كتاب «صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج»، للدكتور جستن غينغلر، هو قراءة متأنية للمشهد البحراني، لم تبدأ في عام 2011 مع الانتفاضة فقط، بل مع الإصلاحات البريطانية منذ العشرينيات. قابل المؤلف بين نظرية الدول الريعية القائلة إنه لا بد للرفاه الاقتصادي للمواطنين من دفعهم إلى الإذعان السياسي، وبين المشهد الحقيقي في دول الخليج عامةً والبحرين خاصة.
انطلق غينغلر في كتابه من مفردات ونظرية الدولة الريعية التي تقول إنه إذا أمّن الحاكم الرفاه الاقتصادي والراحة للمواطنين، فإنه سيحصل مقابل ذلك على الإذعان أو الصمت السياسي أو ما نسميه نحن بالعامية «راحة البال». لكن غينغلر يرى أن هذا لا ينطبق على البحرين انطلاقاً من المسح الذي أجراه وتابع فيه محددات السلوك السياسي والتصرفات السياسية للفرد وللمجتمع البحراني. وقد ذهب أبعد من ذلك بالقول إنه إذا تأمنت الظروف التي تشهدها البحرين في الدول الخليجية الأخرى، فإن ذلك لن يحصل أيضاً. بمعنى آخر: الصراع في البحرين صراع سياسي بامتياز ولا علاقة له بالاقتصاد.
المشهد السياسي، الذي نستقرئه من كتاب «صراع الجماعات»، ظهر من المسح الذي أجراه جستن غينغلر ليبيّن لنا أن هذا الصراع سياسي بحت، برغم محاولة الطبقة الحاكمة الزج به في خانة الصراع الديني الطائفي «السني ــ الشيعي»، وهو مطالبة من المواطنين بتحديد هوية الدولة وتحديد شكل النظام السياسي بإبعاد فئة معينة عن احتكار السلطة السياسية في البلاد والتحكم بممتلكات هذه البلاد على جميع الأصعدة. أكبر مثال على ذلك ما ذكره المؤلف عن محاولة الملك حمد تخصيص مكافأة مالية معيّنة لكل أسرة ولكل فرد في الأسرة البحرانية، وقد رفض البحرانيون ذلك، وهذا الأمر يبعده أيضاً عن كونه صراعاً اقتصادياً. إنه صراع يحاول تحديد مسار الحكم في البحرين والعودة به إلى الملكية الدستورية الديموقراطية التي تطالب بها المعارضة منذ سنوات خلت.
في بداية انطلاق المسح، حاول المؤلف العمل مع «مركز البحرين للدراسات والبحوث»، لكنه أبلغ لاحقاً بتعذر الأمر نظراً إلى الرغبة عن مخاطرة المركز بإجراء مسح ميداني قد تكون نتيجته سبباً لغضب الحكومة. لذلك، اضطر غينغلر إلى تنفيذ هذا المسح وتنظيمه وحده، بمساعدة متطوعين ومحاورين ميدانيين أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، حاول إجراء مقابلات مع مكونات الطيف السياسي البحراني كافة، وشارك في أمور ميدانية متعددة؛ منها مراسم إحياء «عاشوراء» والاستماع إلى خطاب عبد الهادي الخواجة والمشاركة في مجالس سياسية لنواب «سنة» وما إلى ذلك للحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات الميدانية.
عمل الكاتب أيضاً على عينة عشوائية، وحاول أن تكون عينته بقدر الإمكان تمثيلية لمختلف أطياف ومكونات الشعب البحراني، وقد درس فيها مختلف المؤشرات الوظيفية والتعليمية والاقتصادية. ولإجراء هذا المسح، كان لا بد للمحاورين الميدانيين الذين عملوا مع غينغلر، من زيارة بعض البيوت، ولكن نظراً إلى التركيبة الطائفية الخاصة في البحرين ولقصور أهل البلاد (وفقاً لمصطلح استخدمه الكاتب بنفسه للتعبير عن هذه الحالة) في إخفاء هويتهم الطائفية، كان لا بد من زيارة المناطق «الشيعية» من محاورين ميدانيين «شيعة»، وكذلك الأمر في المناطق «السنية». أما في المناطق أو المجمعات المدنية الكبيرة، كما في المنامة وغيرها، فكان لا بد من حصول مقابلات «سنية ــ شيعية» مع الأفراد.
تطرق غينغلر في الكتاب، أو في استمارة المسح (أي أداة البحث)، إلى مجموعة من الأسئلة الحساسة نوعاً ما. عالج تقييم انتخابات 2006 لدى المواطنين البحرانيين، وتكلم على احتمالات مشاركة هؤلاء المواطنين من «السنة» و«الشيعة» في التظاهرات، وعن تقييم الأداء الاقتصادي للدولة لديهم مقابل مؤشرات؛ منها المستوى الاقتصادي للأسرة. درس أيضاً مراتب هؤلاء المواطنين ووظائفهم في الدولة مقابل المستوى العلمي والطائفة التي ينتمون إليها. وكان هناك عدة أمور لافتة في النتائج التي حصل عليها؛ منها نسبة المواطنين «الشيعة» في كل من الشرطة والجيش ووجود مواطنين «سنة» يتمتعون بمستويات علمية أقل من نظرائهم «الشيعة»، ولكنهم يحصلون على وظائف أفضل.
كان لافتاً أيضاً عن تأثير التديّن في السلوك السياسي وعلاقة التدين بالاعتزاز الوطني لدى كل من «السنة» و«الشيعة»، وقد كان هذا التباين ظاهراً في الوظائف العسكرية وفي غيرها وكذلك في وجهات النظر والسلوك السياسي لدى البحرانيين. وتطرق الكاتب أيضاً إلى دعمهم لكل من الحكومة والمعارضة ومدى تقييمهم للحراك وأمور أخرى.
بخصوص المعوقات التي واجهها المؤلف في عمله، لا نستطيع الكلام على وجود مضايقات فعلية بقدر ما نستطيع الكلام على إعاقات. نذكر على سبيل المثال الخوف لدى المحاورين من إجراء مقابلات في بعض المناطق لخشيتهم من تبليغ جيرانهم عنهم للحكومة وهو أمر قد يضرهم كثيراً.
كتاب «صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج» يتضمن ستة فصول. في الأول، نجد تفصيلاً لما يطلق عليه نظرية التعبئة السياسية على مستوى الجماعات في الدول العربية في الخليج، ويناقش المؤلف فيه فرضية مفادها أن المهمة الأساسية للحكومات الريعية ليست توزيع ثروتها على السكان، بل إنها تحاول فعل ذلك بأبخس ثمن ممكن.
وهناك إضافة في الفصلين الثاني والثالث إلى هذا التوضيح النظري، فيدرس المؤلف التعبئة السياسية الطائفية في البحرين ويحاول تقييم وضعها. ويأتي هذا التقييم من مقابلات مع حوالى عشرة زعماء سياسيين ودينيين بحرانيين. في الواقع، أربعة منهم يقضون حالياً مدة طويلة في السجن على خلفية أدوارهم في انتفاضة الرابع عشر من شباط. يتكلم غينغلر أيضاً على استبدال سياسات التنافس الاقتصادي بتنافس قائم على أساس الجماعات لتحديد ما تكلمنا عليه سابقاً، أي تاريخ الأمة وهويتها الثقافية وأسس المواطنة أيضاً.
في الفصل الرابع، يقدم تمهيداً عملياً لتحليل المسح الشامل الذي أجراه للبحرين. بمعنى آخر، يُبرز طريقة المسح الفعلي ويتطرق إلى الأسئلة النظرية التي واجهها وكذلك الأسئلة على مستوى منهجية البحث، ليقدم ما يعتبره أول صورة مباشرة موثوق بها لما نسميه الديموغرافية الطائفية في البحرين منذ المسح الأول الذي تم إجراؤه في 1941.
في الفصل الخامس، يحلل الكاتب البيانات ليقيم النظرية أو الفرضية الأساسية للكتاب، فيتكلم على التوظيف في القطاع الحكومي ويقارنه بالانتماء السياسي للفرد. كما يستخدم بيانات المسح على المستوى الفردي لمعرفة هل كان التصرف أو السلوك السياسي للمواطنين يتأثر بطريقة ما بالوضع الاقتصادي أو بما يمكن تسميته الرضى المادي، وهذه هي الفرضية الأساسية للدولة الريعية. ويتطرق أيضاً إلى تأثير الانتماءات والتوجهات الدينية الطائفية على السلوكيات السياسية ليخرج بخلاصة مفادها أن فرضية الدولة الريعية لا تتحقق في البحرين.
أما في الفصل السادس، فيستذكر المؤلف كل ما تقدم ذكره ليعتبره خلاصة يمكن الانطلاق منها إلى بحث أوسع على مستوى الدول الخليجية العربية، وذلك لمقارنة أو معرفة الاتجاهات السياسية في المنطقة، ويُلَمّح أيضاً إلى إمكانية إجراء هذه التجربة في الممالك الخليجية الستّ وقياس فرضية الدولة الريعية في كل منها.
غنى مونس
* باحثة ومترجمة من لبنان