ماذا قال المقيم السياسي لآل خليفة في 1923؟
د. علي الديري*
يعالج “الخوري” هذه الإشكالية “كيف أنّ القبيلة، على صِغَر مجتمعها، من الممكن أن تتصرّف كدولة بالمقابل، كيف أنّ الدولة من الممكن أن تتصرّف كقبيلة” هذا السؤال اختبره على قبيلة آل خليفة في البحرين، ووجد أن القبيلة تمكنت أن ترواغ حركات الإصلاح والتحول نحو نظام الدولة، وبقيت الدولة محكومة بأعراف قبيلة آل خليفة ومصالحها.
القبيلة شكل بسيط وقديم من أشكال التنظيم السياسي، والدولة تركيبة معقّدة معاصرة، كيف يمكن أن يتصرف هذا البسيط في نظام معقد؟ يعود بنا (فؤاد) إلى 1923 وهو العام المفصلي في تاريخ البحرين، العام الذي قررت فيها بريطانيا أن تتحول السلطة من الشكل البسيط (القبيلة) إلى الشكل المعقد (الدولة= البيروقراطية). فقامت بعزل عيسى بن علي آل خليفة الذي حكم كرجل إقطاع قبلي لأكثر من خمسين عاما، ونصبّت مكانه ابنه (حمد بن عيسى آل خليفة). كانت الخطة أن تتحول البحرين من النظام البسيط (القبيلة: عيسى بن علي) إلى النظام المعقد (الدولة: حمد بن عيسى) لقد عُزل عيسى بن علي، لكن نظامه بقي حتى اليوم.
كيف كانت تركيبة القوى الاجتماعية في ذلك الوقت؟ كانت تركيبة معقدة، وقد درسها (الخوري) دراسة معمقة من حيث وضعها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والاعتقادي، ولعل أفضل طريقة لفهم هذه التركيبة، هو استعادة خطاب المستعمر البريطاني لحظة تنصيب النظام الجديد في مايو 1923.
تحتفظ لنا الوثائق البريطانية بخطاب التنصيب الذي قدمه المقدّم إس. جي. نوكس (S.G. KNOX)، المقيم السياسي في الخليج، في المجلس الذي عُقد في البحرين في تاريخ 26 أيار/ مايو 1923.
لقد خاطب ثلاث قوى رئيسية، الأولى آل خليفة “السادة المحترمون من آل خليفة، أخشى أنني كلّما نظرت إلى الماضي، ينبغي عليّ تحذيركم من أنّ تحمّلكم للمشاكل الحاصلة لا يعني أنه لكم الحقّ في العيش على حساب باقي الجماعات… يصعب إيجاد مواقع لكم جميًعا، بعددكم الكبير، في الإدارة؛ وأنا أخشى أنّ الكثيرين غير كفوئين لذلك بسبب إهمالهم لأنفسهم”.
والقوة الثانية القبائل السنية “أيّها السادة أتباع المذهب السُنيّ، وخصوصًا رجال قبيلة الدواسر: ينبغي عليكم أن تدركوا أنّنا نقصد ترسيخ حُكم هذه الجُزر تحت حكم أحد شيوخ آل خليفة … كثيرًا ما واجهتم مثل هذه التهديدات في الماضي عبر تهديدٍ مضاد بمغادرة هذه الجُزُر في مجموعات والذهاب إلى ابن سعود أو غيره…. ولا منفعة لنا من أصحاب الأملاك الغائبين أو الأشخاص ذوي الولاءات المزدوجة. … ولا يمكن القبول بدولة داخل الدولة”.
والقوى الثالثة هم الشيعة “أيّها السادة أتباع المذهب الشيعي، وخصوصًا السكّان الأصليين في هذه الجُزر:
اعترفنا بوجود بعض الانتهاكات، وأعلنّا عن نيّتنا مكافحتها. ولكن أودّ تذكيركم بأنّ هذه الدولة سُنيّة، وتحيط بها مجتمعات سنيّة قويّة على هذا الساحل من الخليج، وهي تراقب إجراءاتنا باهتمامٍ كبير ومن دون أدنى شكّ. لا ينبغي عليكم توقّع المساواة الملزمة، ولا يمكن إلغاء الامتيازات السُنيّة دُفعة واحدة إذا لم نقل على الإطلاق”
في العام 1974، بدأ (الخوري) يدرس هذه القوى، وكيف مارست القبيلة سلطتها في إدارة هذه القوى، وجد أن إصلاحات 1923 بدلت التحالفات القبلية وأعطت الحكم وسائل جديدة للتدخل السياسي، فاستحدثت نظاماً هرمياً للسلطة، الأمر الذي عزّز، ولم يضعف، قوة العائلة الحاكمة ونفوذها. وساهم النفظ في تغيير الأسس التقليدية للإنتاج والعمل، فحول القواعد الاجتماعية للسلطة وخلق من ثَمّ صيغاً سياسية جديدة. وهكذا بدأت تظهر، في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، قوى اجتماعية وسياسية جديدة قوامها الموظفون والمثقفون والعمال، تتحدى وبطرق مختلفة، شرعية الحكم وسلطته.
لقد بدأ (الخوري) بحثه بعد استقلال البحرين بثلاث سنوات، وعايش أجواء برلمانها الأول ونقل لنا أجواء النخب الثقافية “شعر الكثير من اﻷشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بالبهجة إزاء تحقيق الاستقلال بيد أنّهم في الوقت نفسه كان ينتابهم قلق شديد من إدارة الدولة الجديدة الصغيرة”.
لقد تحقق الاستقلال بفضل النضال الوطني الذي قادته النخب الثقافية العابرة للطوائف والقبائل، لقد غادرت هذه النخب انتماءاتها التي خاطبها بها المقيم السياسي في 1923 لم يعودوا قبائل سنية وافدة وسكان أصليين شيعة، لقد صاغوا فضاء وطنيا مشتركاً وذهبوا فيه حتى تحقيق الاستقلال، وظلوا يحملون قلقاً وطنياً على إدارة الدولة، والسبب في ذلك هو أن آل خليفة وحدهم هم الذين لم يغادروا انتماءهم، بقوا قبيلة تريد الدولة كلها لها، لا ترغب أن تتحول عن قبليتها ولا ترغب أن يشاركها أحد في إدارة الدولة.
إذا ما أردنا أن نفهم ما جرى في 14 فبراير 2011، فعلينا أن نقرأ كتاب هذا (الخوري) فما زال كتابه راهناً وما زالت فرضيته تفسر حاضرنا، وما زالت القبيلة تحول دون فكرة الدول في البحرين وفي الخليج.
*كاتب من البحرين.