أثارت احتفالية التيار الوهابي في المملكة السعودية، وبدرجة أقل تيارات أخرى سنيّة وإخوانية في الخليج على وجه الخصوص، بالاعلان عن سيطرة تنظيم «داعش»على محافظة الموصل العراقية في 10 حزيران (يونيو) 2014 حزمة أسئلة كبرى حول ما يمثّله التنظيم في الوعي الشعبي الوهابي، في الهوية الدينية، وفي التوقعات المعلنة والمضمرة لدى أتباع المذهب ولدى عموم السنّة.
في غمرة الصخب الداعشي الذي رافق الاجتياج لمناطق واسعة في العراق، شعر جمهور الناشطين وطلاّب الحريّة في المناطق السنيّة في العراق وبما يحملونه من مطالب مشروعة اقتصادية واجتماعية وسياسية بالإحباط الشديد لأن ثمة «عدواناً» آخر وقع عليهم نتيجة اختطاف تنظيم «داعش» لنضالهم السلمي المدني. وساهمت قنوات فضائية خليجية في تعزيز المعادلة الميدانية على حساب الحراك الشعبي السلمي في المناطق السنيّة. في النتائج، برز «داعش» بوصفه حبل نجاة ليس لسنّة العراق فحسب بل ولعموم السنّة في المنطقة، الأمر الذي فجّر هواجس أمنية وسياسية إقليمية ودولية..
وبدا أن «داعش» ليس ظاهرة فكرية أو سياسية ـ اجتماعية طارئة أو عابرة، ولا أفكاره صنعت في غير أرض، وإن الاكتشاف، بوقع الصاعقة، تمثّل في أن هذا التنظيم كان بمثابة السلالة النقيّة للجيل الوهابي المؤسس، وهنا تكمن خطورة ما يدبّر لمستقبل المملكة السعودية على وجه الخصوص والمنطقة عموماً.
في التداعيات، وخصوصاً بعد إعلان «داعش» عن الخلافة الاسلامية في 29 حزيران (يونيو) 2014 ، فإن المشروعية الدينية للدولة السعودية باتت في موضع خطر جدّي، إذ لم تعد الوكيل الحصري للعقيدة الوهابية. فإعلان الدولة الاسلامية يشي بنزع المشروعية وجدارة الاستمرار، وإنها، أي دولة «داعش»، أصبحت الوارث الشرعي للوهابية، الأمر الذي يعني أن السعودية، دون بقية الدول، المستهدف الأول لمشروع دولة الخلافة بقيادة أبي بكر البغدادي، الذي حقّق، بحسب متبنيات العقيدة الوهابية في ولي الأمر، العنصر المفقود في الأسرة المالكة في الجزيرة العربية، أي العنصر القرشي، وهو الذي يُنظَر اليه بكونه شرطاً جوهرياً، من وجهة نظر تيولوجيين إسلاميين (ابي الفراء الحنبلي وابن خلدون وابن القيم وغيرهم) في الخليفة.
في لحظة ما، وفي محصّلة أوليّة، أخرج «داعش» المستور والكامن والمحبوس داخل كثيرين ينتمون للتيار الديني الوهابي في المملكة السعودية. اكتشف هؤلاء في ضوء السردية الداعشية أنهم أعضاء غير رسميين في التنظيم، وربما رعايا في دولته أيضاً. عبّر كل منهم عن انتمائه له على طريقته، وبإسلوبه الخاص، فمنهم من وصف سيطرة «داعش» على الموصل أنها «حركة تحرير» كما جاء في تغريدة للشيخ الصحوي سلمان بن فهد العودة، بالرغم من الخصومه المعلنة بينه وبين تنظيمات السلفية الجهادية (القاعدة وداعش حصرياً)، ومنهم من وصف مقاتلي «داعش» أنّهم ثوّار كما فعلت صحيفة (الجزيرة) التي تصدر من العاصمة السعودية، الرياض، بالرغم مما قيل عن تمايز بين «داعش» ومجموعات ثورية انتفضت على الحكم العراقي، فيما راح ناشطون من التيار الديني الوهابي يملأون فضاء (تويتر) بتغريدات تمجيدية صريحة تارة ومواربة أخرى لارتكابات مقاتلي «داعش» في العراق وإدراجها في سياق الثورة الشعبية، إلى جانب الطابع المذهبي/الطائفي المرافق لها وتصويرها على أنها منازلة سنيّة ـ شيعيّة..
وفي يوم الاعلان عن «الدولة الاسلامية» أو «الخلافة» وتتويج أبي بكر البغدادي، إبراهيم بن عواد البدري خليفة على المسلمين، بادر بعض أتباع المذهب الوهابي في المملكة السعودية إلى مبايعته، على الأقل في العالم الافتراضي، وهنا يكمن السؤال المفتاحي لفهم علاقة «داعش» بالمملكة السعودية، وبأتباع المذهب الرسمي فيها.
عوامل النشأة
لا ريب أن نجاح التنظيم لعب دوراً محورياً في اختراق الوعي الشعبي الوهابي أولاً والاسلامي السنّي ثانياً، ولكن النجاح يأتي كنتيجة لتظافر عوامل تشكّل معقّدة أنتجت مثل هذا التنظيم، وتالياً وفّرت أسباب نجاحه. وعليه، فإن بناء صورة متكاملة عن التنظيم يتطلب عودة إلى جذور نشأة التنظيم وصولاً إلى هيئته الراهنة. وسوف نستعرض أهم العوامل على النحو التالي:
أولاً: الحملة الإيمانية التي بدأت في نهاية التسعينيات من القرن الماضي بقرار من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وتزوّدنا مقالة الكاتبة والاعلامية السورية ثناء الإمام من بغداد والذي نشر قبل شهر من إعلان الحرب الاميركية على العراق في آذار (مارس) 2003 بمعطيات على درجة كبيرة من الأهمية حول انعكاسات الحملة الإيمانية على الشارع العراقي. سلّطت الإمام الضوء على انتشار «ظاهرتي التدين والتسلّح بين المواطنين العراقيين..».
في الظاهرة الدينية، تتحدث الإمام عمّا يشبه الانقلاب في البنية السيكولوجية العراقية «فمن عرفوا بحب الحياة والكحول باتت غالبيتهم متدينة على ايقاع احباطات الفقر وريث الحصار». وفي هذا السياق، أصدرت القيادة العراقية أوامرها ببناء مئات المساجد في بغداد في السنوات العشر الأخيرة التي سبقت سقوط النظام، كما صدر قرار رسمي بمنع الكحول في المطاعم والفنادق، وحورب البغاء بصورة رسمية وبقسوة عام 2000، يضاف إلى ذلك انتشار ظاهرة الحجاب حتى في شوارع العاصمة. ولا بد من الحذر في التعامل مع هذا التصوير على اطلاقه، فالحياة التي تتحدث عنها الإمام تقتصر على البيئة الحاضنة للنظام في العاصمة العراقية وليس في عموم العراق بمجتمعه المحافظ.
تلفت «ثناء الإمام» إلى التجليات الدينية للحملة الايمانية في الشارع العراقي «فاالعراقيون مدفوعون باحباطات الحصار لجأوا إلى التدين فعلاً» وأن أكثر من 70 في المئة منهم باتوا مصلّين وفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة «النهار» البيروتية في الشارع، وشمل النخب السياسية والثقافية.
أما ظاهرة التسلّح، بحسب «الإمام»، فهي ليست وافدة، ولكن الحملة الأميركية على العراق «ساهمت أكثر في تسليح المواطنين سواء بقرار شخصي أم بتمويل رسمي». وتسجّل «الإمام» مشاهداتها في العاصمة وتقول: «واذا تجوّلت في شوارع بغداد، تجد بين الفينة والأخرى رجلاً يحمل السلاح في يد وفي الأخرى لوازم بيته وكأن حمل السلاح ثقافة مسموح بها بل موضع ترحيب هنا». ونقلت عن مواطن عراقي يعمل حارساً قوله باللهجة العراقية «ماكو بيت عراقي ما في سلاح…الكل مسلح».
تضع «الإمام» ذلك في سياق سياسة العسكرة التي تبناها نظام صدام حسين في إطار بناء ما أسماه «جيش القدس»، إذ كان ينتمي سبعة ملايين مسلّحاً لهذا الجيش الذي تأسس عقب انتفاضة الاقصى «ويضم عناصر بعثية ومتقاعدة ومستقلة والجميع مدربون على السلاح».
تخلص «الإمام» من مشاهداتها إلى نتيجة دقيقة وفي غاية الأهمية أن «المشهد كله في إطار الظاهرتين ـ التدين والتسلّح ـ يبدو مرعباً وخصوصا في ضوء سيناريوات ما بعد الضربة والوضع الامني الذي ستشهده البلاد».
مفاعيل ظاهرتي التدين والتسلّح بعد سقوط النظام بدأت بوتيرة مجنونة، إذ أخذت شكلاً دموياً غير مسبوق، وخلقت بيئة مؤاتية لتحالفات مجموعات دينية ومسلّحة، وصار الانخراط في التنظيمات السياسية يتم عبر البوابة الدينية، والطائفية بوجه الخصوص.
ثانياً: التقاء مصالح فلول النظام العراقي السابق، والمشروع القاعدي العابر للحدود، والإحساس المستبد بالخسارة التاريخية للسلطة من قبل الأقلية السنيّة.
فالإحباط الشديد الذي أصاب سنّة العراق إزاء ما تعرّضوا له من انتكاسة تاريخية بعد سقوط النظام وتداعياته اللاحقة دفع البعض منهم لناحية تبني خيارات راديكالية، إذ نجحت خطة الزرقاوي، جزئياً على الأٌقل، في إشعال نزاع طائفي سني شيعي وانعكاسه على أوضاع السنة في بعض المدن الكبرى والعاصمة على وجه التحديد. فقد هرب عدد كبير من العوائل السنيّة من العاصمة بعد انفجار العنف الطائفي. وبحسب برقية أميركية في أيلول (سبتمبر) 2007 فإن أكثر من نصف أحياء بغداد تسكنها الآن أغلبية شيعية واضحة، في وقت فشلت فيه الحكومة المركزية في اعتماد سياسة إدماج وطني شامل، وبذلك تمكن داعش «من استغلال الحس المتنامي بالتغريب والاضطهاد بين صفوف السنة في العراق .
لا بد في السياق نفسه من إلاشارة إلى الأثر التدميري لمشروع المحاصصة الطائفية الذي اقترحه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر والذي أسس لتقسيم العراق إلى دويلات على أساس طائفي وقومي. وقد خضعت الطبقة السياسية الحاكمة تحت تأثير هذه «الوصفة» الكارثية على وحدة العراق، ومزّقت النسيج الاجتماعي، وقوّضت أسس الوحدة الوطنية، من خلال تكريس النزوع الطائفي التقسيمي، الذي فرضه النظام السابق ثم أضفى عليه الاحتلال الاميركي مشروعية من خلال اعتماده كنظام للحكم. والأخطر في ذلك، أنه دفع النخبة السياسية والعسكرية السنّية التي كانت حاكمة قبل سقوط النظام في 9 إبريل 2003 إلى اعتناق خيارات راديكالية والاندماج في تنظيمات سلفية متطرّفة تكفيرية وطائفية.
في النتائج، أصبح «داعش» يضم عناصر مسلّحة في الجيش العراقي، سنيّة بدرجة أساسية، كانت تعمل تحت أوامر صدّام حسين. يذكر من هؤلاء العقيد حجي بكر (وإسمه الحقيقي سمير الخليفاوي)، والعقيد أبو عبد الرحمن البيلاوي (وإسمه الحقيقي عدنان اسماعيل نجم)، والعميد محمد الندى الجبوري (الملقب بالراعي)، والعميد ابراهيم الجنابي، والعقيد عدنان لطيف السويداوي (أبو مهند)، والعقيد فاضل عبد الله العفري (أبو مسلم)، والعقيد فاضل العيثاوي (أبو الياس)، والعقيد عاصي العبيدي والعقيد مازن نهير والمقدم نبيل عريبي المعيني (أبو عفيف)، والمقدّم محمد محمود الحيالي (أبو بلال)، والمقدّم ميسر علي موسى عبد الله الجبوري «أبو ماريا القحطاني» الذي صار شرعي عام جبهة النصرة .
وقد عاد هؤلاء وعشرات الآلاف من الضباط والجنود السنّة بأسلحتهم إلى بيوتهم بلا مصير ولا أفق في الحياة نتيجة قانون «اجتثاث البعث»، والتقى معهم ساخطون من الإسلاميين السنّة العراقيين وكوادر من تنظيم «القاعدة»، لينتهي بهم المطاف إلى تشكيل قوة مسلّحة وازنة، قبل أن يشكّلوا القيادة العسكرية لتنظيم «داعش» في مرحلة لاحقة. وينقل أحد أبناء الضباط البعثيين قصة انتقال والده الى «داعش» بما نصّه:
«والدي هو برتبة لواء ركن قوات خاصة وكان يعمل مدرباً في الكلية العسكرية في زمن النظام السابق، انتمى إلى الدولة الإسلامية منذ 7 سنوات وهو من مدينة الموصل، لم يكن متديناً كباقي زملائه الضباط الذين يدرِّبون معه تنظيم الدولة، لكن عندما سقط نظام صدام تفرّغ والدي لقراءة الكتب الدينية والذهاب إلى المسجد وتأثرنا جميعاً بممارسات الأجهزة الأمنية الطائفية ليتغير منهجه من قومي وعلماني إلى سلفي وأصولي. وكان قد سبقه بعض أصدقائه الضباط باﻻنضمام للتنظيم مما شجعه على ذلك».
إن ما تلفت إليه هذه الرواية، أن كثيراً من ضباط وعناصر النظام السابق تحوّلوا إلى التدين باتجاهه السلفي، كونهم وجدوا فيه ملاذاً آمناً ومخرجاً لأزمة الهوية، والدور، والمصير الذي عانوا منه بعد سقوط النظام.
وبرغم الحديث عن احتمالية الصدام بين أنصار النظام السابق والاسلاميين المحليين والاجانب، إلا أن «داعش» نجح، حتى الآن على الأقل، في أن يطمس الخلفيات الفكرية لقادته الكبار، وأن يتظاهر بعضهم بالتحوّل نحو الاسلام السلفي لتحقيق التوافق التنظيمي والانسجام الفكري داخل التنظيم. يعيد هذا الإجراء الماكر إلى الذاكرة الخلاف الذي نشب حول مسيحية قائد حزب البعث، ميشيل عفلق، إذ جرت معالجة الخلاف بدعوى تحوّله إلى الاسلام، وكتابته عن الاسلام وعروبة الرسول محمد صلى الله عليه وآله بطريقة تمجيدية وإن لم ترض الإسلاميين الأمميين..وحديث عفلق عن البعث السنيّ بطريقة مواربة.
ثالثاً: فشل الدول السنيّة وكذلك جماعات الإسلام السياسي في المجال السنّي بصورة عامة، وفي المجال السلفّي الوهابي بوجه خاص في صنع «نموذج» يعوّض الخسارة المعنوية التي تكبّدها على مدى عقود، وينسحب الفشل على تنظيم «القاعدة» في تحقيق اختراق من أي نوع في أي من الدول التي تواجد فيها.
رابعاً: الخطاب الجهادي الوهابي الجاذب لجماعات عديدة كانت تبحث عن خطاب تعويضي يرتكز على رؤية دينية مستمدة من مرجعية محدّدة ينتج فيها هويته، ورؤيته، ودوره. إذ ليس هناك من يشكّك في إخلاص «داعش» للعقيدة الوهابية الأصلية وتجسيده لتعاليمها..مع اندلاع الخلاف بين «القاعدة» و«داعش» وخروجه للعلن، تكشّفت حقيقة الجذور الفكرية لكل منهما، وتبيّن أن «داعش» هو تنظيم سلفي وهابي خالص، على العكس من «القاعدة» التي تضم بين صفوفها عناصر من تلاوين مذهبية سنيّة متنوّعة.
خامساً: الضرب في الخواصر الضعيفة والرخوة، ففي العراق لعب على الورقة الطائفية، بوصفها ورقة رابحة في مشرق عربي منقسم على ذاته طائفياً وفي ظل انهيار أسس الدولة الوطنية. عليه، اختار «داعش» مقاتلة الشيعة وليس القوات الأميركية، ما شجّع حكومات خليجية وكثيراً من المشايخ الوهابيين على دعمه وتمويله. وفي سوريا، تمدّد «داعش» في الأطراف (الرقّة، دير الزور على وجه التحديد) ودخل في معارك مع الجماعات المسلّحة المنافسة له مثل (جبهة النصرة، والجبهة الاسلامية، والجيش الحر)، وكان يرى أن حماية ظهره، وتمهيد الأرض، وترسيخ الأقدام مقدّمات واجبة قبل الدخول في مواجهة مع النظام السوري. وبخلاف ما كان يتوقّع كثيرون، فإن الاستراتيجية العسكرية التي اعتمدها «داعش» في محاربة الجماعات المسلّحة لم تفقده شعبيته بل ضاعفت من أعداد أنصاره ومقاتليه.
سادساً: امتلاك التنظيم لإمكانيات ضخمة سواء عبر التبرعات التي حصل عليها رسمية أو شعبية من بلدان خليجية محدّدة (السعودية وقطر والكويت والامارات) أو عبر السيطرة على مناطق استراتيجية تضم حقول نفط وغاز، أو حتى وضع اليد على أموال الدولة كما حصل في الموصل وكذلك فرض الأتاوات بعناوين شتى (الزكاة، الجزية..الخ)، إلى جانب سيطرته على مخازن سلاح وعتاد بكميات كبيرة ومتطوّرة في كل من العراق وسوريا.
سابعاً: استغلال الانقسامات الداخلية والتناقضات الإقليمية والدولية. إن وجود انقسامات سياسية ودينية حادّة في العراق يمدّ في عمر «داعش»، ويعزّز من شعبيته، وإن صراعاً إقليمياً على مناطق النفوذ يوفر فرصاً ذهبية للتنظيم لتوظيفه لخدمة أهدافها عبر الانحياز لهذا الطرف وذاك، أو على الأقل تقديم نفسه كقوة مرجّحة لأهداف هذه الدولة أو تلك. ولا ريب، أن النزاعات الإقليمية والدولية جرى استغلالها من قبل الجماعات المسلّحة عموماً ومن «داعش» على وجه الخصوص وسمح له بالتمدد في ظل وجود أطراف مستعدّة للدعم وتوفير الغطاء والصمت إزاء ارتكابات التنظيم. وليتخيّل المرء لو توافقت الدول الإقليمية وبدعم دولي جماعي على إغلاق الحدود ومنافذ العبور والتسلل، وطرق الإمداد حول المناطق التي يسيطر عليها «داعش» ماذا ستكون النتيجة؟
ثامناً: فشل أم تفشيل تجربة «الاعتدال السني» كان مسؤولاً عن ولادة تيارات راديكالية في العالم الاسلامي. كان سقوط تجربة حكم «الاخوان المسلمين» في مصر بفعل أرتكابات الجماعة القاتلة يضاف اليها مخطط إعادة انتاج النظام السابق بأموال سعودية إماراتية وتواطؤ من «العسكر» أسقط الامكانية النظرية لولادة بديل يمثّل «الاعتدال السني»، ما دفع كثيراً من التكفيريين للانضواء في مشاريع راديكالية وعنفية. في واقع الأمر، كان يمكن استيعاب خطر التكفيريين من التنظيمات السلفية سواء «القاعدة» أو «داعش» واستقطاب الحماس الشعبي السنيّ عن طريق تطوير تجربة حكم دينية ديمقراطية في المجال السنيّ. بكلمة مكثّفة، أفضى انهيار تجربة الاخوان المسلمين إلى صعود السلفية المتطرّفة، بل وعزّز من جنوح جماعة الاخوان المسلمين نحو التسلّف والتطرف والعنف، في سياق شيطنة واسعة النطاق لكل ما هو إسلام سياسي سنّي.
لا بد من إلفات الانتباه إلى نقطة على درجة كبيرة من الأهمية وهي: أن صعود السلفية الجهادية في شكلها الدموي ممثلاً في «داعش» لا يعبّر عن نجاح، بل قد ينطوي على إحباط واسع يترجم نفسه في شكل من أشكال الانزياح لكل ما هو خروج عن المألوف. نتائج الانتخابات التشريعية في تونس في أكتوبر 2014 وصعود التيار العلماني على حساب الاسلاموي تشي بتحوّل تدرّجي في المزاج الشعبي. فقد بلغ اليأس وانعدام الثقة والخوف من أداء الاسلاميين إلى حد القبول بعودة «الفلول»، أي رجال النظام السابق، وهذا ما حصل في مصر ولاحقاً في تونس، وجرت محاولة مماثلة في ليبيا.
تاسعاً: العامل المذهبي. فمن زاوية مذهبية صرفة تلامس عصباً رئيساً في الوجدان الشعبي السني، أن المسلم السنّي شهد هزيمة الدول السنيّة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، فيما كان نظيره الشيعي يحقق الانجاز تلو الآخر على مستوى الدولة (سقوط الشاه وقيام جمهورية إسلامية) بأمواجها الثورية الاقليمية والدولية، وعلى مستوى الحركات (حزب الله) وكان انتصار تموز (يوليو) 2006 على الكيان الاسرائيلي وجيشه الذي لا يقهر، فجّر أزمة كامنة، كان المجتمع الوهابي أول من عبّر عنها من خلال فتاوى ومقالات ومواقف ذات طبيعة طائفية. في العمق، كان شديد الاعجاب بالصمود العسكري الذي أظهره حزب الله في المعركة، ولكن الخلفية المذهبية التي تربى عليها أفراد المجتمع جعلتهم يتصرفون بطريقة مناقضة.
في حقيقة الأمر، أن حلم الفرد الوهابي في أن يكون الانتصار سنيّاً وليس شيعياً هو ما كان يكمن وراء تلك المواقف الراديكالية التي تبناها المشايخ والأتباع، لأن الانتصار زاد من شعبية حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله على مستوى العالم العربي والاسلامي. ولذلك، كانت الأزمة السورية بمثابة المكافأة التي انتظرها المجتمع الوهابي طويلاً كي يسحب الرصيد الشعبي من حزب الله..
كان المأمول من «الربيع العربي» أن يملأ الفراغ في الوجدان السنّي، عبر قيام حكومات شعبية وذات طابع إسلامي/سنيّ، وكان ينظر كثير من المسلمين السنة والغرب عموماً إلى أن تصبح جماعة «الاخوان المسلمين» بديلاً سنيّاً مرجّحاً لملء الفراغ ذاك، ولكن الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الجماعة ومؤامرات النظام السعودي وأنظمة عربية وخليجية على اسقاط الرئيس الاخواني محمد مرسي وباقي التجارب الاخوانية أوجد فراغاً جديداً في المجال السنّي، فتحوّل «داعش» إلى ضرورة سنيّة، ونجح هو وبسرعة فائقة في ملء الفراغ. ولا غرابة في أن يحظى «داعش» بقبول في المجال السنيّ رغم ارتكاباته الدموية، فالتراكمات السابقة أوصلت إلى خيارات هلاكيّة.
عاشراً: انتكاسة خطاب العولمة كأحد تظهيرات الهيمنة الأميركية على العالم وعلى منطقة الشرق الأوسط بوجه الخصوص، بوصفها مركزاً حيوياً لمصالح الغرب، وتداعيات الانتكاسة على مسائل الهوية، والنزوع المتعاظم نحو الاستقلال، ومقاومة مشاريع الاغتراب الثقافي، والتصدي لكل أشكال الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية..
وإذا كانت ولادة «القاعدة» جاءت كرد فعل على الوجود العسكري للولايات المتحدة في الجزيرة العربية والخليج عقب الاحتلال العراقي للكويت في أغسطس 1990 وماتلاه من اتفاقيات دفاع استراتيجي ذات طابع ثنائي بين الولايات المتحدة ودول الخليج وشملت قواعد عسكرية أميركية دائمة على أراضيها، فإن «داعش» نشأ كرد فعل على الاحتلال العسكري الأميركي للعراق في إبريل 2003.
قد لا تكون هذه التنظيمات معنيّة بتحقيق الاستقلال الوطني بالطريقة التي تفكّر فيها وتعمل عليها حركات التحرّر عبر العالم، ولكن ثمة رسالة واضحة تبعث بها ردود فعل «القاعدة» و«داعش» بأن الدولة القائمة في المشرق العربي فشلت في تحقيق مبدأ استقلال الدولة، والدفاع عن حقوق الشعوب، وعليه قدّمت مثل هذه التنظيمات نفسها كبدائل لملء الفراغ الخطير في الدول، ورسمت لنفسها مساراً محدّداً لجهة بناء كيانات بديلة (إمارات دينية في مرحلة أولية ودولة ـ خلافة في مرحلة نهائية).
لقد أمدّت العولمة التنظيمات الجهادية، وتنظيمات أخرى عارضت مشاريع الهيمنة الغربية في العالم وناضلت من أجل قضايا التحرّر الوطني، بكل أدوات التعبئة والتجنيد والحشد لجهة الانقضاض على خطاب العولمة ومشروعها. ولذلك، سعت التنظيمات الى تظهير هويتها عبر أدوات العولمة الاتصالية (أدوات التواصل الاجتماعي بدرجة أساسية)، كما نجحت في «استنقاذ» أفراد خضعوا تحت تأثير خطاب العولمة ثم جرى «تجنيدهم في مشروع آخر لتجربة دولة الخلافة في سياق الحنين الماضوي (نوستالجيا)».
في النتائج، تحوّل «داعش» إلى «المنقذ» و«المخلّص»:
أولاً: لأولئك الذين ناضلوا من داخل المجال السني لإعادة إحياء الهوية الممزقة نتيجة تشابك عوامل سياسية وثقافية وعولمية وإمبريالية، واستعادة المبادرة التي سرقت من الشعوب السنيّة من قبل دول متماهية مع المشروع الغربي، الذي أدى إلى هدم سقف التوقعات المأمولة لدى هذه الشعوب حين جاءت الفرصة المناسبة، أعني الربيع العربي..
ثانياً: لأولئك الذين عملوا داخل المجال الوهابي من أجل ترسيخ المفاهيم الدينية وفق التفسير الوهابي الذي قامت عليه الدولة السعودية، فكان «داعش» بمثابة الملاذ الآمن لتوقعاتهم المحبطة، وصانع الأحلام الوهابية في المنطقة، وفي لحظة ما بالغة الحساسية تحوّل إلى «رهان» يمكن التعويل عليه، وازداد الرهان رسوخاً لدى المقاتلين السعوديين في الخارج بعد صدور الأمر الملكي في 3 شباط (فبراير) 2014 بتجريمهم، إذ بات «داعش» مركز الاستقطاب ومأوى المنبوذين من التنظيمات المسلّحة في سوريا المدعومة من السعودية بعد أن تخلت الأخيرة عنها، ثم تحوّل «داعش» إلى خيط الأمل الذي يعقده التيار الوهابي العام عليه، لتحقيق الوعد المؤجّل.
سوف يظهر من خلال التأمل في الرؤى الدينية وتجسيداتها الميدانية لدى «داعش»، أنه يمثّل الوراث التاريخي والشرعي لجيل الجهاديين الذي تربى على تعاليم محمد بن عبد الوهاب، والمتناسلين منه مثل جيش «إخوان من طاع الله» الذي أنشأه عبد العزيز بن سعود ثم قضى عليه بعد تحقيق حلمه بإقامة دولة باسمه.
وفي محاولة لإعادة جمع مكوّنات الرواية التاريخية التي كتبها مؤسس الوهابية والجيل المؤسس وفهم العلاقة الإيديولوجية بغاياتها السياسية التي تربط تنظيم «داعش» بالتجربة الوهابية، سوف نحاول قراءة أهم المفاصل الرئيسية التي أرست علاقة متينة بين عناصر جماعة مغلقة تعتصم بأيديولوجية الفتح.
اقرأ أيضًا:
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون