مدينة الأرشيف

“لا بدَّ للملك من أن يقوم بأمرين: يصون عظمة مدينته، ويروي قصَّته. كلٌّ من الواجبين متمّم للآخر”.

                                                                                         ألبرتو مانغويل، مدينة الكلمات.

*علي أحمد الديري

القصَّة هي التاريخ وهي الأرشيف. المؤرخون تولّوا مهمَّة تشييد مدن ملوكهم بالكلمات، يَسندون إليهم الأعمال الجليلة، ويكتبون على أحجار المدينة أسماءهم، ويروون قصائد الشعراء المحفورة على الصروح التذكارية.

اليوم، لا بدّ للأرشيف من أن يقوم بأمرين: يصون ذاكرة الناس ويروي قصَّتهم؛ يصونها بأن يحفظ حياتهم وذكرياتهم ونضالهم ووقائع ما فعله الملوك بهم، ويروي حكاية وجودهم، وبطولاتهم، وإنجازاتهم، وظلاماتهم، وأفراحهم، وأحزانهم. هكذا يجب على الأرشيف أن يُوجِد ما أعدمه الملوك باستبدادهم ونرجسيّتهم.

الأرشيف ليس “تاريخ الملوك والأمم”، وليس قصصهم، وليس سجلّ حجارة مدنهم، ولا دفتر مراسيم أوامرهم، بل هو تاريخ الناس وقصصهم وسجلاتهم ووجودهم.

لا يريد الملوك أن يقرأوا تاريخًا يجدون فيه أرشيف الأمم، بل يريدون أن يكون التاريخ أرشيفًا لهم، تحضر الأمم فيه كأتباعٍ توافقهم، ورعيَّة تطيعهم وتنتسب إليهم.

يلاحق الملوك الأرشيف الذي لا ينطق بأوامرهم ولا يحكي قصَّتهم العظيمة. لذلك، تُكتب سجلات الأرشيف التي تروي قصصًا مغايرة في الهامش والخفاء والمنفى.

ليس الملوك فقط، ولا الدول الاستبدادية، يفعلون ذلك، فحتى في الأنظمة الديمقراطية تحفظ الدولة ما ينسجم مع سياسة حكومتها ويصون قصَّتها، فعلى سبيل المثال، يوجد في العاصمة واشنطن “نصب تذكاري للمحاربين في حرب فيتنام”، مكتوب على جدرانه أسماء أكثر من 58 ألف جندي أميركيّ قُتلوا في حرب فيتنام.

كان نائب الرئيس الأميركي مايك بنس وزوجته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 قد شاركا عشرات المتطوعين في تنظيف النصب التذكاري. حمل بنس دلو مياه كتب عليه: “فلنفعل ذلك”. كان يروي قصة الجنود كأبطال نفَّذوا سياسة حكومتهم، فأوقعوا خسائر بشرية من الفيتناميين تقدّر، خلال ثماني سنوات، بمليوني قتيل، و3 ملايين جريح، وما يناهز 12 مليون لاجئ.

أين موقع هؤلاء الضَّحايا من أرشيف النصب التذكاري؟ هل كتب أحدٌ أسماءهم؟ هل حمل أحدٌ دلو ماء ليبلّل تربتهم أو يزيل الغبار عن قصَّتهم؟

1 – ألبرتو مانغويل، مدينة الكلمات، ص 56.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: مدينة الأرشيف

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  8 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

مشاركة


مواضيع ذات صلة


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>