أجرى الحوار/ بتول العلوي، أمينة عبدالجبار
أصدر مؤخراًمركز أوال للدّراسات والتّوثيق سيرة جديدة لإحدى القارئات الحسينيات (الحاجية سعدة بنت مزعل 1915-1998). في إجابته عن سؤال: لماذا تكتب سير الملايات؟ يقول: تشدني السمات الشخصية للملايات ومعلمات القرآن، لم أشتغل على سيرة إحداهن من دون أن أقع في حبها، حب شخصياتهن الحقيقية والمفهومية، الحقيقية كما عاشوها وتفاعلوا بها في مجتمعهم، والمفهومية كما عاشوا وتفاعلوا في مخيلتي. وجدتهم قويات قياديات مفعمات بالحب والعاطفة، لديهم فائض من الحماس لممارسة فنونهن في القراءة الحسينية وتعليم القرآن وتمكين (لوليدات) من إتقان القراءة واكتساب مهاراتها التمثيلية. أحببت كثيراً شغفهم بالكلمات، يقدسن الخط المرسوم باليد، كريمات في عطائهن لكنّهن ضنونات بمخطوطاتهم، يلاحقن النسّاخين لإنجاز مجاميعهم.
في هذا الحوار معه، نتحدث معه حول تجربته في كتابة هذه السير.
كيف كانت تجربتك مع كتابة سيرة الحاجية سعدة بنت مزعل؟
علي الديري: زادتني يقينًا أن هذا الحقل المنسي، فيه ذاكرة اجتماعية تستحق الاهتمام، لذلك اتخذه مركز أوال للدّراسات والتّوثيق مشروعا ضمن اهتمامته بكتابة التّاريخ الشّفاهي وصار عنوانه سير الملاّيات ومُعلِّمات القرآن. كانت الفكرة أن أكتب صفحة تعريفية ببنت مزعل ضمن خطة كتاب يهتم بمخطوطات المآتم النسائية،
كلما حاولْتُ أنْ أخضع السّيرة لخطّة الكتاب، استعصى علىّ ذلك، أو لأقول بشكل آخر، كلّما أردتُ أنْ أكثفها في ورقة واحدة تمددتْ في داخلي، شعرْتُ أنَّ صوتًا خفيًا يقول لي: أنْتَ لا تكتب ما تريد، أنْتَ تقع في حبّ من هي تريد. وبنت مزْعل تريدك كاتبًا لسيرتها، ولها من فيض الكرامة ما لا تتسع له صفحة واحدة، افتح مجموع سيرتها في النّاس على مجموع صفحاتك لا صفحتك. أدركتُ أنّي واقع فيما هي تريد، فرحْتُ حيثُ هي تأخذني. صارتْ بنت مزْعل رفيقة مَحْجَرَي في جائحة كورونا، تركْتُ مكتبي واتخذْتُ طاولة الطّعام وسط الصّالة ساحة عمليّات، أجريْتُ عليها مقابلات مطوّلة عبر الأونلاين، ثم أفرّغ الشّهادات، وأعيدُ أصوغها على طريقتي، فتتوضّح بنت مزْعل في مخيلتي، فأزدادُ وصلاً بها وإعجابًا بشخصيتها.
ماذا يعني تدوين سير هذه النسوة بالنسبة للمجتمع الذي خرجن منه؟
الديري: تدوين هذه السير يعني أننا نُعيد للمجتمع جزءًا حميماً من ذاكرته. ويعني أيضًا إعادة ذاكرة الناس وقلوبهم إلى زمن جميل كانوا يتحدثون عنه كشيءٍ غير واضح المعالم، فإذا به يبرز بهذا الرونق وهذا الجمال وهذا الوضوح من خلال التدوين.
الكتابة بالنسبة لأفراد هذا المجتمع؛ تمثل جزءا من الاعتراف بهم وبمجتمعهم، وهذا يعطي للمجتمع ثقة بالنفس، بأن لديه تاريخ، وشخصيات وأحداث، تستحق أن تُروى.
لذلك نرى الناس تتسابق لقراءة هذه السير؛ وتتسابق كذلك لاستعراض ما لديهم من مخزون آخر، فنراه وتضيف لهذه السير مرويات أخرى، ويقدمون نماذج قريبة منها، ويقترحون أن تكتب باعتبارها جديرة بالاهتمام. إن هذه السير تذكر المجتمع بذاته المنسية، أشعر أني حركت شيئاً غامراً وحميمياً في داخله، أو استخرجت له لؤلؤة جميلة من بحره؛ لم يكن يحلم بأن يأت أحد ويستخرجها.
هل وقعت في حب هؤلاء السيدات؟
الديري: بكل تأكيد نعم، وقعتُ وقوعاً لا قيام منه.لم أكتب سيرة من هذه السير إلا وعشقتها إلى أبعد جوهر فيها، لأنني لا أكتب بدافع تكليف من دائرة حكومية، أو لأنني أملك مشروعاً تجارياً مثلًا، أو لأنني أنتظر مقابلًا ماديًّا نظير هذه الكتابات. أنا أكتب هذه السير بدافع الحب والتقدير لهؤلاء النسوة. كذلك أنا لا أكتبها بدافع أن أراكم إنجازات في سيرتي الذاتية الثقافية، لأن مجال عملي ليس كتابة هذه السير. إنما هو الحب الذي أوقعني في هذه المنطقة. فأنا بالتخصص الأكاديمي وبالتخصص الثقافي، أعمل في منطقة أخرى، لكني وقعت فيها مرغمًا، وذلك أجمل الحب.
ما ملامح هذه النسوة اللاتي لم يراهن أحد؟
الديري: فعلاً، لم يراهن أحد. هؤلاء نسوة غير مرئيات. وبعد كتابة هذه السير أصبحن مرئيات حتى على المستوى الفيزيائي، إذ إن صورهن التي لم تكن تظهر للعيان ظهرت؛ وأنا أعتبر هذا إنجازًا؛ لأنني جعلت صورهن جديرة بأن تكون محفوظة في أعين الجيل الحاضر. الصورة مهمة في تثبيت الذاكرة، فكيف إذا كانت الذاكرة مشوشة وغاب كثير منها؟ من جانب آخر أن ذلك يُكرّس عرفاً: أن صور أمهاتنا وجداتنا ليست عيباً، وليست شيئاً نخجل منه ونواريه، إنما نبرزه ونفخر به ونجعل منه غلافاً لكتاب، ووجهاً لمنشور، ولوحةً جمالية فريدة، وفي ذلك إظهار لملامح هذا التاريخ، وهذه الذاكرة المصانة بسيرهم.
البداية كانت مع جدتك سلامة سلوم، هل كتبت هذه السيرة بدافع قرابتها أم بدافع الرواية؟
الديري: كتبت سيرة (سلامة سلّوم) لأنها جدتي، ولكنني لم أستطع أن أكتب سيرتها خارج الخدمة الحسينية أو خارج نطاق الإمام الحسين، لأن جدتي خادمة للإمام الحسين. فحياتها و بيتها وروحها وتربيتها وأنفاسها وكلماتها كلها تنطق بـ”الإمام الحسين”. وبالتالي هذا يلتبس بهذا وهذا يتجلى بهذا، بمعنى سيرتها كجدة لا يمكن أن ينفصل عن سيرتها كخادمة للإمام الحسين، خصوصا وأن سيرتي الشخصية ونشاطها حتى المرحلة الجامعية كان في مأتمها.
من سيرة سلامة العاشقة للحسين، أحببت “ملاياتها” خصوصا وأن علاقتها بهم علاقة تبجيل واحترام وتقدير عالٍ. وقد تشبعتُ وتعلمت هذا التقدير لهن من جدتي. فانتقل معي هذا الحب إلى معلمة القرآن والملاية(تقية) فكتبت سيرتها (ألف لا شيلة) وازداد هذا الحب تألقًا مع (أم السادة) وسيرتها، وهكذا امتد إلى الملاية (مكية بنت منصور)والملاية (بنت مزعل).كنت أتنقل في حديقة حسينية بين هؤلاء الملايات، وجميعهن كن جدات، وصفة الجدة تعزز صفة الخدمة الحسينية، وبالمثل صفة الخدمة الحسينية تعزز وتدعم صفة الجدة. أي أن كل صفة تعزز الأخرى وتمنحها جمالاً وعاطفةً وثراءً، لهذا أصبحت سيرهن غنية
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: علي الديري متحدثًا عن الحاجية بنت مزعل
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________