الحلقة الأولى من نقد الشيخ والتنوير: أسطورة  الأب الضخم محمد بن خليفة

الشيخ والتنوير

يمكنكم الاستماع إلى الحلقة بالضغط على هذا الرابط

يمكنكم تنزيل الحلقة بصيغة pdf

مرحبًا بكم في هذه الحلقة، أتحدث عن كتاب (الشيخ والتنوير) للدكتور نادر كاظم. اهتمامي بهذا الكتاب يأتي في سياق اهتمامي بمئوية مشروع الإصلاح في البحرين. البحرين في 1923م دخلت في مشروع إصلاحٍ كبير ونحن مدينون إلى هذا العام في ما تحقق من إصلاحات، وما أخفقنا في تحقيقه مما كان مرجواً، يعني مآلات الدولة اليوم، نجد جزءاً من تفسيره في حدث 1923م. وهذا ما ناقشته مفصلا في كتابي (من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929).

الحلم والحكم

يفتتح كتاب التنوير مقدّمته بحلم «تقول الشيخة مي، عن سياقات تأليف الكتاب، إنّها حلمت بوالدها، الشيخ محمد بن إبراهيم، في اليوم الذي أنهيت فيه آخر صفحة من كتابها الأوّل (مع شيخ الأدباء في البحرين) وقبل تسليمه للمطبعة، كان طيف والدها يقول لها بعبارة واضحة صريحة: «ليس هذا المهم وإنّما المهم كتاب الشيخ محمد!». بأي معنى يكون كتاب الأب الحاكم أهم من كتاب الابن المثقف؟ نعم، كان الشيخ محمد بن خليفة حاكمًا أسطوريًّا امتاز بجسارة استثنائية، وبروح مغامرة منقطعة النظير».

كتاب الشيخ والتنوير في حقيقته، كما أراه أنا، هو مواصلة لهذا الحلم، هو ذهاب بهذا الحلم لحدّه الأقصى، يُكمل الحكاية، يواصل السردية، وكأنّ (مي) قد سلمته حكايتها ليبني عليها. ماذا فعل كتاب الشيخ والتنوير؟ 

ذهب إلى جد (ميّ) شيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة، ليجعل منه الشعلة الأولى التي عرفت من خلالها البحرين التنوير، لم تكن البحرين قبل مجلسه وقبل منتداه إلا ظلامًا دامسًا لا تعرف شيئا من العالم الحديث، فبعث الله الشيخ إبراهيم بأنوار الحداثة.

السرديات الأسطورية

يتأسس هذا النوع من السرديات الأسطورية  على اصطناع أب مؤسس، فمن هو الأب المؤسس للشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة (1850-1933)؟ هنا تأتي حكاية الأب الضخم، والده حاكم البحرين السابق الشيخ محمد بن خليفة (فترة حكمه 1843-1890)، له حكاية مفصّلة وطويلة وأحتاج صبركم لتستمعوا إلى جزء منها. لماذا أقول هذه الحكاية مهمة؟ ليس لأنه شخصية مهمة، ولكن لأن كتاب (الشيخ والتنوير) وصفه بالأب الضخم، والأبّ الأسطوري، والأب الاستثنائي، هذه الأوصاف وردت في المقدمة وكذلك في متن الكتاب، إنه يعتبر هذا الأب الجهة المقدسة (التوصيف مني وليس من الكتاب) التي منحتنا هذا الابن، ومنحتنا كذلك هذه الحفيدة الاستثنائية  الشيخة مي. 

لذلك لا بدّ أن نعرف هذا الأب، لنعرف ابنه ولنعرف حفيدته، لنعرف كيف دخلت البحرين عصر الأنوار عبر هذه السلسلة التي يروي عنها (الشيخ والتنوير)، فمن هو؟ كيف يقدّمه كتاب الشيخ والتنوير؟  وكيف يقدّمه ناصر الخيري في كتابه (قلائد النحرين في تاريخ البحرين)؟

المثقف والأساطير

قلت ناصر الخيري، نعم، ناصر الخيري هو أحد المؤرخين والمثقفين الذين عاشوا في البحرين في نفس هذه الفترة، توفي في 1925 م، أرجو منكم أن تحفظوا هذا الاسم جيّدًا لأننا سنرجع له، في الحلقة الثانية، كما سنعتمد عليه في تعريفنا حقيقة الأب (الضخم).

دعوني ألفت انتباهكم إلى أهمية وظيفة المثقف في تفكيك السرديات، إن مهمته تقتضي أن يثير الشك حول الحكايات التي يكتبها التاريخ الرسمي حول الشخصيات الحاكمة، وهذا ما فعله مثقفو عصر الأنوار الأوربيون، وهذا ما فعله (ناصر الخيري). يفكك الخيري، ما ترويه ميّ عن جدها الأكبر، ويفكك ما بنى عليه كتاب (الشيخ والتنوير) حتى جعله أبا ضخماً، يحاكي رواية همنغواي العالمية (الشيخ والبحر).

علينا أن نعرف أوّلا أن كتاب ناصر الخيري الذي توفي في عام 1925م، ظل مفقودا لا نعرف أين انتهى به الأمر، وسأخبركم لاحقا بتفسيري لسرّ اختفائه. في 2003م ظهر لنا هذا الكتاب مطبوعا بخط مؤلفه، عبر الباحث السعودي عبدالرحمن بن عبدالله الشقير، عثر عليه في الكويت، وقام بنشره عبر جريدة ومطبعة الأيام بالبحرين، لم يلتفت أحد لخطورة ما فيه بسبب صعوبة قراءة النص المخطوط، وكذلك بسبب أن التاريخ في ذلك الوقت لم يتحول لميدان صراع كما هو اليوم.

مع الأسف كتاب ناصر الخيري غير مقروء، وغير مألوف عند القراء، وسأعترف لكم أني لم ألتفت لأهميته إلا في السنوات العشر الأخيرة، حين افتتحت صالون 14 فبراير في 2012م، وفيه عرضت تاريخ البحرين خلال القرن التاسع عشر والعشرين.

هناك باحث قام بتحقيق كتاب الخيري في 2013، عبر مركز حكومي وهو مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية، لكن حين اكتشفت الرقابة خطورته، تمت مصادرة النسخ  من الأسواق في العام 2014م، وتم حل مجلس الإدارة. غياب هذا الكتاب وصعوبة الحصول عليه، أظن أنه سمح لكتاب (الشيخ والتنوير) أن يتجرأ ويقتطع جملة واحدة منه، خارج سياقها، يبدو فيها أنه يمتدح فيها جانبا من شخصية محمد بن خليفة، يقول فيها «ولكن كان بين جنبيه قلبا عظيما ونفس كبيرة طماحة إلى أسمى المراتب وأعلى المناصب».

دعونا نذهب للخيري ونقرأ نصه كاملا من غير اقتطاع، لنرى الصورة كاملة، وليس كما تحلم بها ميّ ويسردها كتاب (الشيخ والتنوير).

ترجمة الأب

تحت عنوان فرعي في الكتاب (ترجمة حياة الشيخ محمد بن خليفة) يقول بعد أن يقدم لنا معلومات أولية عن ولادته «حكم عليه الوسط الذي نشأ فيه أن ينشأ أميًا جاهلًا لا يعرف من شؤون هذا العالم غير ركوب الجياد، والتقلّب على ظهور الإبل، واقتناء العبيد والجواري بكثرة عظيمة، وتثقيف الطيور (صقارة) وإعدادها للصيد والقنص جريًا على سنن البدو في كل زمان ومكان»

 لاحظ كيف أن هذا النص بدأ يفكك (أُبوة التنوير) التي حبكها كتاب الشيخ والتنوير وكتاب مي (الأسطورة والتاريخ الموازي). إنه يعطينا حقيقة هذا الأب المؤسس، ناصر الخيري قبل ما يقرب أربعة وتسعين عامًا يحدثنا عن أميّة  هذا الأب الأسطوي، في حين أن كتاب الشيخ والتنوير في 2021م يقدم لنا صورة مغايرة تمامًا للشيخ محمد بن خليفة، يقدمه في صورة الفارس الأسطوري، فارس القرون الوسطى الذي احتز رأس خصمه وعلقه فوق رمح، إنه يسردها باحتفاء وفخر «نازل، ذات منازلة تذكّر بمعارك الفرسان في العصور الوسطى، شيخ قبيلة عربيّ معروف بجسارته، فصرعه برمحه واحتزّ رأسه ورفعه على الرّمح».

يؤكد كتاب الشيخ والتنوير أننا مدينون لهذا الأب، لأنه أودع روحه في أبنائه وفي أحفاده، بينما هنا مع كتاب (قلائد النحرين) نرى الحقيقة كاملة، نرى هذه الرؤية النقدية للتربية البدوية والدولة القبلية وسننها وأعرافها وتقاليدها، يحدثنا الخيري عن ذلك بروح نقدية تشعر بحرقة، فهو يعرف أن تاريخ هذه الجزيرة عرف الاستقرار الحضري والمدني ويليق بها حكم أكثر تحضرا.  لذلك يلح في نقد نظام البيئة البدوية، ونظام تربيتها، وما تنتجه من نظام حكم، فهو مهتم كمثقف بنظام الحكم، مهتم أن تكون هناك دولة مدنية ودولة عصرية، وهذا ما سنعرفه أكثر في الحلقة القادمة. 

الأب المغتصب

لنعد إلى الجملة المقتطعة من السياق «ولكن محمد بن خليفة كان بين جنبيه قلبًا عظيمًا ونفسًا كبيرة طماحة الى أسمى المراتب وأعلى» ما المراتب التي 

تطمح نفسه إليها؟ 

يجيبنا الخيري: «فلما ترعرع وبلغ سن العشرين حدثته نفسه بأنه أحق بحكم البحرين من عم أبيه الشيخ عبد الله بن أحمد وأولى منه بالقبض على صولجان حكومتها، لم يقف عند حد الأماني، بل أخذ فعلا يعمل على إبراز تلك الفكرة إلى حيّز الإجراء، ويسعى سعيًّا حثيثًا لاغتصاب الملك من المذكور».

حكم القبائل

يعبر الخيري في حديثه عن حكم القبائل بروح نقدية عن غياب الأمن وتحيّن الفرص بينهم لاغتصاب الحكم والانقضاض على بعضهم، لذلك هو يقدم سيرة محمد بن خليفة نموذجا لهذه التربية والروح التي تتحين الفرص للاغتصاب، يعني هو طمع في الحكم، ليغتصبه من أبناء عمه آل عبد الله بن خليفة، طبعًا حكم آل عبد الله قد ســـــحق مـن 

التاريخ بسبب هذا الاغتصاب «لم يقف عند هذا الحدّ، حد الأماني، بل كان يعمل على إبراز تلك الفكرة إلى حيّز الإجراء، ويسعى سعيًّا حثيثًا لاغتصاب الملك من المذكور» كلمة اغتصاب كررها كثيرًا ناصر الخيري وهو يكرّرها بمرارة لأن ناصر يقول لنا بأن حكم الفوضى وحكم الاغتصاب وحكم البداوة وحكم القبيلة، أدّى إلى خراب البحرين وفي كتابه وثّق لنا هذا الخراب.

حين نذهب إلى كتاب الشيخ والتنوير نجد الجانب الأسطوري، نجد هذا الأب الاستثنائي، نجد الأبوّة الفائضة، لكننا لا نجد هذا التاريخ، لا نجد تأثير البداوة في حكم البحرين، البحرين لم تعرف قبل آل خليفة حكما بدويًّا، المجتمع المحلي مستقر في أرضه، كان يعتمد الزراعة، والبحر وصيد اللؤلؤ والأسماك، لم يكن مجتمعه متنقلًّا مترحلًا ولكنّ البداوة لما جاءت إليه جاءت بكلِّ ما فيها من نهبٍ وسرقةٍ وفوضى.

الوارث والموروث

نعود إلى كتاب قلائد النحرين وسيرة الأب «فحكم البلاد وتسلط على العباد، وأرغم عم أبيه الشيخ عبد الله بن أحمد على التنازل له مكرهًا له عن سدّة الملك، وحرمان أولاده العديدين منها بعد حروب شابت لها الولدان، على أن اغتصابه للملك من عم أبيه وأولاده لم يكن ليؤثر على حالة البلاد العمومية بشيء ما لوجود التشابه بين أخلاق الوارث والموروث، من حيث العلم والمعرفة والمقاصد والغايات، فلم يظهر في البلاد في أيامه أي أثرٍ من آثار الحضارة وألوان العمران، كما لم يظهر شيء من ذلك في أيّام أسلافه العديدين».

لاحظوا هنا النقد لهذه الأبوّة، أبوّة غير أسطورية وغير ممجّدة، هذا المثقف لا يسرد لنا أبوّة الشيخ محمد بن خليفة وكأنهّا نازلة من سلالةٍ عريقة أو نازلة من السماء. يقول لنا هذا ما تورثه شجرة البداوة في الحكم (لوجود التشابه بين أخلاق الوارث والموروث).

وفي الحقيقة، إنّ التنوير في أوروبا، كان هدفه نقد أنظمة الحكم، هذا الحاكم الذي يقول إنه يحكم باسم الاله أو هو الوحيد المتفرد بالسلطة، أو أن الناس لا دخل لها في السلطة، التنوير جاء ليفكّك هذه الحقيقة أو التي أرادوا أن يقولوا بأنها حقيقة، جاء ليفكّك هذه السلطة، يفكّك مبناها الشرعي، يفكّك مبناها الثقافي، يفكّك مبناها السياسي، فهذا ما فعله (شيوخ) التنوير في أوروبا، ولكن لا نجد

شــــيئًا من ذلك فعله شيخ التنوير في البحرين، علـى العكس من ذلك، هو كأسلافه استمرّ يدافع عننظام هذا الحكم، حكم القبيلة والبداوة، وهذا ما سنعرفه في حلقة خاصّة عن موقف شيخ التنوير، الشيخ إبراهيم من حدث 1923م.  

الوارث والموروث

ماذا ورّث الوالد الحاكم محمد بن خليفة، بعد وفاته في العام 1890م؟ 

يصوغ كتاب الشيخ والتنوير لنا جوابا فخماً، يبنيه على بيت المتني في رثاء جدته، يقول فيه:

ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ

                      لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا

على عادة المتنبي في الفخر بنفسه، يقول  لجدته «لو لم يكن أبوك أكرم والد لكانت ولادتك إياي بمنزلة أب عظيم تنسبين إليه». دبّج كتاب (الشيخ والتنوير) صفحات كثيرة، ليشرح لنا العلاقة الأسطورية بين الحاكم الأميّ البدويّ وابنه، ولم يجد مادة تسعفه غير صفة (الضخم) التي كررها مرات كثيرة وهو يصوغ أسئلة إشكالية بعد وفاة الأب  في العام 1890م، تفوق هذه الأسئلة طاقة الشيخ وطاقة (الضخم)، من نوع : هل يمكن أن تكون وفاة الأب علامة انقطاع؟ هل كان الأب بحضوره الأسطوريّ الضخم يغطّي على حضور الابن المتواضع؟

يستعرض لنا كتاب الشيخ والتنوير قصيدة رثاء الابن للأب، ويصفها «هذه المرثية كانت قصيدة بليغة ومحكمة، لكن مضامينها بالغة الدلالة على ما نحن بصدده هنا. يطالب الشيخ إبراهيم، في هذه المرثية، باسترجاع مجد الأب المضيّع، وكان يخاطب إخوانه:

ألا قل يا بني المرحوم هبّوا    

                         لمجدكم فقد طاب المصاع

أبعـد أبـيــكـم لـكم ســرور     

                          بحالتكم ومجدكم مضاع

تعبّر هذه المرثية، بجلاء، عن حالة اندماج الابن في أبيه الضّخم إلى حدّ الفناء فيه». 

يمسيك بالخير

ماذا يقول ناصر الخيري عن هذا الذي يسميه كتاب الشيخ والتنوير (مجد الأب) و(تراث الأب) و (حضور الأب الطاغي)؟

يقول ناصر الخيري: «حكم الشيخ محمد[محمد بن خليفة (1842-1867)] البحرين 27 عاماً فلم يترك له فيها أثراً خيرياً، يذكر به، فلا أسس مدرسة ولا أنشأ مستشفى، ولا شاد ملجأ، ولا حفر نهراً، ولا غرس شجراً، ولا شكّل مجلساً ولا نظم دائرةً، ولا سن قانوناً ولا أوجد نظاماً، ولا اهتم بأحكامٍ ولا رقى تجارة، ولا أحيا زراعة».

قائمة المنفيات هذه، يعبّر عنها كتاب (الشيخ والتنوير) بأنّها أمجاد ويريد استرجاعها، والغريب هنا أن الكتاب يعتبر أن ناصر الخيري تلميذ لشيخ التنوير، وأنا أقول إن هذا غير صحيح، لا بالمعنى الثقافي ولا بالمعنى الحقيقي أيضًا، لناصر الخيري خطاب مختلف تمامًا عن خطاب (شيخ التنوير) وقد رأينا كيف أنهما يصدران عن رؤيتين مختلفتين في النظر لتراث الحكم القبلي.

ما يعبر عنه بأنه حق ومجد يجب أن يُستعاد، يقول ناصر عنه اغتصاب وفوضى «قل إنه لم يستلذ يوماً بالحكم الذي سعى لاغتصابه» يعيد تذكيرنا بفكرة الاغتصاب، وهو لا يُذكّرنا لكي يشنع عليه، بل يقول ذلك بألم، لأنه يرى حكم البداوة، وحكم القبيلة، الذي يستعين بالبدو والعربان في شنّ الغارات لا يوفّر استقرارًا. لذلك هو في العام 1923م، انحاز إلى التحوّل إلى نظام الدولة المركزية الحديثة وهذا ما سنعرفه لاحقًا في الحلقة القادمة.

فقدان أمنية

دعونا نواصل رواية الخيري، يقول «فلم تكن أيامه إلا كأيام أسلافه، سلسلة حروب متواصلة، وفقدان أمنية [الأمن] لا نهاية لها. وما سبب ذلك إلا أن الشيخ كان أميّاً ساذجاً لا يعرف من معنى الحكم إلا مسك السيف وشد الخنجر والاتكاء على المسند والأمر بالقهوة، ونهب مال هذا ومصادرة أموال ذاك، وبذله لهذا البدوي (شرهة) وإعطائه لذلك الحضري (عادة) وقول هذه له (صبحك بالخير) وقول الآخر (مسيك بالخير). وهذه السجية لم يتفرد بها الشيخ محمد بن خليفة فقط، بل هي سجايا جميع أمراء عرب الجزيرة، لا نستثني منه أحداً وإلا فعلام ترى بلادهم أبداً فوضى خاربة لا أثر فيها للنظام والإصلاح، ولا تجد المدنية والراحة إليها سبيلا».

هذا الكلام في غاية الأهمية، هذا كلام نقدي، هذا ليس كلامًا للتشفّي، وليــــــس بغرض أن نقلّل من

أهمية شخص أو أن نشنّ حربًا على شخص، هذا كلام يكتبه ناقد حصيف وشخص استثنائي في ذلك الوقت. لذلك غاب هذا الكتاب عنّا فوق الثمانين عاما، لم يستطع أن ينشره في وقته، وخاف عليه وأعطاه لصديقه، وانتقل بعدها إلى الكويت ودخل دائرة النسيان، والسبب ليس كما يوهمنا بعض المثقفين بأن هذا الكتاب قد سرّب وغيّب لأن الاستعمار الانكليزي كان من الممكن أن يصادره، لا، ليس صحيحا ذلك، ليس فيه شيء يخاف منه الاستعمار الانكليزي، بل فيه شيء ما يخاف منه، الحكم البدوي، حكم القبيلة، هذا النوع من الأنظمة التي عارضها ناصر الخيري في كتابه، لذلك تجد المرارة في كلماته وهو يتحدث عن أوضاع هذا الحكم.

أين هو هذا الأب الضخم؟ أين هذا التراث التنويري؟ أين هي هذه الأمجاد التي يحدّثنا عنها شيخ التنوير؟ 

أبوة مضخمة

(أبوة التنوير الضخمة) أسطورة قائمة على التزييف لا الخيال الملهم الجميل، نشأت من حلم وقامت على سردية وضعتها الابنة الحفيدة، وجاء المثقف ليبني عليها، في حين أن عمل المثقف لا يبني على حلم، ولا يبني على أسطورة، ولا يبني على أمجاد من يحكمون، إنّما عمل المثقف هو عكس ذلك تمامًا. لكن كتاب الشيخ والتنوير لم يقم بذلك، إنّما قام بمواصلة سرد الحكاية وسرد الحلم وإعطائه حدودًا تفوق التاريخ،قل هو السرد الضخم، فهو ضخم في السردية التي صنعها المثقف له.

في الحلقة القادمة، سأتحدّث عن جانبٍ آخر، عن ناصر الخيري كمثقف، ماذا فعل ناصر الخيري كمثقف، وما موقفه من حدث 1923م؟ وكيف قدّمه كتاب الشيخ والتنوير؟ وما موقف شيخ التنوير من 1923 وتحديث الدولة؟

 

شكرًا لكم.

 

اترك تعليقاً