أردناها شاهدة على وجودنا حيث ما كان، وكيف ما كان، حيث كان في الهامش أو في السلطة، وفي الحاشية أو في المتن، وكيف كان ظالماً أو مظلوماً.. ليست مهمة الأرشيف أن يجمل الحقيقة، بقدر ما مهمته حفظها وقولها دون أن ينتظر قبولاً أو استحساناً من أحد”*.
“من دون وثائق ينتفي وجود المرء”، ورواية الوجود لا تحفظها إلا الوثائق.. باكراً التفت “مركز أوال للدراسات والتوثيق” إلى المعركة المفتوحة بين الوجود والعدم. الرؤية التي حملت على إنشاء المركز تقول إن التاريخ لا يصادره ممتلكو القوة، ولا يستفرد به كتبة السلطة، التاريخ أكبر من أي لحظة، ومن يحتفظ به يملك الاعتراف بالوجود. وفي وثائق التاريخ لا وجود لــ “ربما”، إما “الوجود” ودونه العدم.
ومنذ ولادته في لندن عام 2012، قرر “مركز أوال للدراسات والتوثيق” أن يواجه معركة مصادرة التاريخ، للانتصار لحقيقة الوجود. في إحدى إصداراته، يقول المركز إنّ العدم يظل “يلاحق الوجود، والغلبة تكون لمن يملك الأرشيف حياً ناطقاً.. هكذا يتحقق لوجود الإنسان الانتصار في الحياة”.
ومنذ لحظاته الأولى إلى اليوم، كان مسار العمل والإصدارات واضح الرؤية، محدد الهدف. يعود اسم “أوال” إلى فترة تاريخية معروفة شهدتها البحرين إبان الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين. الإسم نفسه يوثق هذه الفترة التاريخية، وفي العنوان نفسه يحضر التوثيق جنباً إلى جنب مع الدراسات، تأكيداً على رؤيته، وتصريحاً عن الحقل الذي يشغل المركز ويؤطر مجال نشاطه وفعالياته وإنتاجاته.
والمركز مؤسسة بحرينية أنشئت في لندن في شباط/ فبراير من العام 2012، أخذ على عاتقه تحرير الذاكرة الخليجية. أبرز اشتغالاته تمثلت في حفظ الذاكرة البحرينية وتوثيق الأحداث التي عاشتها منطقة الخليج عموماً، وقد توزعت أعمال المركز على قسمين: قسم يُعني بالأرشيف والتوثيق، وآخر انصبت جهوده على إنجاز مشروع ضخم يهتم بترجمة أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية، وإلى جانب ذلك يُصدر “أوال” مجموعة من الكتب التي أتت في سياق حفظ الذاكرة، وإعادتها إلى الضوء.
في منشور له كتب المركز: “ندرك أن ما من سلطة سياسية دون سيطرة على الأرشيف ورسالتنا في مركز أوال للدراسات والتوثيق هي العمل على تحرير الأرشيف من السيطرة وتسهيل عملية الوصول إليه”.
شكلت أحداث المنطقة منذ ما بعد “الربيع العربي” يقظة لدى القيمين على المركز. في وقت كانت تشهد المنطقة معارك مستعرة لمصادرة الحاضر والتاريخ، وتدمير للتراث الثقافي للبشرية، قرر مركز أوال للدراسات والتوثيق أن يتحدى العدم وأن يقف في مواجهة الساعين إلى تكريسه، انتصاراً لذاكرة شبه الجزيرة العربية.
لماذا الأرشيف؟
تستعيد “أرشيفو” عبارة كوجيتو ديكارت الشهيرة: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، تتصرف بها لتقول: “لدي أرشيف إذن أنا موجود”. ومن دونه ينتفي الوجود.
منذ العام 2015، قرر مركز أوال للدراسات والتوثيق أن يحتفل سنوياً بيوم الأرشيف العالمي في 9 يونيو. في العام الماضي أطلق المركز بالمناسبة (محرك بحث أرشيف أوال)، ليكون إحدى أدوات النضال من أجل حفظ بيانات الوجود.
في الإطار نفسه، أصدر المركز “سلسلة أبحاث في تاريخ البحرين” تناولت 7 إصدارات، وكل إصداراتها اشتغلت في توثيق الذاكرة البحرينية (تاريخ البحرين وقراها وأعلامها وأدبائها، إضافة إلى الحركة العملية فيها). ويعمل المركز اليوم على إصدار ثامن ضمن السلسلة نفسها يتناول توثيق “هجرة البحارنة”.
ولأن “ما مضى هو في المقدّمة”، سعى المركز إلى تقليب صور التاريخ ليعيد قراءة الحاضر، يشخص في هذه الاستعادة الواقع، ويفهم خلفيات أزماته، ويسترجع وجهه الذي سرقته الصراعات، وغيرت معالمه سطوة السلطة، ونزاعات السياسة.
عام 2015، أصدر المركز كتاب “نصوص متوحشة – التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية” للباحث البحريني علي أحمد الديري. في قراءته لتجارب تاريخية، ذهب الديري إلى تفكيك نصوص التوحش في التراث الإسلامي، ليبيّن أن التكفير وليد الصراعات السياسية، وسلاحها الفتاك، وأن النصوص التوحش لم تكن إلا إحدى إفرازات هذه الصراعات. وفي العام 2017 صدر عن المركز كتاب آخر للباحث نفسه:”إله التوحش التكفير والسياسة الوهابية”، لاحق فيه الديري التوحش في تجربة تاريخية أخرى، توقف فيها عند مؤسس الوهابية محمد بن عبدالوهاب. ومجدداً ثبّت الديري فرضيته التي تقول إن “التكفير مشروع قتل يمليه صراع سياسي”.
ولأن الماضي مرآة الحاضر، جاء إصدار “داعش من النجدي إلى البغدادي – نوستالجيا الخلافة” في أبريل 2015، عاد فيه الباحث السعودي فؤاد إبراهيم إلى جذور داعش ليبيّن أن التنظيم يأتي كوراث تاريخي لتعاليم محمد بن عبدالوهاب “والمتناسلين منه مثل جيش إخوان من طاع الله الذي أنشأه عبد العزيز بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الثالثة) ثم قضى عليه بعد تحقيق حلمه بإقامة دولة باسمه”.
اهتم مركز أوال بتوثيق الذاكرة البحرينية. عام 2016، طبع المركز كتاب عالم الأنثربولوجية اللبناني فواد اسحاق خوري “القبيلة والدولة في البحرين تطور نظام السلطة وممارستها”. الكتاب الممنوع من التداول في البحرين أعاده أوال للضوء، كونه يوثق واقع حكم القبيلة في البحرين. في دراسته للواقع البحريني وجد خوري أن القبيلة الحاكمة في البحرين تمكنت أن ترواغ حركات الإصلاح والتحول نحو نظام الدولة، لتبقى الدولة محكومة بأعراف قبيلة آل خليفة ومصالحها.
وفي أواخر 2015، صدر عن المركز الترجمة العربية لكتاب “صراع الجماعات والتعبئة السياسية في البحرين والخليج” للمحلل السياسي المتخصص في شؤون البحرين، جستن غينغلر. وُصف الكتاب بأنه الأكثر جرأة في استقصاء وتفسير الواقع السياسي المتأزّم في البحرين ودول الخليج العربية، إذ بيَّن أن الصراع في البحرين سياسي بحت، رغم محاولة الطبقة الحاكمة الزج به في خانة الصراع الديني الطائفي.
هكذا كان المركز يستعيد الحقيقة المختطفة، والذاكرة التي يُعمل على مصادرتها، وانتاجها مجدداً لتقدم روايات تحيل الحقائق التاريخية إلى عدم.
وذهب مركز أوال إلى توثيق الذاكرة الحديثة للبحرين في مجموعة إصدارات، تناولت الأزمة السياسية وإفرازاتها وخلفياتها التي تشهدها البحرين منذ العام 2011 إلى اليوم. ( “سيرة الاحتجاج السيرة النضالية لعبد الهادي الخواجة2001 – 2011″، و”جدار الصمت: انهيار السلطة مدخل توثيقي لثورة 14 فبراير البحرينية” للكاتب البحريني عباس المرشد).
الذاكرة الخليجية عموماً حضرت أيضاً في إصدارات المركز. “ما بعد الشيوخ الانهيار المقبل للممالك الخليجية”، كتاب أصدر ترجمته العربية أوال. تنبأ الأكاديمي البريطاني كريستوفر ديفيدسون، من خلاله بانهيار وشيك للممالك الخليجية، على ضوء نشوء “الدول البوليسية” في عصر تكنولوجيا الاتصالات، وفي زمن انخفاض أسعار النفط.
مطلع العام 2017، أصدر “مركز أوال للدراسات والتوثيق” كتاب “سعادة السفير محمد جواد ظريف”، وهو الكتاب الذي ظل ممنوعاً من النشر حتى نهاية عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، والذي يوثق الكثير من الأحداث التاريخية من رجل ساهم في صناعتها أو كان على تماس معها.
وآخر إصدارات المركز كان “شعر البحرين” للباحثة البحرينية أنيسة المنصور، التي أطلت من خلاله على بيئة الشعر البحراني، وعلى ما قدمته البحرين من عطاء شعري في الفترة الممتدة بين القرن السابع عشر إلى الثلث الأول من القرن العشرين.
على سكة واحدة تأتي إصدارات “مركز أوال للدراسات والتوثيق”، لا شيء كان بعيداً عن الأهداف: توثيق الذاكرة وتحرير الذاكرة.
في إحدى إصداراته، يستحضر المركز تجربة أرجينتينية، يُعرف المركز بما يُسمى “رابطة جدات ساحة مايو” التي عملت على توثيق بيانات جميع المفقودين إبان الديكتاتوريات السياسية. لاحقاً أثمرت جهود الجدات، وثقت الرابطة معاناة المفقودين والمختطفين، وشكل نشاطها سبباً في خروج مطالبات لمحاكمة المسؤولين عن ذلك. بالنسبة لأوال كانت تجربة الجدات تتماثل وعبارة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخي: “في هذا البلد لدينا حق مصون في الأمل”. العبارة نفسها يستحضرها “أوال”، ليكون للذاكرة حق مصون بالأمل أن لا تصادر الذاكرة، ولا يحيل أهل السطوة وجودها إلى عدم.
* من افتتاحية الإصدار الأول لمجلة “أرشيفو” الفصلية الصادرة عن مركز أوال للدارسات والتوثيق