محمد ناصر*
انطلقت فكرة هذا المشروع بعد أيامٍ من هجوم قوات الأمن البحرينية على ساحة الفداء؛ الحدث الذي فرض أهمية حفظ وتوثيق وأرشفة التجاوزات والتغييرات التي طرأت على الساحة. ولأن الساحة هي فضاءٌ مكاني، كان خيار مركز أوال للدراسات والتوثيق[1] بأن نتجه الى تدوين ذاكرة المكان التي تحتل حيزاً من اهتمامات المركز البحثية والتوثيقية. فبعد تجربة تدوين قصص الجدات ومعلمات القرآن واصدار مجلة أرشيفو[2] المتخصّصة بحفظ الاعمال الأرشيفية من مهن وحرف وصور، يسعى أوال ان يكون بيتاً للذاكرة، يحكي قصص التاريخ المفقود ويجعله شاخصاً أمامنا.
والغوص في ذاكرة المكان له متعة خاصة اذ انها تنزع من الاماكن جموديتها وتضخ فيها النبض لتسرد قصتها بلسان من سكنها وتجوّل في أرجائها. فكيف اذا كان المكان عبارة عن ساحة عامة؟ قد يرى البعض ان وظيفة الساحات الاساسية تكمن في كونها مساحات ضرورية في المدن لتوزيع حركة السير وتقاطعات الشوارع، لكنها سرعان ما تطورت لتحمل أسماء محطات سياسية واجتماعية، وغدت تشكل إرث هذه المدن وذاكرتها. فهل لكم ان تتصوروا بيروت، على سبيل المثال، من دون ساحة الشهداء وتمثال المرأة التي تحمل مشعل حرية وتحضن شهيدًا يظهر من خلفها وآخر سقط أرضًا (من نحت الفنان الإيطالي مارينو مازاكوراتي)؟ ماذا عن القاهرة وميدان التحرير الذي تزيّن زاويته مكتبة مدبولي، وساحة 14 جانفي في تونس التي يحرس جانباً منها تمثال للرئيس الحبيب بورقيبة جالسًا على حصانه، وميدان التحرير في العراق، وساحة المرجة في دمشق والسبع بحرات التي دمرتها الحرب في حلب؟
احتضنت «ساحة الفداء» فعلاً سياسياً واجتماعياً على مدى أكثر من عام
تستجلب زيارة هذه الساحات قصص من مكث فيها وحوّلها الى عريضة تحمل أفكاره ومطالبه وآماله، فتصبح ذاكرتها مزيجًا من أحداث وصور وعبارات لغوية وأحجار اسمنتية وخيم تظلّل تحتها من اراد ايصال صوته عاليًا. كما ان الاحداث التي تحصل في هذه الساحات تشكل جزءً من تاريخ الشعوب الحقيقي وغير المدون.
فماذا تكون ساحة الفداء؟ وكيف تحولت من مجرد حيّزٍ مكانيّ في قرية الدراز[3] البحرينية إلى ساحة احتضنت فعلًا سياسيًا واجتماعيًا على مدى أكثر من عام؟ في 20 حزيران من العام 2016، أعلنت المحاكم البحرينية إدانة آية الله الشيخ عيسى قاسم[4] على خلفية قضية دينية (تتعلق بفريضة الخمس)، وأسقطت السلطات جنسية سماحته. ومنذ اللحظة الأولى لانتشار هذا الخبر، بدأت القصة، وتحولت الساحة من مجرد مساحة مكانية إلى ساحة للذاكرة الجماعية، فاختزنت التفاصيل كافة من التجمهر الأول إلى تحمل حرارة الشمس القاسية في البحرين، إلى البرد القارس شتاءً والصيام في شهر رمضان وإحياء ليالي القدر والاحتفالات في الأعياد وإقامة العزاء.
هذه البقعة الجغرافية، التي أسفرت أحداثها حتى لحظة الهجوم الأخير في 23 أيار من العام 2017 عن اعتقال أكثر من ثلاثمائة شاب وارتقاء خمسة شهداء، ظلّت ولّادة وحفلت بقصص كثيرة لم تنتهِ، ولكي تكتمل عناصر الرواية، خضنا في مركز أوال للدراسات والتوثيق رحلة جمعنا فيها شهادات مرابطين عايشوا الحدث، من رجال ونساء وشباب وعلماء، جمعوا بين دراستهم ونضالهم على مدى 337 يوم.
لم يكن من اليسير بالنسبة لنا أن نجمع شهادات في بلدان مختلفة (حيث يقيم الرواة الذين عايشوا الحدث)، عبر عدد من الوسائل، وتجاوز مجموعها مائة ساعة من التسجيلات، فشكّلت نواة العمل بعد أن تمّ تفريغها. وانطلقنا في الكتاب المُكوّن من 21 شهادة، لنورده في خمسة فصول ترسم لنا قصة حماية الباب الأخير الذي يمثل كل وجودهم وانتمائهم وارتباطهم بوطنهم ومعتقداتهم في ساحة الفداء .
هذا العمل، القائم على تحويل الشهادات الشفوية إلى وثائق، يوثّق حدثًا هامًا صنعه الشعب البحريني، وهو من الأدوات التي تحفظ قصص الشعوب وتاريخها بعيدًا عن الرواية الرسمية، الممهورة بتوقيعات وطوابع تحفظ التاريخ الرسمي الثقيل، الساعي دائمًا لنقل القصة وفقًا لسرديته الخاصة.
حماة الباب الأخير هو عمل توثيقي لحفظ ذاكرة مكانٍ قد لا تتمكن من رؤيته، لكنه يتسلل إلى روحك، فتواكب وأنت تسمع قصصه الأحداث كلها بتفاصيلها الصغيرة التي ستصبح جزءً من تاريخك. كما انها تشكّل مفصلًا هامًا، ليس في إرث هذه الساحة فقط، بل في إرث المناضلين والشعوب وساحات النضال في العالم أجمع، تلك التي تُشَكل ماضينا وتصوغ مستقبلنا.
[1] مركز أوال للدراسات والتوثيق مؤسسة بحرينية أنشِئت في لندن في شباط / فبراير من العام 2012، وهو يُعنى بقضايا الخليج بشكل عام والبحرين بشكل خاص ويهدف إلى حفظ الذاكرة البحرينية ومواكبة الأحداث المستجدة أولًا بأول. من أبرز إصداراته موسوعة “أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية الأصلية ١٨٢٠-١٩٧١”.
[2] مجلة أرشيفو نشرة فصلية تصدر عن مركز أوال للدراسات والتوثيق، وتُعنى بقضايا الأرشيف، وتنطلق من البحرين إلى الخليج إلى العالم العربي وخارجه. وتغطي عددًا من المجالات منها المشكلات التي تواجه الأرشيف، وطرق حفظ الأرشيف، والتعريف بأصحاب الأرشيف الأهلي ومراكز الأرشيف الرسمي، والتعريف بالمدوّنات والمواقع الإلكترونية المهتمة بالوثائق والأرشيف من بين موضوعات أخرى. صدر منها 12 عددًا حتى الآن، وهي متوفرة أيضًا بشكل رقمي على مدونة أرشيفو عبر الإنترنت.
[3] قرية الدراز من أكبر قرى البحرين إذ يتجاوز عدد سكانها 20 ألف نسمة، وهي قرية تضرب بجذورها في عمق التاريخ القديم، كما كانت في واجهة الأحداث في البحرين إذ إنها إحدى أبرز المناطق التي شهدت احتجاجات منذ حراك 14 فبراير / شباط 2011. شكّلت الدّراز مصدر أرق للسلطات البحرينية مع توافد البحرينيين إليها للاعتصام في ساحة الفداء منذ اللحظة الأولى لسماعهم خبر إسقاط جنسية الشيخ عيسى قاسم، وحتى الهجوم الأخير من قبل قوات الأمن البحرينية لفض الاعتصام.
[4] هو آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم من بلدة الدراز غرب العاصمة المنامة، يمتلك أكبر قاعدة شعبية في البلاد وتعتبره الغالبية الشيعية في البحرين قائدًا لها، وله عدد من المواقف الوطنية، وهو يحظى بشعبية كبيرة في عموم الخليج والمنطقة. شارك آية الله قاسم كعضو في المجلس التأسيسي لوضع دستور للبحرين في العام 1971. ومع بدء قيام المجلس التأسيسي لوضع دستور دولة البحرين، ترشح له وفاز بأعلى الأصوات. وفي العام 1971، رشح نفسه للمجلس الوطني إلى أن تم حلّه، وكان من أبرز مؤسسي جمعية التوعية الإسلامية في العام 1971. يُنظَر إليه باعتباره الأب الروحي للبحرينيين. من أبرز أقواله: ” “معركة كربلاء قائمة بطرفيها اليوم وغدًا في النّفس…في البيت…في كل ساحات الحياة والمجتمع ويبقى النّاس منقسمين إلى معسكر مع الحسين ومعسكر مع يزيد. فاختر معسكرك”.
*المدير التنفيذي لـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق»