كل البعثات. حرموا من الذهاب إلى الحج أو إلى أهلهم في إيران. والآن يأت أناس لم يروا البحرين طوال حياتهم ليتسلموا الجواز قبل أن يصلوا البحرين، وهذا موضوع آخر ربما ليس مكانه هنا.

* كم كــان عــدد العــجم الــذين استــخرجوا جــوازات بحرينية حين صــدرت الجـــوازات الجديــدة في العـــام 1937؟ وكــم عــدد الذين حصلوا على الجنسية حين صدر قانون الجنسية والملكية في العام 1939؟

– بوشهري: هناك فرق بين الجنسية والجواز. الجنسية هي طلب الحصول على جنسية بحرينية لشخص غير بحريني. رأيت وثائق قديمة يحدد فيها أصل الشخص، وأنه قد طلب الحصول على جنسية بحرينية. طلب الجنسية شيء والجواز شيء آخر. كان المقتدر فقط يطلب الجواز. في العشرينات فما فوق، كان عليك أن تدفع 10 روبيات للحصول على الجواز، يبقى الجواز صالحاً لمدة 4 سنوات، ولكي تجدده يجب أن تدفع 5 روبيات أيضاً. كان ذلك في العام ,1927 عشر روبيات تعتبر مبلغاً خيالياً في ذلك الوقت لا يستطيع عليه المواطن العادي. عندما ظهر القانون عدد قليل من العجم من المقتدرين طلبوا الجنسية. لم يكن مهماً حينها بالنسبة للناس طلب الجنسية. كان الجميع يركب اللنج ويرتحل بكل بساطة لأي مكان من دون تعقيدات. صار الضغط عندما ظهر قانون الأملاك. قانون الأملاك ظهر مباشرة بعد قانون الجنسية. إذا لم تكن لديك جنسية لا يحق لك إلا أن تملك بيتاً ودكاناً فقط. فإذا كانت لديك أملاك وأنت غير حاصل على الجنسية فليس لك حق فيها، يجب أن تبيعها. كان هذا هو أحد الدوافع. قانون الجنسية لم يحرك شيئاً، فجاء قانون الأملاك كنوع من الضغط. البعض أخذ الجنسية في الفترة نفسها والبعض الآخر تأخر. عائلتي أخذت الجنسية مباشرة العام .1927 جواز عائلتي كان رقم .42 المقتدرون فقط أخذوا والباقي لم يتمكنوا. يقال إنهم كانوا يأتون يوزعون الجوازات في «خيشة»، في السوق، ولا أحد يأخذ.

بعد وصول رضا شاه إلى السلطة، والسياسة القومية التي كانت لديه، صار هناك تخوف من العجم في البحرين. أي شيء يحدث في إيران، ويكون مزعجاً للبحرين أو الخليج، فإن الضغط مباشرة يأتي علينا نحن الإيرانيين في البحرين. وهذه خاصية صرنا معتادين عليها وشبه مستعدين لها دائماً أمام أي تأزيم مع بين أي طرف في إيران وأي طرف من الخليج. دوماً هذا ثابت في تاريخنا.

– جعفر عابدين: هناك صحيفة أسبوعية من شركة نفط البحرين «نجمة الأسبوعية». للمرة الأولى تقوم بإحصاء عن الأنفس في البحرين. في الخمسينات وجدوا أن العجم 70%. في السوق والدكاكين كلهم عجم، العمال والمنظفون والسقاية و«النجاجير» والعمال والبناء كلهم من العجم. أنا أستخدم كلمة عجمي.

* لكن أول إحصاء حدث في البحرين كان في 1941؟

– محمود القصاب: أنا أشتبه في هذه النسبة؛ لأنها غير دقيقة، ولم يكونوا الأجانب يوماً في البحرين يشكلون الأغلبية. لم يحدث ذلك إلا في هذه المرحلة بسبب التجنيس السياسي، وزيادة العمالة الوافدة المستوطنة أما قبلها فلا.

– بوشهري: كلام جعفر جزء منه صحيح. الإحصاء السكاني سنة 1941 كان الأول في البحرين. كان يذكر البحرينيين ثم الأجانب. ثم يتم تحديد الأجانب: سعودي، إيراني، هندي، عماني.. الخ. فمن الممكن أن هذه النسبة الـ 70% هي نسبة العجم بالنسبة للأجانب وليس إلى البحرينيين. أي أن 5% من سكان البحرين أجانب، ومن الـ 5% فإن العجم يشكلون 70% من الـ 5%.

– محمود القصاب: نعم، بهذا المعنى قد يكون معقولاً..

في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخمسين من بعد ظهر يوم 26 مارس/آذار العام 1970 أعلنت إذاعة لندن أن كلا من بريطانيا وإيران تقدمتا بطلب إلى السكرتير العام للأمم المتحدة لإرسال مندوب من المنظمة الدولية لاستطلاع رأي شعب البحرين عما إذا كان يرغب في الاستقلال أو الانضمام إلى إيران.

وفي الساعة السابعة من صباح يوم 30 مارس/آذار العام ,1970 وصلت لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة. وضمت البعثة في عضويتها ستة ممثلين دوليين من إندونيسيا وأيرلندا وفرنسا والهند والأردن، إضافة إلى رئيسها المندوب الإيطالي السيد «ونسبير جيو شاردي». وقد تم وضع برنامج الاستطلاع للجنة الأمم المتحدة، بحيث يشمل معظم مناطق البلاد، وقد بدأت البعثة هذه اللقاءات مع المواطنين، وذلك في قاعة المؤتمرات في فندق الخليج، حيث كان رجال الدين هم أول من التقت بهم البعثة، وذلك في الساعة الخامسة عصراً، ثم توالت هذه اللقاءات لمعظم الأندية والجمعيات والقرى والمؤسسات، وذلك حرصاً من جانب اللجنة على أن يشمل الاستطلاع معظم فئات وأفراد الشعب. وعلى سبيل المثال، اجتمعت البعثة مع إدارات أندية العروبة والخريجين والبحرين وجدحفص والنسور والسنابس والجزائر والفردوسي وسترة والرفاع واليرموك والإصلاح والنعيم والأهلي والترسانة. كما التقت البعثة بإدارات جمعية رعاية الطفولة والأمومة ونهضة فتاة البحرين، وأسرة الأدباء والكتاب وأسرة فناني البحرين وجمعية الهلال الأحمر البحريني.

* إلى أي جهة كان يميل صوت العجم في هذا الحدث الكبير؟ وكيف أدرك العجم هويتهم وولاءهم وانتماءهم القومي من خلال حدث الاستفتاء هذا؟

– موسى الأنصاري: كان الاستفتاء العام ,1970 أتى وفد من الأمم المتحدة إلى البحرين، وكان الاستفتاء يشمل ثلاثة أسئلة: هل تريدون الانضمام إلى إيران، أو تبقون تحت الحماية البريطانية، أو تريدون أن تكونون دولة مستقلة. لنكن واضحين وشفافين. الاستفتاء لم يكن كما حدث في استفتاء الميثاق. طلب العجم أن تكون البحرين إمارة مستقلة تحت دستور يضمن حقوق الجميع. يضمن حقوقنا كأقليات. العجم كانوا مندمجين مع البحرينيين. كانوا يريدون دولة مستقلة دستورية. لنكن واقعيين. كل عرق يفتخر بعرقه ومن لا يفتخر به ليس فيه خير. أنا ذهبت إلى الاستفتاء. وصوّتُ على أن البحرين تكون مستقلة، ذات سيادة، تحت دستور ديمقراطي. وضعت شرطاً من عندي أن تحترم الأقليات؛ لأنك أثناء الاستقلال لا تعرف ماذا يحدث. ذهبت كبحريني. لكن لا أريد تضييع هويتي كفارسي.

* عندما ذهبت إلى التصويت، كيف بدت لك هويتك، هل بحرينية أم إيرانية؟

– موسى الأنصاري: ذاهب كبحريني، لكني لا أريد أن أضيع هويتي كفارسي.

* هل كان هناك رأي معارض للتصويت من قبل جماعة من العجم تعتقد أن البحرين جزء من إيران؟

– موسى الأنصاري: لنكن واقعيين. لم يكن هناك وعي كافٍ في تلك الفترة. حتى البحرينيين لم يكن لهم حضور قوي. لم يكن هناك إعلام قوي كما حدث مع الميثاق مثلاً. المثقفون والسياسيون فقط هم الذين كانوا يذهبون.

– جعفر عابدين: للاستفتاء تم تقسيم البحرين إلى 84 جزءاً، كل جزء يمثل صوتاً. كان يلزم التصويت بنسبة 80% كي تنال البحرين استقلالها كاملاً. الأجزاء هي عبارة عن الأندية المنتشرة في البحرين، 4 منها فقط نوادٍ تمثل العجم في البحرين.

– بوشهري: لمزيد من التوضيح، سنة 70 لم يكن في البحرين جمعيات سياسية ولا نقابات عمالية. الأمم المتحدة تريد أخذ رأي الشعب، وجدت أن الجهة الوحيدة الموجودة في البحرين والتي يجري بينها انتخابات هي النوادي. أعضاء بحرينيون يجرى انتخابهم، المنتخبون هم يمثلون الباقي. كانت 4 نوادٍ للعجم هي الفردوسي والتاج والاتفاق والشعاع. جميع النوادي اختارت أن تكون البحرين دولة مستقلة. واحد من هذه النوادي أضاف «نحن نريد أن نعرف ماذا ستكون مكانتنا في هذه الدولة«. كان ذلك هو التحفظ الوحيد، لكن الكل صوّت على الاستقلال.

* هل هناك من بين هذه الجماعة من اعتبرها خيانة للوطن الأم؟

– بوشهري: منذ ولدنا هنا في البحرين، لم نفكر يوماً بالانتماء إلى إيران، التمسك بالأصل والثقافة دائماً موجودة، لكن لم يكن لنا رغبة في الانتماء إلى دولة إيران. نحن دوماً نعتبر أنفسنا بحرينيين. نحن تناسلنا جيلاً وراء جيل هنا. أنا في عائلتي أعد من الجيل الرابع. حالياً الجيل السادس من عائلتي موجود. عملنا هنا، تزوجنا هنا، حلالنا هنا.

– جعفر عابدين: نحن لسنا عرباً. ولكن لدينا لهجة فارسية بحرينية، تميزنا عن اللهجة الفارسية الأخرى. عندما نذهب إلى الكويت أو الإمارات أو أي منطقة على الحدود، بمجرد أن نتكلم يقال لنا إن هذه لهجته من عجم البحرين.

* في مرحلة الاستفتاء، هل كان التيار القومي يرى أن العجم يشكلون خطراً؟

– محمود القصاب: طبعاً، أنا لم يكن وعيي السياسي حينها مثل وعيي اليوم. لكني كنت أعيش هذه التفاصيل وأتذكر الحوادث. لنكن واقعيين. الحساسية كانت موجودة. الإخوة ذكروا أن العجم كانوا مع البحرين المستقلة. لكن هذا لا يلغي أن البعض كان يتطلع نحو إيران. لا أستطيع نفي أو إثبات ذلك. لكن أعتقد بوجود هذا البعض. المهم الآن هل العجم يعتبرون أنفسهم بحرينيين من أصول فارسية؟ هذا هو السؤال، بمعنى أن يكون ولاؤهم للبلد الذي احتضنهم من دون أن ينكر عليهم أصولهم العرقية أو القومية!

نحن كقوميين عرب كيف ننظر إلى القوميات الأخرى؟ نحن نتعامل مع الأقليات (وأنا عندي حساسية تجاه تسمية الأقليات) على أساس مبدئي وإنساني. أي نؤمن بالعروبة بمعناها الحضاري، أي أنها قادرة على استيعاب كل من يعيش على أرضها من أعراق وأقليات دينية أو إثنية. شخصياً، فتحت عيني في فريق المخارقة في محيط يضم الكثير من العجم. ندخل معهم في صداقات وخلافات وزواج. هذا لا يلغي الخصائص المشتركة التاريخية بيننا وبينهم. هذا الجانب الاجتماعي. من الناحية السياسية فإن أي تعصب سواء من العرب أو العجم هي موقع ضرر للطرفين. القوى المعادية والقوى المتربصة تستغل هذه الخلافات وتستثمرها. أي خلاف يصب في جهة الضرر للطرفين.

* نعم، لكن ما تتحدث به هو وعي حديث، أنا أسأل عن وعي التيار القومي العروبي في تلك الفترة الزمنية من التاريخ؟

– محمود القصاب: نعم، أنا أتكلم عن موقفي وموقف الجمعية وفهمنا للعروبة وللقومية باعتبارها الوعاء الحضاري الذي يستوعب كل من عاش على أرض العروبة وتفاعل مع قضاياها المصيرية. نعود للاستفتاء. في تلك الفترة كانت إيران بالفعل تطالب بالبحرين. كان البعض يقول لنا حين نختلف معهم: انتظروا عندما يأتيكم الشاه سترون ماذا نفعل. هذا يعبر عن شيء موجود ومضمون. لا أقول إن هذا موجود عند كل العجم، لكن هذا يعبّر عن بعض المضموم. الحساسية إذاً كانت موجودة. ليس لدي إثبات أو إحصاء يقول كم عدد العجم الذين صوتوا مع الاستقلال أو ضده. ولا أعتقد أن أحداً هنا يستطيع أن يحدد ذلك. ما حدث أن الأندية ومنهم نادي العروبة أقام اجتماعات عدة. كان يقيم الندوات، يذهب في وفود لتشجيع الأهالي وحثهم على التصويت مع عروبة البحرين واستقلالها. كان يلتقي بالعرب والعجم. في نادي العروبة لدينا مجموعة من الأصدقاء والأعضاء من أصول فارسية، وهم أصدقائي. العروبة هي قومية إنسانية متفتحة وليست عنصرية ضد العجم أو غيرهم، كذلك الفارسية يجب أن تبقى قومية، لكن ليست عنصرية. الفارسية هي ثقافة قومية. كل من ينتمي إلى أمة من حقه أن يفتخر بأمته وتقاليدها وتراثها وأن يحافظ عليها ويعتز بها.

* في انتخابات ,1973 كانت العملية الديمقراطية تتطلب أن ينتظم الناس في جماعات حزبية أو عرقية، أو أقليات تعبر عن مطالبها، كيف تصرف العجم في هذه الانتخابات؟ هل استطاعوا إرسال مجموعة من مرشحيهم؟ هل استطاعوا أن ينظموا أنفسهم على شكل تكتل سياسي أكثر تماسكاً لدخول البرلمان؟

– موسى الأنصاري: في 72م كان المجلس التأسيسي، وفي 73م كان المجلس الوطني. في المحرق ترشح اثنان من العجم للمجلس، المرحوم عبدالنبي خيامي والمرحوم علي عبدالله كريمي. الوعي السياسي كان شبه معدوم. لكن لم تكن هناك أي نظرة عرقية في ذلك الوقت. البرلمان الجديد مع الأسف الشديد عمل لنا نوعاً من العرقية والطائفية على عكس ما هو مفترض. في 73 كانت الدعوة للوحدة الوطنية. المجلس كان أنجح لأنه لم يكن هناك نظرة طائفية أو عرقية.

– جعفر عابدين: كان هناك عجم قد رشحوا أنفسهم للانتخابات، لكن نحن انتخبنا عرباً؛ لأننا كنا نرى أنهم أكثر كفاءة. لا لأن هذا عجمي أو عربي. كانت أكثر أصوات العجم انتخبت علي ربيعة ومحمد جابر الصباح.

– ناصر حسين: في المنامة، العجم كلهم صوتوا لعبدالهادي خلف لأنه إنسان وطني.

– محمود القصاب: في نظري، فإن الأقليات دائماً تتجه لتأييد القوى السياسية التي يعتقد أن ليست لها توجهات قومية. لهذا أعتقد أن أكثر العجم صوّتوا لمرشحي الأحزاب الماركسية والشيوعية. لكن ليس للمرشحين الذين ينتمون إلى الأحزاب القومية. لهذا تجد العجم في العمل الحزبي أقرب للمنظمات الماركسية. عندما ترجع لتاريخ بعض المنظمات الشيوعية ستجد أن لديهم أعداد كبيرة من العجم، وهذه مشكلة وحساسية تلازم كل الأقليات في كل مكان وفي كل الأوقات لأسباب عدة ومتداخلة بعضها يعود إلى الخوف من الأكثرية وهيمنتها وبعضها يعود إلى التعصب تجاه هذه الأكثرية.

* هل كانت هناك تحالفات على أساس عرقي في الانتخابات؟

– بوشهري: لا يوجد. كان هناك مرشحان للمجلس التأسيسي. ومرشحان للمجلس الوطني في منطقة المنامة. أكبر عدد من الأصوات حصل عليها مرشح عجمي للمجلس الوطني 145 صوتاً. قانون الانتخابات كان يقول: اللذي عنده الجواز والجنسية يحق له التصويت. العجم يجب أن يكونوا قد منحوا الجنسية قبل الانتخابات بفترة زمنية طويلة (ربما 15 أو 20 سنة). العجم الذين يحق لهم التصويت كان عددهم محدوداً. عجم الفريق ذهبوا إلى كبار الفريق، واتفقوا أنا سأعطيك صوتي وأنت أعطني صوتك. النتيجة كانت أننا لم ننجح لأن العدد محدود جداً. عبدالهادي خلف كانت له مؤهلات. باقي المرشحين كانوا من الأعيان، لكن لم يكونوا يمتلكوا مؤهلات عبدالهادي خلف.

القوميـون والعجـم

فيما يتعلق بموقف التيار القومي من العجم. سأقرأ مقطعاً من مذكرات عبدالرحمن الباكر: كان يوجه مقترحات لمنطقة الخليج العربي حول الأخطار المحدقة في الخليج العربي، وكان مهتماً بما يسميه بالأخطار الآتية من إيران. يقول: فهناك في كل جزء من الخليج العربي الطابور الخامس الإيراني المنظم أحسن تنظيم مما تتمتع به تلك الجاليات من امتيازات (…) ولو ولد في تلك المنطقة وتعلم فيها واقتنى من خيراتها، فإنه إيراني قلباً وقالباً، ولن يتخلى عن إيرانيته (…) فإنهم لا يتكلمون فيما بينهم إلا بالإيرانية. ولا يربون أبناءهم إلا على اللغة الأم (…) كما يخلقون فيهم روح الابتعاد عن كل ما هو عربي. ويقول في موضع آخر: هذا مثل بسيط بالنسبة لحوادث كثيرة قد حصلت وتوضح كلها كيف أن الإيرانيين كانوا يقفون من القضايا الوطنية المواقف السلبية. ويطالب بلجنة لتمحيص كل من منحوا الجنسيات يقول: لو تألفت لجنة من كل إمارة ومحصت الجوازات الممنوحة للمتسللين لوجدت أن ثمانين بالمائة إيرانيون وقد تسربوا إلى البلاد بطرق غير مشروعة بواسطة الجمعيات الإيرانية التي تدير نظام الهجرة غير المشروعة إلى الخليج العربي بغية إغراقه بالإيرانيين. ويقول: إنني ويعلم الله، لا أهدف من وراء كلامي هذا أن أستعدي العرب على الإيرانيين في الخليج العربي، ولا أقول إن كل الإيرانيين يحملون هذه الروح الخبيثة ضد البلاد التي أنعمت عليهم ونعموا بخيراتها، لكني أحذر بني قومي من مغبة حسن النوايا، لاسيما مع جماعة تتعطش حكومتهم للاستيلاء علينا». كيف ترون خطاب الباكر؟

– ناصر حسين: هناك أناس عندهم حساسية من العرق الآخر. سأقول نكتة أقابل بها هذه الشدة التي تطرق لها عبدالرحمن الباكر. في أيام شبابي كنت في لندن أقف بانتظار صديق لي. كان هولياً. جاء عراقي رآني واقفاً، سلم عليّ، ثم سألني من أين أنت، قلت له أنا من البحرين. قال: أنتم في البحرين لديكم إيرانيون كثيرون. قلت له: نعم، لكن هؤلاء لا يعتبرون إيرانيين، هؤلاء بحرينيون من أصل إيراني، ونحن في البحرين لا نميز بين عربي وإيراني. قال: يا أخي أنا أي واحد أصله إيراني، بمجرد أن يتكلم عربي أعرف أن أصله إيراني. ثم أضاف: أنتم لماذا لا تطردون العجم؟ قلت له: لماذا نطردهم، ماذا فعل لك العجم؟ في هذه الأثناء جاء صديقي ومباشرة قال لي: ها جتوري؟ خوبن؟. هنا صدم العراقي وراح يعتذر: أنا آسف كل شي ماكو.. قلت له أنت لم تترك شيئاً أصلاً. الخلاصة أن هناك حساسية عرقية عند البعض. يحبون قومياتهم، لكن لا يحبون القوميات الأخرى.

– موسى الأنصاري: الكلام الذي قاله الباكر فيه شيء من الصحة. نحن نحافظ على اللغة الفارسية هذا أمر لا خلاف عليه. نحرص على تعليم اللغة لأبنائنا هذا لا خلاف عليه. أنا عجمي هذا لا خلاف عليه أيضاً. المواطنة لا تلغي القوميات، لكن العنصرية هي التي تلغي.

– يوسف أمر الله: يؤسفني أن أسمع هذا الكلام من شخصية وطنية وتاريخية ويعد قائداً وزعيماً ورمزاً. فهذا الكلام فيه كثير من العصبية، إلا أن خطابه هذا يعكس حقبة الخمسينات والستينات، وهي فترة القومية العربية. بخصوص تمسك العجم بلغتهم والمحافظة عليها، فهذا شيء طبيعي لا دخل له في السياسة، فجميع القوميات والمجتمعات التي تعيش في هذا الكون تحافظ على لغتهم وعاداتهم حتى لو كانوا يعيشون في بلدان ليس ببلدانهم الأصلية. فمثلاً العرب الذين هاجروا إلى إيران في صدر الإسلام قبل أكثر من 1400 سنة إلى الآن هم يتحدثون العربية ومتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم.

* محمود القصاب، في ظل السياق التاريخي والتكوين القومي، كيف تقرأ موقف عبدالرحمن الباكر من العجم؟

– محمود القصاب: أكيد أن هذا الخطاب شديداً في لهجته، فالهيئة كانت في الخمسينات تخوض نضالاً مريراً. الوضع كان حساساً. إذاً، الخطاب هو ابن تلك المرحلة. المنطقة كانت تغلي: الاستعمار من جهة، وإيران من جهة أخرى. هناك صراع بين القومية العربية التي يمثلها ويقودها الزعيم جمال عبدالناصر في تلك الفترة، مع إيران الشاه والقوى الاستعمارية الداعمة له. نحن نعتقد أن من كان يتطلع إلى الهيمنة تكون لديه وسائل يحاول من خلالها الوصول إلى هدفه. والشاه كان يتطلع إلى البحرين ومن الوارد أنه كانت لديه وسائله، من بينها العمل على خلخلة التركيبة السكانية للبلد. قد يكون ما ذكره الباكر فيه نوع من المبالغة، لكن ظروف المرحلة هي التي تصنع خطابات تلك المرحلة. أنا في وجهة نظري لو أن الباكر لايزال موجوداً لأعاد تصوره من جديد. اليوم نحن نختلف. بالنسبة إليّ، لا أشعر بأن العجم يمثلون خطورة على البحرين. أعتقد أنهم بقوا على ولائهم للبحرين. في المرحلة التي نعيشها اليوم، أنا على يقين تام من ولاء العجم للبحرين. هذا لا يلغي بعض الاستثناءات، أي وجود بعض المتعصبين عرقياً من العجم من الذين يتمسكون بولاء لعرقهم ولدولة إيران التي تمثلهم، وعلينا نحن واجب طمأنة واستيعاب كل العجم وتشجيعهم على الاندماج في الوطن بصورة أكبر وعليهم واجب زرع الروح والنزعة الوطنية عند أجيالهم وإبعادهم عن أي شكل من أشكال التعصب أو العداء، بمعنى أنه كما يحرصون على تعليم أولادهم اللغة الفارسية والتاريخ الفارسي والثقافة الفارسية – وهذا حقهم – عليهم أيضاً أن يعلموهم كيف يحبون هذا الوطن الذي نشؤوا فيه ويخلصون له، وينموا فيهم روح الاستعداد للدفاع عنه في الشدائد والمهمات، ونحن على يقين إذا ما حصل هذا الأمر وتوافرت النوايا الطيبة من كل الأطراف فإن حمولة التاريخ السلبية وحالة الشك السائدة بين الطرفين سوف تنزاح عن كاهلنا جميعاً. أي دولة تحترم نفسها عليها أن تراعي حقوق الأقليات فيها. التعددية هي المجال الوحيد للاستقرار والتقدم. لا نريد أن يطابق العجمي البحريني. هو له خصوصياته ونحن لنا خصوصياتنا. لكن لهذه الأرض حقوقاً علينا جميعاً. هذه هي النظرة القومية الأصيلة التي نعتز بها.

العجم والولاء

– ناصر حسين: يتهمونا أن ليس لدينا ولاء. ماذا يقصدون، أن ليس لدينا ولاء؟ المعتدي لن يفرق بين العربي والعجمي. فعلينا جميعاً أن ندافع عن هذه الأرض التي تجمعنا.

– جعفر عابدين: أول رسالة ولاء في تاريخ البحرين كتبت للحاكم، كانت مقدمة من قبل العجم في البحرين.

– محمود القصاب: كنتم إذاً تقدمون ولاءكم ضد الهيئة الوطنية التي كانت تواجه المستعمر وكان لها طموحاتها وأهدافها الوطنية التي تطالب الحكم بها، إذا صح هذا التحليل علينا في هذه الحالة ألا نستغرب شدة خطاب الباكر وموقفه من الإيرانيين في البحرين وفي منطقة الخليج العربي عموماً، وكما قلت قبل قليل إن الواقع وسياق الحوادث فيه هما اللذان يحددان طبيعة وشكل الخطاب السياسي ويرسمان درجة مرونته وشدته.

* الجماعة الوظيفية هي الجماعة التي تستخدم لتحقيق مآرب معينة في فترة من الفترات. فهل تم استخدام العجم كجماعة وظيفية؟ هل تم استخدامهم من قبل الحكومة الإيرانية مثلاً كما يقال من أجل تغير الواقع السكاني في فترة ما أو من قبل مثلاً حاكم البحرين لضرب حركة الهيئة كما يقال؟

– بوشهري: كلمة «استخدام» أراها غير صحيحة. العجم كجماعة عرقية توحدوا للدفاع عن أنفسهم. الباكر كان قومياً. آراؤه القومية كانت في الخمسينات. القوميون الحاليون معظمهم لا يحملون هذه النظرة. هل تم استغلالنا وتحريكنا؟ نحن كنا شبه مستقلين في البحرين. لم يكن لدينا أي اتصال بأي قوة أجنبية. الباكر أول إعلان أخرجه: الإيرانيون في البحرين طابور خامس. أسس هيئة وطنية. لم يطلب من البحرينيين العجم أن ينضموا إلى الهيئة الوطنية. وأطلق عليهم لقب طابور خامس. طبيعي إذا أنت هاجمتني من ناحية العرقية سأدافع. سأكتب رسالة ولاء. لكن لم يحدث أن كانوا عملاء. هو دفاع عن النفس. العجم طلبوا تأسيس هيئة وطنية للعجم.

– محمود القصاب: أعتقد أن الخطاب الموجود والسائد في تلك الفترة يجب أن يوضع في سياقه التاريخي الصحيح. إذا كان الإخوان يعتقدون أن الولاء للحكم أفضل من الولاء للهيئة، أي أنهم اختاروا أن يكونوا طرفاً في المواجهة ضد الهيئة، وبذلك أعتقد أنهم كانوا مخطئين. متأكد أنهم لو صوتوا للهيئة كان حالهم اليوم أفضل. خطاب الباكر هذا يجب ألا نتوقف عنده طويلاً؛ لأنه صار تاريخاً. المد القومي كان حقيقة موجودة والتطرف موجوداً أيضاً. التيارات القومية المتفتحة المتسامحة أيضاً موجودة.

* الولاء المزدوج إلى وطن قومي، ودولة قومية. لأي درجة كان هذا الولاء موضوعاً للتشكيك. في أي مرحلة كان موضع تشكيك؟

– محمود القصاب: هنا يبرز سؤال مهم: لو حدث هجوم على البلد لا سمح الله من جانب إيران أو من غيرها، ما هو موقف العجم؟ هل العجم لن يدافعوا عن البحرين؟ هناك من يشك في هذا الأمر، الإخوان يقولون بكل وضوح ومن دون تردد إنهم سيقفون مع البحرين في كل الأحوال، هذه مشاعر طيبة وصادقة علينا أن نثق فيها ولا يجب أن نشكك في هذا الأمر، بل من واجبنا أن نحيي هذه الروح وننميها في صفوف الأقليات، وهذه مهمة النخبة المثقفة، وعلينا هنا ألا ننسى حقيقة وهي أنه في ظروف معينة خاصة في فترات الاضطرابات والصراعات تكون الأقليات موضع الاهتمام، بل تكون في موضع اتهام أحياناً، فالتاريخ يؤكد دائماً أن القوى الاستعمارية والدول الطامعة تستغل الأقليات وتأخذهم جسوراً ومطية للوصول إلى أهدافها الخبيثة، وبعض هذه الأقليات للأسف تنخدع بالوعود الاستعمارية وتتآمر على الوطن الذي احتضنهم، والشواهد من التاريخ البعيد والقريب حاضرة بصورة جلية.

– الأنصاري: ولماذا علينا أن نبرز الولاء، وكأننا مشكك في ولائنا من الأصل؟ الولاء هذه الكلمة من أين جاءت؟ كأن هناك أطماعاً في البحرين وعلينا أن نظهر ولاءنا للبحرين لا للجهة الطامعة؟

* نحن لسنا بصدد إظهار الولاء، تأكيده أو نفيه، نحن نريد أن نعرف متى يصبح موضوع ولاء العرق الفارسي مثاراً؟

– يوسف أمر الله: عند أي خلاف أو سوء تفاهم ينشأ بين إيران والبحرين ويكون في الطرف الإيراني حكم قومي (كحكم الشاه سابقاً) ففي هذه الحالة تقوم أطراف محسوبة على طرف ما بإثارة التشكيك في ولاء العجم. وعندما يكون الحكم في إيران إسلامي (شيعي كالحكم الحالي بعد الثورة) في هذه الحالة تقوم هذه الأطراف نفسها في التشكيك وإثارة ولاء العجم والعرب الشيعة سواء. بل في كثير من الحالات يتهم فيها المعارضون وغيرهم بالولاء لأطراف خارجية. هذا بسبب وجود أطراف معينة لديها مصلحة في إشعال مثل هذه الفتن الداخلية للتفرقة ما بين السلطة والشعب ولتقترب من السلطة على حساب المصلحة الوطنية.

ويكون في هذه الحالة على جميع الأطراف إثبات ولائهم للحكم أكثر من إثبات ولائهم للوطن. وأكبر دليل على ولاء العجم للبحرين هو أنه عندما حرمت شريحة كبيرة منهم من الجنسية ومن التوظيف ومن المنح الدراسية وكذلك أعمال التسفير القسري والتشريد وتم التشكيك في ولائهم. كل هذا لم يؤثر على استمرارهم وبقائهم في البلد وإخلاصهم والتفاني في العمل. وحتى أنهم يقومون بتسجيل أملاكهم بأسماء آخرين ممن يملكون الجنسية، وذلك بسبب أنهم لا يستطيعون تسجيل أي ملك باسمهم. حتى أنهم لم يفكروا في شراء منازل في إيران أو غير إيران، وذلك لأنهم لم يفكروا أن يعيشوا في بلد غير هذا الوطن الغالي.

– بوشهري: لماذا العجم فقط هم من يطلب منهم الولاء؟ لدينا مجنسون. لماذا نُسأل نحن عن ولاءنا ونحن أبناء هذه البلد نشأنا فيها جيلاً بعد جيل، ولا يُسأل المجنسون الجدد عن ولائهم وهم الوافدون الجدد على بلد لا يعرفونها ولم ينشؤوا فيها ولم يحبوها. لماذا كلما قامت إيران بعمل أو أدلى أحدهم بتصريح يطلب من العجم أن يثبتوا ولاءهم؟ العجم بكل تاريخهم ولاؤهم للبحرين، حبهم للأرض. إذا سافرنا إلى أي مكان أنتظر العودة بفارغ الصبر. يفتح باب المطار يستقبلني إلى الحر والرطوبة وأستقبلهما بالحب والشوق. في كل مكان أثبتنا ولاءنا.

العجم والثورة الإيرانية

* لنقف عند حدث الثورة الإيرانية. كيف كانت تداعيات الحدث على هويتهم وعلاقتهم بالحكم؟ أتكلم عن تلقيات الثورة حينها وليس عن الوعي الحالي؟

– بوشهري: ثورة الخميني سبّبت نوعاً من التفرقة بين العجم. حتى في المجتمعات الأخرى. بالنسبة إلينا، في المنامة بالتحديد، في البداية، الأكثرية كانت معارضة، الأقلية مؤيدة. حالياً المعارضون قلة معدودة. عندما أتى الرئيس السابق خاتمي إلى البحرين، ألقى محاضرة في فندق الخليج باللغة العربية. كان المكان يضج بالعجم وبالتأييدات والصلوات. أنا واثنان من أصدقائي كنا هناك. الجميع يرفعون أصواتهم بالصلوات ما عدانا نحن. للمرة الأولى شعرت بأني صرت أقلية بين الأقلية. ثلاثة أقلية بين 1500 هم عدد الحضور.

– محمود القصاب: نحن كنا نعتز بالثورة؛ لأنها أطاحت بالشاه. هي أزاحت عنا همّ الأطماع والتوسعات. لكن دخلنا في متاهات جديدة وأطماع من نوع آخر مغلفة بشعارات ثورية ودينية. الحرب العراقية الإيرانية غيرت مفاهيم كثيرة، لا نريد الآن أن نخوض فيها، لكنها باعتقادي غيرت كثيراً من أفكار العجم الموجودين، وبالتالي جعلتهم يصفون في مصاف إيران. هذا واقع تاريخي لا يمكن أن ننكره. الآثار ممتدة إلى اليوم، واختلط فيها الديني بالمذهبي بالقومي. اليوم أغلب الإيرانيين في البحرين يؤيدون رجال الدين الإيرانيين. لهذا دائماً أقول إن مهمة النخبة المثقفة أن تظهر الوجه الوطني للبحرينيين العجم. نحن جميعاً نعاني. أنا أحمل فكر تيار قومي، لكني أعاني. الأقلية اليوم هم الذين يؤمنون بالتعددية والديمقراطية، أصبحنا نحن أقلية، وأصبحت الأكثرية هي الجمهور المتعصب الذي ينقاد إلى زيد وعبيد بدوافع مذهبية متعصبة للأسف الشديد.

– موسى الأنصاري: أنا لا أعرف لماذا اتخذت الثورة هذا الطابع في البحرين. التعصب الموجود في البحرين غير موجود في إيران. في إيران سترى الناس تسمع موسيقى وأغاني، النساء بنصف حجاب يضحكن في الشارع. هنا أنت كافر إذا تسمع كاسيت أو تسمع غناء. في البحرين الوضع مختلف تماماً.

– القصاب: من أين لنا نحن هذا التشدد والتعصب إذاً؟ لماذا ومن أين هذا التزمت في حياتنا الاجتماعية؟ حتى نظن أننا في حالة خصام دائم مع الفرح والبهجة، وزادت عندنا مساحة المحرمات والممنوعات وجرت مصادرة عقول الناس ووعيهم باسم الدين والمذهب.

– الأنصاري: من التعصب الإسلامي المتطرف.

* ما الذي يقلق العجم الآن في الوقت الحالي؟

– الأنصاري: تقلقنا بعض الكتل السلفية المتطرفة التي تحاول أن تفصل بين المواطنين وتشق الخلافات بينهم.

المهن ومكان السكن

* ما المهن التي شغلها العجم في أجيالهم المختلفة؟ كيف تفسرون اختصاص العجم حتى وقت قريب بمهن معينة كمهنة الخباز مثلاً وتكتلهم في مؤسسات معينة مثل شركة بابكو؟

– الأنصاري: العجم والعرب عاشوا في هذه الأرض قبل النفط وامتهنوا مهناً مختلفة، كل فئة امتهنت بحسب ميولها وعاداتها! فمثلاً ركز العرب الشيعة على مهنة الزراعة والصيد والصفافرة وصناعة السفن وصناعة الفخار والنسيج والحدادة وغيرها. والعرب السنة كانت لديهم مهنة صيد اللؤلؤ والتجارة وصناعة ثوب النشل والبشت. وأما العجم فركزوا على مهنة التجارة وهذا يشمل كثيراً من المهن فمنها الخبازة والخياطة والحلاقة والبناء والمطاعم وهم كذلك يحتكرون محلات القهاوي.

وعند بزوغ عصر النفط تغيرت كثير من المهن فقد دخلت كثير من المهن الجديدة المصاحبة كصناعة النفط والمصاحبة لفترة التي تلت فترة بداية النفط.

وكان العجم وأشقاؤهم العرب ممن ساهموا في رقي ونمو الوطن وإنشاء شركة نفط البحرين بابكو. وكذلك امتهنوا كثيراً من المهن الجديدة المصاحبة لهذا الصناعة، إلا أنه بعد فترة من الزمن تم تهميش وتمييز ضد العجم وعدم توظيفهم في كثير من الوزارات ومؤسسات الدولة أدى هذا إلى لجوئهم للقطاع الخاص والالتحاق بشركات صناعية خاصة كشركة نفط البحرين بابكو وشركة ألبا. وقد ساهموا في نمو هذه الشركات وتحقيق نجاح باهر فيها وكذلك التحقوا بالبنوك وكانوا متميزين فيها. وبعد هذا قاموا بإنشاء كثير من الشركات التي ساهمت في نمو وتقدم البلد.

* على المستوى الطبغرافي، ما الفرجان التي سكنها العجم؟

– ناصر حسين: في المحرق، فريج البنعلي والمعاودة وحالة أبوماهر وعين سمادو وفريج بوخميس وفريج الصنقل. وفي المنامة، فريج المشبر وظلم آباد (العدلية) والحورة وسنككي وتليغراف ش(القضيبية) والعوضية.

* لماذا لم يتواجد العجم في القرى؟ لماذا تواجدوا في المدن فقط؟

– ناصر حسين: لم يسكن العجم في القرى لكونها محدودة المساحة، وقلة وجود فرص العمل، حيث كان التركيز على الزراعة، والعجم كانوا مهتمين بالتجارة والحرف الأخرى.

مدرسة العجم

جاء في كتاب «مائة عام من التعليم النظامي في البحرين» (ص: 105) «في بداية هذا القرن وبالتحديد في العام ,1913 قررت مجموعة من التجار الفرس المقيمين في البحرين، تأسيس مدرسة خاصة لتعليم البنين، وكان الهدف الظاهر هو العلم والمعرفة، أما القصد المبيت فهو المحافظة على اللغة والهوية الفارسية للجالية المقيمة في البحرين والتي كانت فئة كبيرة منها تعمل في التجارة».

وجاء في هامش (ص 107) أعضاء الهيئة التأسيسية لمدرسة العجم:

.1 حاجي عبدالنبي كل عوض كازروني (كل لقب يطلق على من زار العتبات المقدسة في كربلاء).

.2 حاجي عبدالنبي حاجي أحمد بوشهري.

.3 حاجي ميرزا حسين دشتي.

.4 أبو القاسم لطف علي شيرازي.

.5 كل عباس حاجي بوشهري.

.6 ميرزا علي عبد الرضا دشتي (مدير المدرسة).

وجاء في ص 109 – 112 الموقع والبداية:

تقع مدرسة العجم في فريق الحمّام قرب مدرسة فاطمة الزهراء في المنامة، وتعتبر ثاني مدرسة نظامية في البحرين بعد مدرسة الإرسالية الأميركية التي تأسست العام .1899

عقدت الفصول الدراسية لهذه المدرسة أول مرة على عتبات مأتم العجم في فريق المخارقة بالمنامة، وكان ذلك بسبب سرعة التأسيس وقبل توافر مقر رسمي لها، كان ذلك في 14 أغسطس/آب 1913 وحتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته.

بعد ذلك انتقلت المدرسة إلى عريش في المساحة المقابلة للمأتم المذكور، وفي تلك الفترة لم يطلق على المدرسة أي اسم يذكر، استمرت المدرسة في العريش المقابل لمأتم العجم من أكتوبر 1913 حتى فبراير/شباط .1915

وفي 15 فبراير 1915 انتقلت المدرسة من العريش المؤقت إلى مبنى آخر، وأطلق عليه اسم «مدرسة الإصلاح المباركة» وكان المقر الجديد منزلاً كبيراً مؤجراً من السيد «حاجي جمعة بن ناصر بوشهري» والمنزل المذكور تم بناؤه العام ,1900 واستمرت مدرسة العجم في منزل جمعة من 15/2/1915 حتى 8/8/1923 حين انتقلت إلى المقر الثابت والأخير في منطقة فريق الحمّام قرب مدرسة الزهراء (ومايزال المبنى قائماً إلى هذا اليوم).

ومع انتقال المدرسة إلى المقر الجديد تحوّل الاسم مرة أخرى من مدرسة الإصلاح المباركة إلى «اتحادية إيرانيان والإصلاح» ويعود تاريخ هذا الاسم إلى 14 يوليو/تموز .1923

وجاء في (ص 113 – 114) انفصال المدرسة إلى مدرستين ثم اتحادهما.

في العام 1927 توفي الحاج عبدالنبي كازروني (أحد المؤسسين الأوائل) وبعد موته حاول أحد أعضاء مجلس الإدارة (الحاج عبدالنبي بوشهري) السيطرة على المجلس، وحين فشل في ذلك انسحب من الإدارة وأسس مدرسة خاصة به سماها «مدرسة التربية» أو «مدرسة بوشهري»، واستمرت الفرقة بين المدرستين من العام 1928 حتى ,1931 ومع تلك النقلة تغير اسم المدرسة الثانية «مدرسة التربية» إلى اسم جديد هو «مدرسة الإخوة الإيرانية» وكان مديرها في الفترة الواقعة بين 1929 و1930 «الحاج حيدر أسيري» الذي سبق أن كان مديراً للمدرسة الأولى.

واستمرت مدرسة الأخوة الإيرانية في منزل بوشهري من يوليو 1929 حتى العام .1931

وفي النهاية اتحدت المدرستان «الإخوة والاتحاد الإيراني» في مدرسة واحدة يجمعهما مقر واحد هو المبنى الدائم الذي تم بناؤه العام .1923

وأصبح الاسم الجديد «اتحاد ملي» أو «مدرسة الاتحاد الوطني» وظلت مدرسة العجم الموحدة تحمل هذا الاسم من العام 1931 حتى العام ,1979 حين تغير الاسم «بعد الثورة الإيرانية» إلى «مدرسة الجمهورية الإسلامية في البحرين» التي أغلقت أبوابها العام 1996.

الأب وشدائد الترك

”أن يكون لك أب تفتقده، فتلك حالة طبيعية، وأن يكون للجماعة أب تفتقده، فتلك حالة ثقافية”. ما الفرق بين شعور ولا شعور حالتي الطبيعية حين أفقد أبي، وبين شعور ولا شعور حالة الجماعات الأصولية والدينية التي تحس بأنها فقدت أبوَّتها الرمزية، وتعيد استعادتها؟
arton2319 حين فقدت أبي في أبريل/نيسان الماضي كنتُ في محنة شخصية، خرجتُ منها بالتسليم باستحالة استعادته، واستحالة أن أكون نسخة طبق الأصل منه، آمنتُ بأبوَّته الروحية الجامعة للعائلة، ولم أحوله إلى سلطة قاهرة تفرض عليّ التماثل معها. الأمر في حالة الجماعات الأصولية على العكس من ذلك تماماً، تستميت في الرغبة استعادة الأصل والتطابق معه وتحويله إلى سلطة قاهرة تقسّم الجماعة إلى جماعات متحاربة. من هنا تحتاج هذه الجماعات إلى مقاربة التحليل النفسي.
في كتابه ”الإسلام والتّحليل النّفسيّ” يدعونا المحلّل النفسانيّ أستاذ علم النّفس العلاجيّ، عميد وحدة التّكوين والبحث في علم النّفس السّريريّ والمرضيّ بجامعة باريس 7 (فتحي بن سلامة) إلى وقفات تأمّل في ”هذيان اللّجوء إلى الأصل”، وما قام عليه من عمليّات مخبّلة.
يفتح بن سلامة أرشيف الأب الذي نرجع إليه كرد على وضعنا الحضاري المأزوم، يفكك ما في هذا الأرشيف من قصص وأحداث وأوامر كانت مخابر لبناء الأصل وتخييله. الأب يأتي في صورة أصل، نبي، إمام، ولي، زعيم مؤسس، شريعة، قانون، أمر، لحظة ولادة. ويمتد هذا الأب في الزمان في شكل سلطات تمثله وتنطق باسمه، وتؤوِّل كل الأشياء وما يحدث إليه، وهي كسلطة تؤول في البداية والنهاية إليه.
ما علاقة الأب بالأصل؟
الأب يفسر الأصل، الأصل أبونا الذي نعود إليه، لنؤكد وجودنا وهويتنا وأصالتنا وصحتنا وحقيقتنا، فنحن لسنا خطأ، نستميت في الدفاع عن أصلنا وإثبات صحته وأبوَّته السابقة على الجميع. الحاجة إلى الأب ليست حاجة فردية فقط، هناك حاجة جماعية، تمر بها جماعة ما في لحظات حضارية ما. كما هو الأمر مع الجماعات الأصولية التي تعاني من (شدائد الترك)، وهي معاناة نفسية تخشى فيها الذات الجماعية فقد وصاية الأب الذي يمنحها الحماية والطمأنينة وسط هذا العالم المضطرب. هناك قوة جبارة تصلنا بالأب، وهي قوة الوهم، والوهم ليس هنا الخطأ أو التزييف أو نقيض الواقع، الوهم قوة لها قدرة على أن تنشئ واقعها، ويخبرنا (فرويد) أنه لا مثيل للأديان في خلق هذه القوة والتخويف من فقدها.
”تتمثل فرضية فرويد في أن القدرة على الإيهام هي أحد المصادر التي تستمد منها الأديان نجاعتها، الوهم قوة، قوة مرتبطة بشوق قديم يطمح إلى الإشباع، زاهداً في كل تصديق يمكن أن يأتيه من الواقع، ويعود أصل هذه القوة إلى الجزع الطفولي من شدائد الترك، وهي معاناة لا بد أن يذوقها كل شخص في حياته، كما يعود إلى إرادة الوقاية منها باستنباط سلطة ذات وصاية، شبيهة بتلك التي ننسبها إلى الأب”.[1] نحتاج إلى شيء من الصبر كي نفهم فرضية فرويد التي سأحاول تبسيطها.
أن يكون لك أب تفتقده، فتلك حالة طبيعية. وأن يكون للجماعة أب تفتقده، فتلك حالة ثقافية. (الجزع الطفولي من شدائد الترك) حالة طبيعية بالنسبة للشخص، وحالة ثقافية بالنسبة للجماعة، فالجماعة تتكون حين تكون لها ثقافة تجمعها من قيم وعادات ومنظورات وتشريعات، وهي كي تعطي لما يجمعها أهمية استثنائية، فإنها تسبغ عليه مشاعر الأب، وتعتبره الأصل الذي تعود إليه، والسلطة التي تحرسها من الضياع والشتات، وكلما واجهت شدة أو محنة وجودية أو حضارية لجأت بجزع إلى هذا الأب، وحمَّلته ما يواجهها، هي تخشى أن يتركها هذا الأب الذي هو أصل قيمها وتشريعاتها وعرفها، لذلك تزداد أصوليتها، بمعنى يزداد تمسكها بالأصل وإعادة تأصيله، كطفل جزع يخشى أن يتركه أبوه فيتمسك به، ويسبغ عليه مشاعر القوة التي تحميه، والمكان الذي يأمن فيه، والسلطة التي لا يمكنه الاستغناء عنها. الجماعة حين ترتد بها حالتها الثقافية إلى الطفولة تحتاج إلى عيادة التحليل النفسي.
أبوَّة الأصل لديها القدرة على الإيهام، إيهام الجماعة بقدرة هذه الأبوَّة على أن تمنحهم الثقة والحماية والأمن والتمكن من مواجهة ما يستجد في حياتهم ويهددها. الحركات الأصولية تواجه شدائد الحاضر وقوته التي تفوق واقعها باستحضار هذه الأبوَّة والنطق باسمها.
حين تختل علاقتنا بالأب لسبب ما نحتاج إلى عيادة نفسية تفتح أرشيف أبوَّتنا، بما فيه من أحداث وتحولات ووقائع وأوامر ونواه وبدايات. هذا ما يفعله فتحي بن سلامة في كتابه الصعب (الإسلام والتحليل النفسي). يفتح عيادته النفسية ليضع الحركات الأصولية على سرير هذه العيادة؛ ليتفحص أرشيف أبوَّتها، ويرينا حالات لا شعورها وهي تحاول استعادة أبوَّتها المستحيلة.
الجاهلية في مفهوم الحركات الأصولية، هي حالة جهل بالأبوَّة، والخروج من الجاهلية يتمّ بالتعرف على الأب، وصحوتها تتحقق بالتعرف على هذا الأب وإعادة إحيائه ”اللجوء إلى الأصل أملا في إعادة بناء سور الوهم الديني، إلا أن هذا السور داخلته الثقوب والشروخ بفعل محنة العالم التاريخي والعلمي المعاصر [2].
إنه السور الفاصل بين هذه الحركات وبين العالم وما يحدث فيه، الأب يبني أسوارا تفصل وتقسّم ولا تصل.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11851

هوامش
[1]،[2] الإسلام والتحليل النفسي، فتحي بن سلامة، ترجمة رجاء بن سلامة، ص,60 ص63

الديمقراطية العصية الجزء2

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=182425

ندوة حول كتاب "الديمقراطية العصيــة فـي الخليــج العــربي"
الديمقراطية العصية الجزء الثاني والأخير

فريق مركز الحوار: علي الديري، باسمة القصاب، أحمد الساري

ضيوف مركز الحوار: د. باقر النجار- د. إبراهيم غلوم- د. حسن مدن- منى فضل- عباس المرشد- حسين مرهون:

NED_8824

هل يصح القول إن الديمقراطية ما تزال عصية على التحقق في المجتمعات الخليجية* وهل المسؤول عن هذا الاستعصاء هي الأنظمة السياسية وحدها* وإلى أي مدى يمكن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني قادرة على تحقيق عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وتحديداً في الخليج* وما دور منظمات المجتمع المدني في عمليات التحول الديمقراطي في العالم* وما مفهوم المجتمع المـدني*

أسئلة يحاول مركز حوارات (الوقت) إثارتها من خلال كتاب ”الديمقراطية العصية في الخليج العربي” للباحث السيسيولوجي باقر النجار، الذي حاز على جائزة الشيخ زايد للكتاب فى مجال التنمية وبناء الدولة هذا العام .2009 ومن خـلال هـــــذا الحــــوار أيضــــاً، يحاول تقديم قـــراءة نقديــة للكتـــاب مــــــع مجموعـــــة من الباحثـــين والمهتمين والمثقفين

تبيئـــة المفهـــوم

· الوقت: ألم يُبيّأ في هذه الدراسة بشكل يجعله مفهوما قابلاً لقراءة وتفسير التحول في هذه المجتمعات؟

– فضل: النجار يشير إلى نقطة مهمة في الكتاب، وهي أن هذه المجتمعات تأخذ صفة الحداثة في جانب، وتتناقض مع ذلك في جوانب أخرى، أي أنها تظهر بأنها مجتمعات حديثة في ممارسات معينة، وفي نفس اللحظة بممارسات أخرى تظهر بأن بينها وبين الحداثة بون شاسع، وهذا التناقض يعكس نفسه حتى على مستوى مقاربة مفهوم المجتمع المدني لهذه المؤسسات. أنا أعتقد بأن النجار كان فعلاً يمر بحقل ألغام في هذا الجانب، خصوصا عندما يستعرض أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ويحاول تصنيفها إلى مؤسسة اجتماعية أو أهلية أو عندما يقف على المؤسسات الدينية وإمكانية تصنيفها كمؤسسات مدنية، فعلى سبيل المثال تعرّض النجار بشكل واضح للجمعيات الخيرية، فهي ذات طابع خيري، وهي في نفس الوقت محل تنازع بين مجموعة قوى سياسية، وبعضها واجهة للدولة، فأين يمكن أن تصنفها*

· مرهون: يبدو لي أن المنهج الذي استخدمه النجار هو الذي يقوده ليتبنى مفهوماً واقعياً للمجتمع المدني، وهو منهج معروف في العلوم الاجتماعية يقوم على الجداول الإحصائية أكثر من قيامه على نظرية يشتغل بها ومن ثم يثبتها أو ينفيها في المجتمع، هو اشتغل على الجداول الإحصائية والأرقام المتوافرة ومن ثم نظر إليها بشكل واقعي وصاغ مفهومه منها، بدلا من أن يستحضر مفهوماً ناضجاً أو جاهزاً ومن ثم يحاول أن يقرأه قسراً في المجتمعات محل البحث، ويبدو لي بأن هذا المنهج هو الذي قاده إلى أن يبني مفهوماً للمجتمع المدني أقرب لما هو قائم وواقعي.
– غلوم: لا شك أن هذا الموضوع هو المفصل الجوهري في الكتاب. في البداية أحب أن أقول إن مفهوم المجتمع المدني الحديث الذي انتهى إليه النجار على الأقل، ومن ثم قام بإسقاطه على مجموعة من المحصلات التحليلية المباشرة على الواقع، هذا المفهوم يتفق مع الحالة الراهنة الواقعية، الحالة الطبيعية التي تشكل فيها مفهوم ليس هو المفهوم الحقيقي للمجتمع المدني، وإنما هو نسبياً الحد الأدنى المقبول في فهمنا للمجتمع المدني الحديث، وهذا ما اعترف به النجار حقيقةً، هو تدرج قليلا قليلاً إلى أن حاول في نهاية الأمر أن يأخذ بتعريف سعد الدين وقنديل على اعتبار أن المجتمع المدني الحديث هو فضاء عام لهذه الحريات النسبية في عمل الجماعات الفردية التي تحاول أن تؤسس لها مصالح مشتركة في المجتمع، هذا المفهوم خطير جداً للمجتمع المدني الحديث إذا ما ربطناه ربطاً ميكانيكياً بالديمقراطية، لأنك في نهاية الأمر إذا قمت بتحليل ذلك ووصلت إلى أن هذا المفهوم لم يستطع أن يقدم شراكة حقيقية بين هذا المجتمع وبين الدولة في تأسيس الديمقراطية، فمحصلة الديمقراطية إذن هي صفر! وهذه هي المشكلة الآن أمام مثل هذا الكتاب. السؤال هو: ما هو المفهوم المتكامل أو الرصين للمجتمع المدني الحديث الذي نستطيع على الأقل أن نؤمّن معه تحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية فيما بعد* إذا ذهبنا إلى الجانب الأنضج في هذا المفهوم، فسيكون ذلك متمثلاً في الأحزاب السياسية أو التنظيمات التي تستطيع أن تشكل معارضة واضحة ومن ثم تستطيع أن تدخل في علاقة تبادلية مع مؤسسة الدولة، أما المؤسسات التي تدخل في نطاق ما سماه النجار نفسه التضمانيات أو تعبر عن الخطوط الموجودة داخل المؤسسة الرسمية وما إلى ذلك، فذلك يناقض المفهوم الأساسي للمجتمع المدني الحديث.

· المشكلة أو الخطورة تقع في افتراض أن مؤسسات المجتمع المدني الحديث في مفهومها الضيق ستجيب لنا على المسألة الديمقراطية بوصفها قرينة لها، لذلك لا بد أن ننقد مفهوم المجتمع المدني الحديث أولاً، وأن نختبره أكثر، حتى نختبر بعد ذلك مآلات الديمقراطية المصاحبة له. أنا لا أزعم بأنه من الممكن أن نحقق وصفاً دقيقاً وتفصيلياً للديمقراطية، ولكن عندما نأتي ونتحدث عن وصفات مرتبطة بالديمقراطية بهذا الشكل هنا تقع الخطورة في عدم تدقيق المفاهيم وكأننا نحكم على الديمقراطية بما نضيفه حولها من مفاهيم لا بما نوسعه ونطلقه.

· الخيارات التي ذهبت إليها الدراسة في استخلاصات الدكتور باقر لمفهوم المجتمع المدني الحديث، فيما أعتقد، ضيقة ولا تتناسب مع الحالة التي بلغتها مجتمعات المنطقة في الخليج، وهو يعترف بذلك، فهذه الحالة فيها ما هو تقليدي حتى النخاع، وفيها ما هو حداثي حتى النخاع، وفيها ما يقع فيما بعد الحداثة حتى النخاع، وربما توجد ظواهر أكثر تخلفاً مما يتصل بالتقليدية، كلها مجتمعة موجودة في الحالة الاجتماعية التي تنتمي إليها الثقافة في مجتمعات الخليج العربي! إذن كيف يمكن أن يستقيم هذا المفهوم المحدد والمصغّر للمجتمع المدني الحديث مع هذه الحالة المعقدة، هناك زمن نحتاج فيه لأن ينضج مفهوم آخر للمجتمع المدني الحديث، حتى نستطيع أن نقايسه مع الديمقراطية، وحتى يكون مؤشراً للديمقراطية، وأعتقد أن الجانب الغائب الأكبر في هذا التحديد، لا يتصل بهذه المؤسسات، من حيث تعبيرها كما قالت أماني قنديل عن فضاءات تتصل بالجماعات ومنافعها ومصالحها المشتركة القريبة من الجماعية، وإنما الأمر يتصل بما هو مهني، أو ما يتصل بفضاء المهنة من الناحية الاقتصادية والأخلاقية.
هذه المؤسسات، مؤسسات المجتمع المدني الحديث، عندما نشأت، لم تنشأ في الحقيقة لكي تجمع طوائف ونخب وشرائح ذات أصول قبلية أو غير قبلية، إسلامية أو ليبرالية،..الخ، وإنما أساس قيامها هو المحافظة على المهن، والمحافظة على قيم اختصاص محددة. أريد أن أقول أن ما غاب في تحديد هذا المفهوم المختزل للمجتمع المدني الحديث، هو ما يتصل بالجانب المهني فيها، وهو في الحقيقة الذي يشكل الآن فيما بعد كتاب النجار، أكبر الثغرات في مؤسسات المجتمع المدني الحديث. الفساد الأكبر في ممارسة المهن وأخلاقياتها بات يشكل الحلقة الأضعف في هذا المفهوم بمنطقة الخليج هو هذا الجانب، أي أن هذه المؤسسات نحّت تماماً الجانب المهني الخاص بها، واهتمت بمعايير النخبة، وهذا المأزق هو الذي وقع فيه منهج الكتاب، ولذلك مآل التحليل السوسيولجي الذي اجترحه النجار إلى رؤية ماركسية في الأخير، أو إلى تحليل ماركسي مباشر للنخب، أصبح المعيار الأساسي في قياس العلاقة بين المؤسسات وهذا المفهوم الذي تحدد وتصغّر فيما لخّصته أماني قنديل في الثلاثة نقاط الأساسية وهي: التنظيم، وإرادة الأفراد، والاستقلالية.

· أتصور أن هذه النقاط التي تختزل هذا المفهوم في هذه الحالة جعلت التحليلات الداخلية في متن الكتاب تؤول إلى تحليلات اجتماعية للنخب فأصبحت النخبة هي معيار التحليل الخاص بهذا المفهوم، ولذلك أصبحت معايير زاوية النظر لدى النجار محدّدة بشكل متواتر وميكانيكي، فكلما دخل على تنويعة من تنويعات المجتمع المدني الحديث، دخل إليها من إطار النخبة، والمعيارية النخبوية، هل هذه الطائفة حافظت على نفسها* هل عبرت عن مواقف معينة* وغيرها. ولكنه لم يتطرق نهائياً إلى حدود محافظتها على المهنة، ولا إلى الطبيعة الأساسية التي نشأت هذه الجمعيات من أجلها، ولم يحلل أي فعل مباشر يتصل بإنجاز هذه المؤسسات لما هو مهني خاص، فحتى على سبيل المثال، الجمعيات النسائية، وماذا صنعت للحركة النسائية كحراك تاريخي* حتى هذا لم تلمسه في التحليلات بشكل مباشر. ما أعنيه به في طرحي لهذا الإشكال ضرورة أن نتجاوز المعيارية الخاصة بالنخبة والحداثة، لأن الدكتور ركّز على مفتاح الحداثة والنخبة، وهو مفتاح لا يكفي وحده لفك هذه الصورة المعقّدة لمفهوم المجتمع المدني الحديث.

الدولة والمجتمع السياسي

-مدن: قلت سابقاً يجب اعتماد أكثر من ثنائية في التحليل، فثنائية الدولة والمجتمع المدني هي إحدى الثنائيات وهي غير كافية للإحاطة بكل هذه الخريطة المعقّدة في مجتمع الخليج، فعلينا أن نبحث عن إطار مركّب يمكن أن يسع كل ذلك. تنبّهت إلى سؤال من حديث الدكتور إبراهيم أود أن أطرحه على الدكتور النجار: عند الحديث عن الأحزاب أو التيارات السياسية، فالنجار تحدّث عن أن هذه الأحزاب أقرب إلى ”المجتمع السياسي”، في حين أن هيجل مثلاً كان يعتبر الدولة هي ”المجتمع السياسي” مقابل المجتمع المدني، فما هو سر حذرك في التعاطي مع الأحزاب السياسية أو التيارات السياسية (في الكويت مثلاً)* شخصياً شعرت بأنك تحاشيت الاقتراب من هذا الموضوع، رغم أني أتفق معك في أن الأحزاب السياسية في هذه البلدان هي أقرب للمجتمع المدني، فما الذي جعلك تقفز على ذلك*

– النجار: لم يكن لدي شك حول انتساب مفهوم المجتمع المدني إلى الحداثة، كل التعريفات التي مررت بها وكل الدراسات تشير إلى ذلك، إلا أنني وجدت في الكثير من التعريفات التي جاءت ليس فقط على منطقة الخليج بل على المنطقة العربية بشكل عام، لم أجد هناك ثنائية الدولة والمجتمع المدني بالصورة التي تطرحها التجربة الأوربية أو حتى بالصورة التي تطرحها تجربة أمريكا اللاتينية وآسيا، هناك الثنائيات الدينية المعروفة بانقساماتها المذهبية والطائفية بين شيعة وسنة ومسلمين ومسيحيين، والثنائيات العرقية المعروفة عرب وغير عرب أو اصايل وبياسر، هذه الجماعات في بعضها قد شكّلت هياكل وجمعيات هي خارج الدولة، وبعضها قادرة على أن تحدث تغيير في سلوك الدولة، بل أن هذه الجماعات قد أصبحت من القوة بحيث تهدد الدولة. صحيح أنها تقف قبالة هذه الجماعات، لكنها تدخل في هذا الفضاء العام. أنا لا أستطيع أن أنفي وخصوصاً في حالة مجتمعاتنا أن هذه الجماعات لها بشكل أو بآخر قدرات تأثيرية على ممارسات الدولة تفوق قدرة المجتمع المدني فضلاً عن التنظيمات الحزبية أو السياسية، وقد أشرت في الدراسة إلى أن بعض المنظمات في الخليج وحتى في البحرين تنتسب إلى المجتمع المدني، إلا أنها تمثّل الطّائفة أو تمثّل القبيلة أو أنها تمثل الجماعة الأثنية (كما في حالة الكويت) إلا أنها تنتسب من حيث الشكل ومن حيث الممارسة الداخلية -كانتخاب الرئيس، وعقد الجمعية العمومية- إلى عالم منظمات المجتمع المدني، وأنا لم أستطع أن أنفي أو أستبعد انتسابها للمجتمع المدني. وهي ثنائيات يجب ألا نأخذها في بعدها الانفصالي وإنما في حقية تشابكها وتداخلها مع الجماعات الأخرى في المجتمع.
فيما يتعلق بالأحزاب، فقد ناقشت الأحزاب من خلال مناقشتي لواقع منظمات المجتمع المدني، ولربما كنت لا أريد في مناقشة الأحزاب كجزء من المجتمع المدني، متأثراً ببعض المدارس التي تفصل بشكل واضح بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ((مع اعترافي بأن حالة الأحزاب السياسية في عموم المنطقة العربية ونتيجة لغياب أي شكل من أشكال تداول السلطة، ممكن أن تنتسب إلى عالم المجتمع السياسي أسما، إلا أنها تنتسب عمليا في هذه الحالة إلى المجتمع المدني)). المشكلة في منطقتنا العربية بشكل عام أن الاحزاب السياسية وخصوصا تلك المعارضة ونتيجة لغياب أي شكل من أشكال المشاركة في القرار أو حتى الحرية في التعبير عن أطروحة سياسية معارضة لأطروحة الدولة، وهي بهذا تقف في خانة المقابلة لمفهوم منظمات الغوغوز أي المنظمات التي اسما ممثلة للمجتمع المدني إلا أنها فعلا ممثلة للدولة.

– غلوم: من خلال مطالعاتي للكتب التي بحثت في المجتمع المدني الحديث، لم أجد أحداً على الإطلاق في الحالة العربية من تناول الجانب المهني لمنظمات المجتمع المدني، وذلك ينسحب على كتاب الدكتور باقر النجار، مما خلق فراغاً واضحاً في معالجته لمفهوم المجتمع المدني، ودائماً ما ينظر إلى المجتمع المدني الحديث على أنه نخب تدافع عن مصالحها الضيقة، وأعود لأقول إن خطورة هذا الموضوع أنه يكرّس الشتات، يكرّس المفهوم الضيّق للمجتمع المدني الحديث، وبالتالي يكرّس نتائج غير دقيقة عن الجانب العصيّ للديمقراطية، فكلما أمعنّا النظر لهذه المؤسسة على أنها نخب تحمي نفسها كأفراد وكجماعات، معنى ذلك أننا أقصينا ونحّينا تماماً كل ما يتصل بالفضاءات الثقافية الخاصة بها، وممارساتها المهنية. أضرب مثالاً قريباً، وهو إدانة جمعية الصحفيين لأحد الوزراء، هل أطلقت هذه الجمعية مثل هذا الموقف لكي تصقل المهنة والحرفة وميثاق الشرف الخاص بممارسة الكتابة الصحفية* أم أن ذلك يتّصل بالدفاع عن الصحيفة والمؤسسة والأفراد والجماعة* هذا سؤال مهم جداً، فإذا كانت إدانة الوزير للسبب الثاني، فهذا هو جوهر المأزق الذي نعيشه، هذا يعني أن تحليلنا وتأصيلنا لمفهوم المجتمع المدني الحديث يفتقر لمساحة عريضة لم ندمجها بعد ولم نوظفها في تحديد هذا المفهوم! ولذلك فإننا نعيش اليوم حالة من الفساد وانعدام المصداقية في ممارسة المهنة، وما يمكن أن يوصف باللا أخلاقية الممعنة في ممارسة الكثير من المهن ومثال الكتابة الصحفية حاضر في ذلك بقوة، وقد أشار الدكتور إلى الجانب الأخلاقي في ذلك، وهذا جانب لا شك بأن له علاقة قوية ومتينة بالتأسيس للديمقراطية.

– النجار: صحيح أنني تناولت النخب، فهذه المنظمات منظمات نخب وليس منظمات عموم، وأنا اعتقد بخلاف بعض التنظيرات التقليدية أن للنخب، وتحديدا تلك الممثلة للطبقة الوسطى في أي عمليات التحول المجتمعي. ربما أكون قد عالجت النخبة وممارساتها وتشتتها بشكل واضح عندما تطرّقت للطبقة الوسطى، فهذه النخب لا تمثل طبقة عليا، وإنما هي جزء من الطبقة الوسطى. شتات وتفرّق هذه الطبقة، هو جزء من ضعف أداء منظمات المجتمع المدني، وهو نتيجة لحالة التشتت الذي تعيشه الطبقة الوسطى، وقد أشرت إلى ذلك بشكل واضح. أما فيما يتعلق بالمنظمات المهنية، فقد أشرت إلى سلوك هؤلاء المهنيين التي قد تعتبر ممارسات لا أخلاقية، ونزوعهم نحو تراكم الثروة، وممارساتهم الممعنة بالفساد، أشرت إلى ذلك بشكل واضح في الفصل الخاص بالمنظمات المهنية.

المجتمع العصي

· الوقت: إذن لدينا حالة مجتمع ودولة ومنظّمات، وأفراد فاعلة في هذا المجتمع وفي هذه المنظّمات، ولدينا مفهوم يريد أن يفسّر هذه الحالة، هو مفهوم المجتمع المدني، كما يبدو بأنه ليس هناك تطابق بين هذا المفهوم وبين هذه الحالة في وضعها الراهن، فالحالة التي يريد أن يفسرها هذه المفهوم لا زالت تعمل في مؤسساتها تضمانيات قبلية وعائلية وطائفية وهي دون المجتمع المدني، كما أن الدولة في الحالة التي يشتغل عليها المفهوم هي السلطة الممسكة بكل شيء مستخدمة تلك المؤسسات لصالحها بإعطائها صبغة مدنية شكلية في حين أنها تتبعها في مضمون ممارساتها، وعليه فإننا يمكن أن نصف هذا الواقع بالنسبة إلى مفهوم المجتمع المدني الذي اشتغل عليه الكتاب، بأنه حالة عصيّة على هذا المفهوم.

· من الملاحظ بأن الكتاب حين يأتي إلى محاولة تفسير أو دراسة أي ناحية من نواحي هذه الحالة، يبدأ بفرز كل التعاضدات الموجودة في مؤسساتها، فهل متطلبات هذا المنهج السوسيولوجي تفرض أن يعرض الباحث لدى دراسته لتجمّع كتجمّع أسرة الأدباء لتصنيف أعضائها إلى ذوي الأصول الريفية أو الشيعية أو السنية* أو أن يقسم أعضاء غرفة التجارة إلى فئة العجم وفئة البحارنة وفئة السنة وفئة الهولة، وهكذا بقية المنظّمات والمؤسسات* فهل هذا المنهج يفرض علينا أن ندرس هذه المكونات، تعاضداتها وانتماءاتها وأصولها، وهل الدراسة بهذا الشكل تثبت بأن حالة المجتمع خاضعة لهذه التعاضدات* أم أنها تكشف لنا شيئاً آخر لا نريد أن نراه؟

· مدن: أنا أعتقد بأن هذه التصنيفات التي قام بها النجار مهمة ولها مغاز، ولكنها ربما كانت بحاجة إلى تحليل وشرح. أنا كناشط سياسي يمكن أن أسأل لماذا كانت حركة القوميين العرب قد نشطت في المناطق السنية أكثر من المناطق الشيعية* حتى حديث النجار عن غرفة التجارة. ورغم الالتفاتة الذكية والمهمة فيما ذكره عن ”الأثرياء الجدد” أو الطارئين في الغرفة، إلا أن تعداده للتبويب العائلي ومن ثم الإيدلوجي (الطائفي) للأعضاء كان بحاجة لوقفة، كانت هناك حاجة للإجابة على سؤال لماذا* وأنا أعتقد بأن الدكتور جدير بهذه المهمة بلحاظ الإحاطة والمعرفة التي تميّز بها في دراسته البحثية. مع ذلك، وكما أشار الدكتور إبراهيم، يبدو لي أنه كان هناك إسراف في تفكيك هذه المكونات في بعض الحالات بدون مغزى، ومثال على ذلك، ما أشار إليه الكتاب عن انتشار اليساريين في قرية باربار! هناك واحد أو اثنان من النشطاء في هذه القرية استطاعوا أن يؤثّروا، وهذا لا يحمل أي مغزى، أعتقد بأن هناك أمورا حمّلها الكتاب أكثر مما تحتمل.

· نعم، هناك حاجة إلى مثل هذه التصنيفات أو التفكيكات لهذه المكونات وردّها إلى أصولها الطائفية أو الإثنية، ولكن بغرض البحث عن المغزى، أو الظروف التي أدت إلى أن تنشأ مثل هذه الظاهرة، ودلالاتها، فلماذا هناك غالبية سنية أو غيرها في هذه المؤسسة أو تلك هو سؤال يبحث عن إجابة* ولكن هناك أمور أخرى فيها تعسّف أو لم يكن لها ضرورة، وهذا ينطبق على المثال الذي أشرت إليه، وينطبق كذلك على أسرة الأدباء، فبرأيي ليس هناك أهمية تذكر لكون بعض الأدباء أو الشعراء البحرينيين (من أعضاء الأسرة) ينتمون إلى المدن والبعض الآخر ينتمي إلى القرى، فهذه ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، الحركة الثقافية والأدبية الإبداعية في مصر على سبيل المثال هي الآن أهم في الأرياف منها في المدن الكبرى. برأيي أن الإشكال ليس في هذا المبدأ أو المنهج التفكيكي ولكن فيما يمكن أن يوصف بالتعسّف أو الإسراف في استخدامه.

التصـنيفـات العصيــة

· الوقت: في السياق نفسه، الدراسة تقول، إن جل أعضاء نادي العروبة ينتمون إلى الطائفة الشيعية، وتحديداً من العوائل التجارية الشيعية التقليدية المقيمة في مدينة المنامة. هذا واقع سوسيولوجي موجود، ولكن لأي درجة هو صادم، أو لأي درجة هو يتناقض مع (العروبة) التي سعت لأن تجمع الكل بعيداً عن الانتماء الطائفي أو العائلي.

· – غلوم: بالنسبة إلي، بعد قراءتي للكتاب، كان هذا الموضوع هو أكثر الموضوعات التي أقلقتني، سواء فيما يتصل بمنهج الكتاب، أو ما يتصل بالمحصّلات التي راكمها، أو ما يتصل بالربط بين الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث، ذلك أن هذه الآلية المنهجية التحليلية أربكتني، وأعطتني صورة مخالفة للكثير من المسلّمات والقناعات والتأسيسات التي بدأ بها الكتاب. على سبيل المثال، انتهى الكتاب في تحليله لمفهوم المجتمع المدني الحديث، إلى أنه سيسير في اتجاه محدّد بالتعريف الذي تحدّثنا عنه، وهو الفضاء العام الذي يعبّر عن حريّة نسبية ومصالح مشتركة لفئات في المجتمع، تتفق على احترام الاختلاف فيما بينها وما إلى ذلك. ورغم اتفاقنا على ذلك، إلا أننا إذا دخلنا إلى متن التحليل، فسنجده ينقض ذلك، ويعود إلى الإثنيات، والأصول القبلية، أو الطائفية، وكأنه يعود إلى مقايسة مفهوم آخر للمجتمع المدني الحديث، وهذه في الحقيقة مشكلة. هذا في الجانب المنهجي، أما الجانب الأخطر فهو ما يتصل بالتأسيس لفكرة الديمقراطية. أنا لا أشك في أن أنبل هدف لهذا الكتاب هو أن يؤسس للديمقراطية، ولكن هذه النقطة أوقفتني كثيراً، واعترضتني لي فيها مسألة أخلاقية، فكيف يمكن أن يستقيم التأسيس للديمقراطية مع الحفر في هذه المنابت المغلقة والتحيّزات الثقافية والتي تشكل الأساس الأول في تدمير مفهوم المجتمع المدني الحديث، فلم يفشل تأسيس مجتمع مدني حديث في هذه المنطقة إلا بسبب هذه المنابت والرواسب، التي اتخذتها التحليلات داخل الكتاب كأسس معيارية في تقييم هذه المؤسسات.

· هذه مسألة جدّ دقيقة، وهي تتصل بغرام الدكتور باقر في بحث الأسس والدوافع الاجتماعية، باعتبار أنه سوسيولوجي، ولذلك هو يحاول أن يفكك الأبعاد الثقافية لهذه التجمّعات من هذا الجانب. ولكن هذا الأمر – حسبما أعتقد – تجاوزته الدراسات السوسيولوجية بمسافات بعيدة، فليست هذه هي الآلية المنهجية الأفضل والأحدث والأنجع في دراسة حالة مثل حالة مؤسسات المجتمع المدني الحديث في الخليج. بالإضافة إلى ما ذكره الدكتور حسن، هناك مسائل كثيرة استعصت على فهمي، فوجدتها جميعاً من باب التعميم المطلق، فمجتمعنا البحريني وحتى مجتمع الكويت ومجتمع قطر، مجتمعات متعددة، ورغم اختلاف نسبة التجانس فيما بينها، إلا أن التوغل في ربط هذا التعدد بتكوين هذه المؤسسات فيه خلل كبير! وكنتيجة لهذه المحصلة أو الصورة التحليلية التي وجدناها أمامنا لا يمكن أن تنهض ديمقراطية في هذا المكان من الأرض أي في الخليج العربي، أقول لا يمكن وليست تستعصي. نحتاج في هذا الموضوع أن نراجع فيه أنفسنا، هناك أحكام هي من قبيل التعميم، عندما نأتي لجمعية الإصلاح الإسلامية ونقول إن أعضاءها من العرب الهولة أو إلى الجمعيات الإسلامية السلفية ونقول إن أعضاءها من القبائليين، يصعب علينا أن نقبل هذه الافتراضات كمسلمات تعزز النخبوية المعاكسة للديمقراطية.

·

· فضل: أنا أيضاً أختلف مع الدكتور في هذا الجانب إلى حدّ ما، فبرأيي هناك مغالاة في الطريقة التي شخّص بها الكتاب القوى الاجتماعية، تفاعلاتها وما يمكن أن تعطى من مسميات، بحيث تؤدي بنا إلى اللاديمقراطية، وربما يكون لها مفعول معاكس للهدف الذي جاء لأجله الكتاب، وربما كان في ذلك إجحاف كبير بهذا الإنتاج العلمي. حسن مدن ينطلق في رؤية تحليله لهذا الموضوع من كونه سياسيا محترفا، ولكني حين أضع نفسي مكان النجار في الجانب المهني من دراسته كمحلل سوسيولوجي، فإنني أعتقد بأنه من الضروري سوسيولوجياً أن نشخّص حالة أي مجتمع بهذا الاستعراض، فأي تشخيص سوسيولوجي لحالة معينة في المجتمع أو ظاهرة ما تتعلّق بمؤسساته، فإنه لا بد سيستعرض القوى الموجودة في هذه المؤسسات وكيف تتفاعل مع بعضها البعض، وما تفرزه العلاقات المتشابكة والمعقّدة فيها. بالنسبة إلينا، هذا الكتاب من الكتب النادرة التي تسمي الأشياء بمسمياتها، رغم تحفظي على أن الدكتور لا يذهب في تفاصيل تحليله بحيث يروي شغف المتلقي، فالمتلقي في البحرين (مثلاً) قارئ سياسي باحتراف، يريد أن تنحو كل التحليلات باتجاه الموقف السياسي في نهاية المطاف، ونحن لم تعوّد بعد على قراءات مختلقة، وبالتالي يكون حكمنا على الموقف بأن الدكتور لم يكن واضحاً في هذه النقطة، أو لم يستوف بعض الجوانب، أو أنه كان يلف ويدور! أعتقد بأن هذا الكتاب والكتاب الذي سبقه أيضاً يتميز بوجود تشخيص للحالة التي لدينا، حتى لو كانت صادمة، فهذا هو مجتمعنا، منقسم أفقياً بطوائفه وإثنياته وغيرها، وهذا هو مجتمعنا كما يتفاعل وكما ينتج إلينا من واقع متأثّراً بكل ذلك، هذا ما هو موجود فعلاً. وهذا الواقع فعلاً لن يؤدي إلى ديمقراطية حقيقية، لكن إذا لم يكن لدينا القدرة على استيعاب هذا التشخيص أو التحليل فهذه إشكالية أكبر! قد نختلف مع الدكتور في أنه شخّص حالة ما أكثر مما يجب، ولكن الواقع هو هو، فنادي العروبة ليس فيه غير الفئات التي أشار إليها، وقرية باربار أكثر قرية في شارع البديّع تواجد فيها اليسار حتى لو كان عدد الناشطين فيها ثلاثة! ربما أتفق مع حسن مدن في أننا نحتاج إلى تفسير أكثر للدلالات التي يحملها هذا النوع من التشخيص، وأننا يجب أن نسأل لماذا*

·
– غلوم: اتفقنا بشكل حازم على أن هذه المؤسسات فضاءات حرة لجماعات تدافع عن مصالح مشتركة، فعلى سبيل المثال، عندما أسست جمعية أوال النسائية، كانت هناك مجموعة من النساء أسسوا هذه الجمعية وفق معايير وأهداف اجتماعية وايدلوجية متّفق عليها، فحينما نحاول أن نحلل ممارسات هذه الجمعية، لماذا عليّ أن أقول بأن بعض أعضائها من الهولة أو العرب أو من الشيعة أو السنة* هذا بحد ذاته إشكال! لماذا لا ننظر إلى ما فعلته وأنتجته هذه الجمعية في المجتمع على صعوبة اختصاصها* أو كيف شاركت وتفاعلت مع الدولة أو السلطة أو مع الدين والأخلاق والقيم والحياة العامة في المجتمع* وكيف شاكست كل هذه المكوّنات* أو كيف حمت نفسها كمجموعة* بدلاً من تصنيف أعضائها إلى 6 من الهولة و10 من القبائليين و10 من الشيعة وما إلى ذلك!!
عندما استعرضت الدراسة أسرة الأدباء والكتّاب، تمنيت من النجار أن يوحي لي أنه حلّل ولو شيئاً من النتاجات الأدبية لأعضاء الأسرة، وكيف دافعت هذه عن مهنتها الإبداعية، وعن فلسفتها في الحفاظ على رسالة الالتزام والأدب والفن والكلمة والإبداع! ما الذي جمعنا في الأسرة غير ذلك* نحن نريد من أي أحد أن يحلل ما إذا ساهمنا بشيء في صنع التغيير الذي حدث في السنوات الأخيرة أم لا* نحن بقينا داخل البلاد على مدى ثلاثة عقود أو أكثر نواجه الدولة، بوزرائها، وأوضاعها الداخلية، مباشرة وبشكل يومي، هل تطرّقت الدراسة إلى ذلك* هل استعرض الكتاب ذلك بشيء من التحليل* كل أعضاء الأسرة في الستينات والسبعينات دفعوا ثمناً باهظاً من أجل مؤسستهم ورسالتها* منهم من سجن، منهم من حوصر، ومنهم من فقد احترامه في المجتمع ومؤسسات الدولة، لماذا* لأنهم أبدوا موقفاً واضحاً ورؤية خاصة تجاه كل ما كا يحدث. فهل يجوز بعد ذلك، أن يستحضرني الكتاب والآخرون من أعضاء الأسرة وبقية المؤسسات الفاعلة على أساس أصولنا المناطقية (الريفية أو المدينية) أو على أساس أصولنا الطائفية أو الإثنية* نحن والآخرون في الخمسينات والستينات لم تجمعنا إلا الظروف الفكرية والأهداف المشتركة، وكادت تجمّعاتنا وقتئذ أن تذهب تماماً بتلك التقسيمات الفئوية إلى البحر، وأن تستعيد الحالة النادرة التي تأسست في المجتمع البحريني، ممثّلة في هيئة الاتحاد الوطني، التي تلاشت فيها كل هذه الفوراق والتصنيفات. وكذلك هي مؤسسات الستينات التي اختلطت فيها الأعراق والإثنيات والطوائف تحت تأثير المد القومي العربي دونما أن تضع اعتباراً لكل هذه التقسيمات، ونادي العروبة يشهد على ذلك، بمن كانوا فيه من عرب القبائل، والهولة، والشيعة، وغيرهم. هذه نقطة أساسية جداً، إذ عندما نركّب ميكانيكة تحليلية تعود بنا إلى هذه المنابت، فما الذي ستؤسس له علمياً وتخلفه على مجتمعنا وعلى مصير ديمقراطيتنا، غير مزيد من الشتات، ومزيد من الاستعصاء* وذلك سؤال مؤلم جداً يعترض هذا المنهج بلا شك.

الثقـافــــة العصـيـــة

· الوقت: حسين مرهون، ما مدى تحليل الكتاب للمؤسسات الثقافية؟

· مرهون: لا أختلف مع الدكتور إبراهيم غلوم، في أن اشتغال الدراسة بهذه المؤسسات، اعتمد على وصف ما هو واقع فقط، فلا يوجد أي جهد تحليلي أو تفسيري للإشكالات الحقيقية في هذه المؤسسات. أضف إلى ذلك، أنه اعتمد في مقاربته للمنظّمات الثقافية، على الخبرة في التعامل مع الأرشيف أكثر من الواقع، فعندما نتكلم الآن عن هذه المنظّمات لا نتكلم عن حقبة الستينات والسبعينات، فأسرة الأدباء والكتاب ليست هي المؤسسة الوحيدة في هذا الفضاء الآن، هناك كمٌ من المؤسسات الثقافية استبعدت من الدراسة والتحليل، وتم اختيار الأسرة فقط كمثال للتعامل معه في بحث هذه المؤسسات. إحدى الإشكالات أيضاً، والتي ربما أختلف مع الزملاء فيها، هي ما يتعلق بثنائية الريف والمدينة، نحن في القسم الثقافي، كانت لدينا وجهة نظر خاصة، كنا نفكر بإعداد ملف عنها، وهي ما يمكن أن يسمى ترييف الثقافة، الذي ظهر في السنوات الأخيرة، فمثلاً في الستينات أو السبعينات، لم تكن هناك مؤسسة أو جمعية أهلية أنشأت وفق قانون الجمعيات تستهدف بشكل رئيسي الريف وطاقات الريف والمرأة الريفية والرجل الريفي وما إلى ذلك! حتى البيانات التي تصدرها مثل هذه المؤسسات اليوم وتصلنا عبر الصحيفة، تستخدم هذه اللفظة بشكل صريح في أدبياتها، وحتى إذا اتصلوا بشخصيات لدعوتهم إلى بعض المشاركات، يستدعونهم بوصفهم مثقفين ريفيين أو امرأة ريفية!هذه أمور موجودة، حتى في أسرة الأدباء، فالدكتور مثلاً أشار إلى أن تكوينها ينقسم إلى فئة قادمة من المدن وفئة قادمة من الريف، وأنه حتى الفئة القادمة من الريف متأثرة بتيارات كبرى، والآن الأسرة لا تستقطب بتاتاً فئات مدينية، فالأجيال الجديدة الوافدة على الأسرة لا تأتي من المدن، والمأزق أو الإشكالية في الذين يأتون من الريف، أنهم يعيدون إنتاج سجال حول قضايا حسمها الجيل السابق، وتجاوزها بمسافات، على سبيل المثال مسألة العري في الأدب والفن، فهل من المعقول أن نستبعد كل ذلك عن البحث والتحليل.قضية الريف والمدينة قضية حاضرة في العلوم الاجتماعية منذ زمن ابن خلدون، ومع أنه من الصواب القول إن ثنائية الريف والمدينة ليست متأسسة في مجتمعنا بذلك العمق، تأسيساً على ظاهرة التبادل في الدورة الاقتصادية بهجرة أهل الريف للعمل في المدن، كما أشار الخوري، ولكنهم يصدّرون معهم ثقافة الريف الاجتماعية المختلفة عن الثقافة الاجتماعية في المدينة.أنا أرى بأن الوصف الذي استخدمه توقّف عند لحظة من اللحظات في مرحلة الستينات والسبعينات، وإبراهيم غلوم أشار إلى نقطة مهمة، وهي أنه لا يوجد تعامل مع المضامين الأدبية أو الثقافية التي يتم إنتاجها الآن في هذه المؤسسات، الكتاب أشار إلى الإسلام (المتلبرل)، وغيرها، ولكن هناك قضايا أخرى مختلفة ومهمة، فالأدب الذي ينتج الآن يركزّ كثيراً على قضايا تتصل بالهويّة، فالهوية ظاهرة كثيراً في أدبيات هذه الأجيال الجديدة، وبغض النظر عن كون ذلك سلبيا أم إيجابياً، لكنه شكل من أشكال التعبير عن الهوية لدى الجيل الجديد من الكتّاب، أنا أرى بأن الكتاب أهمل كل ذلك حينما لم يتعاط مع اللحظة الراهنة في هذا الجانب.

الهــويــات العصيــــة

– النجار: صحيح بأن الدراسة تذهب إلى تحليل الإثنيات، وأنا شخصياً يستهويني تفكيك الإثنيات، لأسباب كثيرة، منها أنّ جزءاً من تدريبي الأول يتصل بالعمالة المهاجرة، والتعامل مع العمالة المهاجرة هو تعامل مع إثنيات مختلفة، وربما لا زال ذلك متمكناً مني، إلا أن هذا هو الواقع، وكل إثنية من هذه الإثنيات، بالنسبة لي كما أشرت في إحدى الدراسات، تمثل دائرة أو إطار، هذه الإطارات أو الدوائر سواءً سمّيت هويّات أو إثنيات أو غيرها، تلتقي مع دوائر أو إطارات أخرى في أمور وتنفصل عنها في أمور أخرى، ولكنها نتيجةً للسياق الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي الذي تعيش فيه، تنتج نفسها بصورة مختلفة عن الآخرين، صحيح هي مندمجة في جوانب مع الدوائر الأخرى، إلا أنها تنفصل عنها في جوانب أخرى، ولذلك فهي تنتج خطاباً مختلفاً، فعلى سبيل المثال، من المعروف أن حركة الإخوان المسلمين في البحرين (ممثّلةً في جمعية الإصلاح) جل أعضائها من الهولة (مع الإشارة إلى أنني لم أقل إن أعضاءها ومؤسسيها هم من الهولة فقط)، كما أن الحركة السلفية جلّها من العرب السنّة، وهذا واقع أنتج خطاباً مختلفاً لكل تنظيم. من ناحية أخرى لم يعد التحليل السوسيولوجي قائما على النصوص التقليدية في علم الاجتماع وتحديدا النزوع نحو تبني ما يسمى بالتحليلات الكلية. أنت لا تفهم حركة أي مجتمع من المجتمعات إلا من خلال فهم تكويناته ومكوناته الصغيرة ودخول في تحليل علاقاتها في داخل الجماعة وعلاقاتها مع الجماعات الأخرى وهي علاقات يجب أن لا تفهم دائما أنها في صدام دائم. كما أن تبني هذا المدخل الأنثربولوجي السوسيولوجي في التحليل لا يعني تفكيكا أو تشطيرا للمجتمع. فمن يقوم بهذا العمل هي القوى السياسية النازعة نحو مصالحها التنظيمية أو المصالح الشخصية الذاتية لقياداتها. فتحليل المركبات الصغيرة لمجتمعات الخليج العربي يساعد على فهم أولا شبكات العلاقات القائمة فيه والمعطيات التي في ضوئها تتشكل هذه العلاقات وهذا ما حاول أن يصل إليه الكتاب من خلال تحليل شبكة علاقات هذه القوى داخل تجمعات المجتمع المدني. بالإضافة لذلك فأن الدراسة قد حاولت أن تدخل في ذلك التشابك المعقد لهذه الجماعات. فأنت لا تستطيع أن تفهم حركية أي مجتمع من المجتمعات إلا من خلال فهم الخصوصية الاجتماعية والنفسية لهذه الجماعات المكونة للمجتمع وهذا ما حاولت أن تقوم به الدراسة.

مرهون: وكيف ينعكس هذا في الخطاب؟

· مدن: هل كان خطاباً مختلفاً بسبب هذا الاختلاف الإثني، أم بسبب الطبيعة الفكرية والسياسية المختلفة بين التيّارين*

· – النجار: أريد أن أشير إلى أن ذلك لم يكن حكراً على البحرين، وله نسخ مشابهة في مجتمعات أخرى، ففي الحالة الكويتية على سبيل المثال، تتسم حركة الأخوان المسلمين بأن جلّ المنتمين إليها ينحدرون من المدن (أهل داخل السور كما سميتهم) وهم من المتعلمين بشكل متقدّم، وبالتالي فهؤلاء وعلى الرغم من اختلاف تقسيماتهم الإثنية، إلا أنهم يحملون هامشاً من الثقافة المشتركة، أما السلف فجل أعضائهم من المناطق الخارجية، وعليه فهذا التمركز أفرز خطاباً سياسياً وممارسة تختلف في كل تيار منهما. أنت لا تستطيع أن تفهم لماذا اختلفوا إلا من خلال دراسة هذه الثنائية الموجودة، فهي تعينك على فهم هذا الاختلاف.

· النقطة الأخرى: الأفكار لدينا لا تنتشر عبر وسائط حديثة كما يفترض، وإنما تنتشر عبر وسائط تقليدية، فمن المعروف في العراق على سبيل المثال، أن كثيراً من المنتمين إلى الأحزاب الشيوعية ينحدرون من النجف وكربلاء وغيرها، وهي مناطق لا تنتج ذلك بطبيعة الحال، ولكن أسباب انتشار هذه الأفكار أسباب عائلية، وهكذا عندما أقول بأن جلّ أعضاء نادي العروبة هم من الشيعة، ورغم أنني لم أنفِ وجود السنّة، إلا أن هذا هو الواقع، وأسبابه شبيهة بالمثال العراقي، وقد أشرت في الكتاب بشكل واضح، إلى أن الفكر القومي البعثي في البحرين ينتشر في أوساط عوائل معينة، والسبب في هذا الانتشار هو القناة أو الوسيط العائلي، فأحياناً يكون الوسيط هو الجيرة أو منطقة السكن أو القرية، ويجب أن لا نستسهل دور هذه الوسائط في عملية انتقال الأفكار والانتماءات.

– غلوم: أنت لم تصل إلى ذلك في الكتاب، ولم تعالجه !

· النجّار: بلى، هناك إشارة واضحة لذلك في الفصل الأول من الكتاب، حين طرحت تساؤلاً عن سبب انتشار فكر حزب البعث العراقي في أوساط عوائل معينة في النجف. يجب أن أقول هنا إن شبكة علاقاتنا الاجتماعية وبالتالي تبنينا للكثير من الأفكار والمواقف السياسية والاجتماعية إنما تأتي من خلال أطرنا التقليدية أكثر منها من خلال الآليات الحديثة. فالمواقف السياسية وربما الأفكار والمعتقدات تنتشر بسهولة بين الأصحاب والأهل والجيران أكثر منها من خلال الوسائط الحديثة، وهذا ما حاولت أن أشير إليه في الكتاب في الفصول الأولى منه.

– غلوم: لكن ذلك لم يمتد ليفصّل كيف كان انتشار أفكار التيارات المختلفة كالقوميين أو الإخوان المسلمين أو السلف في البحرين، ولم ينتقل إلى تفسيره، وهو فعلاً تفصيل جيد ومهم ومطلوب، إذ لو انتقلت الدراسة إلى ذلك لانكشفت الدلالة في استعراضك للتصنيفات الإثنية والفئوية، ولكان ذلك إجابة على كل تساؤلاتنا السابقة.
النجار: هناك إشارة واضحة إلى ذلك في الفصل الأول الذي يناقش المفاهيم، وهناك تفصيل ذي صلة في كتابي السابق (الحركات الدينية في الخليج العربي)!

– المرشد: حسب تصوري، وكما أسلف الدكتور إبراهيم، كان يفترض أن يدمج ذلك في التحليل، دعني أضرب مثالاً توضيحياً، جمعية الإخوان المسلمين في فترة من الفترات كان العنصر القبلي هو المسيطر عليها، ثم حدث تحوّل في تكوينها حين صار عنصر الهولة هو المسيطر، وبناءً على الرؤية التحليلة التي تعتبر أن خطاب هذا التنظيم (بما فيه العنصر القبلي) اختلف عندما سيطر عليه عنصر الهولة، يمكن أن نتساءل ما هو وجه هذا الاختلاف في الخطاب* من الممكن أن نجد في هذه الدراسة وحتى في الكتاب السابق، أن عناصر الاختلاف ما بين هذين الخطابين كانت مبهمة جداً، وأتصور لو تم بحثها بشكل أعمق، لوصلنا إلى تجاوز الحالة التي وصلنا إليها، وخرجنا من تعريف المجتمع المدني بناءً على جوهره وهو الطوعية، لأن نقحم فيه ثنائيات تعيد إنتاج نفسها داخل المجتمع المدني كإثنيات أو هويّات فرعية. بمعنى آخر أنت تفترض بأن هذه العيّنة هي مؤسسات مجتمع مدني، ويتوفّر فيها الاختيار الطوعي، إذن يبقى أن تتحرر من العنصر القبلي، ومن العنصر الإثني، ومن العنصر المذهبي، ومن العنصر الطائفي، ولكن على مستوى الانتماءات أوالعضويات الجديدة تغيب الطوعية وتحضر الاتجاهات ذات الخلفيات الأخرى! على سبيل المثال، الشيعة أسسوا نادي العروبة وسيطروا عليه، وكان ذلك محل بحث معمّق عند فؤاد إسحاق الخوري، ولكن ما لم يجب عليه الخوري، ولا غيره، ولن يجيب عليه أحد كذلك، ما هو ارتباط الشيعة أو ما هو الهدف الشيعي في نادي العروبة*! لا يمكن تفسير ذلك أبدا، هناك مؤسسون شيعة ثم نقطة على السطر بالتعبير اللبناني، فمؤسسة قائمة على فكر مضاد للفكر الطائفي، ومن ينتمي إليها ينتمي إليها طوعياً، يجب أن يسلك اتجاههم ذاته! إلا أن تكون تلك إشكالية من إشكاليات المجتمع المدني في هذه المنطقة بحيث أن فكرته تزيَّف أو تحرَّف بهذا الأسلوب، وهذا كما أشار الدكتور غلوم يجعلنا في مأزق أخلاقي، يؤدي لأن تعيق طوائف وأعراق معينة حركة المجتمع المدني أو تستولي عليه بالتوافق مع الدولة. إلا أن هناك فرضية أخرى مختلفة جداً، وبعيدة عن هذا الإطار، وهي أن المجتمع يتشكّل كما تتشكل آليات الحكم أو الدولة فيه، فكيفما تحكم الدولة المجتمع، يحكم المجتمع نفسه.

المثقـفـــون العصـيــــون

الوقت: ورد في كتاب الدكتور باقر النجار ما يلي: ”أطروحات الجيل الجديد من الكتاب والنقّاد البحرينيين، تبدو أكثر قرباً إلى الأطروحات الإسلامية المتلبرلة أو الإسلام الحداثي”، أما الدكتور إبراهيم غلوم فيشير في كتابه ”الثقافة وإنتاج الديمقراطية” إلى أن خطاب الجيل الجديد من الكتاب والنقّاد يعطي أيضاً مسحات حداثيّة على أطروحاته الأصولية، وأحيانا يستخدمها كأقنعة وكأداة وصولية ليعطي لخطابه نوعاً من الحداثة، ويستخدمه في نفس الوقت ليصل إلى مواقع في السلطة على سبيل المثال أو مواقع في المجتمع، في حين تعمل من خلاله الخلفيات الدينية الضيّقة والمتحيّزة. السؤال: هل يكون هؤلاء الكتّاب في هذه الحالة إحدى العناصر العصيّة على الديمقراطيّة بدلاً من أن يساهموا في تشكيل المجتمع المدني* ولأي حدٍّ هذا الوصف واقعي وصحيح، أم أن هناك نماذج معيّنة من ذلك في ذهن الكاتب ليس إلا؟

النجّار: أنت عندما تكتب، تستحضر أمامك مجموعة من النماذج وتكتب عنها، أنت لا تنسج شخصياتك من الخيال، ولكن الواقع هو هكذا، والكتاب حاول أن يرصد الواقع كما هو. دون شك أن الجيل الجديد من الكتّاب والمثقفين ينحدر من أصول إسلاموية أو دينية، وفي حين أن بعضهم قد بارح هذا الواقع، بمعنى أنه انفصل عنه، فإن بعضهم الآخر لا زال، وهؤلاء هم الذين يشكّلون الحالة الجديدة، وهي حالة مهة في الدراسة، وهذا ما كنت أشير إليه في الكتاب، رغم أنني لم أتعمّق في دراسته.

غلوم: سيزيح هذا السؤال الحوار إلى مناقشة ومراجعة خطاب استمر لأكثر من عقد، والنجار في حدود المنهج والآلية التي وضعها للكتاب، أجاب على أسئلة الدراسة، ولكن حين نناقش القضية الكبرى التي يبحثها الكتاب، هنا نكتشف المساحات التي تحتاج إلى دراسات أخرى ورؤية أخرى. على سبيل المثال، عندما تحدّثتُ عن مفهوم المجتمع المدني الحديث وحاولت أن أتجاوز فيه المفهوم الذي ذهب إليه النجار، فقد كانت تلك نقطة من النقاط التي تذهب بنا إلى ما بعد كتاب الدكتور باقر، أي إلى ما بعد الحالة المستعصية التي نتحدّث عنها، والشيء ذاته ينطبق على تحليلنا للطريقة التي وصف بها النجار الواقع، فحين يأتي الكتاب ليقول هذا هو الواقع، فذلك يمكن أن يغري العامّة من الناس، لكنه لا يغري المفكّر، بل يستفزّه، لأنه لا يوجد أي مفهوم يمتلك حقيقة كاملة عن هذا الواقع، فنحن ننتج أفكاراً كثيرةً ومتغيرة ويعترف بهذا الشيء في تحليلاته وتأسيساته الأولى. المشكل يقع في تحليل ما قامت به مؤسسات المجتمع المدني طيلة الفترة الزمنية التي ناقشها الكتاب، بوصف دورها تأسيساً لنوع أو لنمط من المشاركة في السلطة مع الدولة، والكتاب يطرحها بهذا الشكل، عندما يحصر مفهوم المجتمع المدني الحديث في هذا الفضاء الذي يضم الجمعيات المهنية والخيرية وغيرها، والسؤال ماذا قدمت هذه الجمعيات من أدوار صقلت بها الشكل الديمقراطي، أو شكل الدولة الحديثة*

الظرف الديمقراطي الذي نعيشه وهو ظرف يصفه الجميع بأنه مستعصي وصعب، لكن هل هذه الإشكالية متصلة فقط براهن مؤسسات المجتمع المدني* أم أننا قبل أن نناقش الصورة المستعصية للديمقراطية، علينا أن نناقش الصورة المستعصية لتكوين المجتمع المدني نفسه* نحن إذا كنا لحد الآن لم نبلور ولم ننضج هذا المفهوم، نحن نتجاوز كل المفاهيم المطروحة في الساحات العربية والدولية، ونذهب لمفاهيم ضيّقة مفصلة علينا فقط حتى نبرر بها للواقع، وهذه نقطة قد تسوق الكثير من الدراسات للتسويغ والتبرير، فعبارة (هذا هو الواقع) هي صورة معلمنة للتبريرية، وهذا أخطر ما في الموضوع! أما بالنسبة لدور هؤلاء المثقفين الذين يأتون من تكوينات إسلامية أو إسلاموية أو ما إلى ذلك، ويدخلون في معترك المجتمع السياسي والتوتر والصراع ويتحولون إلى ضحايا، وهم في هذا السياق لهم ولاءهم وهوياتهم الواضحة التي لا يستطيعون التخلي عنها، ولكنهم يدخلونه بأدوات منهجية وبتكوين علمي رصين ومتين يتجاوز الهويّة الصغيرة لهم، فهم يدخلون في هذا التناقض، وهذا التناقض لا يأتي لهم بخيار واعٍ أحياناً، فهم يدفعون إليه دفعاً يأتي بشكل متعسّف. في الحقيقة، جيل كبير تأسس الآن وأنتج محصلات وأنشأ جمعيات ومدوّنات كبيرة جداً، فمن حلل هذه المحصّلات والمدوّنات ليطالع الصورة المتناقضة في تكوين هذا الصف من المثقفين* بالنسبة لي فأنا لديّ تحليل لهذا الموضوع، لكنه يحتاج إلى جلسة خاصة ودقيقة جداً، وقد يكون قاسياً ومباشراً، لما يتوفّر له من نصوص ومدوّنات ومصادر متنوّعة.

– النجار: نحن نريد من المجتمع المدني أن يكون مجتمعاً يضم كل الجماعات، وأن تنصهر هذه الجماعات – بالتعبير الأمريكي- في بوتقة ثقافية محددة، ولكن هذا ليس هو الواقع لا في منطقة الخليج ولا في مناطق كثيرة في العالم. أنت عندما تذهب إلى الدول المتقدمة ستجد منظّماتٍ دينية ومنظّماتٍ إثنية خاصة بالسود أو خاصة بالآسيويين أو الأوروبيين أو غيرهم، إلا أن كل هذه الجماعات تعمل ضمن الفضاء العام، ولذلك هي جزءٌ من المجتمع المدني! النقطة الأخرى التي استرعتني في دراستي ومطالعتي للمنظّمات في أوروبا، هي أن بعض الحكومات تشجّع على تشكيل منظّمات من فئات إثنيّة معيّنة، والهدف من ذلك ليس تفكيك المجتمع – كما قد يفسّر- وإنما هي طريقة لإدماج هذه الجماعات ضمن العمل الاجتماعي والسياسي العام، لأن هذه المنظّمات ستكون قادرة على الوصول لجماعاتها الإثنية المهاجرة بشكل أكبر من الدولة. ونحن كذلك، نتعامل مع الكثير من المنظمات الخاصة بالعرب في أوروبا وأمريكا، وهذه المنظّمات تمثّل إثنيّة معيّنة، لكننا لا ننفي عنها صفة الحداثة أو الليبرالية أو غيرها، في حين أننا ننفيها عن منظّمات مقاربة لها في مجتمعاتنا!أما فيما يتعلّق بالفصل الخاص بالمؤسسات الثقافية، فأنا لم أتطرّق فقط لأسرة الأدباء وإنما تطرّقت لنادي العروبة ونادي الخريجين وغيرها، وبالنسبة لأعضاء هذه المؤسسات من الجماعات (المشتركة في الإثنية أو المذهب أو أي هويّة أخرى) فقد عالجتها على أنها قوى فاعلة في هذه المنظّمات لا كقوى معطّلة لعملها، ويجب أن تفهم دراستي لها من خلال هذا الإطار.وحين نأتي على المنظّمات المهنية الموجودة في البحرين، فإذا ما بحثنا الخلاف في أي منظمة منها بين الجماعات المتعددة فيها على حصصها داخل هذه المنظمات المهنية كجمعية الأطباء وجمعية المهندسين وغيرها، وهي من المنظّمات المؤثرة وذات الاتساع، فإن الصراع بين هذه الجماعات إما أن يأخذ شكلاً سياسياً (أي بين قوى سياسية) أو يأخذ فرزاً آخر كأن يكون على أساس مذهبي (سنة وشيعة)، وعندما تناقش هذه الحالة وهذا الواقع، ربما يفهم هذا الصراع على أنه معطل لعملية التحول داخل المجتمع، ولكني أعتقد بأنه جزء من الصراع الطبيعي في مخاض التحول في المجتمع، والذي تكون له أشكال تبرز على السطح في مرحلة تاريخية معينة، لأسباب متعددة بعضها من إفراز الداخل وبعضها من إفراز الخارج، إلا أنها جزء من صيرورة المجتمع.

– مدن: بالنسبة إلى إشارة الدكتور باقر إلى تنظيمات المجتمع المدني ذات الطابع الإثني في المجتمعات الأوروبية وفي أمريكا وغيرها، والتي أتى عليها في الكتاب أيضاً لتعزيز فكرته، فإن ذلك يذكّرني بأطروحة لأنور عبد الملك، حول الصحوة والنهوض الديني في العالم، وكيف أنها ليست ظاهرة عربية، وأنها موجودة في العالم كله! وهذه مغالطة خطيرة، فهناك قضايا حسمت في المجتمعات الأمريكية والأوروبية لصالح الفصل بين الدين والدولة، ولا عودة فيها عن ذلك، إذن السياق الثقافي والحضاري هناك مختلف تماماً، وأنت وضّحت بشكل جيد في مداخلتك السابقة كيف تشجع تلك الدول على إنشاء مثل هذه التنظيمات لكي تغطّي فضاءات لا يمكن أن تصل إليها، بينما هي في مجتمعاتنا معيق من معيقات التحول الديمقراطي، وربما كانت الدولة تستخدمها لتحقيق هذا الغرض.

– – النجار: الفارق الوحيد هو الدولة، فالدولة هناك لا توظّف هذه المكوّنات كجزء من الصراع بينها وبين المجتمع، أما في فضاءاتنا العربية فالدولة توظفها في ذلك.

الـنســـاء العصيـــات

· الوقت: منى فضل، ماذا عن الجمعيات النسائية كمكوّنٍ من مكونات المجتمع المدني* كيف حلل الكتاب دورها وهل كانت جزءاً من الحالة العصيّة للديمقراطية أيضاً؟

· – فضل: لتكون الصورة واضحة، تجب الإشارة إلى أن الجمعيات النسائية والحركة النسائية عولجت في فصل واحد فقط من الكتاب، شمل كل الحركات الموجودة في الخليج! ومن وجهة نظري فإن ذلك لم يكن كافياً بالطبع، إلا أننا إذا أردنا أن ندرس كل هذه الحركات والجوانب المتعلقة بها لنصل إلى تحليل بنفس آلية التفكيك وبنفس المنهجية التي استخدمها الدكتور في كتابه بشكل عام، فإن ذلك سيتطلّب ربما كتاباً منفصلاً وفريق عمل خاص.ولكني كمهتمة في قضايا المرأة وكناشطة نسائية، أعتقد أن هناك تغطية معقولة إلى حد ما للحركة النسائية في الإمارات والبحرين والكويت، وهي تتميز بأنها موثّقة. هناك إشارات وإضاءات جيدة فيما يتعلق بعملية التحول من العمل الخيري إلى العمل الحقوقي، رغم أنها كانت في عجالة والمساحة المفردة لها لا تسمح بالدخول في تحليلات أوسع.

· بالنسبة لي، كان هذا الفصل مهم جداً، وقد رجعت له كثيراً، ووقفت فيه عند تحليل ما يتصل بالجمعيات النسائية الدينية، والذي استخدم فيه الدكتور طريقة التحليل والتفكيك ذاتها، فتطرق لجمعية البحرين النسائية على سبيل المثال، وتكلم عن مكوناتها المنحدرة من أسر أرستقراطية، وكان ذلك هو الواقع فعلاً، رغم أني لا أقف مع الدكتور في كل ما ذكره. نحن نحتاج أن ننطلق من هذا الطرح وهذه المحاور التي ناقشها الكتاب إلى تحليلات أكثر، فالكتاب على سبيل المثال، لم يشر إلى مسألة مهمة تخص النقاش الذي ظل مستمراً لدينا من السبعينات إلى اليوم، حول العمل الخيري والعمل الحقوقي في الحركة النسائية. ما إذا كان يصح أو لا* وذلك على ارتباط بالوضع السياسي والقوى الاجتماعية الموجودة، وقد كانت هناك جمعيات دائماً ما تنتقد العمل الخيري حين يكون في صلب العمل النسائي، إلا أنها الآن تتراجع بدعوى أنها لا تستطيع أن تصل أو تنفذ برامجها وتحقق أهدافها إلا إذا دخلت من خلال هذه النافذة، استجابةً لواقعٍ معين! أعتقد بأن هذه الجزئية على الأقل فيما يتعلق بالجمعيات النسائية، هي مفتاح أو نافذة يمكن أن تؤسس لدراسات أخرى أكثر عمقاً، إذ لا نتوقع أبدا أن نحصل على تحليل لكل ما يتعلق بالحركة النسائية في هذا الكتاب.

النظــــام السياســـــي العصــــي

أريد أن أشير إلى نقطة منقوصة في هذا النقاش، تركناها دون أن نعرّج عليها بوضوح، فالدكتور في هذا الكتاب، وخاصة في المقدمات الأولى، استعرض بشكل دقيق ومثير وجميل جداً حالة النظام السياسي العربي، وناقش فكرة لماذا لم تتغير هذه الأنظمة العربية* ولماذا ظلت مستعصية على التغيير وظلت قدرتها على التكيّف والاستمرار تفوق الخيال* وناقش ذلك منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ومن ثم الحروب الثلاث التي حدثت في المنطقة، وعرض آراء وتوجهات بعض الكتاب الذين خابت توقعاتهم بأن ينسحب هذا التغيير في العالم على الأنظمة العربية، وهذه المقدمة الطويلة انتقلت إلى تحليل التحولات في مجتمعات الخليج، وصاغها الدكتور في نطاق هذا النسق الخاص بالنظام السياسي العربي، وكان السؤال الذي يلعب في وعي الدكتور هو: من أين يأتي التغيير* وكانت الإجابة السريعة له، هو من المجتمع المدني الحديث! فإذا كانت التغييرات السياسية العالمية مثل الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وما حدث من كوارث عسكرية، وكذلك ظهور الحركات المناهضة للحكومات على الساحة، إذا كان كل ذلك لم يؤثر في الأنظمة العربية، فقد بقي شيء واحد هو المجتمع المدني الحديث، ومؤسساته، لتبدأ الدراسة من ذلك ويكون محل بحثها. الأساس النظري والواقعي -إذا ما أخذنا بفكرة ما يمكن أن يتحقق على أرض الواقع- هو أن هذا المجتمع المدني الحديث، حتى يكون مؤثرا في النظام، وعنصراً فاعلاً في إحداث تغييرات طارئة عليه، لا بد أن تكون التنظيمات السياسية المعارضة عنصراً فاعلاً فيه، ولهذا أنا أسأل نفسي وأسألكم كما أسأل الدكتور باقر باعتباره خاض الموضوع بعمق، كيف تأسست فكرة المعارضة في وسط هذا المفهوم الذي انتهى إليه للمجتمع المدني الحديث* هل تأسست فكرة المعارضة فعلا، وهل تأسس الآخر المقابل للسلطة أو للدولة (كما سماه الكتاب)*نحن نبحث عن ذلك الآخر (المعارضة)، ماذا صنع لفكرة تداول السلطة، ولفكرة المشاركة، ولفكرة تأسيس الديمقراطية* هل نستطيع أن نجد جذور هذا الآخر في هذه المؤسسات التي ناقشها الدكتور وحدها ونهمل تفصيلات كثيرة حدثت في إطار تأسيس هذه المنظمات أو على هامشها أو في إطار المتغيرات السريعة التي حدثت قبل عقد أو أكثر، هذا سؤال مهم جداً، وأنا أعتقد بأننا لم نجب عليه بعد.

الوقت: إذن وصل بنا النقاش إلى أن هذه الديمقراطية عصية، ليس بسبب سياسي واحد، ولكن لأن التضمانيات عصيّة على أن تفكك وتحلل لتضمانيات أخرى، والطبقة الوسطى عصية أن تكون طبقة وسطى بالمفهوم الحديث، والقبيلة عصية على أن تنتج نفسها بشكل آخر لا بشكل وهمي تحافظ فيه على تكويناتها، والدولة أيضاً عصية على أن تتنازل عن تسلطها وأن تحدّث نفسها، لذا فالمجتمع المدني هو أيضاً عصي لكل هذه العراقيل!

ندوة حوارية حول كتاب الدكتور باقر النجار (الديمقراطية العصية)

ندوة حوارية حول كتاب الدكتور باقر النجار (الديمقراطية العصية)

الجزء الأول

مجتمع مدني عصي.. إذن ديمقـراطيـة عصيــة

جريدة الوقت العدد 1325 الأربعاء 18 شوال 1430 هـ – 7 اكتوبر 2009

http://www.alwaqt.com/index.php

فريق مركز الحوار: علي الديري، باسمة القصاب، أحمد الساري

ضيوف مركز الحوار: د. باقر النجار- د. إبراهيم غلوم- د. حسن مدن- منى فضل- عباس المرشد- حسين مرهون:

New Picture

هل يصح القول إن الديمقراطية ما تزال عصية على التحقق في المجتمعات الخليجية؟ وهل المسؤول عن هذا الاستعصاء هي الأنظمة السياسية وحدها؟ وإلى أي مدى يمكن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني قادرة على تحقيق عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وتحديداً في الخليج؟ وما دور منظمات المجتمع المدني في عمليات التحول الديمقراطي في العالم؟ وما مفهوم المجتمع المـدني؟
أسئلة يحاول مركز حوارات (الوقت) إثارتها من خلال كتاب ”الديمقراطية العصية في الخليج العربي” للباحث السيسيولوجي باقر النجار، الذي حاز على جائزة الشيخ زايد للكتاب فى مجال التنمية وبناء الدولة هذا العام .2009 ومن خـلال هـــــذا الحــــوار أيضــــاً، يحاول تقديم قـــراءة نقديــة للكتـــاب مــــــع مجموعـــــة من الباحثـــين والمهتمين والمثقفين

فرضية الكتاب

*الوقت: ما هي الفرضية التي بني عليها الكتاب؟
– النجار: هناك دراسات تقوم على فرضيات، وهناك دراسات لا تقوم على فرضيات. الدراسة في الكتاب تحاول أن تختبر مقولات متعددة تناولت دور منظمات المجتمع المدني في عمليات التحول الديمقراطي في العالم، حيث ركزت على تجارب موجودة في شرق أوروبا وأخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية، وذلك لاختبار مدى إمكانية مقاربة مفهوم المجتمع المدني (الجمعيات الأهلية) في الحالة الموجودة في الخليج بها. التساؤل الآخر: إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه المؤسسات قادرة على تحقيق عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وتحديداً في الخليج؟
حتى تختبر ذلك، ذهبت الدراسة إلى البحث أولا في مفهوم المجتمع المدني ومقارباته المختلفة للحالة العربية، ثم تطرقت إلى حالة المجتمع المدني والدولة في الخليج، وإلى أي مدى يقترب هذا المفهوم الحداثي إلى حالة الدولة – وهي حالة في طور التشكل، تماما كالمجتمع المدني- بحيث تقاس العلاقة بين الاثنين من خلال البحث في المنظمات المختلفة في منطقة الخليج، مع التركيز على حالة البحرين والكويت بشكل أكبر.
اختتمت الدراسة باستنتاج مفاده أن عمليات التحول الديمقراطي تتطلب تغييراً في ثقافة الدولة وآليات الدولة ولكنها تتطلب بذات القدر تحولاً أساسياً في ثقافة المجتمع.
* الوقت: عنوان الكتاب، ما الذي يربط بين هذه التساؤلات والمقولات التي حاولت أن تختبرها وتطبقها على مؤسسات المجتمع ومنظماته وثقافته وجماعاته واختيارك لعنوان الديمقراطية العصية؟
– النجار: تحقيق الديمقراطية ليس بالعمل السهل، وتحديدا في المنطقة العربية إلا أنه ليس بالمستحيل. أتيت بالتعبير لأرسم الصورة الصعبة لحالة الديمقراطية لعموم المنطقة العربية.

أهمية الكتاب

* الوقت: حسن مدن، باعتبارك من المتابعين للإصدارات والكتب، إلى أي حد نحن نمتلك أدبيات سسيولوجية قادرة بالفعل على أن تقرأ مجتمعنا الخليجي والبحريني خصوصاً بعمق في السنوات الثلاثين الماضية وهل يندرج هذا الكتاب ضمن هذه الأدبيات؟
– مدن: عدد قليل جدا من الباحثين تصدوا لهذا الموضوع، كان منهم على سبيل المثال خلدون النقيب في كتابه الذي جاء ضمن إطار مشروع مركز دراسات الوحدة العربية حول قضايا الدولة والمجتمع في الخليج العربي، ما يعني أن الموضوع الذي يناقشه الكتاب فيما يتصل بقضية بناء الدولة والمجتمع المدني وإشكالات وأفق التحول الديمقراطي في هذه البلدان بحاجة للمزيد من البحث، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب. السبب في ذلك هو أن مسألة التحول الديمقراطي في الخليج قياساً بالعالم، تعتبر موضوعا حديثاً، فهو آخر منطقة خرج منها الاستعمار. الإمبريالية انحسرت من العالم قبل ذلك بكثير، لذا فقضية التحول الديمقراطي أتت متأخرة في هذه البلدان، وعليه فإن حقل البحث هو حقل جديد أيضاً. الدكتور له خبرة في العمل بمؤسسات المجتمع الأهلي حين لم يكن المجتمع المدني دارجاً. هذا المفهوم انتعش خلال العقدين الأخيرين، وصار ما يشبه الموضة في ضوء التحولات الذي حدثت في أوروبا الشرقية، فأصبح كثير التردد وخصوصا في المنطقة المغاربية (تونس المغرب) ثم وجد صداه في المشرق والخليج.
* الوقت: هل هو ضمن أدبيات سوسيولجية كتبت عن الشأن البحريني والخليجي؟
– منى فضل: الكتاب بمضمونه المعلوماتي ومنهجيته التحليلية وبالنتائج التي استخلصها وتوصل إليها، هو إضافة جديدة بالنسبة لمجتمعنا في البحرين، هناك إصدارات وكتابات كثيرة لمراكز البحوث، ولكن إلى أي درجة هي قريبة من المنهج العلمي الذي يأخذ المجتمع كبنية متكاملة ويحللها ضمن علاقاتها المتشابكة ويفككها ويحاول إعطاء رؤية أقرب للموضوعية؟ لا نستطيع أن نصف الخلاصة بأنها موضوعية تماما ولكن الكتاب حاول أن يقترب قدر الإمكان من الموضوعية. صحيح أن مصطلح المجتمع المدني مصطلح جديد، بدأ يتردد كثيراً، لكن الكتاب عندما أتى ليحلل مؤسسات المجتمع المدني، وضّح وفصّل البناء والتطور المتسلسل لهذه المؤسسات والمنظمات التي تجاوزت الخمسين عاماً. أنا شخصيا في دراستي للماجستير (جزئية الجمعيات النسائية نشأتها وتطورها ضمن سياق العمل الأهلي)، لم أجد من المراجع ما أستطيع أن أستند عليه كدراسة علمية، اللهم إلا بعض المقالات في المجلات وغيرها، لذلك فالتركيز على هذا الكتاب تكمن أهميته بالنسبة للباحثين باعتباره مرجعاً يمكن أن يفيد في ذلك.
* مداخلة الوقت: هناك كتب مثل كتاب ”القبيلة والدولة” يعالج ربما هذا الموضوع، وكتاب ”البحرين: التطور السياسي في مجتمع متحدث” لأمين نخلة.
– فضل: بالنسبة إلى مقاربة الكتاب مع نتائج كتاب القبيلة والدولة لفؤاد الخوري، فأنا أعتقد بأن هناك بونا شاسعا بين النتاجين، رغم أهمية نتاج الخوري. ما يوضح هذا الفرق هو أولاً: أن دراسة النجار متتبعة للمجتمع بشكل متراكم. وثانياً: أن النجار معايش لهذه التجربة، فهو يكتب ويحلل لا من بنات أفكار ومفاهيم جامدة، ولكنه متعايش مع الوضع، مختلط فيه، متنقل بين البحرين وقطر والإمارات والكويت، وهو قادر على أن يميز ما هو مختلف في المجتمع الخليجي، وهذه نقطة مهمة، تتجاوز ما تستخدمه الدراسات خارج المجتمع من تعميم أفكار وآراء معينة على المجتمع الخليجي بحيث يعتبر بشكله ومضمونه حاملاً لنفس السمات والصفات والخصائص، بل إن النجار أكد بنفسه في بداية الندوة تركيز الدراسة على مجتمعي البحرين والكويت خصوصاً ضمن المجتمع الخليجي، لأنه كان يجد أن التجربة في هذين المجتمعين تتقدم في نواحٍ وتتأخر في نواحٍ، مقارنة بالمجتمعات الخليجية الأخرى. أما كتاب أمين نخلة، فهو يركز على الجانب النظري فيما يتعلق بالدولة، وجزء من المقاربة إيدولوجي في بعده الفكري، وما يهمنا نحن هو الواقع. ميزة كتاب باقر النجار أنه عندما يتحدث عن علاقة المؤسسات بالدولة في سياق مشروع دمقرطة المجتمع، ويطبق هذه المفاهيم على الواقع بتفكيكه للقوى والعناصر المتفاعلة في المجتمع، وبمنهج علمي دقيق، لكن هذا لا يعني أني سآخذ الكتاب كله على ما هو عليه.

الديمقراطية ثقافيـــــاً وسسيـــولوجيــاً

* الوقت: إبراهيم غلوم، كتابك ”الثقافة وإنتاج الديمقراطية” وكتاب ”الديمقراطية العصية”، لا بد أنهما يشتركان في موضوع الديمقراطية، ولكن ما هو الفارق أو زاوية النظر المختلفة التي ربما تجعل من كتاب باقر عملا سسيولجيا وكتابك عملا ثقافياً؟
– غلوم: هذا السؤال مهم جدا ولم يخطر في بالي، أجد أن هناك أرضية مشتركة واسعة بين هذا الكتاب وكتاب ”الثقافة وإنتاج الديمقراطية”، وأساس هذا الموقع المشترك، هو أن ما ذهبتُ إليه في الكتاب كان يوضح أن كل ما يتصل بالسياسة والمجتمع المدني الحديث والمواطنة، وكل هذه القضايا المفصلية الخاصة بالديمقراطية، هي أساس يتم إنتاجه داخل المجتمع بشكل ثقافي، كلها في نطاق الأفكار، وقد تعرض النجار لهذا في نقاشه لمفهوم المجتمع المدني الحديث، بوصف اختلاف المفهوم بين مجتمع وآخر، أي بأن هذا المجتمع ينتج هذا الشكل من أشكال المجتمع المدني الحديث الخاص به، ولو لم يتوصل لهذه النقطة لوقع في مزلق من مزالق البعد الثقافي في هذه الدراسة. دراسة النجار لا تنفصل كثيرا عن دراسة الثقافة وإنتاج الديمقراطية، لأنه واعٍ للمنظور الثقافي لمفهوم المجتمع المدني الحديث. تكفي هذه الإشارة التي كررها وأكدها الدكتور في نقاشه لمفهوم المجتمع المدني الحديث: وهي أن هذا المفهوم متغير، وهو ليس فكرة ثابتة أو قارة أو نموذجا ينتقل من المجتمع البولندي أو الصومالي أو الأمريكي أو غيرها، إنما يتشكل حسب عوامل مختلفة، وعوامل ثقافية بشكل أساسي، وحينما أقول ثقافية أعني ما يتصل بالمجتمع والسياسة والاقتصاد.
إذن هناك رؤية مشتركة، بل إن الكتاب لمس الكثير من خلجاتي الخاصة بموضوع المجتمع المدني الحديث، وقد وجدت نفسي كثير الانسجام معه ومع ما وصلتُ إليه سابقاً، وأعتقد بأن النجار لديه نفس الرأي، وكما قلت سابقاً فالكتاب لا يبدأ من الصفر، ولكنه يأتي نتاج تراكم يستفيد منه فيبني عليه، هذا التراكم هو جهود النجار العلمية المتراكمة وجهود علمية متراكمة لزملائه في الساحة الفكرية والأدبية. وفي سياق الإشارة لبعض النقاط التي تشكل مزايا رئيسية في كتاب الديمقراطية العصية، أعتقد أن هذا الكتاب له مزية من عدة جوانب:
– الجانب الأول الرئيس: أن النجار اشتغل في مجال سسيولجيا المجتمع الخليجي على مدى 15 سنة أو أكثر، واشتغل في موضوعات متعددة، وكان يلمس هذه الموضوعات لمسة عميقة أحياناً ومقاربة أحياناً وسطحية في بعض الأحيان. ولكن في هذه الدراسة استجمع كل قواه العلمية واستحضر مصداقيته وحساسيته المرهفة في موضوع محدد وبالتالي عبر تعبيرا دقيقاً عن مجمل تجربته في هذا الكتاب. لو طرحنا هذه المزية في نطاق المجهود العلمي المترابط المتكامل للدكتور فسوف يكون هذا الكتاب بدون شك جماع ومحصلة وخلاصة تجربته وإنتاجه وما بحثه وما طرحه من أسئلة في أعوام طويلة، لا محصلة عام واحد قضاه في منحة التفرّغ الدراسية. هو حصيلة بحث بدأه منذ سنوات طويلة ثم تراكم وتراكم حتى وصل لهذه الخلاصة. هذه نقطة مفصلية وأساسية، حتى اسم الكتاب هو تركة لتسميات استخدمها في دراسات سابقة، حيث جاء وانحدر من بنية لغوية في تفكير النجار، تكررت فيها مفردات الولادة العسيرة والعصية والصعبة، ووقف فيها متحاذرا ومتخوفا من الأمور التي يجري فيها التطبيق المتسرع للديمقراطية. الكتاب هو خلاصة هذه النظرة المتأنية المتراكبة المتراكمة، وهذه مزية أساسية في عقل وتفكير الدكتور النجار.
– المزية الثانية: في هذا الإسهام العلمي: أنه عندما جاء ليناقش مفهوم المجتمع المدني، أقام دائرة واسعة جدا لهذا المفهوم ووضع في هذه الدائرة خطوطا لا تخرج عنها لكي يموضع مفهومه الخاص في وسط هذه الدائرة، وبالتالي يؤِّمن لمفهومه ولعلميته المصداقية المطلوبة. فقد درس تجارب عربية عديدة، وتأمل دراسات سابقة، واستخلص منها أبرز ما وصلت إليه، وخاصة عزمي بشارة وأماني قنديل وسعد الدين إبراهيم وخلدون النقيب وغيرهم، حيث أخذ منهم بطريقته، ثم ركب بطريقته العلمية سياقاً خاصا بفكرة التوسع في مفهوم المجتمع المدني الحديث. وهذه النقطة ستكون إحدى المشكلات الأساسية أيضاً في سياق مناقشة المجتمع المدني بصورة عامة وليس بالشكل المحدد في الكتاب، فهي قضية أساسية ومفصلية فيما يتصل بمآل علاقته بالديمقراطية، وهذه نقطة جوهرية عالج الدكتور جوانب عديدة منها بدون شك، لكنه غفل جوانب أخرى سأوضحها فيما بعد.
– المزية الثالثة: وهي صفة من صفات البحث العلمي المتعمق والدقيق، وهي الحذر والخوف من التطبيقات السابقة، وأنا لم أجد النجار سابقا بهذه القدرة على القفز من مستنقعات الانزلاق في التعميمات والتطبيقات السابقة، وهو في حذره هذا أشبه بحذر القطط الماهرة في القفز بعيداً عن المستنقعات بطريقة إيجابية، حيث استبعد كثيرا أية نمذجة سابقة وحاول أن يحذّر منها، فاستعرض تطبيقات أوروبية وإفريقية وعربية، ونبّه إلى المحاذير التي تحيط بها، وهو في معرض تحديده لمفهوم المجتمع المدني. وهو في تجنبه للنمذجة السابقة يحاول أن يضع لنفسه نموذجه بطريقة وسمت هذه الدراسة بالتماسك وجعلت لها حبكة علمية يمكن بالفعل الإشارة إليها على أنها من أدق ما يميز هذا الكتاب.
– الميزة الرابعة: هي الرهان على المجتمع المدني الحديث، وهو في نفس الوقت السؤال الجوهري، فإلى أي مدى يمكن أو يصح لنا أن نراهن على أن مفهوم المجتمع المدني الحديث يكفل لنا على الأقل مقايسة مكتملة لتحقيق الديمقراطية، أو لاستعصائها أو عدم تحققها؟ فنحن نقرأ الكتاب ونفهم أن هذه الديمقراطية العصية لم تكن عصية إلا لأن مفهوم المجتمع المدني هو المفهوم العصي، فهناك إذن حالة قرينة بالديمقراطية: المجتمع المدني-الديقمراطية، المجتمع المدني عصي إذن الديمقراطية عصية. مفهوم المجتمع المدني هو الذي يختزن في داخله مجموعة كبيرة من التناقضات والتضاربات وقد وجدت الدكتور يبذل مجهودا صعباً جدا في تذليل هذا المفهوم ليكون حاضراً بصفته مفهوماً عصياً يؤدي لأن تكون الديمقراطية عصية هي الأخرى، وهذه النقطة جدُّ دقيقة، وقد ظلت متوترة في الدراسة حتى آخر سطر فيها.
– الميزة الخامسة: مقدمات الكتاب وخواتيمه، تكاد تكون طارئة حول مسألة الديمقراطية، وما بينهما تحليل سوسيولوجي مباشر أساسي وميداني لقصة المجتمع المدني الحديث. إلى أي مدى يمكن التسليم بشكل مطلق بأن هذه المحصلات التحليلية هي التي وصفت الحالة الديمقراطية في المنطقة بالاستعصاء؟ وهنا تثار أسئلة كثيرة، هل يمكن الذهاب بعد كتاب الدكتور إلى نفس المفهوم واستكمال رحلة البحث في الحالة العصية للديمقراطية؟ أم أن هناك جوانب أو مساحات مغفلة في هذا التحليل وهذه الحبكة التي صاغها الدكتور؟
أنا أعتقد بأن منهج الدكتور (وهذه هي النقطة الأخيرة) كان أميناً في نطاق التأسيس المفاهيمي الخاص به، ولكن هناك خيارات منهجية أخرى، قد تكون قادرة أكثر على أن تضع عتبة أخرى بعد عتبة الدكتور باقر النجار، وأرجو أن نناقش هذه النقطة لأنها أساس من الأسس التي تتداعى في هذا الكتاب المهم.

مفهوم أوسع للديمقراطية

* الوقت: عباس المرشد، أنت متابع لكل ما كتب عن البحرين والخليج من ناحية سسيولجية وسياسية، ففي أي سلسلة تضع كتاب الدكتور ضمن الدراسات التي كتبت من بداية السبعينات وإلى اليوم؟
– المرشد: اثني على مداخلة الدكتور غلوم فقد أورد العديد من الملاحظات التي اتفق معه في كثير منها، أتصور أنّ كتاب الدكتور باقر يمثل طفرة حقيقية في مجال الدراسات الاجتماعية أو السياسية الخاصة بمنطقة الخليج، في نواح عدة، ولكن أبرزها كما أكد الدكتور إبراهيم، مراهنته على المجتمع المدني ولكن بسياق مختلف. الاختلاف الذي قدمه كتاب باقر النجار ينبع من ناحيتين، الأولى: رؤيته لمفهوم المجتمع المدني وكونه تنازل كثيرا عن التنظيرات الغربية أو المستوردة التي تحاول أن تدمج المجتمع المدني بسياق آخر مختلف عن خصوصيات المنطقة والصيرورات التاريخية التي مرت بها، هي والعالم العربي. فرهانه على أن المجتمع المدني له مفهوم خاص في هذه المنطقة يقترب من الدولة ولكن لا يندمج معها، وله استقلالية ولكنها ليست بالاستقلالية التامة، أتصور بأنه أحدث قفزة جديرة بالانتباه والملاحظة، بحيث نبتعد عن الأخذ بتعريف المجتمع المدني من المفكرين الغربيين أو الدراسات الأجنبية أو المهتمة بالمنطقة، حتى لا ننطلق من محاور خارجة عن إطار التجربة التاريخية لهذه المنطقة.
الجانب الثاني من الاختلاف: تناول مسألة الديمقراطية من خارج الأدوات السياسية السائدة. أغلب الأدبيات التي تناولت الديمقراطية أو تناولت المجال السياسي كانت مضطرة جدا في أن تفهم الديمقراطية كمسألة تخص نظام الحكم أو شكل السلطة، إلا أن معالجة النجار لهذه الديمقراطية العصية كانت من زاوية مفهوم أوسع للديمقراطية أو ما يمكن أن نسميه حامل الديمقراطية وهو المجتمع المدني، وأتصور أن اختياره عنوان الكتاب ليكون الديمقراطية العصية رغم كون عنوانه الأصلي ”المجتمع المدني” كان من هذه الزاوية أيضاً.
الدراسات التي تناولت حقبات واسعة من التاريخ بما فيها الدراسات الأجنبية، لم تحاول أن تفهم هذين الجانبين من الاختلاف في معالجة شؤون المنطقة. بعد ذلك هناك مجموعة آليات حاول النجار أن يعملها، هي غائبة وقد تكون منعدمة، في العديد من الدراسات المختصة بالمنطقة وهي الدراسة الميدانية أو الممارسة العملية لمفاهيم وآليات السلطة وكيف تشتغل. ربما لم يتعمق فيها من ناحية فلسفية أو من ناحية معرفية بحتة جدا، بمعنى أن يسأل: ما هي السلطة؟ وما هي أدواتها؟ وغير ذلك مما يبحثه الفلاسفة الغربيون كميشيل فوكو وبيير كورديو، لذا فإن النجار تنازل عن هذا الإرث، وحاول أن يبدع منهجا ملامساً لمشكلات المنطقة كما هي. ليس من المعقول طرح مفاتيح بحثية لظواهر غير متراكمة، أو منقطعة، أو ما زالت في بدايتها، أتصور بأن هذه المعالجة الميدانية أو الممارسة الميدانية لأدوات البحث هي ما يتميز به جهد الدكتور النجار في هذا المجال. طبعا لا يخلو الكتاب من ملاحظات تتصل بالمنهجية وتتصل بالرؤية نفسها حيث أن مفهوم المجتمع المدني وإفراغه من طاقته الثورية التي دخل بها المنطقة العربية قد يسهم في تعزيز اتجاهات محافظة أو ربما يبلور رؤية مهادنة مع تحديات الديمقراطية وهذا ما يمكن نقاشه لاحقا.

تلكؤ النحول إلى الدولة الحديثة

* الوقت: الدكتور باقر النجار، كتاب ”القبيلة والدولة” لفؤاد إسحاق الخوري يوجد ضمن المراجع الأجنبية، ولكن لا إحالات كثيرة له في الكتاب. هل تجد أن عملك يتصل بعمله في مناطق مشتركة؟
– النجار: في الدراسة، رجعت لكتاب الخوري وكتاب أمين نخلة مرة أو مرتين، وأنا أعتقد بأن هذه الأعمال أعمال رائدة، أنتجت في مطلع السبعينات. بعض تنظيراتها لا تزال تحمل المصداقية، لكن أهميتها تكمن في تأريخها لبداية التحول السياسي بعد عملية الاستقلال في البحرين. أنا أتفق مع بعض تحليلات الخوري حول المسائل المتعلقة بتلكؤ عمليات التحول نحو الدولة الحديثة، وهي عمليات مازالت قائمة، ولم تكتمل مقوماتها بالشكل الذي نعرفه في مفهوم الدولة الحديثة.
– المرشد: أتصور أن مؤلفات مثل الخوري أو نخلة، تعالج جزئيات، أي لا يمكن النظر إليها كدراسات مكتملة. ورغم خصوصية منطقة الخليج من ناحية الوفرة النفطية أو الموقع الاستراتيجي أو غيرها من المؤثرات التي تجعل الأنظار متوجهة لها، إلا أن هناك افتقارا شديدا جدا وربما انعدام لدراسات تخص الدولة والمجتمع المدني أو الأفراد أو طبيعة الحراك السياسي أو الاجتماعي أو حتى الاقتصادي، وبالتالي فإنه لا يمكن التعويل على أن الخوري مثلاً أنجز ما يتعلق بمفهوم القبيلة في المنطقة نهائياً، هو عالج مسألة القبيلة في إطار تحولها أو اندماجها مع الدولة، هذا ما كان يشغله من بداية الكتاب إلى نهايته، وتوصل إلى استنتاجات مهمة تتعلق بمدى ملاءمة الدمج بين القبيلة والدولة والتحولات التي شهدتها تجربة البحرين وما أفرزته من خلل في البنية الدولتية وبنائها على إرث قبلي أكثر من مجهود الحداثة السياسية ، أما الأمور الأخرى المتعلقة بالمجتمع وحيثياته وانتقالاته، فهو لم يكن مهتما بها وإن كان قد عالجها في بعض الفصول أوفي ثنايا الكتاب. أمين نخلة كان يهتم بالعلاقات الخارجية أو كيف يمكن للضغوط الخارجية أن تؤثر على مسار البلد، كان يهتم بالتطور الإداري أكثر من أي شيء آخر، هنالك كثير من الدراسات الأجنبية تحاول أن تركز على جزئية فقط وليس أكثر. تراكم هذه الدراسات مع بعضها البعض، يحتاج إلى اختراق. ما وفره كتاب النجار أنه اخترق السوق الأهلية السياسية بالمصطلح، الكل كان يتوجه لترويج مصطلحات أو جزئيات معينة في البحث، هو استطاع أن يدخل التجار، المثقفين، والمؤسسات الأهلية كقوى فاعلة تؤثر في هذا الإطار العام إذا أردنا أن نبحث فيه، ولا شك بأن كتاب باقر النجار لا يمثل النهاية، ولا يستطيع أي أحد أن يدعي أنه أغلق المجال لدراسات أخرى من هذا النوع، من أجل تراكمها ومن أجل استفادة أكثر، ومن أجل دراسة للممارسة بوعي أكثر وبآليات أكثر نضوجاً أو أكثر ملائمة. فالفئات التي تناولها بالدراسة تحتاج إلى مزيد من التأصيل العلمي والتحديد المعرفي إضافة إلى ضرورة اكتشاف دورها البطيء أو حتى دورها المثبط للعملية الديمقراطية.

مفهـــــوم المجتـمــــــع المـــــــدني

* الوقت: مفهوم المجتمع المدني هو من المفاهيم الرئيسية التي يقوم عليها الكتاب، هو ”يدعو إلى رؤية أكثر ديناميكية إلى الكيفية التي يشكل بها الناس تاريخهم، وبتعبير آخر فإن تاريخ الناس كل الناس في بناء مجتمعاتهم وتجاوز معضلاتها يمثل حالة من حالات تاريخ نشوء وتطور المجتمع المدني في هذه المجتمعات”، وهو بذلك يرفض أن يتبنى مفهوماً محدداً أو نظرياً للمجتمع المدني بعيداً عن الرؤية التي يشكل من خلالها الناس تاريخ مجتمعاتهم، لكنه يعود ليتبنى كما قال مفهوم سعد الدين إبراهيم للمجتمع المدني وهو أنه: مجموعة من المنظمات التطوعية الحرة، أو المستقلة نسبياً، والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع ككل. الدكتور حسن مدن، هل تجد أن مفهوم المجتمع المدني بهذه المراجعة النقدية التي قام بها الدكتور النجار يقربنا أكثر من الطريقة التي يرى من خلالها الناس في مجتمعنا الخليجي (أو البحريني والكويتي) تاريخهم وتاريخ تحولاتهم؟
– مدن: الدكتور باقر في هذا الكتاب ضحية هذه المفاهيم المتعددة للمجتمع المدني، فهو استعرض العديد من التعريفات والمفاهيم، وكما تفضلت بأنه مال بشكل من الأشكال إلى التعريف الذي يصف المجتمع المدني بأنه استقلال الحياة العامة استقلالاً ذاتياً شاملاً بعيداً عن سيطرة الدولة، حتى مع احتواء المجتمع المدني على مجموعات ذات مصالح وأهداف شديدة الاختلاف. أنا شخصياً ميّال لأن ينقل مفهوم المجتمع المدني قدر الإمكان إلى ما يمكن أن نطلق عليه ”البنية الفوقية”، كما فعل غرامشي، أي أن ننظر إليه كفضاء مستقل عن الدولة، وهو أحد مجالات اختبار الصراع بين الدولة وما سواها من مكونات، ليس الصراع بمعناه المبتذل، وإنما بمعنى التجاذب الضروري الحيوي الديناميكي الذي لا بد منه في العلاقة بين الدولة والمجتمع، ومن هذا المجال، أنا أرى علاقة المجتمع المدني بمفهوم المجتمع الحديث أي بفكرة الحداثة، ولا أرى سياقاً للمجتمع المدني خارج فكرة الحداثة، وسبق أن جرى الحديث حول ضرورة التفريق بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني. لأن بعض الأطروحات فيها قدر من الابتذال لمفهوم المجتمع المدني حين تضع كل ما هو خارج الدولة في خانة المجتمع المدني، القبيلة والطائفة وأشكال التعبيرات أو البنى التقليدية السابقة للدولة، والتي تدخل لسبب أو لآخر في صراع مع الدولة أو يستعصي على الدولة أن تخترقها أو تكسب ولاءها، هي توضع أيضاً في خانة المجتمع المدني. في رأيي، أن الدولة تكوين حديث، ربما يكون ذلك مسلمة، فالدولة تكوين متقدم على ما قبله، والمجتمع المدني على صلة بنشوء الدولة، إذن فهو على صلة بمقابل حديث للدولة، وربما الدكتور حاول في الكتاب أن يثبت أنه يتوجب علينا أن نبحث عن تعبيرات أو تجليات خاصة للمجتمع المدني بحيث لا ننساق إلى الفهم الغربي.
– فضل: الدكتور يرفض العلاقة التصارعية ويركز على العلاقة التبادلية بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة.
– مدن: لم ألاحظ ذلك بشكل قاطع، هو دعا إلى الشراكة بينهما، ولكنه تحدث عن مخاطر إقصاء المجتمع المدني، وسطوة الدولة عليه، ولم ينف التجاذب بينهما.
– حسين مرهون: من الممكن أن يستوعب مفهومه للمجتمع المدني تكوينات أو مفاهيم ما قبل حديثة، هو يبدي خصوصية للمجتمع المدني بطريقة أعطتني انطباعاً بأن صياغته للمفهوم من مجمل التعريفات هي صياغة لما هو قائم في الأساس، أنا شعرت بأنه لا يترك أي أفق، هو دقيق جداً عندما يتكلم عن المفهوم الغربي الذي عبر عن المجتمع المدني بأنه مستقل عن الدولة فيضيف هو عليه (قليلاً أو كثيراً)، وهذه الإضافات تعطي دقة لهذه الخصوصية، حتى تراه قد صاغ مفهوما لما هو قائم، بحيث تشعر بأنه لا يوجد أفق آخر، وأن هذا هو الموجود، وليس لنا إلا نسير بفهمنا وفقه.
– مدن: استكمالاً لفكرة مرهون، أنا كنت أتمنى من النجار أن يذهب أبعد في الحسم بين المفاهيم المتعددة التي درجها للمجتمع المدني، هو تحدث عن عدة تطورات، عدة رؤى، وعدة مواقف للمجتمع المدني، لكنه لم يبين انحيازه الواضح إلى أي مفهوم يتبناه وينطلق منه، وأعتقد بأن هذا اللبس انسحب على بعض المعالجات في الفصول اللاحقة، أعتقد بأن بعض البنى وبعض الهياكل وبعض الفئات الاجتماعية التي تحدث عنها في الكتاب تنطوي على قدر من الحيرة في مكان تبويبها وتصنيفها، أين تقف وأين يضعها الدكتور في مفهومه للمجتمع المدني؟ مثلا يتحدث الدكتور عن أن البعض يضع حتى جمعيات الحفاظ على رقصة العرضة والتراث الشعبي في تصنيف المجتمع المدني وهو يشير إلى ذلك في سياق نقدي، حيث شعرت بأنه لا يتبنى هذا المفهوم، لكنه لم يقطع بذلك. كانت هناك حاجة إلى الإشارة بأن الموضوع تحكمه أكثر من ثنائية، هناك ثنائية الدولة والمجتمع المدني من جهة وهي إلى حد مطلق ثنائية حديثة، وهناك ثنائيات أخرى في مجمتعات الخليج كثنائية الدولة والطائفة، ثنائية الدولة والعشيرة، ثنائية الدولة والقبيلة، وغيرها، وهي جميعاً حاضرة بقوة ثنائية المجتمع المدني والدولة، وقد يكون ذلك مطلب السياق المختلف لكتاب القبيلة والدولة لفؤاد إسحاق الخوري.
* الوقت: ضمن هذه الحيرة، مفاهيم مثل المجالس، المجالس التي فيها بقايا من القبيلة، وبقايا من العائلة، والمآتم التي اعتبرتها منيرة فخرو من مؤسسات المجتمع المدني في دراستها المنشورة في (عالم الفكر) في حين أن الدكتور كان يعتبرها من شكل المؤسسات التي تنتمي إلى الطائفة.
– فضل: أعتقد بأن هذه إشكالية تتعلق بالمفهوم، ومقاربة هذا المفهوم على مستوى الواقع، وكما ذكر مدن أننا يمكن أن نكون أقرب إلى المجتمع الأهلي من المجتمع المدني، وأنا أعتقد بأن ذلك يجب أن يخضع لمعايير، وأعتقد بأن كل من يكتب ويبحث في هذه المؤسسات تعترضه هذه الإشكالية، لأن المفهوم أصلا لم يخلق في هذه المجتمعات وهو مفهوم مستورد من الخارج.

عرض كتاب للديمقراطيةالعصـــية فـي الخليج العـربي

منى عباس فضل:
هل يصح القول إن الديمقراطية ما تزال عصية على التحقق في المجتمعات الخليجية؟
ربما تكون الإجابة ”بنعم أو لا” هي أسهل السبل للوصول إلى الخلاصة أعلاه، بيد ان الكتاب الذي صدر للباحث وأستاذ علم الاجتماع البحريني ”د.باقر النجار”، لا يكتفي بابتسار هذه الحقيقة أو تلك في إجابة مختصرة، لاسيما وهو يقوم بعملية الكشف والتحقق التي نشرها في كتابه الأخير، المعنون بـ ”الديمقراطية العصية في الخليج العربي”. صدرت الطبعة الأولى منه عن ”دار الساقي” بيروت في ,2008 وهو يعد استكمالا لما سبقه من كتاب بعنوان ”الحركات الدينية في الخليج العربي” نشرته نفس الدار في .2007
الكتاب في مجمله يتضمن عرضاً مفصلاً للمجتمع الخليجي، يبحث فيها طبيعة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني الخليجية. يستند على دراسة ميدانية اعتمدت البيانات والجداول الإحصائية التي تتناول الهيئات ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والدينية وميادين نشاطها ووسائل تمويلها وأساليب عملها، إضافة إلى رصده لما طرأ عليها بعد أحداث سبتمبر في ضوء مظاهر العولمة، وهو في هذا الإطار يستشرف مستقبل الإصلاح السياسي. ويشير في المقدمة إلى أن المتغيرات الظرفية دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن قدرة الأنظمة العربية على التكيف مع الظروف والمتغيرات الدولية والمحلية العاتية تفوق الخيال، إلا إن المسألة المطروحة في الكثير من الكتابات الغربية وبعض الكتابات العربية، هي أن هناك عداءً متأصلاً في المجتمعات العربية نحو الحداثة والديمقراطية. وهناك من يذهب من بعض الكتاب الغربيين إلى أبعد من ذلك في قولهم: ”ان التكوينات الاجتماعية والثقافية والروحية للمجتمعات العربية والإسلامية تحمل ”مكونات جوهرية”essential elements components لا تعمل مع الوقت لمصلحة نشأة أو تبني مؤسسات وتطبيقات تؤكد مبدأ سيادة القانون، أو الأخذ بقيم حقوق الإنسان والمواطنة والعدالة الاجتماعية واقتصاديات السوق، يضاف إليها ما يعتقدونه بأن الدين الإسلامي يتميز عن الأديان الأخرى في مقاومته لمسألة الديمقراطية والمجتمع المدني، وهي نتيجة لذلك – أي المجتمعات العربية – رافضة لأي شكل من أشكال الحياة العالمية أو العصرية غير المرتبطة بالخطاب الديني.
في هذا الشأن يعتقد المؤلف، أن المسألة أكبر وأكثر تعقيداً من التبسيط المخل المطروح أعلاه، والذي يتسم باطنه بالعداء المبطن والازدراء للآخر لأسباب ثقافية أو دينية، فطبيعة الدولة العربية وهيمنتها المطلقة على المجتمع والحكم على السواء، إضافة إلى طبيعة علاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، لم تعطل إمكانية إحداث تغييرات وإصلاحات سياسية واقتصادية أساسية في المنطقة العربية فحسب، وإنما دفعت الأمور نحو تعميق الفجوة بين الدولة والنخب السياسية من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى، إلا في القليل من الحالات العربية النادرة والضئيلة التأثير في محيطها العربي العام. فالدولة العربية، أو جل حالاتها على الأقل، قلما تكون وافية بوعودها، وإن فعلت فإنها إما أن تأتي بأقل القليل مما وعدت به، أو تفرغ فعلها من محتواه وجوهره الحقيقي. مضيفاً، أن البعض يرى بأن التحولات الكونية الهائلة في مجالات الدولة والسوق هي تحولات مفرغة من مضامينها وأهدافها السياسية والثقافية، بيد إن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والمواطنة والديمقراطية برأي المؤلف، هي من القيم الكونية التي تمثل ركنا أساسيا في التحولات الكونية، وهي تمثل شرط من شروط قيام المجتمع المدني، وبالتالي فأن سيادة قيمها مع قيم التسامح والقبول بالآخر بكل معانيها وممارساتها تمثل الوعاء الحافظ لأي تجربة ديمقراطية من السقوط والانهيار.
يحدث ذلك إلى جانب الحضور المسبق لثقافة المجتمع المدني، مضافا إليهم قدرة المجتمع على تقويم وليس تقييد ممارستها، وصبر الناس والدولة عليها وحتى إن جلبت إليهم بعض الألم أو الضيق أو تقلص المصالح، فكل ذلك يشكل الضامن الآخر لاستمرار التجربة وتلافي زوالها أو تعرضها لهبات التراجع والتقهقر والانهيار، على اعتبار قناعته بتأكيد حقيقة أن المجتمع المدني ليس بديلاً من الدولة أو مطيحاً بها فالعلاقة بينهما يجب أن تكون علاقة تعاون أكثر منها علاقة صراع، وهي علاقة تبادلية أكثر من كونها هيمنة الأولى ”الأقوى” على الآخر ”التابع” و”الأضعف”.
مفهوم المجتمع المدني
عند مقاربة مفهوم ومصطلح المجتمع المدني، تمحورت خلاصته حول رؤية ”أماني قنديل وسعد الدين إبراهيم”، من أن المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة أو المستقلة نسبياً، والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع كلل Collective Benefit، وهي في ذلك ملزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والإدارة السلمية للتنوع والخلاف. وبالتالي فأن المجتمع المدني عبارة عن تجمعات ذات هياكــــــــــــــل تنظيمــيــــــــــة Organization وهي تجمعات/منظمات لا تهدف إلى تحقيق الربح المادي المباشر للفرد المنتمي إليها أو الجماعة المشكلة لها. وأعضاءها هم كذلك بفعل إرادتهم الحرة وخيارهم الشخصي لا بفعل انتماءاتهم القبلية أو الإثنية: العرقية والدينية والمذهبية. ومن ناحية متصلة تعمل في الفضاء القائم بين الدولة والعائلة، وهي لهذا لا تمارس العمل السياسي كالأحزاب والمنظمات السياسية، إلا أن السياسة تتقاطع مع بعض أنشطتها، كما لا تأتي على وتيرة أو نسق موحد، إنما تختلف من مجتمع لآخر ومن سياق زمني لآخر، بيد إن جوهر تشكيلها ونشاطها اللاربحي والمجتمعي هو الباعث على تشكلها.
المجتمع والدولة
في الفصل الثاني، جاء بحثه في مسألة المجتمع والدولة، والتحولات غير المكتملة، فخلص إلى القول إن المجتمعات الخليجية برغم حجم التغيرات والتحولات التي حدثت على بناءها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تبقى مجتمعات انتقالية، حملت أنساقها الاجتماعية قدراً من التغير والاستمرار والمقاومة، فأبنيتها السياسية والاجتماعية تبدو في ظاهرها حداثية.
إلا أنها تبقى في أدائها لوظائفها محكومة بجذورها التقليدية المقاومة للتغير، رغم ضخامة عوامل التغير والضغوط التي تخضع لها من قوى العولمة وآلياتها.
ولأن كانت أبنيتها السياسية الرسمية والأهلية تبدو حديثة في ظاهرها، إلا ان القوة السياسية الممارسة من خلالها غير مقيدة بمؤسسات رقابية قادرة على أداء عملها كما هو في المجتمعات الحديثة.
والجماعات القبلية والمذهبية تتنافس فيها أو من خـــلالها إلى حد العراك للحصول على السلطة والنفوذ والمكانــة.
في مثل هذه الظروف فإن هذه التضامنيات تعمل على نشر الفساد والسعي وراء المصالح الخاصة.
بدايات العمل الأهلي وتجار الخليج
يستعرض في الفصل الثالث، نشأة المنظمات الأهلية الخليجية منذ عشرينات وستينات القرن الماضي، من خلال نشأة الأندية والجمعيات الأدبية والخيرية. أما في الفصل الرابع، فتطرق إلى تجار الخليج وكونهم جماعة لم تستثمر قوتها، ورأى أن المجتمع التجاري بحكم امتلاكه للأسباب الاقتصادية كان على الدوام مالكاً ولو جزء من القوة السياسية وإن انكمشت أو تناقصت بفعل اندماجه في مؤسسة الدولة، في ظل تدفق ريوع الاقتصاد النفطي. ومؤسسات المجتمع التجاري مثلت المؤسسات الأهلية الوحيدة التي سمح لها بالتشكل والنشاط حيث أنشئت في السعودية العام 1944 وقطر 1963 ودبي في ,1965 حيث يبلغ عدد الغرف التجارية الخليجية حوالي 14 غرفة تجارية. كما إنها بصورة عامة لم تتوفر على أي إمكانية لتشكيل القوة الضاغطة ذات الرؤى السياسية. وتتميز الحالة الكويتية عن الحالة الخليجية الأخرى كما يوضح المؤلف، بكون طبقتها التجارية وتحديداً التقليدية منها، قد لعبت أدواراً تنويرية على الصعيد السياسي والثقافي، إلا أن قدرتها الضغطية على مؤسسة الحكم لم تعد بذات القوة والتأثير كما في سابق عهدها قبل النفط. وفي هذا المجال، هناك فئتان يتشكل منهما المجتمع التجاري، تقليدية تشكل الجماعة.
المنظمات والقوى الثقافية
يفرد الكتاب مساحة مهمة في الفصل الخامس، لمناقشة واقع المنظمات والقوى الثقافية في المواجهة بين المثقف والسلطة، فيذكر أن بعض المنظمات الثقافية في الخليج، خضعت للريبة والشك من قبل المؤسسة الدينية، أو للحد من نشاطها الثقافي أو الحل القسري أو تغيير مجالس إداراتها في بعض الأحيان، وذلك أن النشاط الثقافي لهذه المؤسسات بفعل تمثله وتبنيه لقضايا المجتمع وربما قضايا المجتمع العربي، شكل محور الصراع مع مؤسسة الدولة، ومع بعض المؤسسات التقليدية الأخرى، وفي طليعتها المؤسسة الدينية والقبلية، وبذلك كان المثقفون أكثر الفئات الخليجية تمثلاً لإشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة، التي تتجاوز حالاتها أحد أمرين أما الاحتواء أو الرفض.
المنظمات المهنية في الخليج
وتحت عنوان المنظمات المهنية في الخليج في الفصل السادس وضح المؤلف واقع تلك المنظمات وتشكل الطبقة الوسطى وتملكها القوة وعوزها للإدارة والتنظيم. واعترف بأن هذه الفئة/الطبقة/ أو الجماعة المهنية كثيرة العدد وفي تزايد مستمر، وهي على غرار الطبقة الوسطى موضع منازعات إثنية وقبلية ومذهبية وعرقية، وقد يثير أفرادها بعضا من مشاكلهم المشتركة المعيشية والمهنية، إلا انه نوه إلى أن وحدتهم من السهل جداً شقها بمعطيات ذاتية وقبلية ومذهبية ضاربة بجذورها في ذات الفرد وشبكة علاقاته الاجتماعية.
المنظمات النسوية
في الفصل السابع، يرسم خارطة المنظمات النسوية كما يروق له تسميتها، معتمداً على تحليل واقعها من حيث النشأة والمكون الاجتماعي، حيث رأى أن الدعوة لإنشاء المنظمات النسوية قد خرجت من الكويت، إلا ان بدايتها كانت في البحرين، بتأسيس ”نادي السيدات” الذي لم يستمر إلا بضعة شهور، لتتأسس بعدها جمعية نهضة فتاة البحرين، التي وجد أنها مثلت طليعة الجمعيات النسائية المطالبة بالحقوق السياسية للمرأة في مطلع السبعينات، وقاربت في أنشطتها الجانب الرعائي والاستشارات الأسرية وتبنت مشروع الاتحاد النسائي البحريني والدعوة لإصدار قانون للأحوال الشخصية. تطرق أيضا إلى جمعية رعاية الطفولة والأمومة التي أتاحت لها ظروفها التمييز بنشاط رعائي خدم قطاعات اجتماعية وسكانية مختلفة، ثم إلى جمعية أوال النسائية التي مثلت شرائح من الطبقة الوسطى المتأثرة بالاتجاهات الاجتماعية والفكرية والسياسية والليبرالية، وعضواتها يماثلن الجيل الجديد من النسوة الفاعلات في النهضة، حيث مثلت هاتان الجمعيتان حسب تحليله الخط التحرري من حيث الأهداف السياسية والأهداف الخاصة بشؤون المرأة. في السياق تطرق إلى تفاصيل أخرى تتعلق بتشكل الجمعيات النسائية الإسلامية ولجانها ممن تأثرن بالخطاب الديني بشقيه، وعلى نفس القدر من المنهجية تناول واقع المنظمات النسوية في الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وعمان، بيد إنه وجد أن بعض الدول الخليجية مثل سلطنة عمان والإمارات تعد حديثة العهد بالعمل النسائي.
المنظمات الخيرية
في الفصل الثامن من الكتاب يتناول المنظمات الخيرية التي يعتقد أن عملها خيري وإنساني محض في الكثير من جوانبه، إلا أن بعضه ينطوي على أهداف ومرام سياسية تتمثل في مظاهر منها بالحضور السياسي المحلي للجماعات الداعمة والقائمة بهذا العمل الخيري، أو على صعيد الحضور الخارجي في دول العوز الاقتصادي العربية منها والإسلامية، أو في دعم التوجه المناهض للوجود الأجنبي، كما يوجد تداخل بين العمل الخيري والممارسات الوعظية وسيطرة جماعات الإسلام السياسي على الأعمال الخيرية.
فاعلية المجتمع المدني وإشكالية علاقته بالدولة
في الفصل التاسع يتناول واقع المنظمات الأهلية وإشكالات علاقتها بالدولة وبالمجتمع. توصل إلى أن منظمات المجتمع المدني قد حققت قدراً من التطور في أداء خدماتها، إلا انها تعاني من ضعف الإمكانات المادية ومن التفكير التقليدي الذي يديرها والهياكل الإدارية الضعيفة، وعجزها عن تحقيق الأهداف التي تسعى إليها.

الأب الجامع والولي القاهر

كان الصديق حسين خلف قد مرر لي مقالة عالم النفس اللبناني عدنان حب الله، (من دون أب: المجتمع اللبناني في محنته الوجودية) وهي المقالة الأخيرة له التي نشرها في جريدة الحياة قبل وفاته يوم السبت 22 أغسطس/ آب (1935-2009). وفيها يرجع كثرة الانقسامات اللبنانية في شكل طوائف متحاربة وفشل قدرة الاجتماع اللبناني على تكوين دولة جامعة، إلى غياب الأب الجامع. قال لي الصديق خلف، تذكرت قتلك للآباء، ودعوتك للتخلص منهم، حتى كأنك صرت ابناً غير شرعي. كان يحتجّ بمقالة حب الله وبمكانته العلمية في تأكيد فكرة الحاجة إلى الأب.
قلت له: أنت تعرف أني مازلت موجوعاً بفكرة غياب الأب بالمعنى الخاص، لكن لوجهة نظر حب الله مقصداً، يحتاج تبيانه إلى مقالة تفيه حقه.
في كتاب (حب الله) الأخير الصادر2008 ”إشكاليات المجتمع العربي” الذي هو عبارة عن حوار مع عالم النفس مصطفى صفوان يقول أدونيس في مقدمة الكتاب ”الإنسان يولد في الثقافة الإسلامية كأنه نقطة أو حرف أو كلمة في كتاب هو الأمة”. النقطة تظل دوماً في حاجة إلى شيء يهبها معناها أو تبقى من غير معنى، هي بحاجة إلى أب تغيب فيه، وليس أماً تخرج منها. الأب هو رمز السلطة والحضور الطاغي والقهر، لكن (حب الله) يستخدمه في مقاله الأخير بمعنى الإطار الجامع لا القاهر، ولنوضح ذلك بالاستعانة بآباء مؤسسي الديمقراطيات لا الديكتاتوريات.
في كتابه (جرأة الأمل) يعود (أوباما) باستمرار إلى الآباء الاثني عشر المؤسسين للديمقراطية الأميركية بعد التحرر من الاستعمار الإنجليزي. وهو لا يمل من تكرار دعوته إلى تأكيد أهمية الرجوع إلى مقاصد الآباء من هذه الديمقراطية، وضرورة استيعابها واستلهامها لتجاوز أزمات الحاضر وتصحيح أخطاء السياسات التي سارت ضد مقاصدها، خصوصاً سياسات اليمين المحافظ، وكما تجلت في أسوئها في عهد جورج بوش، ”وهكذا حين نتجادل بحدة حول الإجهاض أو حرق العلم، نلجأ إلى سلطة عليا، متمثلة في الآباء المؤسسين ومصدقي الدستور، لإرشادنا وتوجيهنا”[1].
إنّ العودة إلى هؤلاء الآباء ليست نكوصاً إلى الماضي، بل فتحاً للمستقبل، والمثال على ذلك انتخاب (أوباما) فلو كانت هذه الأبوة نكوصاً لما فتحت المستقبل للسود ليتولوا قيادة الأمة التي حلم بها هؤلاء الآباء، من هنا يمكننا القول إن ولادة ابن أسود لرئاسة أميركا، هي ولادة مدينة في شرعيتها إلى صلب هذه الأبوة المؤسسة. وهذا ما يعطي لهذه الولادة إجماعاً وطنياً يحافظ على وحدة الولايات، ويمنع حدوث انقسامات وطنية تهدد البلد بالانفصالات. تسمح هذه الأبوة باختلافات الأبناء ضمن إطارها، وتحميهم من الانقسام إلى جماعات يتيمة لا أبوة لها.
يبلغ إعجاب (أوباما) بإنجاز هذه الأبوة حد تشبيه عملهم بالوحي الإلهي ”أتساءل دوماً: هل أدرك الآباء المؤسسون آنذاك مدى وحجم الانجاز الذي حققوه؟ لم يكتفوا بصياغة الدستور في أعقاب ثورة؛ بل كتبوا الأوراق الفيدرالية لدعمه، وحافظوا عليها حتى تصديقها، وعدلوها بإعلان حقوق المواطنين. أنجزوا ذلك كله في بحر سنوات. حين نقرأ هذه الوثائق تبدو صحيحة وصائبة إلى حد غير معقول بحيث يسهل الاعتقاد بأنها نتيجة للقانون الطبيعي إن لم يكن وحياً إلهياً”[2].
نحن لا نشبه عمل (أبوتنا) بالوحي، بل نتعبره وحياً، فنحن نرجع إلى أبانا الذي في السماء أو من يمثله حد التطابق في الأرض، فنغيب كنقطة في سمائه وولايته، ولا يكون لنا وجود في الأرض. بمعنى أن الآباء الذين نرجع نحن لهم، نعتبرهم آلهة أو ممثلين للآلهة حد التطابق معها، وفي أحسن الأحوال قريبين منها، وبدل أن نختلف إليهم، نختلف بهم، ومازالت صراعاتنا حول أبوة (أول الأمة) تعيد إنتاج نفسها.
نحن بحاجة إلى أب جامع يعددنا، لكن لسنا بحاجة إلى أب قاهر يصهرنا في واحد، بحاجة إلى أب نختلف إليه، لا أب نختلف به ونحترب باسمه. أب يتيح لنا أن نتأوله تأولاً حديثاً وجديداً، ويهبنا في كل تأويل حياة جديدة، لا أب يهبنا حياة واحدة غير قابلة للتصريف، كما هو الأمر معنا، في رغبتنا في استعادة أبوة دولة الخلافة أو دولة الإمامة أو دولة النبي أو دولة أول الأمة. لقد أحسن (أوباما) التصرف في أبوة أميركا، فجدد حياتها السياسية بشعاره التغيير، في حين نحن لا نرفع غير شعار التطابق مع الأب.
الأب متى صار سلطة مفترضة الطاعة، صار الأبناء يتوقون إلى الخروج عليه، وقتله، فيبدأ الانشقاق والانقسام، فتكون الجماعات والطوائف. من هنا، لسنا بحاجة إلى ولي أمر يقهرنا بسلطته، فالسلطة تفترض المعارضة وهي لا تشكل إجماعا، في حين وظيفة الأب تحقيق الجامع الوطني. لذلك الأب ينبغي أن ينأى به عن السلطة، ويبقى في منطقة إطار المرجعية التي نعود إليها.
في كتابه (روح الدستور) يستعيد المحامي والإعلامي الكويتي محمد الجاسم روح الآباء المؤسسين للكويت، يستعيدهم آباءً، يمكن استلهام روحهم التي ترجع إلى المجتمع الكويتي القديم الذي كان مجموعة من العائلات المهاجرة تراضت فيما بينها على تنصيب أو انتخاب أحد أفرادها ليكون حاكماً. وقع الاختيار على أحد أفراد عائلة آل صباح. في البداية، لم تكن الأمور تبلورت أن يكون الحكم وراثياً في هذه العائلة. كانت السلطة تعتمد على روح التشاور والاتفاق والتفويض من قبل جماعات العائلات المهاجرة التي شكلت المجتمع القديم، من دون استفراد ومن دون قهر ومن دون غلبة. وقد استلهم هذا الروح أب الدستور الكويتي الحديث عبدالله السالم، فأصبح بحق أبا للديمقراطية الكويتية الحديثة ومرجعاً يعاد إليه لتصحيح مساراتها وبعث حياتها كلما ضعفت روحها.
هكذا، نحن بحاجة إلى أب يظللنا، وليس إلى أب يقهرنا. وعلى هذا النحو يمكنني أن أقول لصديقي حسين خلف: أنا خرجت على الأبوة القاهرة ولم أعد ابناً لولاية مفترضة الطاعة، لكني ابناً لآباء حضارتي التي تصلني بالحضارات الأخرى، وابناً لآباء الحضارات الأخرى التي تصلني بتراث حضارتي، ابناً لسقراط، أفلاطون، أرسطو، ديوجين، ابن عربي، التوحيدي، ابن حزم، أخوان الصفاء، علي، الجاحظ، وإلخ.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11755

هوامش
[1]،[2] باراك أوباما، جرأة الأمل، ص 95,94

مدونة الباحث د.علي الديري