يبدأ المؤلف الخوري مقدمة كتابه بهذه العبارة »ما هذا الكتاب عن القبيلة والدولة في البحرين سوى محاولة متواضعة للوقوف على المتغيرات المستجدة في نظام السلطة والحكم خلال القرنين الماضيين«. وكان يقصد بالقرنين التاسع عشر والعشرين، لأنه كتب هذا المؤلف عام 1975 تقريباً.
لكن منذ ذاك التاريخ وحتى اليوم، ومع أنها مجرد حوالي 40 سنة من عمر الزمن البحريني، إلا أنها قد جلبت على تلك الجزر الصغيرة الآمنة الوادعة في الخليج وعلى سكانها، أضعاف ما جره عليها القرن والنصف الماضيين. ليس من باب الويلات والحروب، بل من باب التغيير الديموغرافي والاجتماعي، وحتى البيئي، الذي قامت به القبيلة مستغلة صفة الدولة التي أسبغتها عليها سلطات الحماية البريطانية منذ ما عُرف في تاريخ البحرين بإصلاحات (الميجور ديلي) بعد عام 1920، وثم التغييرات التي قام بها وقادها المستشار (تشارلز بلجريف) من 1926 وحتى رحيله عام 1957، والتي رسخت جذور الدولة التي تلقفها آل خليفة معتقدين أنهم، بطبعهم القبلي البدوي، يستطيعون إدارتها قهراً، أو قسراً، أو اضطهاداً تارة، أو ترغيباً وترهيباً بدعم القوى البريطانية، تارة أخرى.
هذه السنوات الأربعون أضافت تغييرات عديدة أثرت على المجتمع بتماسكه، وعفويته وصفائه، بتلوث آخر من نوع جديد لم يكتب عنه الخوري وقتها لأنه لم يلحظه بشكل كامل، وهو التغيير الديموغرافي بالتجنيس السياسي، ومحاولات طمس الهوية الوطنية الأصيلة، وتشويه تاريخ الوطن وحصره في فئة قبلية طارئة واحدة تمثل عنوان حضارة الجزر ولا أحد سواها.
يبحث الكتاب في معظم فصوله، حول تلك العلاقة غير الطبيعية التي نشأت بين القرية البحرانية بمدلول الكلمة اللغوي والاجتماعي للسكان الأصليين لجزر البحرين وبما أفرزته على مدى قرون سابقة؛ والمدينة الحديثة التي أنشأتها القبائل الغازية للجزر في نهاية القرن الثامن عشر، وما تبعها من تنظيمات إدارية إنجليزية الصنع والتنفيذ على أرض الجزر لتثبيت حكم القبائل الخارجية ضد النسيج الاجتماعي الديني للقرية البحرانية. ذلك أن القبلي البدوي القادم من صحراء الجدب والقحط، لا يمكنه إنشاء قرية زراعية، أو بحرية يعتاش منها، ولذا فضل أن يكون عالة على حياة القرى باعتماده أساساً على سياسة النهب منها. فتحولت الحالة في البحرين طوال القرن التاسع عشر حتى العقد الأول من القرن العشرين، بالنسبة للقبائل الغازية، من حالة سلب ونهب بمفهوم الصحراء؛ إلى سلب ونهب في المجتمع القروي البحراني، وفي ثرواته من الصيد البحري وبالذات اللؤلؤ، دون العمل وتعلم المهنية في الكسب ، حتى في مجال صيد اللؤلؤ. وهذا ما رفضه المجتمع البحراني في القرى الصغيرة الغنية المتناثرة على رقعة الجزر. إلا أن هذا المجتمع القروي في أساسه وتكوينه النفسي والاجتماعي ليس مجتمعاً معسكَراً بطبعه، ولا يقوم أساساً على العقيدة القتالية ولا يتبناها لأسباب دينية عقيدية مذهبية خاصة. ولذا فهو لم يتحول بين ليلة وضحاها إلى مجتمع مقاتل متوحد في عقيدته القتالية، لأنه في الأصل، رغم تجانسه المذهبي تقريباً، فهو مفكك في وحدة المواجهة وتبرير تلك المواجهة مع العدو الغازي من الخارج مهما كانت أنواع تلك التبريرات.
وهذا الأمر يمكن ملاحظته طوال تاريخ البحرين القديم، والإسلامي، والحديث. فحتى حضارة أو مملكة دلمون ذائعة الصيت؛ لم نسمع عنها عند أي باحث، أو مؤرخ، أو آثاري، بأنها كانت مملكة حربية غازية أو مهاجمة لقوى خارجية إقليمية أو دولية، أو حتى صاحبة عقيدة حرب نظامية أو حرب العصابات أو مقاومة مسلحة ضد أي غزو للجزر. وهذا ما ساعد كافة القوى الخارجية، ومنها القبائل الوافدة من شبه الجزيرة العربية في حركة العتوب منذ عام 1783 التي يُطلق عليها المؤلف لفظة »احتلال آل خليفة«، أن تنجح في التغلغل والسيطرة النارية على الجزر دون وجود أو بروز مقاومة حقيقية فاعلة على الأرض ضدها.
وهذا ما درسه الإنجليز وفطنوا إليه، وبدهائهم وقفوا بجانب القوى القبلية الغازية المقاتلة ودعموها بالسلاح في أكثر الأحيان للسيطرة الدائمة على جزر البحرين، بل ودافعوا عن هذا الوجود الطارئ القبلي بأن عملوا على تثبيته لأسرة آل خليفة ببعض التنظيمات الإدارية الحديثة منذ عهد (ديلي)، وإن كانت بداية لم تعجب هذه الأسرة لأن ذلك أشعرها بأنها يجب أن تتحول من سياسة النهب والسلب غير المنظم إلى نوع من التقشف في ذلك السلب، وترك بعض الثروات لإدارة الدولة الحديثة، والتي ستدر موارد أكثر على الأسرة نفسها. تلك التنظيمات التي سرعان ما حولتها رغبة القبيلة لنوع آخر حديث لا يخلو من السلب والنهب حتى اليوم ضمن عقيدة الغزو والفتح البدوية التي لم تستطع كل تنظيمات الإنجليز منذ (ديلي) ومروراً بـ (بلجريف)، وغيره من المعتمدين السياسيين حتى الاستقلال الشكلي عام 1971؛ من مسح كافة ترسبات عقيدة البدوي بنهب مال غيره، فهي أصيلة في كيانه، وتكوينه، وعقليته. وهذا ما أوجد إشكالية حكم القبيلة في صورة الدولة التي لم يتم السماح لها بأن تنضج بكل مكوناتها الحضارية الحديثة من ديمقراطية، وحرية الرأي، وحقوق الإنسان، وبرلمان منتخب، والاعتراف بالآخر الذي لا يدخل في نسيجها القبلي أو لا يعترف بذلك النسيج الهش أساساً اقتصادياً، لكونه قائماً على سياسة النهب والسلب بالطرق الحديثة فيما يُطلق عليه (الفساد الحكومي). بل تحولت إلى نوع من الدول القائمة على احتكار السلطة الدائم من قبل القبيلة الواحدة، وتحويل المجتمع إلى مجموعة من المفارقات والتناقضات بين مختلف فئاته الاجتماعية، ويمكن زيادة مثل هذه المفارقات بحسب الحاجة إليها، وحتى إن وصلت لتشطير المجتمع عرقياً، ومذهبياً، واجتماعياً، فقط من أجل بقاء قبيلة الدولة المصطنعة. فهل هي قبيلة في صورة دولة، أم دولة في صورة القبيلة؟
ولم يكن هدف مركز أوال من إعادة طبع ونشر كتاب (القبيلة والدولة) بعد حوالي 32 عاماً من صدور طبعته الأولى، مجرد إضافة رقم طبعة جديدة للكتاب الذي أضحى تحت إلحاح وسؤال القراء خلال الفترة الأخيرة بهدف الحصول على نسخ منه؛ بل قمنا بإعادة قراءة متأنية له من جديد، ليس بهدف صياغة مادته أو تغيير محتواها، فهذا من شأن وحقوق المؤلف فقط. بل تم إلباس الكتاب ثوباً تحديثياً في معلوماته بعد مضي كل تلك السنوات وما ران على المجتمع البحريني خلالها من تغييرات جمة متسارعة، غيرت تماماً أو حذفت بعض القضايا التي كانت مؤثرة في الساحة السياسية في حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ولم تعد كذلك الآن، خصوصاً ما يتعلق منها بالنخب السياسية والمثقفة ودورها في مجتمع تلك الفترة.
كما تم تصويب ما علق بمتن الكتاب وترجمته منذ الطبعة الأولى؛ من أخطاء تاريخية ومطبعية ولغوية بعضها ملفت للنظر، وذلك إما عن طريق مبضع الجراح اللغوي أو الثقافي داخل النص، أو بمعالجات خارجية بإضافة هوامش على كل فصل لتوضيح وتصحيح وتحديث لكل الإحصائيات، والمصطلحات، وبعض الترجمات غير الدقيقة للنص الأصل، والمسميات، والمواقع، والأحداث، التي وقعت على أرض جزر البحرين ووردت ضمن النص الأصل وأُهملت منذ الصدور الأول. بالإضافة إلى وضع بعض المعلومات المشوشة أو القديمة في عدد من الجداول، والرسوم البيانية، والهوامش الواردة في المتن، على السكة الصحيحة ضمن مسار الكتاب.
كما حرصنا أيضاً على توضيح بعض الملابسات في الرأي التي أوردها المؤلف تجاه بعض نواحي المجتمع البحراني وفعالياته الدينية العقيدية، دون تحريف رأيه الخاص، عن طريق وضع هوامش توضيحية لأي وجهة نظر أو رأي، كان في حاجة، من واقع علاقتنا ومعرفتنا بمجتمعنا، والمؤثرات الداخلية والخارجية التي لعبت وما زالت تلعب دوراً مهماً وحيوياً في مسيرته التاريخية.
أخيراً، نشرنا في هذه الطبعة ترجمة للفصل الخاص بتجربة المؤلف في العمل الميداني بالبحرين في السبعينيات، وقد نشره في سيرته الذاتية (دعوة للضحك: عالم أنثربولوجيا لبناني في العالم العربي) وقد طبع الكتاب باللغة الإنجليزية بعد وفاة المؤلف في 2003.
مركز أوال للدراسات والتوثيق
14 (فبراير) شباط 2016
مقدمة الطبعة الأولى
يتناول هذا الكتاب تطور نظام الحكم والسلطة في البحرين*، هذه الدولة الخليجية الصغيرة التي لا تبلغ مساحتها أكثر من 552 كيلومتراً مربعاً ولا يزيد عدد سكانها عن ربع مليون نسمة. إنه دراسة معمقة في التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البحرين خلال انتقالها من مجتمع يقوم اقتصاده على زراعة النخيل، والغوص على اللؤلؤ، وصيد الأسماك، إلى مجتمع عصفت به مؤخراً صناعة النفط والمؤسسات الاقتصادية التابعة لها. ويركز الكتاب على موضوعين رئيسين: أولاً: التغيير الحاصل في نظام السلطة والحكم بفعل التدخل الأجنبي، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أثارتها صناعة النفط، وثانياً: تأثير هذه التحولات على التفاعل الاجتماعي المتبادل بين مختلف فئات الشعب من القبائل، والفلاحين، وسكان المدن. تركز هذه الدراسة، بنوع خاص، على الأسس الاجتماعية والاقتصادية المتبدلة التي تقوم عليها السلطة، وعلى الطرق التي اعتمدتها كل فئة من فئات الشعب في تكيفها مع نظام السلطة المتغير.
تتواجد في البحرين اليوم – وحتى في المدينة نفسها أحياناً – مجموعات متنوعة من القبائل tribesmen، والفلاحين peasants، وسكان المدن urbanites، بفعل هذا التواجد، وتُعتبر هذه المجموعات البشرية فئات متطورة مستقلة عن بعضها البعض بالرغم من ارتباطها بأعراف وتنظيمات مختلفة، وبالرغم من سيطرة كل منها على مصادر خاصة من مصادر العيش والإنتاج. تنظم القبائل علاقاتها على أساس مبادئ الأنساب، خصوصاً فيما يتعلق بالزواج، والتفاعل الاجتماعي، وتوزيع السلطة، والثروة، والمكاسب العامة. تنظّم هذه كلها تنظيماً نسبياً عند القبائل بالنسبة إلى تفرع الأجيال السلالية ومدى ابتعادها أو قربها من أصولها الأم. فالقبيلة وحدة اجتماعية متماسكة بالرغم من انتشار بطونها في مختلف أنحاء الخليج والجزيرة العربية. صحيح أن أبناء القبيلة الواحدة قد يتواجدون في دول مختلفة كاملة السيادة، ولكنهم، مع ذلك يسعون ضمن حدود كل دولة للحفاظ على مميزات خاصة إما عن طريق ضبط الزواج، والتزاوج، وتوزيع المكاسب، والمناصب، وإما عن طريق اتّباع المذاهب الفقهية الخاصة، كاتّباع القبائل في الخليج المذهب المالكي. وتسيطر بطون القبائل في البحرين، كما في دويلات الخليج والجزيرة العربية، على النفط والنخيل كما سيطرت سابقاً على اللؤلؤ والتجارة الخارجية، هذا لا يعني بالطبع أن القبيلة، كتنظيم اجتماعي، لم يتبدل أو يتغير، وإنما يعني أنه تحول وفقاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المستجدة والتنظيم البيروقراطي المستحدث في الحكم. وما هذا الكتاب عن القبيلة والدولة في البحرين سوى محاولة متواضعة للوقوف على هذه التغييرات المستجدة في نظام السلطة والحكم خلال القرنين الماضيين.
وبخلاف القبائل، ينتظم الفلاحون في مجموعات قروية ترتبط ببعضها البعض بالتقاليد والعقيدة الشيعية(*) والفقه الجعفري، كما يرتبطون أيضاً بنسبة عالية من التزاوج ضمن الطائفة الواحدة بالرغم من تبدلات أماكن السكن وأساليب العيش. فبينما ترتكز البنية الاجتماعية عند القبائل على علاقات متقلبة من القرابة والأنساب، ينتظم الفلاحون الشيعة في جماعات ومؤسسات دينية محلية متنوعة تستمد شرعية وجودها من التاريخ الديني – الاجتماعي. ويقول الفلاحون الشيعة في البحرين في هذا الصدد إنهم عرب أقحاح وإنهم سكّان الجزيرة الأصليون، تشيعوا في عهد الخليفة الإمام علي ابن أبي طالب. ويميزون أنفسهم عن مواطنيهم السُّنة بالاسم، فيطلق البعض منهم على أنفسهم لفظة »البحارنة« ومفردها »بحراني« بدلاً من »البحرينيين« ومفردها »بحريني« التي يطلقونها على السُّنة.
ليس للقرية في البحرين مدلول سياسي أو إداري أو اقتصادي واضح، وإنما لها مدلول اجتماعي وتاريخي. ويعني هذا القول، أن حدود القرية في البحرين تقع في المجموعات العائلية التي تتألف منها وليس في مدى ارتباطها أو عدم ارتباطها بالمدينة. فالقرية جزء من تنظيم إداري، واقتصادي، وسياسي أكبر وأشمل، إنما لها طابع اجتماعي مميز، وذلك بسبب المجموعات العائلية التي تنتمي إليها، وبفعل التزاوج الداخلي ضمن العائلات، أو بينها ضمن القرية الواحدة. وقد أظهر المسح الإحصائي الذي قمنا به في سنة 1975، وشمل أكثر من خمس عشرة قرية وحياً منتشراً في البلاد (راجع الخريطة) أن نسبة المتنقلين يومياً بين أماكن عملهم في »المدينة« ومسكنهم في »القرية« تراوحت بين 64.2 و90.7 بالمئة من مجموع القوى العاملة في البلاد، بينما بلغت نسبة التزاوج ضمن القرية الواحدة حوالي 82 بالمئة. هذا يدل بوضوح على ارتباط القرية اقتصادياً بالمدينة واستقلالها اجتماعياً عنها.
أما سكان المدن فينتظمون في أحياء متجانسة دينياً أو عرقياً أو حِرَفِياً، أو يتجانسون في كل الفعاليات المختلطة بعضها بالبعض الآخر. ومن الملاحظ أن السنّة المدينيين (سكان المدن) الذين ترجع أصولهم العائلية إلى الجزيرة العربية، أو إلى جنوبي إيران يعملون عادة في التجارة، أو في الوظائف العسكرية والإدارية. ويعرف السنة الذين ترجع أصولهم العائلية إلى جنوبي إيران بـ »الهلوية،« وتعني هذه اللفظة «تحويلهم» إلى جذورهم العربية من جديد. يقولون في هذا المجال إنهم كانوا ينتسبون إلى قبائل عربية قديمة هاجرت منذ زمن طويل من الجزيرة والخليج إلى جنوبي إيران ومن ثم «تحولت»، أي عادت وهاجرت من جديد من إيران إلى الخليج العربي. والمعروف أن أسماء عائلات »الهولة« الكبيرة، كعائلات كانو، وفخرو، وبستكي، وخوجا، وشيراوي، وخنجي، هي أسماء أماكن في الجنوب الإيراني، مما يدل على أن معظمهم جاء إلى البحرين مع تحول طرق التجارة من شرقي الخليج إلى شواطئه الغربية، بعد أن برز إنتاج اللؤلؤ في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وبعد أن أخذ إنتاج النفظ، وتصنيعه في الحقبة الأخيرة يزدادان بشكل هائل. والحقيقة أن »الهولة« لم يعرفوا العيش والاستقرار في الخليج إلا لفترة بسيطة، حتى إنك تجد الكثير من آبائهم وأجدادهم اليوم في البحرين ما زالوا يتكلمون اللغة الفارسية. ويتميز «الهولة» عن غيرهم من السُّنة المدينيين باتباعهم المذهب الشافعي في الشرع الديني. وبخلاف الشيعة الفرس، فقد استطاع الهولة السُّنة، الذين هم أيضاً من أصل فارسي، أن يستعربوا بشكل كامل وشامل، فتم بالتالي امتصاصهم في جسم القطاع المديني (من مدينة) من السكان، وبرز منهم قادة عروبيون معروفون.
أما العائلات المدينية من السُّنة، التي ترجع في أصولها إلى الجزيرة العربية، فقد أخذت تستقر في البحرين منذ احتلال آل خليفة الجزيرة عام 1783م. وتشمل هذه العائلات عائلات القصيبي، وهجرس، والذواودة، وغيرها ممن ترجع أصولها إلى سلالات عربية حضرية تتميز عن أبناء القبائل باعتمادها المذهب الحنبلي في أحكامها الشرعية. ويتواجد أفرادها بكثرة في إدارات البوليس، وفيما عدا ذلك، فهم يمارسون الأعمال نفسها التي يقوم بها غيرهم من أهل السُّنة.
ويعمل الشيعة المدينيون، كالسُّنة تماماً، في التجارة وإدارات الدولة، ولكنهم بخلاف السُّنة لا يتواجدون بكثرة في دوائر البوليس والجيش. ويتعاطى معظمهم تجارة المفرق خصوصاً البيع للفاكهة، والخضار، وبعض الصناعات الحرفية. ينتسب قسم منهم إلى منطقة الأحساء في المملكة العربية السعودية حيث يكثر الشيعة، وينتسب القسم الآخر إلى المجموعات القروية المختلفة في البحرين. يرتبط الشيعة المدينيون دينياً بشيعة الأرياف عن طريق مشاركتهم الفقه الجعفري، والممارسات، والعقائد الشيعية نفسها.
يجب أن نؤكد في هذا المضمار، أن الريف، والمدينة، والقرية، والبلدة لا تُشكّل، فيما يتعلق بمجتمع البحرين، قطاعات اجتماعية قائمة بحدِّ ذاتها وإن تميزت بعائلاتها وأنماط الزواج فيها. فالمسافات القصيرة بين المراكز السكنية المختلفة، وأساليب المواصلات الحديثة، وفعاليات التكامل والترابط الاقتصادي – هذه العوامل جميعها حوّلت البحرين الدولة الصغيرة، إلى مجتمع موّحد قوامه عاصمة «metropolis» مركزية ترتبط بها مجموعة كبيرة من القرى والضواحي. إن ما يعرفه أهل البحرين عن مجتمعهم وعوائله المختلفة يذكِّر الباحث بالمجموعات الصغيرة Little Communities التي تتصف بإقامة العلاقات الأولية الحميمة بين الأفراد. فقلما نجد شخصية بارزة أو وجيهاً محلياً لا يعرفه الجميع – بل إنهم يعرفونه باسمه، وشخصه، وأصله العرقي والاجتماعي.
يعرف أهل البحرين بعضهم بعضاً، كما يعرفون الأماكن، والقرى، والينابيع العذبة، بأُلفة واضحة يصعب معها فصل الحياة الخاصة عن الحياة العامة. يعرفون بساتين النخيل، ومصائد الأسماك (الحضور)، والمقامات الدينية والمزارات بأسمائها ومواضعها، وتاريخ بنائها وملكيتها، كما سنبين ذلك في الفصول التالية.
يتناول هذا الكتاب، على وجه الخصوص، تأثير الحكم الاستعماري وإنتاج النفط على نظام السلطة ومعطياته الاجتماعية. فكما أوجد الحكم الاستعماري النظام البيروقراطي الذي بدل التركيبة القبلية للسلطة وعدّل طبيعة التفاعل بين أهل القبائل، والفلاحين، وسكان المدن، بدل النفط النظام الاقتصادي مما يترتب عليه تَغَيُّر التنظيم الاجتماعي المرتبط به. وهكذا، بدلت البيروقراطية التحالفات القبلية وأعطت الحكم وسائل جديدة للتدخل السياسي، فاستحدثت نظاماً هرمياً للسلطة «authority»، الأمر الذي عزّز، ولم يضعف، قوة «power» العائلة الحاكمة ونفوذها. وساهم النفظ في تغيير الأسس التقليدية للإنتاج والعمل، فحول القواعد الاجتماعية للسلطة وخلق بالتالي صيغاً سياسية جديدة. وهكذا بدأت تظهر، في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، قوى اجتماعية وسياسية جديدة قوامها الموظفون، والمثقفون، والعمال، تتحدى، وبطرق مختلفة، شرعية الحكم وسلطته. غير أن تدفق اليد العاملة الآسيوية إلى البحرين في السبعينيات، الذي جاء نتيجة لارتفاع أسعار النفط، وتركيز هذه اليد على قطاعات البناء والمهارات الفنية الخفيفة، حال دون قيام معارضة عمالية منظمة لها صفة الديمومة والاستمرار. ويُقَدَر عدد العمال الأجانب الذين وفدوا إلى دولة البحرين في العقدين الأخيرين بحوالي سبعين ألفاً أو يزيد، الأمر الذي شجع البحرينيين للالتحاق في وظائف الدولة وقطاع الخدمات التجارية، فضعفت بالتالي قدرة العمال الوطنيين على العمل الجماعي المنظم. ويبدو أن التغيير الاقتصادي السريع لا يشجع، في الوهلة الأولى، على بروز المعارضة المنظمة أو الانتفاضات الانقلابية الهامة. يبدو أن هذه التحركات الانقلابية تبدأ بالظهور حالما يستقر نظام الإنتاج والعمل، حيث تبرز معه التناقضات الاجتماعية والمفارقات الطبقية.
ومما يؤيد هذه التوقعات، اشتداد المفارقات الاقتصادية والاجتماعية بين المجموعات الوطنية بعد اكتشاف النفط وتصنيعه. صحيح أن معظم السكان اليوم يتمتعون بغذاء، وثقافة، ومسكن، وملبس أفضل من ذي قبل، ولكنه من المعروف أيضاً أن البحرين لم تعرف من قبل زمناً، كانت المفارقات والتناقضات بين مختلف الفئات الاجتماعية حادة وبارزة بهذا الشكل الملموس. ففي غياب سياسة اجتماعية إنمائية واضحة المعالم، يعمل النمو الاقتصادي على تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء، وبين النخبة والجماهير، وبين الخاصة والعامة، كما أنه يغذي الحس الجماعي بالحرمان. ولهذا السبب، نرى أن الانتفاضات الانقلابية في العالم تنطلق في بداية مراحل النمو الاجتماعي الذي يكفل عن طريق إعادة توزيع الثروة العامة، على تضييق الهوة بين مختلف المجموعات القومية.
هذا التغيير الذي طرأ على نظام الحكم والسلطة في البحرين وعلى التفاعل الحاصل بين أبناء القبائل، والفلاحين، وسكان المدن، الذي جاء نتيجة التدخل الخارجي وتصنيع النفط لم يكن يتم إلا من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة قبل هذا التدخل والتصنيع. وهذا من طبيعة التغيير الاجتماعي الذي لا يحصل إلا من خلال الممارسات والتقاليد الحضارية القائمة: فالجديد يكون هكذا جديداً لا بالنسبة للنماذج والهياكل العقلانية، إنما بالنسبة للممارسات والمؤسسات القائمة. هذا يعني أن بحثنا في تغيير نظام الحكم والسلطة بالذات يتطلب منا العودة إلى دراسة الأوضاع السائدة في هذه الممارسات قبل فرض النظام البيروقراطي وقبل البدء بإنتاج النفط وتصنيعه. ونعني بـ »السلطة« هنا الصلاحيات الشرعية التي يمارسها الحكم، كما أننا نعني بها أيضاً المؤسسات التي تستند إليها هذه الممارسات. »السلطة« في مفهومنا تشمل الممارسات الشرعية ومقوماتها في آن. فهي تشمل الأسس الاجتماعية للنفوذ والسلطان، كما أنها تشمل القواعد التي تبنى عليها المجموعات البشرية، والموارد الاقتصادية والإنتاجية التي تسيطر عليها هذه المجموعات. هذا يعني أن البحث في نظام الحكم والسلطة وكيفية تغيرهما يفرض علينا دراسة معمقة لطبيعة وكيفية تغير ملكية الأرض، وزراعة النخيل، وإنتاج اللؤلؤ، وصيد الأسماك، والمشاريع الصناعية الحديثة وطبيعة العمل فيها، كما يفرض علينا البحث في أنظمة التوظيف واختلاف جذورها الاجتماعية، والخدمات التربوية، وأنماط الزواج، والجمعيات الخيرية، والأندية الرياضية، والحركات العمالية، والأحزاب السياسية، وتنظيم المآتم وطبيعة عملها، والأسس التي ترتكز عليها القيادات السياسية والاجتماعية التي تسيطر عليها. هذه الأمور كلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببنية السلطة وممارسات الحكم الشرعية.
إن تأثير البنية الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسات التنظيمية المرتبطة بها على نظام الحكم والسلطة في البحرين يتفاوت بتفاوت الحقب التاريخية. وعلى أساس هذا المبدأ، بَنَيْتُ طرق التحليل ومنهجية البحث في هذا الكتاب، كما نظّمت فصوله بالشكل الذي هو فيه. فالفصل الأول، وهو بعنوان «التجزؤ والتمركز»، يتناول كيفية إرساء السلطة السياسية في أوائل القرن التاسع عشر (م) في أيدي فصائل قبلية استطاعت السيطرة على مراكز عديدة من مراكز التجارة والغوص على اللؤلؤ في الخليج العربي. وبعد ازدياد إنتاج النفط في الجزء الثاني من القرن العشرين، تحولت هذه المراكز إلى دول مستقلة تنعم بسيادة كاملة. هذه الدول جميعها صغيرة الحجم قليلة السكان، وتعتبر البحرين أصغر هذه الدول حجماً، كما تعتبر دولة الإمارات المتحدة أكبرها، إذ إنها تتألف من سبع إمارات تبلغ مساحة مجموعها 77.700 كيلومتر مربع، ولكن لا يزيد عدد سكانها عن مئة وخمسين ألف نسمة يتجمع القسم الأكبر منهم (60.000) في دبي.
إن الظروف والعوامل التي ساعدت هذه الإمارات الصغيرة كي تصبح دولاً مستقلة، وتحظى بالاعتراف الدولي، هي ظروف وعوامل اجتماعية وتاريخية في آن. فقد بدأت هذه الدول بالظهور تاريخياً، منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما اشتد الطلب العالمي على اللؤلؤ وازداد إنتاجه، وبالتالي انتقلت خطوط التجارة من شرقي الخليج الذي كان يخضع للنفوذ الإيراني إلى غربه حيث يكثر اللؤلؤ وحيث تقطن القبائل العربية. وكانت البحرين وغيرها من دول الخليج، في هذه المرحلة التاريخية، مراكز تربط أوروبا بالشرق الأقصى من جهة وبالجزيرة العربية والعراق من الجهة الأخرى. استطاعت هذه المراكز والإمارات أن تحظى بشيء من الاستقرار السياسي، ومن ثمة بالاستقلال والسيادة نتيجة موازين القوى العاملة في الخليج آنذاك والتي كانت تشمل بريطانيا، والإمبراطورية العثمانية، وإيران، وعمان، والجزيرة.
ومن الناحية الاجتماعية، فقد كانت تسيطر على هذه الإمارات والدول بعض القبائل العربية أو بعض البطون المتفرعة منها: آل خليفة على البحرين، وآل الصباح على الكويت، وآل ثاني على قطر، وآل بو فلاح على أبو ظبي، وآل بو فلاسة على دبي، وآل جواسم أو القواسم على رأس الخيمة والشارقة، وآل بو خريبان على عجمان، وآل بنعلي على أم القيوين، وآل شرقي على الفجيرة. والمعروف أن كثيراً من هذه القبائل أو بطونها تنتسب إلى قبيلة واحدة في الأصل. فآل خليفة وآل الصباح مثلاً، ينتسبون إلى العتوب من قبيلة عنزة، وينتسب آل بو فلاح وآل بو فلاسة إلى قبيلة بني ياس. صحيح أن هذه القبائل وبطونها تنتسب إلى بعضها البعض، إلا أن كل واحدة منها تؤلف دولة منفردة مستقلة عن الأخرى داخل تركيبة قبائل الدول المنتشرة في الخليج.
اخترنا للفصل الأول عنوان »التجزؤ والتمركز« لنؤكد على أمرين: أولاً، على الحروب الطاحنة التي قامت بين القبائل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وثانياً، على ما أنتجته هذه الحروب من تجزئة القبائل وانتشار بطونها وتمركزها في إمارات ودول متعددة من الخليج. كان ما يُشغل القبائل وبطونها المحافظة على عصبيتها وذلك بالسيطرة على الطرق التجارية والداخلية، والتحكم بمراكز الغوص على اللؤلؤ. القبائل تهتم بالتماسك المعنوي، الأخوة القبلية، والمحافظة على استقلال القبيلة كوحدة اجتماعية بحدّ ذاتها، بغض النظر عن الأرض التي تعمل فيها. تأتي سيادة «الأرض» عند القبائل في الدرجة الثانية من الأهمية بعد وحدة القبيلة وتماسك بطونها. غير أن هذا المنطق القبلي بدأ يتغير في أوائل القرن التاسع عشر نتيجة المعاهدة الموقعة عام 1820 بين بريطانيا وشيوخ القبائل الخليجية، والتي بموجبها تمّ تثبيت القبائل وبطونها كل في إقليم معين. كان هدف المستعمر، بالطبع، فرض بعض الاستقرار السياسي لتنشيط التجارة وإنتاج اللؤلؤ – إذ إن الحروب بين القبائل كانت تعيق الإنتاج وتشل التجارة – ولم يكن هدفه التحديث والعصرنة.
وجاءت الأحداث لتثبت، فيما بعد، أن معاهدة 1820، بقدر ما نجحت في إيقاف المعارك، إلا أنها فشلت في لجم الصراعات القائمة على السلطة بين أفراد كل قبيلة على حدة – لا بل زادتها. وهذا ما يظهره بوضوح تاريخ البحرين من عام 1835 حتى عام 1869 حيث كان الصراع على السلطة بين آل خليفة على أشدّه. ما كاد الحكم يستقر في البحرين «بعد هذه المعاهدة، حتى انتقل الصراع من الإخوة إلى الأعمام وأولادهم، ولكن سرعان ما طُوِّقَ هذا الصراع بفرض نظام ثابت للخلافة في البحرين يعطي الحق للابن البكر بدلاً عن الإخوة والأعمام.
وبعد وقف المعارك بين القبائل وتطويق الصراعات على السلطة، أخذت البحرين تشهد استقراراً ملحوظاً في السياسة والاقتصاد، خصوصاً عند تولي الشيخ عيسى بن علي الحكم سنة 1869 إلى 1923. خلال هذه الفترة من تاريخ البحرين الاجتماعي، تجسد الحكم في مؤسستين أساسيتين: المجالس القبلية، والمحاكم الدينية.
تناولنا المجالس القبلية في الفصل الثالث، والمحاكم الدينية وكيفية عملها في الفصل الرابع. أوضحنا في الفصل الثالث كيفية سيطرة المجالس القبلية على الموارد والمصادر الاقتصادية كالغوص على اللؤلؤ، وزراعة النخيل وصيد الأسماك، كما أظهرنا التفاعل بين الشريعة الدينية والعُرف القبلي، آخذين بعين الاعتبار الفرق بين الشرع الجعفري عند الشيعة والمذاهب الأخرى عند السنّة. سيطرت المجالس القبلية على موارد البلاد الاقتصادية وعلى عمليات الإنتاج والتوزيع والتسويق، بينما سيطرت المحاكم الدينية على الأحوال الشخصية كالزواج، والطلاق، والإرث، والديون. ونادراً ما كانت أعمال المحاكم الدينية، من ناحية الممارسات لا من ناحية المبدأ، تتناقض مع الأعراف القبلية وكيفية تطبيقها، فإذا حدث أن وقع هذا التناقض، كانت الأعراف تقوى على الشريعة. وفي هذه الفترة من الزمن كانت قرارات المحكمة السنية وقرارات المجالس القبلية تُفرض فرضاً بالقوة من قبل الحكم، بخلاف قرارات المحكمة الجعفرية التي كانت تطبق وتطاع عن طريق الإقناع والرادع الشخصي. ولعل هذا الفرق بين قضاة السُّنة وفقهاء الشيعة قد ساهم في إبراز الفقهاء الشيعة قادة سياسيين، إلى جانب كونهم «علماء» في الشرع الديني، وبسبب هذا البروز أصبح القضاء الشيعي، من الناحية الوظيفية، مرادفاً للحكم القبلي – وهذا ما نبحثه في الفصل الرابع بالتفصيل.
يُشكّل الفصلان المتعلقان بالمجالس القبلية والمحاكم الدينية وكيفية سيطرتهما على الموارد والمصادر الاقتصادية «القاعدة الأساسية» base – line الذي على أساسه جرت عملية التغيير فيما بعد، إن كان هذا من باب الاصطلاحات الإدارية التي طبقت في العشرينيات – وهذا ما نبحثه في الفصل الخامس والسادس – أم من باب تطور صناعة النفط وتأثيرها في البنية الاقتصادية والإنتاجية – وهذا ما نبحثه في الفصل السابع والثامن.
أعطت الاصطلاحات الإدارية التي أدخلت إلى البحرين تدريجياً على مدى عشر سنوات الحكم صفة شرعية تقوم، ولو نظرياً، على أساس «القانون العقلاني» rational law و»القواعد العامة« للتنظيم البيروقراطي (فيبر 1954). أدّى هذا النظام إلى تمركز السلطة في يد الحكم، وتقوية السلطان القبلي، واشتداد نفوذه عن طريق «الحق القانوني» بدلاً من القسر الجسدي. وكانت نتيجة هذا التمركز أن تبدلت حدود التفاعل بين العائلة الحاكمة والقبائل الحليفة: فأُهْمِلَت التحالفات القبلية التي كانت تستعمل لضبط الأمن والصراعات القبلية والمحلية، واستُبْدِلَت بمؤسسات أمنية خاصة بالدولة فقط ، كالشرطة، والبوليس، والجيش. وهكذا انخفضت نسبة التزاوج بين رجال العائلة الحاكمة ونساء القبائل الحليفة إلى درجة كبيرة، لأن هذا النمط من الزواج كان يهدف أصلاً إلى خلق تحالفات سياسية فعالة: فعندما زالت الحاجة إلى هذا النوع من التحالف بفعل بناء مؤسسات الدولة، انخفضت نسبة الزواج الذي كان يتم داخل التحالف.
لم تكن مواقف القبائل، والفلاحين، وسكان المدن من الإصلاحات الإدارية وإدخال التنظيم البيروقراطي إلى البحرين تتسم بالانسجام الكامل، فقد كان كل فريق يتخذ الموقف الملائم له بالنسبة إلى وضعه الاقتصادي وتنظيمه الاجتماعي. وهذا أمر متوقع، إذ إن لكل فئة من هذه الفئات وضعاً خاصاً ومميزاً من حيث تنظيمها الداخلي أو من حيث الموارد الاقتصادية التي تسيطر عليها. كانت القبائل قبل إدخال الإصلاح الإداري والتنظيم البيروقراطي، تعمل بحرية تامة وتتمتع بحكم ذاتي مستقل عن كل سلطة، تسيطر على الطرق التجارية وصيد اللؤلؤ، ولهذا السبب حاربت الإصلاحات وحاولت خنقها في مهدها معتبرة إياها، وعن حق، تهديداً مباشراً لطبيعة تركيبها الاجتماعي وكيفية عملها الاقتصادي. أما الفلاحون الشيعة وأهل المدن من الشيعة والسُّنة فقد أيدوا التنظيم البيروقراطي وعملوا على إنجاحه، معتبرينه موافقاً لمصالحهم وتنظيماتهم الاجتماعية. وبالفعل، كان هؤلاء يعانون الأمرَّين من العُرف القبلي وغياب الشرع القانوني الموحّد والتنظيم الإداري الواضح المعالم (راجع الفصل الخامس للتفصيل).
لم تؤثر الخلفية الاجتماعية فقط في ردات الفعل التي أبداها كل من القبائل، والفلاحين، وسكان المدن تجاه الإصلاح الإداري والتنظيم البيروقراطي، بل لعبت هذه الخلفية أيضاً دوراً هاماً في سياسة التوظيف المتبعة في الإدارة، والبوليس، والمحاكم، والبلديات وغيرها من الإدارات العامة – وهذا ما نبينه بالتفصيل في الفصل السادس. باختصار، سيطر وما زال يسيطر العنصر القبلي على الإدارات الحكومية التي لها صفة القضاء والأمن كالعدل، والدفاع، والداخلية، والأمن العام، والقوات الخاصة، وسيطر المدنيون على المراكز ذات الاتجاه التقني والفني كالكهرباء، والمياه، والتربية، والصحة، والتنمية. ظلّ هذا النمط في التوظيف يعمل به بالرغم من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت في البلاد مؤخراً. ولهذا شهدت البحرين باستمرار أجواء متوترة تقوم بين التنظيمات القبلية من جهة وبين القوى الجديدة المنبثقة أساساً من طبقة الفلاحين والمدنيين من الجهة الأخرى. وكثيراً ما كانت هذه القوى تعمل تحت شعارات تحديثية كتنظيم العمل والتعويضات، وحقوق العمال والنقابات العمالية، والحقوق المدنية، وتحديث النظام السياسي، وغيرها.
أحدث إنتاج النفط، وسوق العمل الذي أوجده، تغييراً هائلاً في الاقتصاد والاجتماع، فانتقلت اليد العاملة البحرانية من العمل في زراعة النخيل والغوص على اللؤلؤ إلى العمل في القطاع الصناعي والتجاري. وبالفعل، بلغت في سنة 1975 نسبة العاملين في وظائف ثابتة حوالي %70 من مجموع اليد العاملة كلها، وهذه نسبة عالية جداً إذا ما اعتبرنا وضع البحرين قبل النفط حينما كانت «الوظيفة» شبه معدومة.
وكما ساعدت العائدات النفطية على تنمية الخدمات العامة في التربية، والصحة، والضمان الاجتماعي وساهمت في رفع المستويات المعيشية على اختلاف أنواعها، وكذلك خلقت هذه العائدات فروقات واضحة بين مختلف الفئات والطبقات، فزادت بالتالي الشعور الجماعي بالغبن واللامبالاة. استغلت هذه الفروقات سياسياً، تارة من قبل أحزاب عقائدية وتارة أخرى من قبل تنظيمات محلية عمالية ودينية فقامت بتنظيم معارضة قوية ضد الحكم بعد مخاض طويل، وحاولت أن تحدث بعض الإصلاحات الهامة في الإدارة والحقوق المدنية. فكما أحدث الاستعمار تغييراً في التنظيم البيروقراطي، خلق النفط قوى جديدة تعمل لتغيير النظام السياسي، وهذا ما سنبحثه في الفصل التاسع والعاشر.
وطالما أن الأحزاب السياسية ممنوعة رسمياً في البحرين، فلا عجب أن نجد أن الحراك السياسي political action يتركز في جمعيات »شبه سياسيةparapolitical «، كالنوادي الثقافية، والرياضية، والمآتم الدينية. يبحث الفصل الثامن في تأسيس هذه الجمعيات وتطورها وتكاثرها، وفي التبديل الذي طرأ على وظائفها بسب تطور صناعة النفط في البلاد. في الماضي، قبل صناعة النفط، كان الوجهاء والأعيان يؤسسون هذه الجمعيات، والنوادي، والمآتم للتباهي والمفاخرة، أما اليوم، بعد النفط، أخذ الشباب يؤسسون هذه التنظيمات تعبيراً عن وحدتهم الثقافية والدينية وتطلعاتهم السياسية. وتبين هذه الدراسة أن تكاثر هذه الجمعيات، والنوادي، والمآتم يُعبّر عن تجزؤ المجتمع البحريني بالرغم من وحدته الثقافية أو الحضارية بقدر ما يُعبّر عن اتجاه عام في الحكم.
وفي الفصلين التاسع والعاشر يتناول هذا الكتاب طبيعة العمل السياسي، مع التأكيد على دور القوى الجديدة الفاعلة في المجتمع البحريني، هذا يخلص إلى القول إن غياب التنظيم السياسي المستديم يحدّ من قدرة المعارضة، أياً تكن، على مجابهة الحكم لفترة طويلة الأمد. فالمجابهة الطويلة الأمد القائمة على وحدة الموقف عند الفصائل المجزئة، تُبْرِز التناقضات الداخلية للقطاع المعارض وتعمل بالتالي على تفككه من الداخل، فلا يتمكن من بلوغ الهدف مهما كان انتشاره في صفوف الشعب واسعاً. وبعد دراسة دقيقة للأزمات والهزات السياسية في البحرين، يمكن القول إن »قبلية« الدولة تقبلت الكثير من التجديد والتحديث في الحكم باستثناء أمرين أساسيين: قانون موحد وعام، ونظام سياسي يستمد من التمثيل الانتخابي. ويصح قول ذلك في اللجان، والهيئات، والمجالس العديدة التي أنشِئَت في البلاد منذ سنة 1919، كما ينطبق على البرلمان الذي أسس في عام 1973، وحلَّ في عام 1975.
ونحاول في الفصل الأخير أن نثبت أن الغاية من حلّ البرلمان كان هدفها المعارضة المنظمة التي قويت واشتد نفوذها عند تأسيس البرلمان بالذات. أدخل تأسيس البرلمان إلى البحرين نمطاً جديداً في العمل السياسي، شجع على قيام تحالفات قوية تعارض الحكم، كتحالفات الدينيين واليساريين، الأمر الذي سيَّس الأمور البسيطة وزادها تعقيداً، وشلّ بالتالي عمل الإدارات التنفيذية في الحكم.
أثبتت تجربة البحرين أن «القبلية» في الحكم قد تتبنى الكثير من الأمور التحديثية في المجتمع كالمشاريع الاستعمارية وبرامج الإنعاش والإنماء، ولكنها ترفض التحديث السياسي كالتمثيل الشعبي والقانون المدني الموحد. وهي إذ تفعل ذلك فإنما تحافظ على ذاتيتها كتحزب سياسي يخدم مصالحه، شأنه بذلك شأن كل تنظيم سياسي آخر يعمل على إضعاف التحزبات الأخرى وفرفطتها – ليبقى الحكم لمن غلب.