حوار مع سليمان زغيدور(2-2)

التقته «الوقت» على هامش ندوة في مركز الشيخ إبراهيم.. سليمان زغيدور: «2-2»

إسلام الأوروبيين عاطفي روحاني.. وقضية حجاب وعمائم عند المسلمين المهاجرين

 

”حارس الليل لكن ليس حارس القبيلة”. هكذا يلخص الصحافي الفرنسي من أصل جزائري سليمان زغيدور موقفه من مهنة الصحافي اليوم بعد ثلاثين عاماً من العمل في الصحافة. ويقول ”إنني أعمل في الصحافة لأنني أحب هذه المهنة وليس لأنها شيء خارق”. ويجادل زغيدور أن الصحافة اليوم تواجه تهديداً بفعل ثورة المعلوماتية والإنترنت أكثر من ذاك الذي كانت تواجهه على الدوام من طرف الديكتاتوريات وأجهزة الرقابة. كما ينتقد التعريفات التي تحصر وظيفة الصحافي في عملية نقل المعلومات.

قال ”تلك مهمة يمكن أن تؤديها وكالات الأنباء لكن مهمة الصحافي شيء آخر تماماً”. وأضاف موضحاً عبر الاستناد إلى تجربته في هذا المجال ”أنتمي إلى مدرسة ترى إمكان إضافة إضاءات إنسانية وعاطفية على الخبر شريطة الموضوعية”. الأمر الذي يعتقد أنه يشكل نقطة الافتراق مع الصحافة المعاصرة التي تغلب عليه شروطاً معيارية. مثل معظم جيله، لم يدرس الصحافة لكنه عرفها ”في المخبزة” كما يعبر مستفيداً من حكمة فرنسية. ”الوقت” التقته على هامش زيارته إلى البحرين في فبراير/ شباط الماضي للمشاركة في ندوة عن ”المسلمون في أوروبا” بمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. فيما يلي الحلقة الثانية من الحوار معه:

* ما الذي تعلمته من تجربة التغطية الصحافية لثلاث مناطق من العالم بدءاً من أميركا اللاتينية وصولاً إلى الشرق الأوسط، روسيا وآسيا الوسطى. الحوادث الساخنة، المشكلات المستعصية الخ؟

– في الثمانينات كانت بلدان أميركا اللاتينية عبارة عن ديكتاتوريات قتل وذبح. كانت عنفاً رهيباً يجتاح المدن والقرى. لكن الآن الوضع تغير كثيراً. في المقابل، فإن الشرق الأوسط ما يزال غارقاً في الفقر والظلام الخارق. ورغم الثروات الطبيعية التي يتوفر عليها، الغاز والبترول، إلا أنه ما يزال يحتضن بين ظهرانيه أكبر نسبة أمية في العالم. أكثر حتى من قارة أفريقيا السوداء. في حين تحث التعاليم القرآنية على القراءة والكتابة. ”اقرأ” كانت أول كلمة نزلت من القرآن بينما نجد اليوم أن نحو 65% من العرب المسلمين لا يقرأون.

* هل وجدت ثمة شبهاً بين مشكلات العوالم الأخرى التي قمت بتغطيتها واحتككت بثقافتها وعايشتها وتلك المشكلات الموجودة في الشرق الأوسط والعالم العربي؟

– هناك أوضاع في روسيا تشبه إلى حد كبير الأوضاع في العالم العربي. فروسيا لديها ثروات بشرية وعلمية رهيبة. ولديها ثروات معدنية وطبيعية أيضاً. لكن مشكلتها تكمن في النخبة السياسية المهيمنة. فالقوة تلعب دوراً على الصعيد الاجتماعي أكثر من الحوار. في حين يبدو المواطن معزولاً تماماً عن الدولة. فهي تحتقره وهو يخاف منها. ثمة صراع بين الدولة والمجتمع، بين النخبة المهيمنة وعامة الشعب. وهو الأمر الذي يكاد يسم معظم الأوضاع السائدة في العالم العربي.

* كيف تنظر إلى بعض الأدبيات التي يتم ترويجها، في الإعلام خصوصاً، والتي تعطي المشكلات الموجودة في العالم العربي طابعاً بنيوياً. وأنها تتعلق بفكرة الاستبداد الشرقي القديم وطبيعة الأعراف الثقافية الموجودة هنا، ما يعني أنها مشكلات غير زمنية وتكاد تتسم بالثبات. هل توافق هذا الرأي؟

– أبداً، لا أتفق مع هذه النظرية. فكأنما الخلل عائد إلى عنصر بيولوجي، جين معين أو خلايا جينية هي التي صنعت الديكتاتوريات. لا، أنا أختلف مع ذلك أننا إذا ما سلمنا بهذا الرأي علينا أن نستسلم. بمعنى أن علينا الوقوف مكتوفي الأيدي حيال الأوضاع السائدة. بالنسبة لي، المجتمع كائناً ما كان هذا المجتمع، عربياً أو غيره، ليس كياناً طبيعياً. إنما هو تشكيلة ثقافية يتم صناعتها، منذ لحظة كون المرء فرداً في البيت. ليس ثمة قدر خاص يجعل بعض الشعوب تعيش الحرية والديمقراطية، وقدر آخر يجعل شعوباً أخرى تعيش الظلم والاستبداد. المسألة تتعلق بالتكوين.

* من خلال وجودك في فرنسا واهتمامك بشأن الأوروبيين المسلمين، كيف تجد الصراع الثقافي بينهم وأولئك المسلمين من أصول غير أوروبية، فضلاً عن غير المسلمين. إلى أي درجة يشكل هذا الصراع أزمة حقيقية عند الفرنسيين وعند الأوربيين عموماً؟

– قضايا الهوية وصراع الشرق والغرب هي قضايا خاصة بالنُخب. هناك مدارس عدة مرتبطة بحركة الاستشراق في فرنسا. هناك المدرسة التي تعتقد أن الضفتين الشمالية والشرقية لحوض البحر الأبيض المتوسط تشكلان حضارة واحدة بثلاثة أديان. وهناك المدرسة التي تقول إن هناك حاجزاً بين جنوب وشرق المتوسط والضفة الشمالية، فضلاً عن الحاجز بين الإسلام والمسيحية. فإذن ثمة مدارس عدة في النظر إلى هذا الموضوع، وليس ثمة موقف واحد سائد. طبعاً، في الخطاب الصحافي تجد أن الأطروحة السائدة تلك التي تضفي أبعاداً صراعية على الأمر. ولكن ثمة معارضة واسعة لخذخ الأطروحة. برأيي، في المجتمعات العربية يوجد الصراع نفسه. هناك من يخاف من الغرب ويعتبره معسكراً يجهز للحرب الصليبية الثامنة أو التاسعة، مدفوعاً بحقده على الإسلام والرغبة في تدميره. ويمكن إدراج قضية الكاريكاتير المسيء للرسول في إطار المعضد لهذا النوع من الفهم. وهناك في المقابل وجهة النظر الأخرى. لكن كما أسلفت، فإن تلك مدارس ترتبط أولاً وقبل كل شيء بأقليات نخبوية.

* هل تشكل هاتان المدرستان نوعاً من التوتر على صعيد الثقافة الأوروبية؟

– أي مجتمع يوجد به مستوى من الحيوية لابد وأن يحيا نوعاً من التوتر. فالتقدم والديموقراطية لا يحولان من دون ذلك. الديموقراطية هي أن يأتي هذا التوتر في إطار سليم مانعاً من تطوره وتحوله إلى عنف. التوتر هو سمة حياة المجتمعات بيد أن الأهم أن تكون هناك قوانين ودولة تضبطه في حدود. بحيث تمنع خروجه من إطار الحوار والدخول في العنف.

* هل يمكن إدراج العنف الذي شهدناه قبل عامين في ضواحي باريس ضمن هذا النوع من التوتر؟

– هذا التوتر اجتماعي، في كل الضواحي التي لا يوجد بها مسلمون تجد المشكلات ذاتها. فطوكيو مثلا لا يوجد فيها أي مسلم، ولكنك تجد الشيء نفسه. مأساة الضواحي في معظم دول العالم هي مأساة كونية. في البرازيل أو كولومبيا أو نيويورك هي ذاتها. هم لا يتوترون بسبب كونهم مسلمين إنما بسبب كونهم يعيشون في ظروف اقتصادية معينة. ولو كانوا كلهم مسيحيين لكانت المشكلة نفسها.

* أيضاً، كيف تنظر إلى بعض القضايا التي تصلنا مضخمة، مثل قضية منع الحجاب في المدارس الفرنسية. هل هي جزء من توتر ديموقراطي طبيعي في المجتمع الفرنسي أم ماذا؟

– قضية الحجاب ليست موجودة فقط في فرنسا بل في البلدان الإسلامية أيضاً. ففي تركيا دار جدل رهيب عن الحجاب منذ مؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك ( 1881 – 8391 ). وفي تونس أيضا موجودة قضية الحجاب. بالنسبة إلينا في فرنسا يمكنني أن أشير إلى مسألة مهمة. ثمة أقليتان مسلمتان: أقلية مسلمة لكن علمانية، وهذه ليست لديها أية مشكلات. وأقلية أخرى مسلمة لكن محافظة. هؤلاء هم من أخذ قضية الحجاب وقاموا بتضخيمها من أجل اختبار قوتهم في المجتمع. في المقابل وجد العلمانيون المتزمتون في الأمر اختباراً لقوتهم هم الآخرون أمام طموحات الجمعيات الدينية، سواء أكانت إسلامية أم غير إسلامية. وهكذا جرى الصراع بين المحافظين على الجبهتين، الإسلامية والعلمانية.

* نعود إلى اهتمامك الشخصي بالأوروبيين المسلمين. عادة ما نجد اهتمام الباحثين ينصب على المسلمين المهاجرين في حين أتى اهتمامك على العكس المسلمين من أصول أوروبية. ما الذي دفعك إلى هذا النوع من الاهتمام؟

– أتى الاهتمام من طبيعة تجاهل المسلمين العرب في خطابهم للمسلمين الأوروبيين وتركيزهم فقط على المسلمين المهاجرين. في حين يعيش في أوروبا اليوم مسلمون تمتد جذورهم إلى خمسة قرون خلت مثل الألبان والبوسنيين والبلغار. إن هذا التجاهل يذكرني بموقف المسلمين آنذاك بالمسلمين الذين فضلوا البقاء في أسبانيا تحت سيطرة المسيحيين بعد انهيار دولة الخلافة. فقد وصفوا آنذاك بـ ”المسلمين المدجنين”!! ولا أدري ما إذا كان الموقف الحالي نوعاً من الاستعادة في اللاشعور لهذا الموقف. ثم أن هناك، وهذا عامل ثان عزز من طبيعة اهتمامي، إسلاماً أوروبياً مختلفاً – نحو 21 مليون مسلم من أصول أوروبية في حين يصل تعداد المسلمين المهاجرين إلى 51 مليون نسمة -. تماماً كما يوجد إسلام تركي مختلف وإسلام عربي وإسلام أفريقي. لكن ميزة هذا الإسلام الأوروبي هو قدرته على الاندماج في أجواء أوروبية علمانية لكن من دون أن يفقد ضميره أو رابطته مع تراثه.

* لكن ألا يمكن أن يضعك هذا الاهتمام في إطار التصنيف تبعاً لانتمائك العربي والإسلامي. الأمر الذي يجعلك تدور في دائرة ضيقة. خصوصاً في بلد ذي تقاليد علمانية عريقة مثل فرنسا؟

– أنا لا أكتب أو أفكر انطلاقاً من كوني عربياً أو مسلماً أو فرنسياً من أصل مسلم أو أصل عربي أو أو. إنما أكتب من منطلق كوني متحرراً من كل هذه الروابط. ذلك أنني أعد هذه الروابط وتلك التي من نفس الجنس قضايا فردية تهمني أنا. وفي الكتابة أحاول التحرر من سلطة القضايا الفردية لصالح الاستقلالية. إن ذلك هو الذي يمكن أن يجعلني نزيهاً وموضوعياً في مهنة تتطلب ذلك إلى حد بعيد.

* هل تشعر أن هذا الاستقلال يُنظر إليه بهذا الشكل من قِبل القراء المسلمين أم أن هؤلاء يصنفونك أيضاً؟

– من الأشياء التي فرحت بها في أثناء ممارسة مهنتي كصحافي، أو عبر إلقاء آلاف المحاضرات في أوروبا، فضلاً عن تلقي الكتب التي وضعتها، أنني لم أجد أناساً جديين يقرأون الأفكار التي أطرحها من خلفية كوني عربياً أو مسلماً. على الأقل، لم أشعر في لحظة أن هناك من ينظر إلى الأمور من هذه الزاوية.

* لماذا تعتمد على الريبورتاج الصحافي في حين تبدو مقلاً جداً في الإطلالة الصحفية على مستوى أعمدة الرأي؟

– نوعان من الناس: الناس الذين يحاولون أن يغيروا العالم، والناس الذين يحاولون أن يفهموه. أنا من الناس الذين يحاولون أن يفهموا العالم. لكي تغير العالم لا بد أن تكون لديك مواقف قاطعة وإلا فلن تستطيع أن تفعل شيئا. أنا لا يوجد لديّ هذا الشيء.

* كيف يختلف الإسلام الأوروبي عن إسلام المهاجرين؟

– أولاً، هم في معظمهم مسلمون على المذهب الحنفي في حين معظم المسلمين المهاجرين، المغاربة خصوصاً، هم على المذهب المالكي. وإن يكن بعض المسلمين المهاجرين، الأتراك الألمان مثلاً، حنفيين، لكنهم أقلية. ثانياً، إسلامهم عاطفي روحاني أكثر من كونه إسلاماً يتعلق بالمظاهر، إطالة الذقن أو لبس الحجاب والعمامة إلخ الخ. مثلاً في روسيا، تجد مطعم ماكدونالدز قبالة أكبر الجوامع الإسلامية في موسكو. وتجد المرأة الروسية تحمل قطعة الشال في حقيبتها. تضعها على رأسها ما إن تدخل إلى الجامع، وحال خروجها منه تقوم بنزعها وإعادتها إلى الحقيبة. ثم تعود تستأنف العمل بشكل طبيعي، حالها حال النساء الروسيات الأخريات. من جهتهم، فإن الرجال يفعلون الشيء ذاته، حيث يقومون باعتمار الطاقية عند دخول الجامع ونزعها عند الخروج. الأمور تجري بسلاسة جداً، ولدى ذهابك إلى بيوتهم تشعر بجو إسلامي حقيقي.

* هل تعرضت إلى أخطار حقيقية في أثناء عملك صحافياً ميدانياً ضمن بعض البؤر الساخنة؟

– نعم بالتأكيد، أكثر من مرة. في البرازيل، روسيا وفلسطين. ذات مرة كنت متوجهاً إلى مدينة نابلس، تحديداً إلى حي يقطنه بعض اليهود. كانت الأجواء متوترة جداً في حين لم أكن أعرف أن عند مدخل القرية يقع حاجز إسرائيلي. أثناء سيري على الطريق الرئيس لمحت الحاجز. قلت في نفسي.. إن علي أن أكمل الطريق لأنني لو دلفت عائداً فسيتم إطلاق النار علي. وهكذا مضيت سائراً نحو وجهتي إلى أن وضع جندي إسرائيلي البندقية قبالة عيني. أجبرت نفسي على التسرية عن ابتسامة ما دعاه إلى خفض البندقية. كنت خائفاً وكان هو خائفاً أيضاً ظناً من أنني يمكن أن أقوم بتفجير نفسي أمامه. سألني عن هويتي فقمت من جهتي بوضعه في صورة مهمتي الصحافية. شعرت أن علي التحدث معه حتى أذيب التوتر وأجعل العلاقة إنسانية.

* لكن ما هي المواقف الأكثر صعوبة؟

– في أثناء حرب الشيشان تفجرت عنصرية رهيبة في روسيا حيال المسلمين. وصدف في أحد المرات أن كنت ماراً بجانب أحد الفنادق في الوقت الذي كان بعض الروس السكارى خارجين منه. فأرادوا الاعتداء علي. وفي البرازيل غرقت بنا الباخرة التي كانت تعبر بنا نهر الأمازون. وفي فلسطين كاد بعض المتظاهرين الشباب الغاضبين يمزقوننا إرباً أنا وصحافي فرنسي بسبب أن ملامحنا غربية لولا أنني بادرت بالقول.. صلوا على النبي. حيث فعلت الكلمة سحرها ومنعتهم من أن يقوموا بإيذائنا.

سليمان زغيدور في سطور..

– سليمان زغيدور هو رئيس تحرير TV5 ومراسل كبير عمل لدى صحف محلية مثل لوموند وجيو وتيليمارا، الباييس (اسبانيا)، أند اكس (المملكة المتحدة)، وناشينال ريفيو (الولايات المتحدة). وهو باحث مساعد بمعهد البحوث الدولية والاستراتيجية (ايريس) وقد عمل عديد المرات مستشاراً حول قضايا المغرب والشرق الأوسط.

– ولد العام 3591 في القبيلة الصغيرة في الجزائر، يعيش في باريس منذ العام 4791. وهو كبير محرري مجلة الحياة la vie الأسبوعية منذ 1991. مخرج ريبورتاج ”الحج إلى مكة” لبرنامج: مبعوث خاص، فرانس2، ومستشار في برنامج ”خاص بالجزائر” الذي يخرجه ”تييري تتوللير”، ومستشار في قضايا: المغرب، الشرق الأوسط، وذلك لكل من: Pour TF1, RF3, RF1, TV Canada.

– من مؤلفاته: ”مكة، في قلب الحج”، ”الرجل الذي أراد مقابلة الله”، ”الإسلام في 05 كلمة”، و”الحياة اليومية في مكة، من أيام محمد وإلى يومنا هذا”. كما أعد كتاباً حول العلاقة بين فرنسا والإسلام منذ احتلال الجزائر 0381.

– حصل على عدد من الجوائز، أهمها: جائزة كليو للتاريخ 0991، جائزة فرانس ميديتيرانيه 2891، وجائزة كولومب الذهبية للسلام، من مؤسسة البيرتو مورافيا، 6991.

حوار مع سليمان زغيدور1-2

التقته «الوقت» على هامش ندوة في مركز الشيخ إبراهيم.. سليمان زغيدور
أدين إلى فرنسا بمعرفة الحضارة العربية.. والصحافة عرفتها في «المخبزة»

”حارس الليل لكن ليس حارس القبيلة”. هكذا يلخص الصحافي الفرنسي من أصل جزائري سليمان زغيدور موقفه من مهنة الصحافي اليوم بعد ثلاثين عاماً من العمل في الصحافة. ويقول ”إنني أعمل في الصحافة لأنني أحب هذه المهنة وليس لأنها شيء خارق”. ويجادل زغيدور أن الصحافة اليوم تواجه تهديداً بفعل ثورة المعلوماتية والإنترنت أكثر من ذاك الذي كانت تواجهه على الدوام من طرف الديكتاتوريات وأجهزة الرقابة. كما ينتقد التعريفات التي تحصر وظيفة الصحافي في عملية نقل المعلومات.  قال ”تلك مهمة يمكن أن تؤديها وكالات الأنباء لكن مهمة الصحافي شيء آخر تماماً”. وأضاف موضحاً مستنداً إلى تجربته في هذا المجال ”أنتمي إلى مدرسة ترى إمكان صبغ الخبر بإضاءات إنسانية وعاطفية شريطة الموضوعية”.
وهو الأمر الذي يعتقد أنه يشكل نقطة الافتراق مع الصحافة المعاصرة التي تغلب عليه شروطاً معيارية. مثل معظم جيله، لم يدرس الصحافة لكنه عرفها ”في المخبزة” كما يعبر مستفيداً من حكمة فرنسية. ”الوقت” التقته على هامش زيارته إلى البحرين في فبراير/ شباط الماضي للمشاركة في ندوة عن ”المسلمون في أوروبا” بمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. فيما يلي مقتطفات من الحوار معه:
قبل كل شيء، كيف تعرّف نفسك؟

– أعمل صحافياً وكاتباً منذ أكثر من ثلاثين عاما. في هذه الفترة غطيت ثلاث مناطق، وهي: أميركا اللاتينية، الشرق الأوسط، روسيا وآسيا الوسطى.
 هل تشعر بانتماء إلى بلد معين أو منطقة معينة وأنت في فرنسا الآن؟
– أقيم في فرنسا منذ أكثر من ثلاثين عاما. لا أشعر بأي غربة في هذا المكان ولا حتى في المناطق التي عملت فيها. جميع المدن التي عشت فيها أحببتها. في السبعينيات عندما بدأت أحتك مع عالم الصحافة في الجزائر، كانت الجزائر ملجأ لكل المعارضات.. التشيلية والبرازيلية والأرجنتينية. وهو الأمر الذي عرفني على عدد كبير من المثقفين والفنانين والأطباء من هذه البلدان، ودفعني إلى زيارتها لاحقاً، رغم أنني كنت مراهقاً. زرت البرازيل بمساعدة من منظمة اليونيسكو لعمل دراسة عن الهجرة العربية في أميركا اللاتينية. هناك عرفت أن في البرازيل وحدها أكبر جالية عربية في العالم ? نحو 10 ملايين من أصول سورية ولبنانية وفلسطينية -. وأول كتاب كتبته كان عن ”الهجرة العربية في أميركا اللاتينية”. بموازاة من ذلك، كانت الجزائر على علاقة وثيقة بالاتحاد السوفيتي. كان الأخير يحرص على أن يرسل للجزائر عدداً من المجلات على سبيل الدعاية. كان من بينها مجلة ”الشرق السوفييتي”. وفيها كان يمكن أن تجد معلومات ضافية مدعمة بالصور عن مدن مثل سمرقند وبخارى، وعلماء مثل الترمذي والزمخشري وابن سينا والخوارزمي. وهو الأمر الذي دفعني إلى زيارة أوزبكستان. 
هل يمكن القول إن طفولتك في الجزائر قد التقت بمختلف أشكال المعارضات الموجودة في العالم؟
– لا، أنا لم أتعرف على المعارضات بقدر ما تعرفت على ثقافات البلدان التي وفدوا منها. لم تكن العلاقة سياسية إذن، فساعتئذ كنت صبياً مراهقاً. أستطيع القول إن العلاقة كانت ثقافية، وقد اكتشفت الثقافة والموسيقى البرازيليتين من خلال جماعات المعارضة. 
وإلى أين قادتك هذهِ المعرفة بالثقافة البرازيلية؟
– الآن أنا أتكلم اللغة البرازيلية بطلاقة. سافرت في أنحاء أميركا اللاتينية وتعمقت كثيراً في دراسة تاريخها الأدبي، الموسيقي والسياسي.
* لنعد إلى الوراء قليلاً، كيف كانت ظروف هجرتك إلى فرنسا؟
– لم تكن هجرتي أمراً خارقاً للعادة. كنت في العشرين من عمري، وكان لدي، حالي حال معظم العوائل الجزائرية، أخوال وأعمام وأبناء عمومة يقيمون في فرنسا. كنت على معرفة باللغة الفرنسية فيما الثقافة الفرنسية تخترق معظم نظام حياتنا كجزائريين، ولها وجود عميق. لذا كانت الجسور موجودة بين الجزائر وفرنسا، وهو الأمر الذي سهل ظروف هجرتي.
ولكن ألم تكن تجربة جديدة، وجودك الأول ضمن المجتمع الفرنسي؟
– طبعاً. فقد كان لدي عشرون سنة، ورغم ذلك فقد عرفت الخروج من حضن العائلة والعيش فرداً. فكان اكتشافي المبكر جداً للحرية والوحدة والمسؤولية. ذلك كان الشيء الجديد في لقائي الأول مع فرنسا.
 هل قطعتك هذه التجربة عن العالم العربي؟
– على العكس تماماً. حين ذهبت إلى فرنسا لم أكن أعرف معنى كلمات مثل الشريعة أو الفقه أو السنة النبوية أو السيرة. هناك بدأت أهتم بهذه الأشياء ورحت أدرس التاريخ العربي والإسلامي ومن ثم درست الديانات الأخرى. العيش في فرنسا حررني من بعض القيود الفكرية، الشعورية وحتى اللاشعورية، ولكن في الوقت نفسه جعلني أقترب أكثر من الثقافة والتراث الحضاري العربي.
 هل عرفت ذلك عبر الدراسة الأكاديمية أم عبر شيء آخر؟
– أجمل ما تعلمته كان عن طريق الاتصال المباشر مع الناس. أغلب الأشياء تعلمتها وأنا على أرض الواقع أكثر مما تعلمتها من الكتب أو على مقاعد الجامعات. فمن خلال اللقاءات مع مؤرخين ومع كتاب ومع فلاسفة وجامعيين ودبلوماسيين وناس بسطاء كونت معظم حصيلتي.
 كيف تكونت موهبتك الصحفية مع الهجرة إلى فرنسا؟
– قبل الهجرة كنت أعمل في جريدة جزائرية للأطفال. وحين وصلت إلى فرنسا في العام 1974 بدأت أعطي اهتماماً لقضايا الشرق الأوسط. مع السفر إلى البرازيل في الثمانينات ألفت أول كتاب باللغة الفرنسية وكان – كما أسلفت – عن الهجرة العربية. بعد ذلك عملت أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر عبر ترجمة أشعار نحو 40 شاعراً مهجرياً من العربية إلى الفرنسية. ثم رحت أكتب عن قضايا أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، وألفت عدة كتب في هذا المجال. بموازاة من ذلك، كنت أعمل صحافياً، وقد وضعت مؤلفاً عن شعائر الحج من منظور صحفي.
 كيف كان تلقي كتاباتك في هذا الشأن؟
– هناك من لم يستحسن الفكرة. قيل لي إن الكتاب يلقي الضوء على بعض الأشياء السلبية في موسم الحج. من جهة أخرى، فإن هناك من استحسن الكتاب ورأى أنه يقدّم المسلمين كبشر. منع الكتاب في دولتين عربيتين، كما ترجم إلى الروسية واليونانية والطليانية في حين لم يترجم إلى العربية.
هل من الممكن لو تُرجم للغة العربية أن يُرينا شيئاً لا نعرفه؟
– لم يكن هدفي من تأليف الكتاب البوح بأسرار أو فتح أبواب مغلقة إنما الكتابة عن تجربتي في موسم مهم في حياة المسلمين. وبما أن هؤلاء يمثلون خمس العالم فقد وجدت أن الكتابة عن شعيرة من شعائرهم أمر يهم العالم أجمع.
ما هي الظروف التي ألفت فيها هذا الكتاب؟
– ذهبت للحج وعايشت معظم المحطات التي يمر بها الحجاج، منذ الإحرام في مطار جدة حتى طواف الوداع. فعملت كل الطقوس من البداية للنهاية غير أن الفرق بيني وبين الحجاج أنهم بعد أن يصلوا كانوا ينامون في حين كنت أخرج دفاتري وأكتب. لم أكن أنام.
حسناً، فأنت بذلك قد مارست عملا صحفيا وعملا فكريا أيضا. لكن هل كانت لديك دراسة أكاديمية للصحافة؟
– لا، لقد تعلمت الصحافة من خلال الممارسة. ”في المخبزة” كما يقول الفرنسيون. معظم الصحافيين الفرنسيين من جيلي ? في حدود من أعرف – لم يدرسوا الصحافة إنما تعلموها في حقل الحياة اليومية. لكن الآن غدا الوضع مختلفاً. أستطيع القول إنه في السنوات العشر الأخيرة تغير الأمر، جميع الصحافيين الذين بدأوا ممارسة المهنة في هذه الفترة، درسوا الصحافة بشكل أكاديمي ولاحقاً انخرطوا في الحياة العملية.
هل تجد فرقا ما بين الجيلين؟
– طبعا. أنتمي إلى مدرسة تقوم على شيء اسمه ”ستايل”. فمع النزاهة والموضوعية كان يسمح لك بالإفصاح عن عواطفك في الكتابة شريطة ألا تطغى على تقييمك للأمور. كأن تطمس عيوب طرف أو تبرز عيوب طرف آخر. كانت هذه المدرسة تسمح بذلك. لكن في المدرسة الحديثة أًصبحت الأمور أكثر معيارية ”ستاندرد”. غير مسموح ذلك إطلاقاً.
الحديث عن الصحافة يفتح على مسألة اللغة كونها مادة الكتابة. كيف هي علاقتك مع اللغة؟
– أعد نفسي محباً للغة. حين الصبا كنت أفتح القاموس وأقرأه. كنت أحب تتبع جذور الكلمات، وقادني ذلك إلى دراسة اللغات السامية. أحب الفرنسية، ولدي علاقة كبيرة مع الألفاظ والكلمات والحروف والنحو، وكأنها علاقة مع شريحة وليست علاقة مع مجرد كلام.
 وأين ذهبت الكتابة باللغة العربية؟
– لم تتح لي الفرصة. لو كنت بقيت في بلد عربي لكنت كتبت بالعربية. أستخدمها في التواصل مع الأصدقاء ولكن كلغة عمل لا. اللغة العربية ليست لغة عمل، للأسف، والأمر راجع لأسباب منطقية، أي ليس لاختيار أو ميول.
من خلال تجربتك الصحفية، كيف تعرّف الصحفي. وأين يمكن أن نجد هذا الصحافي الذي تنحاز إليه؟
– قبل ذلك أشير إلى أن مهنة الصحافة دخلت اليوم في حقبة صعبة جدا. تماماً كما حصل لدى اختراع المطبعة (1420) حين وجد الخطاطون أنفسهم في سلك البطالة. الأمر نفسه يحصل اليوم مع ثورة الإنترنت. الكثير من الصحافيين مهددون اليوم أكثر من التهديد الذي يحيق بهم من جانب الديكتاتوريات أو أجهزة الرقابة. فالإنترنت ثورة إعلامية رهيبة، ولا أعرف إلى أي حد سيؤثر في العمل الصحفي اليومي. تخيل أنك تستطيع وأنت في سيارتك التقاط صور بهاتفك النقال لأي حادث وقع في أي مكان من العالم. لهذا فأنا رداً على سؤالك أحب أن أعود إلى الصحافة بمعناها الأصلي النبيل. الصحفي ليس هو الشخص الذي يزودك بمعلومات عن خبر أو حدث ما، فهذا الخبر بإمكانك أن تجده في أي وكالة أنباء. الصحفي هو الذي يعطيك الخبر من خلال نظرة إنسانية، من خلال تجربته، وكأنه يأخذ بيدك ويجعلك تفهم لحظة الخبر. يربط الخبر مع الماضي ويضعه في إطار اجتماعي أوسع. يعطيه حيوية أكثر.
 هناك مثل فرنسي يعرف الصحافي بأنه ”حارس القبيلة الليليّ”. إلى أي حد تتفق مع ذلك؟
– حارس ليليّ نعم لكن ليس حارساً للقبيلة. شخصياً لا أحب أن أقدس المهنة. الكثير من الكتاب والصحفيين والموسيقيين عندما يتحدثون عن مهنهم يتحدثون عنها بتقديس كبير. شخصياً أقول.. إنني أعمل في هذا المجال لأنني أحبّه وليس لأنه عمل خارق. تربيتي وتكويني جعلتني أحبّ هذه المهنة، فأنا أعمل بها لأنني أحبها لا لأن هناك نظرية تقف وراءها. لم أكتب ولا مرة في حياتي كلمة حقد ضد أي شعب. عندما أكتب أتمنى أن يعرف الذين يقرأون لي أنني أكتب لأنني أفكر بهم. لولاهم لما استطعت الكتابة، إذ لا أحد يستطيع الكتابة لنفسه. إذا أردت درساً في العلاقات الدولية، سمه فلسفياً إن شئت، فيجب أن تثق بالحكمة التالية: أن لا تفقد الأمل في البشر. لقد عملت في مناطق كان يعصف بين شعوبها حقد رهيب. ومع ذلك فلدى هذه الشعوب مزاياها أيضاً. في أي مكان ستجد هؤلاء الناس. هذا أكبر درس تعلمته من خلال ممارسة المهنة. كل الناس عائلة واحدة. حتى أولئك الذين يكرهون بعضهم البعض. 
لماذا ذهبت إلى الريبورتاج الصحفي بالذات، ولم تذهب إلى أي تخصصٍ آخر؟
– لأني كنت أحب الحركة والسفر ولدي فضول. أحب أن أرى الناس الذين لا يشبهونني وأن أكون في مجتمعات لا تشبه مجتمعي. مجتمعات لديها ثقافات تناقض الثقافة التي أملك.
 لكن أي المجتمعات هو مجتمعك.. الفرنسي؟
– نعم، حاليا هو المجتمع الفرنسي، ولكن هناك جزء من تربيتي الجزائرية.
 هل لا زلت مرتبطا بهذا الجزء؟
– طبعا، فكل عام أذهب للجزائر.
هل كوّنت عائلة فرنسية؟
– عائلة فرنسية جزائرية. فقد تزوجت فرنسية من أصل جزائري.
 هل كانت هوية عائلتك مركبة؟
– أبداً، الهوية قضية أيديولوجية وليست قضية وجدانية، وهي تهم المفكرين ولا تهم الشعب. معركة الناس الرئيسة هي معركتهم في سبيل القوت في حين التفكير في الهوية هو تفكير نُخب. رغم أنني آتٍ من أعماق أعماق الجزائر. أتحدر من أبسط جزء في المجتمع الجزائري. أبي وأمي أمّيان. نشأت وسط البقر والماعز وعشت الحرب. والآن أنا أعيش في فرنسا وأتحدث ست لغات. لكن رغم ذلك فأنا لا أعرف ما معنى كلمة ”الهوية”. حين أعود إلى قريتي كل عام أشرب حليب الماعز وآكل التين والخبز بالبصل وأكون سعيدا. السنة الماضية زرت البرازيل، وأولادي بعثتهم إلى أميركا. ثم سافرنا جميعاً إلى الجزائر. ولم يشعر أحد منا أنه انتقل من عالم إلى عالم. كأن الواحد منا يسبح في الماء وحين يخرج فمن البحر إلى النهر. من الممكن لو تذوق الماء فإنه سيشعر أنه مالحاً، لكن الفكرة الرئيسة.. أنه يعوم في الماء نفسه.
لكن ألا تعتقد أن هذه الفكرة المنفتحة التي تملكها كانت ستتغير لو أنك تزوجت فرنسية من أصول فرنسية؟
– كان ذلك سيمنعني من أن أتزوج بها. 
وعلى هذا الأساس اخترت الزواج من فرنسية من أصول جزائرية؟
– أنا لم أختر، إنما أحببت قبل ذلك. لو كانت زوجتي يابانية وأحببتها لكنت قد تزوجتها أيضاً. كنت دائما أفكر بالزواج من المرأة التي أحبها.
نحن الآن بصدد الثقافة نفسها. فأولادك عندما يكونون في أميركا ويعودون إلى الجزائر لا يشعرون بهذا الفرق كونهم يتحدرون من خلفية ثقافية واحدة. لكن لو كانت أمهم أساسا أميركية الأصل أو إنجليزية أو فرنسية فسيكون الوضع مختلفا إن كانت لا تقبل بذلك؟
– أحيانا يكون هناك صراع وتكون مشكلة بسبب أن بعض الناس يعتقدون أنه إذا كان ثمة اختلاف بين ثقافة وأخرى فهو يعني رفض الثقافة الأخرى. بنظري هذا خطأ، فالاحتلاف لايعني الرفض. مثلا أنا أحب البرازيل كثيرا، وحين أزور بعض أصدقائي البرازيليين أجد عندهم لحم الخنزير. أنا لا أحب الخنزير، ليس لأسباب دينية إنما لأنني لا أحب أكل اللحوم الدسمة. هذا اختلاف واحد، لك أن تسميه ثقافياً إن شئت، لكن في جميع الأشياء الأخرى نحن متحابون جداً. العولمة أحدثت ثورة. رغم حواجز اللغة والديانة غير أن هناك تربة بشرية في العواطف أصبحت تجمع كل الناس بعيوبهم وفضائلهم. وقد تجد أحياناً قواسم مشتركة مع شخص نيوزلندي أكثر منه مع شقيقك أو ابن عمك. هذه هي الثورة التي دخلنا فيها. أصبحنا عائلة كونية، ونحن الصحفيين في الطليعة.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=123762

 

سليمان زغيدور في سطور..
سليمان زغيدور هو رئيس تحريرTV5 ومراسل كبير عمل لدى صحف محلية مثل لوموند وجيو وتيليمارا والباييس (اسبانيا) وأند اكس (المملكة المتحدة) وناشينال ريفيو (الولايات المتحدة). وهو باحث مساعد بمعهد البحوث الدولية والاستراتيجية (ايريس) وقد عمل عديد المرات مستشاراً حول قضايا المغرب والشرق الأوسط. 
ولد عام 1953 في القبيلة الصغيرة في الجزائر، يعيش في باريس منذ عام .1974 وهو كبير محرري مجلة الحياة la vie الأسبوعية منذ .1991 مخرج ريبورتاج ”الحج إلى مكة” لبرنامج: مبعوث خاص، فرانس,2 ومستشار في برنامج ”خاص بالجزائر” الذي يخرجه ”تييري تتوللير”، ومستشار في قضايا: المغرب، الشرق الأوسط، وذلك لكل من:Pour TF1, RF3, RF1, TV Canada.
من مؤلفاته: ”مكة، في قلب الحج”، ”الرجل الذي أراد مقابلة الله”، ”الإسلام في 50 كلمة”، ”الحياة اليومية في مكة، من أيام محمد وإلى يومنا هذا”. كما أعد كتاباً حول العلاقة بين فرنسا والإسلام منذ احتلال الجزائر .1830
؟حصل على عدد من الجوائز، أهمها:جائزة كليو للتاريخ ,1990 جائزة فرانس ميديتيرانيه ,1982 جائزة كولومب الذهبية للسلام، من مؤسسة البيرتو مورافيا، 1996.

بعد الحداثة هي لحظة نسيان الأسـماء التي علّمهـا الإلـه لآدم

ورقة افتتاحية لحلقة نقاش حول ما بعد الحداثة بأسرة الأدباء والكتاب في 21يوليو2008

ما بعد الحداثة، حمّالة أوجه وحمالة حطب.وجوه معانيها متعددة ووجوه تطبيقاتها متعددة ووجوه تجلياتها متعددة، لذلك هي حمّالة أوجه. وهي حماّلة حطب، في إشارة إلى أم جميل زوجة أبي لهب التي كانت تحمل الحطب وتحرقه أمام بيت النبي، لتهدد الدعوة النبوية التي كانت تبشر بمركز معنى جديد للإنسان.

مفكرو يوم القيامة
ما بعد الحداثة، أحرقت بحطبها كل المركزيات والثوابت ومعايير تمييز الأشياء والحضورات المتعالية وأعلنت نهاية الدعوات السماوية والأرضية، من أديان وأيديولوجيات وفلسفات مثالية، حتى صار مفكروها يسمون بمفكري يوم القيامة، فهو لا يكفون عن إعلان النهايات، نهاية الإله ونهاية الإنسان ونهاية العقلانية ونهاية الحداثة ونهاية التاريخ ونهاية المركز.
لقد أحرقت ما بعد الحداثة المدلول، لم يعد الدال يحيل إلى مدلول أو يتطابق معه، لقد غدا الدال منفصلا ومستقلا وحراً ومختلفاً ومرجأ. وكي نوضح ذلك، علينا أن نتذكر أن العلامة تتكون من ثلاثة مكونات: الدال (الكلمة) والمدلول (المعنى) والمرجع (الواقع).
ذهب سوسير إن نظام اللغة يتكون من علامات، والدوال علاقتها بالمدلولات اعتباطية. فالكتاب (دال) اعتباطي، ليس هناك علاقة سببية أو طبيعية تجعلنا نطلق هذه الكلمة على الكتاب، وكان يمكن أن نسميه قلم، هكذا تتكون اللغة من دوال مختلفة كي تستحضر مدلولات مختلفة. وهي بهذه الطريقة تستحضر الأشياء التي في الواقع (المرجع).

محو الشيء
الدوال ليست مرتبطة بهذه الأشياء التي في الواقع ارتباطاً سببيا وهي ليست موقوفة على الواقع، لذلك الدوال في حل من هذه الأشياء التي في الخارج، ويمكن لهذه الدوال أن تقيم بين بعضها علاقات متحررة من أي مرجع خارج اللغة. من هذه العلاقات يمكنها أن تنشئ واقعاً جديدا، تسميه بطريقتها التي تريدها وترغب فيها.من غير أن تستند إلى شيء خارجها (إله، عقل، واقع، ثابت، مركز، مرجع) يعطيها المشروعية.
سوسير محا فكرة الشيء (المرجع) وأحل محله فكرة العلاقات. والعلاقات ليست لها مركز واضح، إنها مجرد روابط اختلافية. هناك مسافة بين الدال والمدلول، تأخذ شكل ”ثغرة أو هيمنة أو عمل تحكمي”.
يشير مصطفى ناصف في قراءته إلى ما بعد الحداثة إلى ما أحدثته من تحول في البلاغة، فقد قامت البلاغة التقليدية على فكرة القصد ووحدة الجهة والثقة بمعرفة شيء متميز تماما، وقامت البلاغة المعاصرة على ملاحقة ما يسميه نيتشه جيشا متحركا من الاستعارات والكنايات والتجسيمات، حتى أصبحت كلمة اللغة يراد بها أحيانا فكرة الصورة.
ما بعد الحداثة هي، الانتقال من فكرة المعنى الثابت المتميز والبيان والمدلول والعقل والمنطق إلى المتداخل والعلامة والتشكيل والسطوة والدال والرغبة والتأثير[1].
القوة التي تهيمن تصيّر هذه المسافة بين الدال والمدلول لصالحها، هكذا تصير الأشياء في حالة صيرورة (تغير) مستمر، وفق ما يريده القوي، الخطاب الذي يستخدم الحق (الدال) لا يحيل إلى الحق ولا إلى العقل ولا إلى الرب، بل يحيل إلى ما يريده القوي والمهمين حقاً.
واللون الدال على الجميل، لا يحيل إلى قيم مطلقة تمثل الجمال العقلاني أو الإنساني أو الرباني، بل يحيل إلى ما يراه القوي جميلاً، هكذا الموضة يصنعها من يملك قوة التحكم في السوق وساحات التداول.

دوال الاستهلاك
يشير عبدالوهاب المسيري في قراءته لما بعد الحداثة إلى أن هناك مجموعة من الثنائيات الأساسية: الإنتاج مقابل الاستهلاك، المنفعة -البرانية- مقابل اللذة -الجسدية-، التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر، التراكم مقابل التبديد والإنفاق، الدولة مقابل السوق.
والطرف الأول من الثنائية (الإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة) يفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي). حين يسود هذا الطرف من الثنائية فإننا ندخل عالم الحداثة.
أما الطرف الثاني من الثنائية (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء، وهذا هو عالم ما بعد الحداثة السائلة [2].
على مستوى الإبداع، لم يعد الأدب خاضعاً إلى تقاليد تسبقه أو شعرية تحدد معاييره أو ملتزماً بأيدلوجيا يتطابق معها، لم يعد ملتزما حتى بالمتلقي، هو يمثل نفسه، هو لا يدل على شيء خارجه. والخطاب السياسي كذلك ليس محكوماً بمنظومة عقلانية أو حقوقية أو إنسانية، كما بشّر بذلك عصر الأنوار، حتى عقلانية عصر الأنوار لم تعد مرجعية. ثمة محو للثنائيات والمسافات وسد للثغرات بين الجسد والروح والسماء والأرض والعقل والخيال والأنوثة والذكورة والدال والمدلول، صرنا أمام دالٍ ابتلع مدلوله، كما يقول المسيري.

التطهر من الميتافيزيقا
سوسير لم يلغ تماماً العلاقة بين الدال والمدلول، كذلك البنيويون، لذلك يتهمهم أنصار ما بعد الحداثة بأنهم مازالوا ملوثين بالميتافيزيقا (كل ما يتصل بالمثاليات والعقلانيات والإلهيات)، أي مازالت العلاقة بين الدال والمدلول قادرة على التواصل وإنتاج معنى. ما فعلته ما بعد الحداثة، هو أنها ألغت هذه العلاقة، فصار الدال يحيل إلى دال آخر لا إلى مدلول، هكذا صارت الإحالة لعبة دوال حرة، ليس هناك مركز يلزمك بالإشارة إليه. فمعنى النص يحيل إلى نص آخر ومعنى الكلمة يحيل إلى كلمة أخرى، لا توجد إحالة إلى شيء بالخارج، لا يوجد شيء خارج النص. دوال مثل الإله الإنسان العقل، لم تعد تحيل إلى نسق ثابت يقع خارج الإنسان، صارت مدلولات هذه الكلمات تحل في الإنسان نفسه، ومصطلح الأسرة الذي كان يشير إلى امرأة ورجل وأطفالهما فقد مدلوله، إذ أصبح يشير إلى أي ترتيب مستمر أو موقت بين أي عدد من البشر من أي جنس: ذكورا كانوا أم إناثا أم من المخنثين. الأسرة مثل أي نص ما بعد حداثي، منفتحة تماما وهي تجمل عددا من المعاني يجعلها أقرب إلى اللامعنى. كذلك دوال الحب والأنثى والجنس، وهذه يرصدها المسيري بدقة في نقده للحداثة.

نسيان أسماء آدم
يمكن القول (ما بعد الحداثة) هي لحظة نسيان الأسماء التي علّمها الإله لآدم.هي لحظة تحرر من معاني هذه الأسماء التي علمها الربّ، ولحظة تحرر من معاني الأسماء التي علمتها الأيديولوجيات والفلسفات المثالية والعقلانيات للإنسان. ما بعد الحداثة أسماء من غير علم (مدلول).
في دفاع الفيلسوف أبوليوس في مدينة صبراته عن نفسه ضد تهمة السحر التي وجهت له بسبب تزوجه من أرملة ثرية بعد أن رفضت كثيرا من الرجال، كان أبوليوس، يقول في قاعة المحكمة ”هل ثمة أمر أسخف من أن تستنتج من تشابه الأسماء تشابه معنى الأشياء؟”[3]
إنه يشير إلى لعبة الدال والمدلول التي استخدمها خضمه ضده، ما دمنا قادرين على إحداث التشابها والاختلافات فنحن قادرين على اللعب بالأشياء ومعانيها، وإذا كانت قوة خطاب أبوليوس مكنته من فضح هذه اللعبة، والدفاع عن حقيقته، فإن الجمهور الواقع تحت سيل من ألعاب الدوال لا يمكنه أن يكتشف سحر هذه الألعاب، وهي تشكل واقع الأشياء والعالم، إنه لا يملك غير خيار استهلاك هذا السحر بواقعية مفرطة الخيال.
قوة الوقف
كانت مهمة الحداثة كشف الحقيقة التي استمات أبوليوس في إثابتها باسم العقل، أما مهمة ما بعد الحداثة فهي التبرير لإرادة القوة والاستجابة لواقع غلبتها وهيمنتها، والتكيف مع الواقع الذي تخلقه. صارت القوة وإرادتها العمياء، إذ ليس لديها عيون تركز بها وفيها أو ترجع إليها، صارت هذه القوة تُوقف الدوال، كما كانت القوة الإلهية توقف الدوال على معانٍ ثابتة تعلمها للإنسان، كي يستقر بها. من يوقف الدوال (اللغة) يهيمن على الواقع. ما بعد الحداثة أوقفت الدوال عن أن تكون تابعاً لمركز أو معنى أو مدلول سابق. صارت القوة هي التي تنشئ الواقع والعوالم ولا حقيقة خارج إنشائها. لقد تحولت فلسفة اللغة من فلسفة صدق وكذب ومطابق للواقع وغير مطابق للواقع إلى ”فلسفة مجازات واستعارات أو تخيلات. نحن أمام دوال لا أمام مدلولات. لقد أزحنا كلمة الواقع أو كلمة المرجع”[4].
لـــذلك نجد إدوارد سعيد يــــوصي بأن نضـــع النــص في الدنيا بدلا أن نضعه في عالم مثل غامضة وأحلام نقية وان نقـــرأه قراءة سياسية. لايمكننا أن نقرأ الخطابات التي تتحدث عن الإرهاب والطائفية والمواطنة وحقوق الإنسان، وكأنها أسماء آدم التي أوقف الله معانيها في الجنة على الحق والصدق والواقع، بل هي دوال في الدنيا ومعانيها ملوثة بالتفاحة التي هبطت بنا إلى هذا العالم.
جذمور ما بعد الحداثة
من أكثر المجازات دلالة على ما بعد الحداثة، مجاز الجذمور Rhizome، الجذمور ساق أرضية تشبه الجذر أحيانا. يكون الجذمور أفقياً وفي نفس مستوى الأرض تقريبا مثل جذمور السوسن أو أعمق بكثير مثل جذمور اللبلاب أو البطاطس.
يشير هذا المجاز عند دولوز[5] إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو العودة إلى الأصول أو لحظة الميلاد الأولى (الجذر – البذرة)، وكذلك يشير إلى التخلص من الولع بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات (الثمرة – البذرة) [6] ولهذا كانت حملته على ولع هيدجر ببواكير الفكر اليوناني وفي نفس الوقت حملته على تبني الفلاسفة الفرنسيين للمقولة الهيجيلية حول نهاية الفلسفة. والجذمور أيضا تلخيص لشعاره ”فلنبدأ من الوسط” ويتميز الجذمور عن الشجرة وعن البذرة وعن الجذر في أنه يحقق ثلاثة شروط أساسية وهي:الاتصال والغيرية والتعددية التي لا تميل لأصل يجمعها. ويرى دولوز أن اللغات كلها قد تكونت طبقا لهذه الآلية.
عندما نتصور الفكر مع صورة الجذمور فإن هذه الصورة تكسب الفكر ديناميكية وقدرة على التوليد. وتتبدى الملامح السياسية لفكرة الجذمور في هذا النداء الذي يوجهه دولوز لكل الطامحين في تحرير رغباتهم :”كونوا جذامير ولا تكونوا جذوراً، الشجرة نسب أما الجذمور فهو خلف، الشجرة تفرض فعل الكينونة بين الموضوع والمحمول أما الجذمور فيفترض حرف العطف.
لا داعي للبدء في شيء أو الانتهاء منه، فقط يحسن الخروج والدخول. إن الوسط ليس نقطة بين طرفيه ولكنه اتجاه عمودي وحركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها”.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=123761

تغطية جريدة الوسط

الهوامش


[1] انظر: بعد الحداثة صوت وصدى، مصطفى ناصف، ص16 وما بعدها.
[2] انظر: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
[3] أبوليوس، دفاع صبراته، ترجمة علي فهمي خشيم، ص.108
[4] بعد الحداثة صوت وصدى، مصطفى ناصف، ص.22
[5] عن مجاز الجذمور، انظر:
– أنور مغيث، سياسات الرغبة دراسة فلسفة دولوز السياسية.
– جان جاك لوسركل،عنف اللغة، ص.251
-عبدالوهاب المسيري، اللغة والمجاز، ص.45
[6] ربما كانت البذور والجذور والثمار في عنوان سيرة المسيري ”رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية” معبراً ببلاغة عن معارضته ونقده لما بعد الحداثة.
– الورقة عبارة عن ورقة افتتاحية لحلقة نقاش حول ما بعد الحداثة بأسرة الأدباء والكتاب في 21يوليو2008

ديوانية الجمعة

http://www.awan.com/las/20080711

ديوانية الجمعة يكتبها هذا الأسبوع: علي الديري

الجمعة, 11 يوليو 2008 – العدد 235

 

http://www.awan.com/node/90060

مرسم عشتار ومئوية العريض

قال لي عباس يوسف: كن غدا في مرسم عشتار، فسنبدأ العمل في ورشة مئوية إبراهيم العريض. ورشة «عشتار» هي محترف الصديقين عباس يوسف وجبار غضبان. أشعر بحميمة في أجوائها المبعثرة في كل شيء.. هي مدرسة أكاديمية من  غير م ناهج مدرسية.. أعلام من التشكيليين مرّوا من هنا. 2ومنارات من المبدعين والمثقفين مازالوا يمرون من هنا. مرّ ضياء العزاوي، مارسيل خليفة، محمد عمر خليل، منير إسلام، علي طالب، نوري الراوي، عالية ممدوح، رافع الناصري، عبدالرسول سلمان، عادل السيوي، أسعد عرابي، شربل داغر، بشار العيسى، علي السوداني، فيفيان برنس.

قطع من نصوص قاسم حداد وأمين صالح صارت ألواناً وحروفاً محفورة هنا، ساحرة قاسم حداد مرّت من هنا، وموانئ أمين صالح رست هنا، ومعارض جابت العالم، أبحرت من هنا.. وهنا يحضر قاسم حدّاد أصدقاءه الذين يضيئون له ما يلي. كلما مروا ببحر من فلك سديمنا.

هنا دوماً مكان وشيء آخر.. وفي هذا الشيء الآخر يكمن الفن والإبداع.. يأتي مرة على صورة لون، ومرة على صورة حفر، ومرة على صورة وجه، ومرة على صورة حرف، ومرة على صورة صوت.. المكان لا يتسع لأكثر من بعثرة خمسة أشخاص لكنه بالشيء الآخر يتسع، بما يخلقونه من بعثرات لون أو حرف أو صورة. فيصير المكان عالماً يسع الكون. حين جاء الدكتور عبدالهادي خلف ذات غرة سريعة للمكان، قال: هل هذا هو المكان نفسه الذي تتحدثون عنه في أعمدتكم الصحفية بطريقة خرافية؟ وهل هو نفسه المكان الذي أنتجتم فيه معرضكم التشكيلي الذي رأيته في شتاء السويد؟ قلنا له اجلس قليلاً وستكتشف الشيء الآخر الذي يجعل من هذا المكان خرافة لا يمكن لعلم الاجتماع الذي تدرِّسه في السويد أن يكتشف سرَّه.

والشيء الآخر في هذا المكان الذي يجعله متسعاً، يكمن في خبرة الفن، التي تحدث عنها يوماً جون دوي، بأنها خبرة تخرجك من فرديتك وتصلك بالآخرين. وهذا ما يجعلني أقول إن «عشتار» خبرة تصلني دوماً بما يتجاوز فرديتي ويتجاوز خبرتي بالحرف، ليصلني بخبرة الآخرين باللون والصورة والصوت والأنوثة.

في هذا المكان، شكَّلتُ كثيراً من مقالاتي، ولخبرة المكان أثرها في صياغة الكلمات أحياناً صياغة تحضر معها ظل اللون. حتى إني في أحايين كثيرة، أشتهي لبعض المقالات أن أكتبها هنا، كي أحتفظ بظلها مقروناً بخبرة اللون.

كان إميل سيوران يقول «لو كان لي أن أتخلص من ولعي بالفنون، لما تخصصت في غير العواء».

خبرة الفن دائماً تقيك من العواء، فالفن يروّض فيك الإنسان، ويؤنسن توحشك، ويجعل صوتك يغني بدل أن يعوي.

عشتار.. مكان آمن للجمال.

http://www.awan.com/node/90068

شامات لبنى الأمين

خبرة مرسم (عشتار) فتحت أفقي على مساحات جمال صرت أراها تتجلى في كل محل في هذا الكون، كان مرسم الفنانة التشكيلية لبنى الأمين، مساحة تجربة جمال لتجلي هذه الخبرة.

قبل أن أعرفها كنت مفتوناً بأبوابها القديمة المعتقة بلون الخشب، التي قدمتها في معرضها في العام 1999على صالة جمعية الفنون التشكيلية. وقد شكّلت لبنى 3لوحاتها بخبرتها العميقة بأبواب المحرق المفتوحة.. كل ما هو مفتوح يقدم لك خبرة في التواصل والخروج من ذاتيتك، أبواب المحرق المفتوحة درس بليغ في التعايش المفتوح على المختلف في العرق والطائفة والدين، ورشة قاسم حداد عن هذه المدينة (ورشة الأمل.. سيرة شخصية لمدينة المحرق)، كانت مادتها الأساسية هذه الأبواب، لو كانت الأبواب مغلقة، ما كانت ورشة قاسم قد كتبت شيئاً من سيرتها. كان انفتاح الأبواب علامة تشير إلى انفتاح قلوب أبناء بيوتات هذه المدينة التي تكاد تفقد اليوم أبوابها.

حين مررت قرب بيت المناضل الستيني عبدالرحمن النعيمي (عافاه الله من استراحته)، كان باب بيته مفتوحا، على عادته. وهو بالمناسبة أحد أهم الأبواب التي عبرت منها (لبنى) للعالم للحلم بتغيير العالم. عند هذا الباب، سألني ابني باسل (9سنوات): هل هذا الباب مفتوح دائماً، وهل سيكون بيتنا الجديد مفتوحا بابه؟ قلت له هو مفتوح دائما، لكن الناس الذين بالخارج صاروا مغلقين.

لبنى رسمت هذه الأبواب وهي تستبطن خبرة انفتاحها الجميل، الأبواب المفتوحة شامات الأرواح المفتوحة. ولأن الشامة علامة، فليس أجمل من اللوحة التشكيلية شامة نقرأ فيها تأويل الروح المفتوحة.. هكذا قرأت أبواب لبنى علامات تدل على انفتاح روح مدينتها التي كانت.

وليست لوحات لبنى أبواباً مفتوحة فقط، فكل ما في مرسمها باب يفتحك على روح متفردة، في ليلة من ليالي مرسمها، فيما كانت هي تفتحنا بأبواب ألوانها على سيرة إبراهيم العريض استعداداً لاحتفالية مئويته.. كانت مكتبتها الموسيقية النخبوية تفتحنا لأول مرة على صوت (لينا شاماميان) وهي تغني «شامات»، وهو عنوان ألبومها الثاني الذي صدر في 2007 ويضم مجموعة من الأغاني الشعبية في تاريخ الأغنية الشامية:

شآم أنت فتاتي وأمي

حضنت صبايا

فهل فيك أكبر؟

فها قطعة من رخام

تعشق رائحة الياسمين فأزهر

جوري وريحان

مسك وعنبر

فاح بصرح

تلون أخضر…

كل ما في مرسم لبنى شامة من شامات الجمال، الأناقة التي تؤثث المكان، والمكتبة الصوتية ذات الحساسية الفائقة التي تحتفي بالأصوات الجميلة والنادرة، والكتب المجاورة للوحات مجاورة تصيبك بحيرة تصنيف المكان، هل هو مكتبة أو مرسم أو استوديو أو جنّة الأصدقاء؟!

يمكنك أن تقول هو مكان.. وشيء آخر يجعل منه شامة من شامات الجمال.

http://www.awan.com/node/90064

خرائطي الفكرية

 

كان غوته يقول «إن مشقة قراءة كتاب جيد تضاهي مشقة كتابته».. لهذه المقولة وقعها الخاص بالنسبة لتكويني، فأنا لم n816474055_1034379_1184تتوافر لدي فرصة للدراسة بالخارج، ولم أتوفر في تكويني على أساتذة شاقين آخذ عنهم مباشرة، لذلك ظلت الكتب وطرقها الشاقة أداتي الوحيدة -تقريبا- في تكوين معرفتي، وفي تكثير الأصوات التي تنطق في داخلي.. وقد أشعرني هذا دوماً بالإحساس بالمديونية لمؤلفيها، وأنا هنا لا أتحدث عن مرحلتي الجامعية، ولا ما قبل الجامعية، فتلك سنوات التحصيل العام، لكني أتحدث عن التكوين ما بعد الجامعي، وهو التكوين الذي حدد مساري الفكري وشكل كتابتي وعلاقتي بالعالم.. المرحلة الجامعية، بجامعة البحرين، لم تكن بالنسبة لي، أكثر من مرحلة دراسية، عبرتها دون صدامات فكرية أو تحولات معرفية أو تكوين أكاديمي صلب، لقد دخلت الجامعة أحمل تكويناً دينياً أصوليا مغلقاً، وخرجت منها أحمل التكوين نفسه بمعرفة تخصصية في اللغة العربية تقليدية.

المعرفة الحقيقية التي شقّت كل خلية في تكويني، بدأت في 1993مع أول تجربة مشقة في قراءة (كتاب محمد أركون نقد العقل الإسلامي). وقد كتبت تجربة هذه المشقة في 2002 في كتاب (الخروج على الحس المشترك) بمناسبة زيارة أركون التاريخية للبحرين.

كانت قراءة أركون بمثابة العتبة التي فتحتني على قراءة كتب شاقة، وبقدر مشقة قراءة هذه الكتب التي تحملتها بصبر عسير، أحمل اليوم مديونية معرفية لمؤلفيها، وأكثرهم تسنّت لي الفرصة لألتقيهم وأحاورهم وأنشج معهم علاقة صداقة، وهنا سأسرد قائمة بهذه المديونية.

{ علي حرب، ساحر في بيانه وصياغته لأعقد الأفكار الفلسفية، ابتكر لغة خاصة في النقد والفلسفة، تتعلم منه خفة الدخول على النصوص، والعبث في مراكزها وشقوقها، بروح اللاعب الماهر، لا المعادي الباحث عن مثالب، لذلك هو يدخل على النصوص لا بقصد دحضها وبيان خطئها بل بقصد توسيعها وفتح مناطق عماها.

تعلمت منه فضيلة أن تقرّ بمديونيتك للخطاب الذي تشتغل على نقده، وأن تحبه، وأن تسمح له بأن يخترقك وتخترقه، وأن تستثمر إمكانات اللغة والبلاغة في صياغة خطابك صياغة فكرية وبيانية.

{ طه عبدالرحمن، إعجابي بكتب الفيلسوف المغاربي طه عبدالرحمن، لم يكن إعجاباً بمواقفه تجاه الغرب وتجاه الحداثة وتجاه ما بعد الحداثة، ولا تطابقاً معها، بقدر ما هو إعجاب بمفاهيمه المبتكرة في قراءة التراث الفلسفي، كمفهوم فقه الفلسفة ومفهوم التأثيل، أي إعجاب بهذه المفاهيم بما هي مفاتيح للرؤية والفهم والتحليل.إذا كانت الفلسفة هي عشق المفاهيم كما يقول جيل دلوز، فأنا مدين لمفهوم التأثيل عند طه عبدالرحمن في تمكيني من أن أكون عاشقاً لعوباً لمفاهيم الفلسفة والحياة والدين والسياسة والأدب.

كان مفتاح دخولي إلى خارطة المسيري، هو اعتماده النماذج التفسيرية بوصفها أدوات تحليل، وليس المنافحات الأيديولوجية، ولا التراكمات المعلوماتية.. وكم فرحت حين قرأت في سيرته غير الذاتية غير الموضوعية (رحلتي الفكرية.. البذور والجذور والثمار)، عن تذمره الشديد من التلقي المعلوماتي له.

إن التفاصيل الخاصة الصغيرة التي يجيد عبد الوهاب المسيري عبرها كشف خرائطنا الإدراكية، هي ما يعطي لكتاباته ألفة وسلاسة وبياناً بالغ البلاغة من غير تكلف ولا زخرفة. والدرس الذي يعيطك إياه المسيري في سيرته منذ الصفحات الأولى هو: انطلق من الخاص إلى العام. من تجربتك، من حكايتك، من سيرتك، من قريتك ومدينتك وحضارتك وثقافتك.

كما هو الأمر عند طه عبدالرحمن، فإعجابي بالمسيري، ليس نابعاً بمواقفه تجاه ما بعد الحداثة والغرب والصهيونية ونظام الحكم المصري. وإنما إعجاب بمفاهيمه التي ابتكرها في قراءة خطاب الحضارة الغربية، كمفهوم التحيز والخرائط الإدراكية والنماذج التفسيرية والعلمانية الشاملة والجزئية والكمونية والحلولية.

وتحليل الصور المجازية هو إحدى الخبرات الأدبية المهمة التي تمرس فيها المسيري من خلال تخصصه النقدي، وقد استخدمها بكثرة في دراسته للصهيونية، وأفدت منها كثيراً في تعميق فهمي لوظيفة المجازات وعملها في الخطابات، حتى صار هذا المجال ميدان تخصصي الدقيق.

{ (جورج طرابيشي) أستاذ النقض، لديه نفس عميق في تتبع الإشكاليات الفكرية الضمنية والظاهرة في قراءة خطابات المثقفين العرب (محمد عابد الجابري وحسن حنفي وسمير أمين وغيرهم) تتبعاً ينقض حججها التي تقوم عليها، بما يتوافر عليه من معرفة عميقة بالفلسفة والمنطق ولغة متينة البناء والبيان وموسوعية تستوعب التراث بتنوعه والحداثة بتشظيها وما بعدها بهواماتها.

http://www.awan.com/node/90062

سرمد.. والجمل الأجرب

لدى الصديق سرمد الطائي حساسية فائقة تجاه الكلمات. تمكنه من اللعب ببعض المفردات، لعباً يدخلها بمهارة في سياقات متباينة. بحيث يجعلها تتنقل بين سياق الطرافة وسياق اللعب، وسياق المفهوم الفلسفي.4

كانت بداية تعارفنا العام 2002، قد جاءت على إيقاع اللعب بمفردة «التجريب». التقط سرمد بحسِّه التجريبي كلمة «الجمل الأجرب» التي أوردتها في سياق الحديث عن تحولات تجربتي الدينية في مقالتي «أركون وحكاية الذات». كنت أتحدث عن رغبتي في أن أسترسل في سرد حياتي، بكل ما فيها من ممارسات عملية وعلاقات شخصية واختيارات وذوق وقراءات وأماكن وفاعلية ومآلات الإيمان والطقوس والعبادات والمقدسات، لكني وبسبب حساسية سياقي الثقافي والاجتماعي، التي لا يمكن أن تتقبل ما هو خارج سلطة حسها، بررت عدم استرسالي هذا على نحو مكثَّف بعبارة قلت فيها «لا أقول إنه الخوف من أن ألقى مصير الجمل الأجرب».

صارت «الأجرب» ساحة تداول بيننا، سرمد وأنا، وصرنا نتحدث عن التجربة مشتقة من مادة (ج ر ب)، وعن التجربة الجرباء والذات الجرباء والمثقف الأجرب والمعرفة الجرباء والمصير الأجرب.

وباسترسال، لا حساسية تستوقفه، صرنا نعيث في مآلات هذا الجَرَب من عقر وطلي بالقار أو القطران. وبتذوق لا إطار يحكمه، أخذنا نتمثل عدواه وبدعته على غير ما حذر منه ابن تيمية «إن صاحب البدعة تنتقل عدواه كما تنتقل عدوى الجمل الأجرب».

هكذا تحوّل مفهوم «الجمل الأجرب»، بيني وبين الصديق سرمد، إلى مفهوم، والفلسفة هي عشق المفاهيم، ومجتمع الأصدقاء منذ العصر اليوناني هو مجتمع الفلسفة والمفاهيم، بل يغدو الصديق مفهوما تعشقه بقدر طاقته على التفلسف واللعب.

http://www.awan.com/node/90066

مي.. من القرامطة إلى أركون

  القرامطة كانوا خط اتصالي الأول بميّ الخليفة. كان ذلك في العام 2000. لم تمض سوى أشهر قليلة على صدور كتابها «القرامطة من سواد الكوفة إلى البحرين». كان 1215708335561696700 ضمن برنامج أسرة الأدباء والكتاب، إقامة حلقة نقاشية حول الكتاب. وقد توليت إعداد ورقة نقدية عنوانها «القرامطة في خطاب مي الخليفة: آليات التأريخ وتمثلاتها الرمزية».

كتبتها بروح الناقد المتحمس المشحون بآليات المعرفة الحديثة.. وكأني ضمنياً كنت أريد أن أجرِّب قدرتي على تمثل هذه الأدوات، في قراءة خطاب قد أخذ حيزه الإعلامي.. فميّ أصبحت بعد سلسلة كتبها التاريخية الجريئة، شخصية تاريخية لها حضورها الإعلامي المميز. والنقد دوماً كما تعلمته من أساتذتي المغاربة هو محاولة لتفكيك سلطة حضور الخطابات السائدة، وخطاب مي في تلك الفترة، كان شاغل الساحة الثقافية، كما هي اليوم بشخصيتها الثقافية شاغلة الناس.

مازلت مؤمنا بملحوظاتي النقدية على كتابها، لكني لست مؤمنا بالروح النقدية التي كتبت بها ورقتي.. كان التعقيب الذي مازلت أحفظه، والذي أدلت به مي بعد تقديم ورقتي: «إذا أخذت بكل ما قلته في ورقتك، فلن أكتب شيئاً».. أما المشاركون فقد اختلفوا حول الورقة، ما بين مؤيد ومعارض. من بينهم كان الصحافي اليساري العتيق بروح النكتة عبدالله العباسي، الذي اعترض على ورقتي، وقال: «آليات…آليات، اش آلياته؟! أنا ما فهمت شي»، وقد وجّه اللوم لي قائلا: ينبغي لنا أن نشجع جرأة مي واحتفاءها بالقرامطة باعتبارهم جماعة منشقة على السلطة ومعارضة وتؤمن بمبادئ الاشتراكية والعدالة، خصوصاً وأن الشيخة مي من العائلة الحاكمة.. وكونها تتبنى هذا الخطاب، فإن ذلك يعد أمراً استثنائياً.

كنت مأخوذاً بزهو الآليات، فقلت له: «وما ذنبي أنا إذا كانت آلياتك لم تتجاوز المطرقة والمنجل؟ (في إشارة إلى المنجل والجاكوج في علم الاتحاد السوفييتي) وأنا في ورقتي ناقد ولست معارضاً سياسياً أو داعية أيديولوجياً». لقد تركت هذه الحلقة أصداء نقاشية متباينة في الصحافة البحرينية. فصار القرامطة خط انقطاع بدلا من أن يكونوا خط اتصال بيني وبين ميّ.

في يناير 2002 كانت ميّ تستعد لتدشين «مركز الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة للدراسات والبحوث». وقبل التدشين بشهر عرفت أن محمد أركون سيكون ضمن قائمة الشخصيات، التي سيحتفي المركز بها في بدايات افتتاحه.

كان أركون بالنسبة لي أيقونة أحمل تجاهها مديونية خاصة. لقد تعرفت على كتاباته منذ العام 1994. وقد شكلّت هذه المعرفة تحولاً في سيرتي المعرفية، من التدين الأصولي المغلق إلى العلمنة المفتوحة الأفق. لذلك فمجيئه إلى البحرين، قد أشعل فيّ حماساً، حركني لإعادة الاتصال بمي، لأقترح عليها إصدار كتاب احتفائي بهذه المناسبة.. وكان حماس مي للمشروع قد ذوّب الجليد الذي كان بيننا.. هكذا كان أركون خط اتصالي الثاني بميّ.. وأركون هو خط اتصال دوما بالروح المشرقة بالمعرفة والانفتاح، ومازالت مي تردد دوما أن زيارة أركون للبحرين كانت حدثا ثقافيا، وقد وثقه الصديق حسين المحروس في تقرير موسع حمل عنواناً لافتاً «مرّ أركون من هنا».

توثقت علاقتي بمي، وكنت شاهداً قريباً على روحها التي تنجز بها مشاريعها الثقافية التي لم تتوقف أبداً، كان كل مشروع يفتح أفقاً لمشروع يهيئ لأفق مشروع جديد.. هكذا تتالت بيوتاتها الثقافية: بيت عبدالله الزايد لتراث البحرين الصحافي، بيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي، بيت الشعر (بيت إبراهيم العريض)، مكتبة الأطفال (اقرأ)، بيت الكورار.

تتصل بي مي، صباح الجمعة الفائتة، لتقول: أنا ذاهبة إلى باريس للاحتفال بمئوية إبراهيم العريض، وعلى هامش الاحتفال سأقدم ورقة عن تجربة مشاريعي الثقافية، سيكون عنوان الورقة (الرهان على الثقافة). أريدك أن ترسل لي مقولة أركون عن المثقف التي أضأنا بها كتاب (إشراقات) 2002. كتاب إشراقات هو كتاب سنوي يضم فاعليات مركز الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة خلال عام كامل.

رحت أبحث عن المقولة، وبدت لي طازجة، وملاذاً آمنا للمثقف من الطائفة. يقول فيها أركون معرّفاً المثقف «كل من يتحلى بروح مستقلة، محبة للاستكشاف والتحري، ذات نزعة نقدية واحتجاجية، تشتغل باسم حقوق الروح والفكر فقط».

حوار مع مي الخليفة

الشيخة مي الخليفة في أول حوار لها بعد أن غادرت كرسي الوكيل المساعد:

لم أراهن على غير الثقافة، ويحركني الغضب والحب

http://www.awan.com/node/84202

لا يحضر اسمها في مكان إلا ويكون محفوفاً بجدل غير مسبوق. امرأة تكثر (غير مسبوقاتها) على نShMaiphoto حو غير مسبوق. تطلق رهاناتها، ثم تمضي إليها ولا تكترث. تقول في أول حوار معها بعد أن غادرت منصبها الرسمي: "لم أراهن على أحد، لم أراهن إلا على نفسي وعملي".

متمردة عنيدة، مقاتلة شرسة، لا تلين ولا تنكسر، لا تعترف بالسرب، ولا بالمؤسسة الرسمية التي كانت تنتمي إليها متمثلة في وزارة الإعلام. تمردت على وزراء ثلاثة متعاقبين خلال أعوام أربعة وعدة أشهر؛ هي مدة توليها منصبها كوكيل مساعد.

تتجاوز أية سلطة إدارية تعيق تنفيذ مشاريعها المتعلقة بالثقافة والتراث. مشاريعها لا تسكت وليس لها سقف. تعمل منفردة ولا مكان لاستراحة المحارب ضمن أجندتها المكتظة دائماً.

على الصعيد الرسمي؛ هي الوكيل السابق لقطاع الثقافة والتراث الوطني التابع لوزارة الإعلام. أنجزت خلال توليها هذا المنصب عدة مشاريع غير مسبوقة، مثل تسجيل قلعة البحرين ضمن التراث العالمي، وإنشاء متحف قلعة البحرين بدعم من القطاع الخاص. والانضمام إلى عضوية لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو، وقد سجلت البحرين رسميا في تلك المنظمة، ومن مشاريعها غير المسبوقة، إنارة القلاع، فقد نجحت في إقناع القطاع الخاص لتحمل تكاليف إنارة قلعة البحرين، وقلعة عراد وقلعة الرفاع.

وقد توّجت مشاريعها غير المسبوقة إضافة إلى جهدها البحثي وأنشطتها الثقافية، بالحصول على وسام (غير مسبوق محلياً في مجال الثقافة والآداب)، وهو وسام الفارس في يناير/ كانون الثاني من العام 2008.

المرأة المراهنة تلك، هي الشيخة ميّ بنت محمد آل خليفة. أخضعت الشارع الثقافي البحريني إلى جدل مثير. جدل تصاعد مع تزاحمات برامجها ومشروعاتها وإدارتها وتحركاتها وجرآتها الإدارية (غير المسبوقة أيضاً).

قيل إنها المرأة التي "أشعلت حرب داحس والغبراء في البحرين"، وأنها قسمت الشارع الثقافي إلى قسمين، بين منحاز لها ومنحاز ضدها. بين ذائب في عزفها المنفرد، وبين ساخط لاختراقها المنفلت عن السرب. وبين طرف ثالث أقل، أراد أن يبقى على طرف من النزاع.

§ الرهان الأخير..

على الصعيد الشخصي والخاص؛ هي صاحبة مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث (تم افتتاحه 2002)، وهو المركز الرئيس لمشروع ممتد لا تزال مساحته آخذة في التوسع بسرعة ملفتة. من هذا المركز انبثقت عدة بيوتات محلية برزت كمحطات ثقافية جاذبة: مثل بيت الصحافة، بيت الشعر، بيت الموسيقى، بيت الكورار، ومكتبة اقرأ. كان لهذا المشروع دوره البارز في إثراء الحركة الثقافية البحرينية داخلياً وخارجياً على نحو غير مسبوق أيضاً.

ورغم المنصب الرسمي الذي تبوأته ميّ في القطاع، إلا أنها تعلن بخلاف المتوقع: "أنا لا أراهن على المؤسسة الرسمية، أنا أراهن على الثقافة فقط". "رهان الثقافة"، هو أيضاً عنوان محاضرة ستقدمها مي نهاية يونيو الجاري في أحد البيوتات الثقافية في فرنسا، بتنظيم من المثقفين العرب في فرنسا. في هذه الورقة ستقدم ميّ منظورها الخاص عن رهانها الخاص؛ رهانها للثقافة وعلى الثقافة، وذلك من خلال أنموذج تجربتها البحرينية.

§ شيء آخر..

لا تراهن ميّ إذاً، على منصبها أو وظيفتها، بل تراهن على شيء آخر. تقول "المنصب الذي كنت فيه كان محدودا وصغيراً ودون سقف مشاريعي. ليس له صلاحية. أنا أعطيت المنصب حركة وإيقاع مختلفين، لأني كنت أتحرك من خلال شخصي، لا من خلال منصبي. عندما أتيت المنصب كنت واقفة على سبعة كتب، وكان لدي مركزان ثقافيان نشطان، وكانت لي علاقة متينة بشخصيات لها ثقلها الاجتماعي والثقافي. لا يمكن إغفال دور العلاقات الشخصية في تعزيز وجود المثقف وترسيخ مكانته. العلاقات توسِّع مدارك الإنسان وتفتح أمامه أبواباً جديدة وأفكار. نحن لا نكتفي بذواتنا، نحن نتعلم في كل يوم الجديد".

ثم توضح "العمل الذي قمت به في المؤسسة الرسمية لم يكن عملاً. أنا لست موظفة أسترزق. أنا لم أذهب للوظيفة، الوظيفة هي التي أتت لي. أنا سيدة كنت أعمل في بيتي: أرسم، أكتب، أعمل دراسات تاريخية. ثم قمت بإنشاء مركز ثقافي. كان دافعي إلى ذلك الثقافة. حب الثقافة فقط. وخلال شهور أربعة فقط، تجاوزت أنشطة هذا المركز بتألقها وحيويتها أنشطة بعض المؤسسات الرسمية. عندها أوكلت لي مهمة الإمساك بالقطاع الرسمي. وكنت متخوفة من ذلك. أتيت القطاع الرسمي وعملت بنفس الإيقاع ونفس الحب. لم تكن علاقتي بالعمل في القطاع علاقة عمل، كانت علاقة حب"

وتوضح "الآخرون الذين كانت توكل إليهم نفس وظيفتي، يأتون مكاتبهم في المتحف، ثم يجلسون. أنا أدخل المتحف فلا أجلس. أدور في داخله لأبحث عن الزوايا التي تتيح لي أن أنعشه من خلالها. المتحف عندي مؤسسة تعليمة أساسية. هي ليست مكاناً لوضع الآثار والمعروضات. المتحف يجب أن يكون صرحاً ثقافياً، يجب أن تقام فيه أنشطه ثقافية. يجب أن يُحرك كي يفعل وجوده الثقافي. وهكذا حرصت على أن أجعل من هذا المكان متحف، وشيء آخر".

§ تحرك المحب..

تفتخر ميّ بما حققته في المتحف من انجازات، وما جعلت له من حضور غير مسبوق، فتضيف "كان المتحف يغلق أبوابه يومين كاملين هما الجمعة والاثنين، بالإضافة إلى عصر يوم الخميس، وأوقات الظهيرة من الثانية حتى الرابعة كل يوم. لفتتني السفيرة التركية إلى أنها حاولت زيارة المتحف على مدى أربع مرات، لكنها كانت تأتي لتفاجأ في كل مرة أن المتحف مغلق. منذ الأسبوع الأول لتسلمي القطاع، عملت على فتح أبواب المتحف يومياً من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساء. فصار متاحاً للجميع في أي وقت. صار باباً يدعوك للدخول إليه"

ربما لهذا، لا ترى ميّ أنها قد أُخرجت من حقل الثقافة والتراث. تقول "لا أحد يخرجني من مكاني. عملي ليس حيث الكرسي. عملي هو في الثقافة والتراث. هذا هو ما يسكنني. أعمل وفق محرّك داخلي. أعمل في هذا بلا هوادة وبلا راحة. لن أقف عند منصب. المنصب كان تبعة مكلِّفة جداً. رجوعي الثاني للقطاع كان بهدف حماية المواقع الأثرية؛ تسجيل قلعة البحرين في قائمة التراث الإنساني هو هدفي. كتبت ذات مرة شيئاً عن علاقتي بقلعة البحرين وطفولتي قريباً منها. ما تم انجازه لدخول قلعة البحرين شيء خيالي. لا يمكن للموظف أن يعمل وفق هذا الجهد الخيالي ما لم يكن مسكوناً بالحب. فـ(بالحب تحرك المتحرك) كما يقول ابن عربي. قلت قبلاً أن ما يحركني هو حب وغضب. حب لأشياء وغضب من أشياء. لماذا يتركون هذه الآثار دون حمايتها. الحب هو ما يبقى لا الحسبات. هؤلاء تحركهم حسبات سياسية وضغائن، لكن لا يحركهم الحب"

لكن ماذا تشعر ميّ تجاه القطاع الآن، وقد غادرته؟ تقول مي "أنا لدي مشاريعي ماضية فيها. لا أنكر أني أخشى أن تدمّر الانجازات المتحققة، وعيني عليها. لكن لا يحق لي الآن أن أتكلم عنها. أنا الآن خارج المؤسسة الرسمية. لدي الكثير مما أقوله. لكن الذي أستطيع أن أقوله هو أتمنى أن تتواصل الأمور. سأجلس خارجاً الآن وسأتفرج. والوقت هو الحكم. والفرص لا تتكرر"

§ ترف الثقافة..

لا تختلف الأطراف الثقافية بشأن قوة حضور ميّ في الساحة الثقافية، وما تشعله فيها وما تشغله من حراك ثقافي متفرِّد، لكنها تختلف بشأن تفاصيل إدارتها للقطاع، وعلاقتها بكل من رؤسائها ومرؤوسيها والأطراف المختلفة معها. كما تختلف بشأن معالجة ميّ لقضاياها الخلافية. إلا أن قضية "فصل قطاع الثقافة عن وزارة الإعلام"، تأتي على قائمة نزاعات ميّ وصراعاتها الداخلية، ما جعل ميّ لا تعترف بأي قرار إداري يظهر سيطرة (الإعلام) على قطاع (الثقافة والتراث)، أو يعرقل أي من مشروعاتها فيه. الأمر الذي استجلب بدوره خناقات مستمرة بينها وبين وزراء ثلاثة توافدوا على الإعلام خلال توليها منصبها الرسمي. فيما "كانت حقبة الوزير الثاني هي الأخف وطأة" كما تقول.

تمكنت ميّ، وبوحيٍّ من قوة رهانها، أن تجعل اسمها قريناً لكل ما يحضر فيه اسم الثقافة والتراث، وأن تجعل من الثقافة حديثاً شارعياً بعد أن كان حديثاً نخبوياً يدور داخل جدران أسوار مغلقة. تراهن ميّ على ذلك عبر قولها " لم يكن استقلال الثقافة موضوعاً مطروحاً عند أحد من قبل. لم يكن الشارع تعنيه الثقافة ولا يلفته نشاطها. كان الشارع منشغلاً بهمه اليومي وشأنه السياسي والحياتي فقط. الكثير من الناس كانت ترى إلى الثقافة أنها محض ترف؛ أن تحضر أمسية موسيقية فهذا ترف، أن تتعنّى للمشاركة في أمسية ثقافية فهذا ترف. الجدل الذي أحدثته الثقافة مؤخراً، سلباً كان أو إيجاباً، جعل الثقافة تأخذ موضعاً (ما) بين اهتمامات الناس. صارت حديثاً يتحرك بين الناس ويحرِّكهم. صارت الثقافة قريبة أكثر من الناس، قريبة من أعينهم وحضورهم".

ورغم ما حرَّكه هذا الجدل باتجاه الثقافة وأحاديثها. إلا أن ميّ أخذت الجانب الأكبر من التأييد، بقدر ما أخذت الجانب الأكبر من النقد كما حدث في ربيع الثقافة الأول، ما تلاه من أحداث يرتبط بعضها بتجاوزات ميّ الإدارية فيما يتعلق بمشاريع القطاع. إذ ارتفعت العديد من الأصوات الرسمية والإعلامية والثقافية، منددة أن "لا أحد فوق القانون"، مرجعة اختراقات ميّ (غير المسبوقة) في وزارتها وبرامجها، إلى انتمائها إلى الأسرة الحاكمة. لكن ميّ وعلى خلاف ذلك ترى أن "كوني من الأسرة ظلمني كثيراً".

§ الاستثمار..

الاستثمار في الثقافة، كان أحد المشاريع التي رفعتها ميّ لتوظيف رؤوس الأموال الخاصة، بغرض دعم المشاريع الثقافية، ومنها تجديد المباني وإنشاء المتاحف. أشارت ميّ أن أجندتها الاستثمارية كانت تتضمن 19 مشروعاً لتأسيس البنية التحتية للثقافة، بالاستعانة بأفضل المتخصصين في مجالاتهم، وكان أبرز تلك المشاريع تجديد المتحف الوطني وبناء المسرح الوطني وإنشاء متحف للفن الحديث. تقول ميّ " رفعت شعار الاستثمار في الثقافة. وأنا مستمرة في هذا البرنامج من خلال مشاريعي الخاصة الآن. وهي سائرة بهذا الاتجاه. لكن المؤسسة الرسمية لا تعترف بهذا".

وتضيف قائلة "سعيدة أنا أني تمكنت من إنشاء متحف ثاني في البحرين؛ متحف قلعة البحرين. وهو متحف يخدم الموقع الأثري الأهم في البحرين، ويحتوي على دليل سمعي. يتيح لك أن تستأجره لتتعرف من خلاله على الموقع. يحتوي الدليل ترجمة بثلاث لغات العربية والانجليزية والفرنسية". ثم تضيف "وزارة الإعلام رفضت توفير موظفين للمتحف. تطوع 60 شخصاً للعمل في المتحف. كانوا يعملون طوال الوقت دون مقابل. بقى منهم الآن 6 فقط".

تعيب ميّ على الوزارة تجاهلها لمشروع هام مثل المتحف، وتعتبره استهدافاً لا للشخص، بل للوطن المستفيد الأول من مثل هذه المشاريع. تقول "هناك أشخاص لا ألتقيهم في أفكارهم ولا أشخاصهم. لكن نوعية ما يقدمونه من عمل يفرض عليّ دعمهم وتقديمهم على غيرهم في كثير من الأشياء. مادام هؤلاء سيقدمون شيئاً متميزاً يظهر وجه البحرين. أنا لا أدعم الأشخاص هنا. بل أدعم البحرين. يجب أن يكون حلمي أكبر من الذات"

§ الفصل القاطع

وحول مطالبتها المستميتة والعنيفة بالفصل بين قطاع الثقافة والإعلام، تقول ميّ "لا يمكن أن تأتي بمهندس وتطلب منه أن يقوم بعملية جراحية. ولا يمكن أن تأتي بطبيب وتطلب منه أن يقوم بهندسة بناء. الإعلام جهاز خطير. ووزير الإعلام لديه الكثير ليقوم به في هذا الجهاز. نعلم أن الإعلام جهاز لم يتم توظيفه بالشكل الصحيح حتى الآن. أما الثقافة والتراث فهي مسؤولية كبيرة أخرى. هي لون آخر وطبيعة أخرى. هي عمل مختلف تماماً".

توضح ذلك قائلة " في الثقافة والتراث، أنت تتحدث عن هوية. بدون هوية أنت تفقد خصوصيتك. إذا لم تعمل على فرض خصوصيتك أمام العالم، وإذا لم تعمل في الوقت ذاته على تطويرها بشكل ملائم، فأنك تضيع. إذا لم تبرز خصوصيتك وتكون معتزاً بجذورك، فإنك تمحى، وتمحى معك كل جذورك. كان لدي حلم كبير. المشروع الذي أحمله بحجم وطن. لم يكن بحجم شخص. كنت أريد أن أنشئ سبع متاحف. إلى جانب خطط أخرى تعمل بموازاتها".

أما عن اختلاف إيقاعها مع إيقاع العاملين في حقلها الثقافي، تبرر ميّ "إيقاعي الذي أعمل به خيالي. ليست لدي دقائق من أجل راحة. ربما عيبي أنني سريعة جداً. من لا يستطيع مجاراة سرعتي أتجاوزه سريعاً. ضاعت علينا أشياء كثيرة فيما مضى، ولم يعد مقبولاً أن نمشي بإيقاع أبطأ".

وعن ملتقى «الثقافة في البحرين – واقع وتطلعات» الذي عقد في نادي العروبة في 11مايو2008 والذي شاركت فيه 11 مؤسسة ثقافية، تقول مي " وفق معياري الثقافي يكفي أن يقول أحد المثقفين ببقاء القطاع تابعاً للإعلام كي أرى أن الحوار الثقافي معه غير منجز"

253

§ رهان داخلك..

لكن كيف ترى ميّ إلى المثقفين الذين تعتقد أنهم خيبوا ظنها، وكيف تتعامل مع الجهات الرسمية التي كانت كذلك؟

تقول "ليست لدي خيبة. لم أعول إلا على نفسي. لم أعتمد على أحد في أي شيء. في كل شيء كنت أحفر لوحدي. لا أتكئ على عصا أحد. الجميع لهم المعزة في نفسي. لكني لم أعتمد إلا على نفسي. تجربتي تثبت لي مع الوقت أن رهاني على الأشخاص خاسر، ورهاني ليس إلا على نفسي. ما يحركك هو داخلك لا خارجك. لا يحركك موقع رسمي أو منصب، ولا مثقفين يدورون حول أنفسهم. هؤلاء لا يحركوني. هناك في الحياة أشياء جميلة. أنا أتذوقها. هذا هو ما يحركني. وهناك أناس يصلني حبهم. هذا يعطيني حماية نفسية. وهذه الأشياء تكفيني".

وتضيف "أنا أطوف سريعاً. لدي أشياء كبيرة أريد أن أنجزها. أحتاج وقتي لأمضي فيه. لن أدخل في الجدل الدائر لأنه لن يؤدي إلى شيء. سأتركهم يتناقشون ويأتمرون. أنا لا أؤمن بالكلام. أؤمن بالعمل فقط. عندما أرى طفلاً يقرأ كتاباً في مكتبة (اقرأ) التابع لمركز شيخ إبراهيم، أشعر بالإنجاز. حتى نساء الكورار عندما يأتي إليهن الناس في بيت الكورار، ويسألونهن وتجيبهن هؤلاء النسوة من خبرتهن، أشعر بالإنجاز. الإنجاز هو رهاني".

§ حصار الثقافة..

لم تكن الأشهر الستة التي سبقت مغادرة مي لقطاع الثقافة يسيرة. بل كانت ممتلئة بالضغط النفسي والعصبي كما تقول مي "خلال ستة شهور تعرضت لأكثر مما تتعرض له غزة في حصارها. لقد منعوا عني كل شيء. كل الصلاحيات الإدارية والمالية بشكل لا يمكن الصمود معه ليوم واحد. كان تحطيم أعصاب. أنا أردت أن أبقى حتى النفس الأخير. كانوا يريدونني أن أستقيل من تلقاء نفسي، حفظاً لماء الوجه. لكني كنت أقول: احضروا من تريدون وضعوه مكاني، لكني لن أستقيل بنفسي. كنت أريد أن أكشف أقنعة الوجوه كلها. حتى اللحظة الأخيرة. عرفت قبل مدة بأن هناك من سيأتي مكاني. ومع هذا بقيت أحضر معارض وأقوم بافتتاحات رسمية"

مقطع آخير ترويه ميّ من الضغوط التي تعرضت خلال هذه المدة. تقول "كنت قبل أكثر من عام، قد عقدت اتفاقاً مع متحف في فرنسا بخصوص متحف الأقنعة الذي افتتحناه في ربيع الثقافة 2008، قبل أسابيع قليلة من موعده تصلني رسالة من الوزير، بأن لا داعي لإقامة هذا المعرض. المعرض كلفته نصف مليون دينار. حتى قبل 10 أيام لم يكن في يدي فلس واحد. الوزارة لم تدفع شيئاً. هل يمكن تخيل صعوبة تدبير مثل هذا المبلغ خلال تلك الفترة. المعرض الآن موجود، ولا يزال قائماً. أنا غادرت المتحف وهو باق هناك. لا يهم. أريد أن أعمل باسم البحرين. لا يهم باسم من يظهر. مؤمنة أنا تماماً، أن "العمل الصالح ثوابه في العمل نفسه" هذا ما تعلمته ذات رسالة أبوية من إبراهيم العريض، قامة البحرين الثقافية التي سيحتفل مركز الشيخ إبراهيم بمئوية مولدها في نهاية هذا الشهر في اليونسكو. وتقدير الناس هو شيء مكمِّل، لكنه ليس هو الثواب نفسه"

§ ربيع الثقافة..

لكن ماذا عن مصير المتاحف السبعة الآن وربيع الثقافة؟

تجيب ميّ "توقفت، كانت تلك مشاريعي، وقد توقفت بعد خروجي". ثم تضيف "متاحف العالم الجديدة الآن، كلها تدار عبر مؤسسات أهلية. حضرتُ مؤتمر في سيسيلي في إيطاليا تحت عنوان خصخصة التراث، يشير إلى أنه لا سبيل لتطوير المواقع الأثرية وتطويرها وصيانتها والاستفادة منها وتشكيل حركة سياحية ثقافية صحيحة إلا من خلال القطاع الخاص"

وماذا عن ربيع الثقافة؟

"ربيع الثقافة سيستمر. هو مشروع مشترك بين بين مركز الشيخ ابراهيم وبين مجلس التنمية. لا أعرف لماذا يريدون إخراجي من ربيع الثقافة. هؤلاء المثقفون يدورون حول أنفسهم. أنا من أعطاه الاسم. وأنا من أعطاه الشعار. هذا المشروع قام على 3 أشخاص. كنت أنا، ومعي دالية عماشة رئيسة قسم السياحة في مجلس التنمية الاقتصادية، وايمان هنداوي المديرة التنفيذية لمركز الشرق الأوسط للثقافة والتطوير وصاحبة مشروع سوق عكاظ "الربيع مستمر. النجاح الذي حققه لم يكن متوقعاً بهذا المستوى. أنا أخذت الجانب الأكبر من رصيد النجاح ومن رصيد النقد. التكاليف بالكامل هي مدفوعة من مجلس التنمية. لكن تكاليف أنشطة مركز شيخ إبراهيم، خلال ربيع الثقافة أنا أدفعها بالكامل. وبرنامج العام القادم للمركز جاهز، وهناك أسماء كبيرة ضمن برنامجنا، لكن لن أعلن عنها الآن"

§ حين سكتوا..

الآن وبعد أن غادرت ميّ رسمياً موقعها، سكتت الأصوات الضاجّة كلها؛ الصفحات الثقافية والأعمدة والمثقفون والبرلمانيون. بدت هذه الأصوات وكأنها تقاطرت صمتاً بعد كانت تتقاطر صفوفاً بالكلام. لكن ماذا عن قطرات ميّ بعد كل هذا؟ وماذا عن مشروعاتها؟ هل تأثرت أم لا تزال تنهمر كعادة اكتظاظها؟

"لست مشاريعي قطرة، بل سيلاً متدفقاً لا يتوقف عن الانهمار". بهذا تراهن مي على قطراتها، ثم تضيف "لم تبدأ مشاريعي مع منصبي في المؤسسة الرسمية، ولم تتأثر أثناءه، فكيف تتأثر الآن؟ مشاريعي الخاصة آخذة في التوسع، وبزخم أكبر، وبدعم خاص أكبر، لا وقت لدي للالتفات. وقتي أقايضه بالعمل، وأقبضه إنجازاً صرفاً أهديه للثقافة. وقتي ليس كلاماً".

ثم تضيف " نعم. المثقفون الآن سكتوا. ارتاحوا. دعهم يرتاحون. دعهم يبقون مع المؤسسة الرسمية. الثقافة في نظري إبداع حر لا يمكن تقييده"

وحول برنامج أجندتها الأقرب تقول "الأقرب سيأتي نهاية يونيو الجاري، نقوم من خلال المركز بالتنظيم لاحتفالية خاصة في فرنسا باسم الشاعر إبراهيم العريض (1908- 2008). اليونسكو لديها برنامج يتيح الاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على شخصيات لها ثقلها ووزنها الثقافي والعلمي. تقدمت لهم باسم إبراهيم العريض الذي يكمل مئويته نهاية هذا الشهر، وقد تم قبول طلبي". توضح ميّ تفاصيل الاحتفال "سنعمله من خلال مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، في إحدى القاعات الرئيسية في اليونيسكو. يتضمن البرنامج فعالية تتناول سيرته، وكتيب يتناول نبذة عن حياته، كذلك مراسلاته مع بعض الأسماء المعروفة، سيكون هناك ما يشبه المعرض، يحتوي على الكتب المطبوعة عنه في ركن من الأركان. سيكون معه معرض متكامل".

أما عن الجمهور الذي سيحضر الاحتفال، فتقول مي "الجمهور كلّه فرنسي ما عدا أصدقاء معدودين سيأتون من هنا وهناك. وجهنا دعوة إلى 800 شخص. سيكون الاحتفال على مدى خمسة أيام تمتد من 23 وحتى 27 يونيو الجاري". هناك، وفي الفترة نفسها سيكون لميّ لقاء يجمعها بالمثقفين العرب في فرنسا، تلقي فيها محاضرة حول تجربتها الثقافية، توضح "المثقفون العرب في فرنسا مثل محمد أركون وأدونيس وعيسى مخلوف ونبيل أبو شقرا، قاموا بتنظيم محاضرة لي فترة وجودي هناك. أسميت ورقتي "رهان الثقافة. البحرين نموذجاً". لكني لن أضيف الآن توضيحاً أكثر كي لا افسد عليَّ ورقتي".

لكن هل يبدو شيئاً غريباً، أن تكون مئوية العريض ليس لها أي التفاتة هنا في البحرين؟

تضحك مي، ثم تجيب " ماذا أفعل إذا لم يكن أحد ملتفتاً إلى هذا. لم أسمع أن أحداً هنا قد فكر في عمل شيء بمناسبة هذه المئوية. بيت العريض نفسه كان سيهدم، وكانت هناك رخصة لبناء عمارة سكنية مكانه. بالإمكان سؤال المالك الأصلي عن ذلك. كانت إجراءات الهدم منتهية، ولم أحصل على ذلك البيت إلا بعد معاناة شديدة. لكن لا أحد يعرف كيف حصل كل ذلك".

وعن سلسلة مشاريع مركز الشيخ إبراهيم، تقول ميّ " ترقبوا أربعة بيوت جديدة ستفتتح بين سبتمبر وأكتوبر. الأول سيكون مركز معلومات عن البيوتات. والثاني في مركز الشيخ إبراهيم، إذ ستتحول صالة الزوار إلى فناء يضم مأثورات الشيخ إبراهيم، وسيتم افتتاح قاعة خاصة جديدة ملحقة بالمبنى. الثالث هو افتتاح بيت القهوة، وهي مقهى على الطراز الحديث تقدم خدمة ثقافية لزوار المكان. أما الرابع فهو ملحق بيت الزايد، وهو امتداد لبيت الزايد، يتصل به من الطابق العلوي. يمكن عمله كمكتبة متخصصة للصحافة". تقول ميّ ذلك ثم تعقب " أنا أرى الأشياء وهي منتهية. لا أراها وهي قبل ذلك".

هل هذا كل جديد المركز؟ تضيف مي "الآن أيضاً سنبدأ العمل في بيت التراث المعماري. كما سنقوم ببناء نُزُل للضيوف الذين يأتوننا من الخارج".

أما أكبر مشاريع ميّ في المحرق، كما تقول فهو عمارة مطر. تقول " هذا أكبر المشاريع حتى الآن. هو مشروع خيالي. سلمان بن مطر كان من أشهر تجار اللؤلؤ في البحرين. لدينا وثائق أصلية. مكتبي الرئيسي سيكون هناك. وسيتضمن المشروع مقهى خاص، وسيكون جو جديد للمقاهي لم تعرفه البحرين"

ثم تضيف " في عمارة مطر، سيبقى الجزء القديم كما هو. لكن الإضافة ستكون عبارة عن معرض دائم للفنانين البحرينيين. بالإضافة إلى دعمه للمعارض الفنية. وهي خدمات مجانية يقدمها المركز. فالفكرة من إنشاء مركز الشيخ إبراهيم هي العطاء لا الأخذ"

يؤخذ عليك أنك لم تولي القطاع الثقافي الأهلي شأناً ذا بال من خلال شغلك منصب الوكيل المساعد. أو على الأقل، لم تقاتلي لأجله كذاك، قتالك من أجل مشاريع كرست لها جهدك ووقتك: تسجيل قلعة البحرين ضمن قائمة التراث العالمي، أو حجز كرسي للبحرين في لجنة التراث. كيف تردين على ذلك؟

صدر قانون الآثار للبحرين سنة 1970، وعدل بالمرسوم بقانون رقم (17) لسنة 1985، وعدل بمرسوم بقانون رقم (11) لسنة 1995لحماية الآثار. وهو قانون دون المستوى المطلوب، ولا يمكني بهذا القانون منع البلدية من تدمير المواقع الأثرية وعلى الرغم من جهودي في مجال حماية الآثار، لم أتمكن من تعديل هذا القانون، فكيف يمكنني أن أعدل قانون الجمعيات الصادر عام 1989وسط هذه الحروب الشرسة.

مدونة الباحث د.علي الديري