كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

علي الديري: بين الكتب، حصادي الثقافي في 2023 

أحببت في هذا العام أن أستعيد إحياء تقليد جميل يعود إلى خمسة عشر عامًا، حين كنت أعمل بشكل سنوي على حصاد ثقافي لأنشطتي وقراءاتي حول ما يجول في الساحة الثقافية.  والعودة إليه هنا ليست بغرض المباهاة أو الاستعراض؛ فالحصاد السياسي والثقافي والاقتصادي يحفزنا على مراجعة ذواتنا وإنجازاتنا، بالإضافة إلى مراجعة السنة الثقافية التي مررنا بها، كما يشجع الآخرين على القيام بالعملية نفسها، وربما يحفزهم.

افتتحت هذا العام بقراءة كتاب الصديق الدكتور محمد السلمان “سمات الحكم البرتغالي في الخليج العربي وعمان (1521-1622م)”، وهو كتاب غني يقدم قراءة عميقة لمضيق هرمز الذي كان ميناءً للعالم كله، وعبره كانت تدخل البضائع لتصل إلى الخليج وتمر عبر البحرين والبصرة إلى أوروبا. تفاعلات هنا الهويات والأسواق والسياسات، وما زال هذا المضيق يشكل إلى اليوم أهمية كبيرة بالنسبة للعالم، وأي ضرر أو إي إخلال يصيب هذا المضيق، يمثل تهديدًا عالميًّا، وكأنه رحم العالم الذي منه تنبعث الحياة.

بهذه الخلفية التاريخية التي ترجم فيها الباحث السلمان أرشيف البرتغال، تمكنت من قراءة  رواية الصديق أحمد رضي “حنين الخرائط”، وهي رواية تعود إلى العصر نفسه، أي إلى العصر البرتغالي، ويُذكر فيها كيف يفر راسم الخرائط “روبيرو” من أتون الحرب بعد انهزام البرتغاليين، ويصل إلى البحرين في القرن السابع عشر الميلادي، ويلتقي مع جامع وناسخ وصديق الشاعر أبو جعفر الخطي “الغنوي”.تجري بينهما حوارات حضارية معمقة عن الشرق والغرب والاستعمار والشعر والتاريخ والبحرين، وعن الشخصية الملهمة الكبيرة لأبي جعفر الخطي.

لقد كانت تجربة عميقة وجميلة وفريدة، فلعلها من قلة من الروايات التي تحكبك أحداثها من تاريخ البحرين وشخصياته.  

لا بد أن أشير إلى أن برنامج “وُرْق” الذي أقدمه على بودكاست الميادين قد أتاح لي قراءة الكثير من الكتب الصادرة حديثا خلال العامين أو الأعوام الثلاثة الأخيرة، خصوصا وأني أظل غالبا مشغولًا بقراءات الكتب القديمة بحكم أبحاثي واشتغالي بقضايا التراث.

وعلى صلة بتاريخ الخليج والبحرين، قدمت ضمن حلقة بودكاست حول كتابٌ “بداية حكم العتوب” للدكتور سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة في الإمارات العربية. أحدث هذا الكتيب زوبعةً سياسية، لما قدمه من سردية مضادة لسردية “فتح البحرين” التي تفاخر بها العائلة الحاكمة.

استند الكاتب فيما يمكن أن نسميه صراع السرديات إلى الأرشيف البريطاني، بالإضافة إلى أرشيفه العائلي، فهو ينتمي للقواسم الذين كانوا على خلافٍ شديدٍ وصراعٍ طويلٍ مع العتوب. 

يُعتبر هذا الكتاب فتحًا في هذا المجال لسببين؛ أوّلًا لأن كل ما لدينا من روايات حول غزو آل الخليفة للبحرين تحمل شيئًا من التشويش والنقص، وثانيًا لكونها روايةً من حاكمٍ عربيٍّ على مستوى الخليج وتؤيد ما يتبناه السكان الأصليون للبحرين.

وعلى صلة بصراع السرديات، قدمت حلقة بودكاست تحت عنوان (لماذا تكره السلطات البحرينية الصحابي صعصعة بن صوحان؟ ولماذا يحبّه شعب البحرين؟) 

والجواب هو لأنه يذكرها بكذبة سردية الفتح التي بنت عليها تاريخها، كما أنها للسبب نفسه كرهت وانزعجت من  كتاب القاسمي، لذلك سعت لمنع الكتاب ومنع الناس من الوصول إلى مقام صعصعة بل قامت بغلق بوابته بالطوب وشككت في صحة مدفنه هنا.  

مسجد صعصعة بن صوحان، هو واحد من المعالم التاريخية في منطقة عسكر في المحافظة الجنوبية، والشاهد التاريخي على أصالة البحارنة وأسبقيتهم في البحرين قبل غزو آل خليفة والمذابح التي قاموا بها. 

ولعلها من المصادفات العجيبة أن يرى النور هذا العام ديوان الشاعر  البحراني السيد شبر المشعل (ت ١٨٨٠) بعد أن كان في حكم المفقود أو المنسي، هذا الديوان الضخم الذي تبلغ صفحاته ٨٠٠، أرّخ لنا الصراع مع غزو العتوب وهو بمثابة الصرخة ضد جرائمهم ورفض لتقبل حكمهم وتحريض على دحرهم.

وربطًا بموضوع العتوب، يصادف هذا العام الذكرى المئوية للإصلاح السياسي في البحرين الذي بدأ في العام 1923م وهو العام الذي تُوج بعزل الحاكم القبلي عيسى بن علي وبدء شكل الدولة الحديث. وكنت قد بدأت في العام الماضي بالحديث عن موضوع “الشيخ والسخرة”، واستكملته هذا العام عام مئوية الإصلاحات السياسية بالبحرين، بحلقات حول مرسوم البحرين الملكي ١٩١٣ الذي أصدره ملك بريطانيا واستنادا إليه تأسست بلدية المنامة ومحاكم البحرين وإداراتها. وحلقات حول عرائض البحارنة حول الانتهاكات التي كانت تقع عليها من فداوية شيوخ الإقطاع من العائلة الحاكمة. وحلقات حول نتائج هذه العرائض التي تمثلت في عزل الحاكم عيسى بن علي وبدء شكل الدولة الحديثة. ستخرج جميع حلقات المئوية في شكل كتيبات مبسطة تقدم للجمهور العام تاريخ الإصلاح السياسي المغيب بلغة مبسطة وواضحة.

لإيلاف قريش

في امتداد لعادة سنوية بدأتها منذ خمس سنوات في شهر رمضان مع مجموعة خاصة من الأصدقاء، عقدنا الموسم التفسيري الخامس (هوامل التفسير) المخصص لإجراء بحث تاريخي حول سورة من سور القرآن، في المواسم السابقة كانت موضوعاتنا: سورة المائدة، سورة النساء، سورة الأحزاب، سورة التوبة. يتكون الموسم من ثلاثين حلقة تقريبا. 

منذ العام الماضي، خصصت النقاش حول سورة “قريش” لبحث تاريخ هذه السورة المؤلفة من سطرين، نحتاج في إلى بحث تاريخي يمتد إلى قرنين ماضيين من زمن البعثة.

ما هو الإيلاف؟ ومن هم الذين أسسوه؟ وما دور هذا الإيلاف وعلاقته بفكرة التوحيد لاحقًا، وبفكرة الحنفية والإسلام، والنبوة، والعوائل القرشية؟ كيف مهد هذا الإيلاف التجاري للإيلاف العقائدي التوحيدي؟

كانت نتيحة العمل على هذه الحلقات كتاب سيصدر في العام 2024 على شكل محاضرات بودكاست، ستجدونها بصيغة صوتية ومكتوبة، كان الغرض منها تبسيط هذا التعقيد التاريخي ليكون في متناول الجميع. وهي أول تجربة لي في إصدار كتاب على شكل حلقات صوتية ومكتوبة.

أتاح لي بحث إيلاف قريش الاطّلاع على كتب تأسيسة تتعلق بتاريخ قريش، ولعل في مقدمتها بل وأهمها على الإطلاق كتاب “جمهرة النسب” لأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، الذي يؤرخ فيه للعوائل القرشية. وأبو المنذر شخصية شيعية يعتد بروايتها التاريخية وليس الحديثية لدى السنة والشيعة، وهو المصدر الرئيس لقراءاتنا لتاريخ العرب قبل الإسلام، إذ إنه بغير هذا التاريخ، لا نستطيع أن نفهم تاريخ الإسلام أساسًا، لأن تاريخ العرب قبل الإسلام هو امتداد لتاريخهم بعد الإسلام، فصراعاتهم العائلية وأحزابهم امتدت في تاريخ الخلافة.

أبو المنذر ألّف كتابًا آخر مهم أيضًا مهم هو “كتاب الأصنام”، يُعرفنا بأصنام كل قبيلة وعائلة وكيف دخلت فكرة الأصنام إلى بيت النبي إبراهيم. وله كتاب “مثالب العرب”، والمثالب هي العيوب، عيوب كل قبيلة أو عائلة وسرد هذه العيوب كان جزءا من الصراع السياسي الذي شكل تاريخ العرب والإسلام طوال القرون الثلاثة التي سميت خير القرون، وكانت موضوع كتابي الصادر العام الماضي (خير القرون.. كيف نفهم الخير في التاريخ؟).

في الربع الأخير من طوفان هذا العام، انشغلت بقراءة تاريخ تكوين إسرائيل، خصصته لقراءة مذكرات أول رئيس لإسرائل وأهم شخصية في طبخ وعد بلفور (مذكرات وايزمن) وقراءة مذكرات نتنياهو (مكان تحت الشمس). وقبلهما قدمت حلقات حول كتاب باسيل دافيد الصادر مؤخرا (السقوط الخامس)

الكتاب بمجمله خطاب لليهود والإسرائيليين، هو صرخة لكي يُنقذوا وضعهم من مصيدة التاريخ اليهودي المحكوم بمزاج التدمير الذاتي والتناحر والانقسام والشتات. هذا الكتاب يكشف الخوف الذي يتخطّف العقل اليهودي والقلق الذي يعيشه من أن تسقط “إسرائيل”. والسؤال الذي يطرحه الكاتب: كيف تستطيع “دولة إسرائيل” الهروب بالمستقبل من مصيدة التاريخ اليهودي؟

في رثاء العمة زهرة بنت منصور عباس فضل (1950-2022)

غُصة أخرى في القلب أن ترحل العمة زهرة بنت منصور عباس فضل من دون أن أفرحها بصدور كتاب سيرة أمها فاطمة بنت زبر(1918-1973)، وهي الراوية الرئيسة التي حكت لي بفخر كيف وقفت فاطمة بنت زبر على ما تبقى من بيت زبر الكبير، ألقت كلمتها الخالدة بين إخوتها “لن نبيع” بيتنا في المنامة. 

قالتها في صيغة نفي لكنها في المعنى تحمل معنى الرفض. تأسس هذا البيت على كلمة رفض بنت زبر، كانت العمة زهرة تستعيد في سردها هذه الكلمة، بقوة منطوق أمها، وكأنها تقول لن نغادر هذا البيت، ستبقى أنفاسنا فيه، وسنشم ريح بنت زبر في زواياه، وسنحفظ عهدها فيه، لن يكون هذا الإرث قابلا للمساومة أو الاستبدال.

دخلتُ هذا البيت في منتصف التسعينيات صهرًا جديدًا لحفيدة بنت زبر، فضاء عباس، شدتني العمة زهرة إليها بحديثها الدائم عن التاريخ وحفاوتها الأثيرة بالكتب، وهي التي لم تكمل تعليمها المدرسي لكنها أصرّت أن تثقف نفسها بالقراءة الحرة، تعرفت من خلال مكتبتها الصغيرة على كتاب (عقود الآل في تاريخ أوال) استعرته منها، وظلت تسألني عنه وتذكرني به، وتبرر حرصها على الكتاب، بشيء من الفخر لكون مؤلفه المؤرخ محمد علي التاجر من مدينتها المنامة، وهو عم الأستاذ عبدالرسول التاجر الذي تعلم في مدرسته أخوها الحاج عباس بن منصور فضل، وهو الذي أعطى لموكب الملحان فكرة جمعية (ذو الفقار) في الأربعينيات وقد حمل دفترها وأوراقها وذاكرتها ومشروعها أخوها الأثير على قلبها الحاج عباس.

حين صدرت النسخة المحققة الكاملة من تاريخ (عقود الآل) أرسلت لها نسخة خاصة، وقلت لها بضاعتك ردت إليك، استعرت منك نسخة ناقصة التحقيق وأهديتك نسخة كاملة التحقيق.

كنت أمازحها باستخدام صفة المثقفة وتبادلني بضحكتها الجميلة “ويني وينك، لا تقعد تنفخ فيني”. وحين ألاحقها بأسئلتي السابرة لتاريخ العائلة تتمنع وتدعي أنها لا تعرف شيئًا، فأستل منها خيطًا خفيفًا، فتقع في فخ غواية السرد، فيتدفق التاريخ سلسًا وكأنه منتظم الدرين كما في عنوان كتاب التاجر الشهير، وحين أعثر على قصة مثيرة بين جنبات سردها، تنتبه لي، فتبادر بإطلاق جملتها الشهيرة: ما يخصني، إنت تنبر وطلع مشاكل.

كثير من أسرار شخصية فاطمة بنت زبر، عرفتها من العمة زهرة، قالت لي إن جدتنا والدة أمي اسمها معصومة بنت سيد مرزوق وكثير من أسرار شخصية والدتنا جاءت من أمها السيدة معصومة، ستتعجبون حين أقول لكم إنه كان ينذر لها، فقد كانت ولية من أولياء الله بتقواها وورعها وزهدها، من حسن حظنا أنها أحاطتنا برعايتها، كانت تعين أمي على تربيتنا، وهي من أخذتني مع أخواتي خديجة ورازقي إلى درس القرآن عند  المعلمة (فضيضة). بفضل النور الذي أضاءه القرآن في قلبها صرنا متعلمات وحافظات للقرآن، ولست أدري إن كان صوت والدي حجي منصور المميز في قراءة القرآن في الفواتح قد حببه إليها حين جاء يطلب يد ابنتها فاطمة.

تقول لي باعتزاز: تعود سلالة جدتي السيدة معصومة بنت سيد مرزوق، إلى السيد إبراهيم المجاب، وقد أنجبت جدتي أمي فاطمة بنت زبر ثم خالي الميرزا وخالي عبدالله المشهور بالشكر لدلال جدتي له، فكانت تكثر من مناداته بالشكر، حتى صار خالي حلاوة بيتنا والفريق معاً وضاع اسمه. 

رحم الله العمة زهرة، هي أول بنات فاطمة بنت زبر من الإناث، تروي لي عن والدتها وولادتها: حين قدمت إلى الحياة تلقفتني الأيدي بلهفة وبالغت في الدلال. كانت أمي قد فقدت طفلين بعد ابنها البكر عباس (توفي 2009) مرت سنوات حتى رُزقت أمي بأخي عيسى، ثم بعد عشر سنوات أو أكثر جئت أنا ثم أخواتي رازقية وخديجة (توفيت 2019). 

لماذا أمقت سعيد الحمد؟

لماذا أمقت سعيد الحمد

“أعطني إعلاميين بلا ضمير أعطك شعبا بلا وعي” وزير الإعلام النازي، غوبلز 

مات سعيد الحمد، لكنه سيبقى في ذاكرة الضحايا التي وثقها تقرير بسيوني باسمه الإعلامي المنزوع الضمير (انظر الفقرة 807 من تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق). لا تسقط أسماء الجلادين ولا منتهكي شرف الإنسان والمجتمع.كثيرة هي قصص الحقوقيين والأطباء والمهندسين والمثقفين والصحفيين والناشطين والسياسيين، التي يحضر فيها سعيد الحمد محرضا عليهم، وواشيا بهم، ومشوها لسيرهم، ومُصوبا على أعراضهم.

نحترم الموت كفعل طبيعي جميعنا صائرون إليه، لكنه لا يعطي لأي منتهك للحق العام حصانة. نحترم الموت مع أن سعيد الحمد لم يوفر حرمة لأحد، كان ديدنه التعرض لأدق تفاصيل الحياة الشخصية لأي شخص من المحتجين الذين يريد أن ينال منهم، يتعرض لهم في برنامجه (حوار مفتوح) بكل فضائحية.

كما لا يسقط الحق العام، كذلك لا تسقط الشخصية العامة وأفعالها المخلة بشرف المهنة العامة وليس كالصحافة والإعلام مهنة دقيقة الشرف ورفيعة الشرف، والمس بها يستدعي الحماية والصيانة، لذلك الذاكرة العامة لا تنسى غوبلز الذي شوّه مهنة الإعلام بممارسته النازية، ولا تنسى محمد سعيد الصحاف بممارسته البعثية، ولن تنسى سعيد الحمد بممارسته الشعبوية التحريضية، كل هؤلاء ممقوتون لتسخيرهم الصحافة وجعلها ممارسة مقت.

“لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ” 

حضرتني هذه الآية بقوة مع خبر موته، ووجدت في (المقت) معنى عميقا، فهو يعني في اللغة شدة الغضب وشدة كراهية الفعل. الآية تتحدث عن مشهد جهنم وغضب المعاندين الكافرين بحقيقة وجود الله، غضبهم من أنفسهم وكراهيتهم لأفعالهم التي قادتهم إلى هذا المصير. يقول لهم الله هنا: أنه أشد غضبا وكراهية لأفعالهم الجاحدة حين كانوا في الدنيا يكفرون. 

ما الذي أمقته من سعيد الحمد؟ ما الفعل الذي قام به وصار يستثير المقت بدل التعاطف مع موته؟

لقد اقتلع ضمير الصحافة، جعل صحافتنا بلا ضمير، وأد ضميرها الذي يمثل حقيقتها، تماما كما يفعل الكافر، يحجب ضميره النابض بالألوهية، يُقسّيه، ليزداد كثافة وسماكة وعماية، فلا يعود يرى، هذا هو المَقت.

جعل الصحافة ناطقة بالمقت، صارت الصحافة، تحرض ضد الناس بلا ضمير، تقتل وتسجن وتشي وتفضح وتحرض وتشوش وتفتن، وتمكن السلطة وأجهزتها من وأد من لا يوافقها أو يعترض عليها.

زواج المقت هو زواج الابن من زوجة أبيه بعد موته. هو فعل ذلك بالصحافة، زوجها من الدكتاتور القاتل، أخذها ذليلة لبلاط جلالته، وراح يُطلق بذاءاته “كانوا يمارسون طقوس (المتعة) في أثناء إقامتهم في الدوّار” لم يترك الصحافة حرة في بلاطها، سخّرها ذليلة لأفعال المقت.

جعل سعيد الحمد الإعلام (حوار مفتوح) لا يحضر فيه أحد، كما قال له سهيل القصيبي في مقالته (رسالة إلى سعيد الحمد) الجريئة في ذلك الوقت 25 إبريل 2011 من أيام قانون الطوارئ (السلامة الوطنية). أي أنه جعله حسابا مفتوحا لأصحاب الآراء المختلفة لصالح أصحاب السلطة الأحادية التي وكلته نائبا مطلقا عنها. 

سخّر الصحافة والإعلام شاشات إذلال للضحايا، وتهديدا لمن هم على طريق الضحايا، ومصدر قلق وخوف لكل عائلة يرد اسم ابنها في لسانه أو قلمه. يشمت ويشتم ويغمز ويخوّن بلا ضمير صحفي وهو يعرض مقاطع فيديوهات صورتها أجهزة المخابرات ووزارة الداخلية لاعترافات واعتذارات واحتجاجات الضحايا. لا يمكن أن ننسى آيات القرمزي، الفتاة العشرينية وهي تقدم اعتذارا مذلا لإنسانيتها، تعتذر عن قصيدة حرة ألقتها في ميدان عام يضج بأصوات شعب يبحث عن نفس الحرية.

لا يمكن أن ننسى بذاءاته ضد الحقوقين وغمزه ولمزه المقززين، وقد حصد الحقوقيان  العالميان نبيل رجب ويوسف المحافظة حلقات مطولة من كراهياته، ولم يكتف بسجن نبيل، بل راح يكيل صفات الخيانة والتشويه على المحافظة ويطالب الحكومة باعتقاله وإرجاعه للبلاد.

 حين سألتني ابنتي في كتاب (بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل): كنت أشاهد صورتك في الجرائد قبل أن أدخل المدرسة. هل يعقل أنه لم يدافع عنك أحد في هذه الصحف، لم أجد لأجيبها أقبح من ثلاثة مقالات كتبها سعيد الحمد، يُمعن فيها في النيل مني، أقتبس هنا فقرة من إحداها “لا عجب أن يخرج علينا المدعو علي الديري بعد أن قبع في المنفى الاختياري لشهور صامتاً ويعمل من وراء الكواليس خوفاً من أن يخرج إلى نور الشاشات، فقد اعتاد أن يمشي في الساس يخرج علينا بحثاً عن بطولة، ليدعي أن حكومة البحرين أوعزت إلى السلطات في مصر وإلى الجهات المعنية عن معرض الكتاب هناك لمنعه من دخول الأراضي المصرية ومنع كتابه”سعيد الحمد، جريدة الأيام، العدد 8331 الثلاثاء 31 يناير 2012.

لقد وثّق لنا تقرير بسويني في تقريره الحقوقي، المقت الذي مارسه سعيد الحمد، عبر تلفزيون البحرين ضد الكادر الطبي، تحت عنوان “الحملة الإعلامية من قبل التليفزيون البحرينى ومسئولين حكوميين آخرين ضد الكوادر الطبية المتهمة” في الفقرة 807 يقول بسيوني “وفى برنامج سعيد الحمد على التليفزيون البحرينى، والذى بُث يوم 30 مايو2011، تم التعريف بثلاثة من الأطباء المتهمين بأنهم قادة خلية إرهابية. وقد أقر اثنان من الأطباء المتهمين فى نفس البرنامج أنهما كانا قد قدما بيانات كاذبة إلى وسائل الإعلام”.

الموت لا يسقط الحق العام بل هو خاتمة للاقتصاص العام، وجاك الموت يا تارك الضمير.

 

الشيخ والسخرة: ماذا تريد عصا الفداوي؟1-7

الشيخ والسخرة: ماذا تريد عصا الفداوي؟ 1-7

أنا أتحدث معكم عن العام 1904. وقعت حادثة صغير في هذا العام ولكنها تركت أثرًا كبيرًا سنراه بشكل واضح في العام 1923.

ما هذه الحادثة؟[1]

سأقول لكم قصتها في الحلقة القادمة، ولكن دعوني هنا أعرفكم على نظام السخرة:

السخرة هي الأعمال التي تُفرض عنوة تحت التهديد. لا يكون الشخص قد تطوع بإرادته ولا أراد ذلك، ولم يكافء بمال، إنما يؤخذ جهده وعمله وعرقه مجانًا لصالح من يملك القوة. ومن الذي يملك القوة في ذلك الوقت؟ الجواب سنجده في كتاب أحد البحرينيين الذين خاضوا نضالًا في الخمسينيات هو يوسف الفلكي. ويوسف هو اسم مستعار لأحد المناضلين في أحداث الهيئة في الخمسينيات، التي تشكلت من جميع  أطياف البحرين من أجل الإصلاح السياسي.

يقول يوسف في كتابه “قضية البحرين”: “كان العبد [يقصد الفداوي] من عبيد آل خليفة يقف أمام دكان أي بائع ويقول له إن عصاي تريد كذا ربعة من السكر، وكذا منًّا من الأرز، وكذا رطلًا من الشاي”[2] إنها صورة بليغة ومختصرة لفكرة السخرة.

هذا النظام يستعين بالفداوية، أي القوة الضاربة التي كانت تعمل من أجل الشيوخ من آل خليفة في ذلك الوقت. هؤلاء يتسلطون عن الناس، ويأخذونهم عنوة من الطريق ليعملوا في مزارع  الشيوخ، أو ليعملوا في البحر أو ليقوموا بأي عمل يطلبه هؤلاء، وليس لهم أن يرفضوا. هؤلاء الفداوية أيضًا يفرضون على الآخرين الذين يبيعون أن يعطوا عن يد وهم صاغرون، بمعنى أنهم مجبرون على تقديم جهدهم وعملهم من أجل هؤلاء من دون أن ينالوا أي مردود مادي.

كانت العصا هي التي تنطق، بمعنى القوة، والهيمنة، والشيخ الذي يفرض نفسه على الآخرين. لذلك اخترت لهذه الحلقات صورة معبرة  كشعار للسخرة؛ كان تلفزيون البحرين عرض مسلسلًا اسمه “نيران”، وهو يحكي عن فكرة السخرة في البحرين. العصا الموجودة في هذا الشعار هي عصا العبد أو الفدواي التي يُلَوِّح بها لكي يهدد الآخرين ويأخذ جهدهم من غير مقابل. إنها عصا السلطة في ذلك الوقت، وعصا التسلط والاستغلال والظلم والقهر وانعدام المساواة وانتهاك حقوق الإنسان. هذه العصا سترتكب خطأً كبيرًا سيقود إلى تغييرات كبرى؛ ما الخطأ الذي قامت به هذه العصا؟ وما القصة التي ترتبت عليها؟ في الحلقة القادمة أحدثكم عن عصا الشيخ علي بن أحمد آل خليفة.

هوامش

[1] لمعرفة تفاصيل الحادثة، انظر رسالة السيد (روبرت فونك هاوس) إلى (جيه. سي. جاسكن) مساعد الوكيل السياسي،

مؤرّخة في 29 أيلول/ سبتمبر 1904. أرشيف البحرين، أوال، مج 3، ص 305.

[2]

الشيخ والسخرة

قضية البحرين، يوسف الفلكي، ص 18.

د.علي أحمد الديري: في رثاء الشيخ فضل مخدر

إسكندرونهقبيل شهر رمضان الماضي بيومين، أرسلت رسالة اعتذار صوتية للشيخ فضل، لأني في زيارتي الأخيرة له  في ديسمبر 2020، وعدته أن أرسل له تعليقا على  راويته (إسكندرونه) بعد قراءتها، قلت له أنهيتها في أيام، لكن ازدحام جدول زيارتي لم يمكني من تسجيل مداخلتي عن الرواية.  وعلى عادته المهذبة واللطيفة، قال لي أنتظر رأيك دوما ولو جاء متأخرا، لكني متشوق لمعرفة رأيك في روايتي الجديدة (المنذور)سأرسل نسخة إلكترونية خاصة لك.

دوما يجدد لقائي بالشيخ فضل حماسي للأدب، خصوصا وأن اللقاء الأخير كان في مكتبته المزدانة بكتبه الجميلة وروحه المرحة الترحابة، ولوحاته البديعة، واحدة من هذه اللوحات رسمها في صباه في فترة نشأته مع عائلته بالكويت. 

في رحلتي العلمية الأولى للتعرف على بيروت ودراسة الماجستير في 2003 تعرفت على الشيخ فضل بمعية الصديق الأديب الشاعر نزار نداوي، والأشقاء حسين مرهون وعباس المرشد وفاضل عنان وحمزة جمال وحيدر جمال. سحنا في الجنوب وعلى نهر الليطاني في رحلة شواء وصلني خبر ولادة ابنتي أماسيل، فكان لاسمها حظ من ماء النهر وفيض شعر الشيخ فضل. تعرفنا على الهرمل ونهر العاصي وسمك (الترويت) النهري بمعية الشيخ، وهناك جرت المناظرة (الشهيرة) بيني وبين النائب الحالي الدكتور إيهاب حمادة، حول نظرية المجاز في التراث والدراسات الحديثة، حاولت أذكر إيهاب بها بعد لقائي به بعشر سنوات لكنه لم يتذكر، قلت له هناك شهود على الحادثة ومازالوا يضحكون علي، لأنك هزمتني فيها.

مع انقطاعات الحياة، إلا أني دوما أعود للوصل مع الشيخ فضل، فأجده أكثر نصاعة وجمالا وجوهرا إنساني. تحولت رحلتي العلمية الأولى لبيروت في 2003 إلى هجرة في 2011، كان الشيخ فضل الملاذ الأول الذي لجأنا إليه، حيث الرحابة والاستضافة وقرة العين.

في ليالي بيت الشعر بمطعم الساحة، الأربعاء الأول من كل شهر، يجمعنا الشيخ فضل، كنت أنتظر هذه الليلة بشوق، تعيدني إلى عالم الأدب والشعر، تصلني بالأصوات الشعرية والأقلام النقدية.

شيء من طيف أحلام عودتي من كندا إلى بيروت بعد إنهاء فصل جنسيتي المسقطة، الوصل بصالون ثقافي وأدبي أعيد تأسيسه مع الشيخ فضل، حيث الفكر والتاريخ والشعر والثقافة. ما كنتُ عابئا بكل ما أسمعه وأعرفه من أزمات بيروت وحصارها، هناك نداء قوي ورغبة عمياء وحاجة روحية للوصل بما أفتقده هنا في هذه البيئة الباردة في كل شيء.

في رسائلنا الصوتية الأخيرة، كنت أقول للشيخ فضل، أدهشتني بتمكنك من تقنيات السرد والكتابة الروائية، وعلى استحياء من شاعريته، قلت: ادخر ما تبقى من العمر لكتابة الرواية. حدثته عن إعجابي الشديد بحكايات الحاج نعمان في رواية (إسكندرونة) وإني ذهلت من قدرته على توظيفها بتقنيات سردية ممتعة، أتذكر من هذه الحكايات: حكاية الراهبة والجرس، حكاية أنوشروان، قصة السباط، حكاية عزرائيل، وانتزاع ثلاثة أرواح، حكاية النبي سليمان، حكاية الصالون، حكاية الحاج معروف. تحضر هذه الحكايات في المواقف السردية ومعها حمولتها الدلالية التي توحي وتشير من دون أن تكون وعظا مباشرا. قلت له وجدت في الشيخ نعمان شخصيتك الحقيقية الممتلئة بالمعنى والحكايات والظرافة والسحر.

أرض الجنوب، أسطورة الشيخ فضل الملهمة، تمثلها في أدبه، فهو (ابن التراب) كما أدبه كذلك، جعل هذا التراب حكاية تُروى، في رواية (المنذور) يقول زبيب بطل الرواية “يحكي [جدي] دائماً مع أرضه، وعندما أسأله ماذا تقول لها، يقول: أجيب أسئلتها وتجيب أسئلتي. قال لي الأرض هي أسطورتي أنا وسأحكيها لك يوماً”.

قلت للشيخ فضل، أنا فُتنت بشخصية زبيب في الرواية، وأسطورته، حتى إنه جاءني في المنام يقترح علي مدخلا لحلقة البودكاست التي أعددتها حول الرواية.

 لا أجد في هذه اللحظة غير (زبيب) أتحدث معه عنك يا شيخ، سأصعد إلى عرزاله (بيت فوق الشجرة) بضيعة الشرقية الجنوبية على مقربة من مقام النبي جليل هناك، سأسله عنك، عن خلوتكما معا، عن الرواية التي خصك بأسرارها، وخلّقتها روائيا، فجعلتها رواية تُقرأ بعد أن كانت معتقدا يُروى.

يا زبيب، أخذت معك صديقي حيث أنت والنبي جليل في مقام الخلود، حفرت قبر النبي جليل، وخبأت عنا قبر الشيخ الجليل. قلت لأهل الضيعة إن علامة صدقك أن تموت ليلة أول جمعة بعد أن تكمل بناء المقام، ولم تقل لنا أن شيخنا الجليل سيموت ليلة الجمعة بعد أن يكتب رواية المقام التي هي روايتك، لم تقل لنا إنه مثلك (منذور) أيضا. 

كنت يا زبيب، تتكرر في الرواية حين تفهم سر شيء أو حين تتعلق بشيء من الأشياء أو بشخصية من الشخصيات الاستثنائية (يلمس روحي وتلمس روحه). أجزم بيقين الحب أن شيخ فضل لمس روحك وروح الأرض وروح الأسطورة وروح المقام، واليوم أجزم بيقين الموت أنكم لمستم روحه، فرحل إليكم مسرعا وتركنا مع الرواية نقرأ جدلية الحضور والغياب “إن الله يحضر حيث يحضر الإنسان، والإنسان يحضر حين تحضر الحرية والكرامة، وحقه في الحياة. وإن الله يغيب حين تغيب الذات البشرية، والذات البشرية تغيب حين تغيب حرية الإنسان، وكرامته وحقه في الحياة”.

رحمك الله يا شيخ فضل، ما أوحش الجنوب بعدك.