تتسم الأنظمة السياسية والاجتماعية في دول الخليج والممالك العربية، بتعقيدات قلما وُجدت في غيرها من الدول، ومن النادر أن نجد نظامًا سياسيًا، او دولة او مملكة في العالم تشبهها. ولعل بعض الأنظمة العربية الأخرى تتشارك في صفات عديدة، منها المبدأ نفسه في التوارث، أو الانقلابات، أو القمع، من التي لفحتها مؤخرّا رياح الأحداث التي بدّلت في وجه المنطقة منذ إحراق البوعزيزي نفسه في تونس، لكنها لم تصل بعد إلى الأنظمة الريعية، التي تعتمد على الأموال وسيلةً لتثبيت حكمها، والتي قد نجحت في خلال العقود غير القليلة الماضية في البقاء صامدة في وجه الأعاصير السياسية والأمنية التي واجهها العالم والمنطقة، وأُطيحت فيها رؤوس وأيديولوجيات وأفكار كانت تمثّل احلامًا لمئات الملايين من العرب وكوابيس لكثير منهم أيضًا، ونرى إليها قد نجحت في أن تبقى موجودة خلف هذه الأسوار العالية.
يقول الخبير لدى الأمم المتحدة في شؤون السياسة والتنمية في الممالك الخليجية كريستوفر ديفيدسون: «منذ تأسيسها، وفي بعض الحالات منذ استقلالها في منتصف القرن العشرين، ظلت الممالك الخليجية خاضعة لأنظمة استبدادية للغاية وقديمة جدًا، ومع ذلك، أظهر حكّامها قدرةً مذهلة على التأقلم برغم الصراعات الدموية التي شهدتها على عتباتها… من الواضح أن الممالك الخليجية أكدت من جديد، وللوهلة الأولى، أنها معقل الاستقرار الحقيقي الوحيد في الشرق الأوسط. وحتى عند اندلاع العنف والاضطرابات في بعض مدنها، تم احتواء ذلك في أغلب الأحيان، ما حفظ سلامتها بشكل ظاهري، كأنظمة شرعية».
السؤال المركزي المطروح دائمًا، يتمثّل في ماهية العامل الوازن الذي يسمح لعروش بُنيت على أساس عائلي توريثي قمعي تسلطيّ، من البقاء، وعدم اكتفائها بالمحافظة على سلطتها، بل نرى إليها تمدُّ يدها باستمرار للعبث بأمن الدول التي تخاصمها أو تختلف معها في السياسة، أو الرؤية أو في العقيدة.
فما هي هذه الصفقة المعقودة بين المواطن والسلطة في هذه الدول الريعية، أو ما هي هذه الوصفة السحرية التي تجعل من أنظمة متخلّفة في عصر بلغ من التطور والحداثة ما بلغ، في المحافظة على كياناتها وعروشها من التغيير والإطاحة؟
برأينا أن ثمة عوامل عديدة ساهمت في بقاء هذه الأنظمة وعدم تأثّرها إلى اليوم بعوامل التغيير المحيطة.
سنعالج في هذه المقالة اثنين منها: يتمثّل الأول في النظام الاقتصادي الذي ينهض على الريع، والذي تتبعه هذه الممالك والإمارات في تعاملها مع مواطنيها، والذي يمثّل رشوة مقنّعة إن لم تكن سافرة في شراء صمت الأفراد.
يقول الباحث الأميركي جستن غينغلر في كتابه «صراع الجماعات والتعبئة السياسية، في البحرين والخليج» الصادر في الولايات المتحدة الأميركية من جامعة أنديانا، وترجمه بالعربية وأصدره «مركز أوال للدراسات والتوثيق» في نهاية العام 2015 وقارب فيه تاريخ البحرين وحاضرها، وعلاقتها بدول الخليج، ولا سيما السعودية، إنّ «الصفقة السياسية المقصودة التي سمحت بالطول غير المتوقع لعمر هذه الدول الريعية، والممالك الخليجية خصوصًا، منذ صعودها إلى دائرة الضوء على مدى نصف القرن الماضي، أن المواطنين العاديين راضون بالتنازل عن دورهم في صناعة القرار مقابل دولة رفاه معتمدة على الموارد، خالية من الضرائب». ويتجلى تفسير ذلك في حصول هذا المواطن على أكثر مما يستحقه، وممّا ينتجه، وحصول السلطة على دعم سياسي أكثر مما تستحق، ليتحوّل المواطن في هذه الدول القائمة على الريع، إلى زبون تجاري. ويأتي ما قاله الإيراني حسين مهدوي في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، في السياق نفسه من «أن الدولة الريعيّة لا تحصل على مواردها من الضرائب التي تفرضها على مواطنيها، وبالتالي فهي لا تخضع إلى محاسبة هؤلاء، فتصبح «مستقّلة سياسيّاً» انطلاقاً من «استقلالها الضريبي» وأنّ هذه الدولة تعتمد «سياسات توزيعيّة تؤدي إلى إخراج السكان من الحيّز السياسي وبالتالي من أي مطالبة بالديموقراطيّة».
وينقل غينغلر عن كتاب لنزيه الأيوبي بعنوان «البيروقراطيات العربية: حجم متضخم، أدوار متغيّرة» أن الوظيفة الضريبية تصبح في الدول النفطية معكوسة «حيث تفرض الدولة عادة الضرائب على المواطن مقابل خدماتها، في حين أن المواطن الخليجي هو الذي يفرض الضرائب على الدولة، من خلال اكتساب دفعة مالية من الحكومة، أي راتبًا، مقابل بقائه هادئًا، وعدم اللجوء إلى الخصومات القبلية، وعدم تحدي وضعية الأسرة الحاكمة»، إضافة إلى عدم تفكيره أو عمله أو تخطيطه للمشاركة في الحكم والسلطة، أو العمل على تغيير القوانين الموضوعة على قياس الحاكم نفسه، من خلال الثورات وغيرها.
ويؤدي العامل الثاني دورًا فاعلًا لا يقل أهمية عن الأول، بل لعلّه يتقدّم عليه، وهو الدعم الأميركي الغربي المتواتر والثابت لهذه الأنظمة.
لذلك، فمن اللافت والمستهجن أننا لا نسمع من الأميركيين والغربيين، أي إشارة أو تصريح أو حثّ على تداول السلطة في السعودية والخليج وبعض الأنظمة الموالية لهم، والمنطقة تعيش في ذروة التغييرات التي أنتجت حروبًا دموية بحجة المطالبة بالديموقراطية والتغيير في كثير من البلاد العربية. وما غضُ النظر هذا، والتعامي عما يحصل في تلك الممالك، إلا تغطية لها وحمايتها من أي مجازفة قد تؤدي الى التفريط بالمصالح الأميركية في منطقة شديدة الأهمية في الاقتصاد والسياسة والأمن العالمي، برغم ارتكاب هذه الأنظمة أو مواطنيها «فاولات» كبيرة في أزمنة متعددة، لم تجعل الولايات المتحدة بإدارة المحافظين الجدد، وفي ذروة انفعالها من نتائج الحادي عشر من أيلول 2001 ووجود خمسة عشر سعوديًا في العملية، أكثر من الطلب بلطف من السلطات السعودية التعديل في بعض المناهج الدراسية التي تحثّ على العنف والقتل. ولكنها استمرت في دعم حكمها الى يومنا هذا. وربما تكون صورة السفير السعودي السابق، ومدير المخابرات لاحقًا بندر بن سلطان، وهو يجلس مبتسمًا في لباسه الغربي على حافة الأريكة التي يجلس عليها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، ودماء الأميركيين لا تزال على الارض؛ خير معبّر على عمق التقاطع في المصالح بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية.
فإذا كانت معادلة الإنفاق مقابل الصمت هي رافعة هذه الأنظمة وبقاؤها على قيد الحكم، فإنّه قد يصبح سلاحًا يحمل مفاعيل ارتدادية مدمّرة إذا ما تراجع منسوب الموارد الاقتصادية للدولة وبالتالي للمواطنين.
لذلك تحضر الفرضية الأخرى، عن البديل الذي سيملأ فراغ الرشوة الجمعية للمواطنين بعد الاقتراب من الخطوط الحمراء في عجز الموازنات التي تـنبئ بمشكلات اقتصادية وإنفاقية جسيمة، وعن النتائج المرجوة من التحول البنيوي في السلوك الاقتصادي الريعي القائم على الانفاق. ويتبدّى ذلك بوضوح بعد الهبوط الحاد في اسعار النفط، وهو المورد الرئيس التي تنهض عليه اقتصادات دول الخليج، مما أدى إلى فرض ضرائب على المواطنين في السعودية على سبيل المثال، في اعقاب الإعلان عن العجز السنوي في الميزانية العامة للعام 2015 والذي بلغ 87 مليار دولار أميركي، وعزم المملكة على بيع جزء من أسهم «أرامكو» الشركة الأكبر للنفط فيها وفي العالم، في ظل الحرب التي تخوضها على اليمن التي تكلّفها اكثر من مليار دولار شهريًا، وإضافة إلى الدعم المادي المفتوح والمكلف للمسلحين في كل من سوريا والعراق.
فهل إن تغيير السلوك الاقتصادي، بعد ما تشهده هذه الدول من مشاكل، والتحوّل عن الريع الذي ينتج الرضى والصمت، يحفّز المواطنين إلى التطلع نحو تغيير سياسي؟ وهل يستطيع المواطن الخليجي أن يقوم بثورة على أنظمة متمرسة في الحكم والقمع والتسلط؟ هذا ما سنقاربه إن شاء الله في مقالة لاحقة.