ثقافة النبذ والغلبة والقهر السياسي بعد 2011، أصّلت اهتمامي بالتاريخ البحريني
صدمه المناخ المعادي الذي أصبح مسيطراً على البحرين بعد أحداث 2011 العصيبة؛ صار يكرّس ثقافة النبذ والتجريح والغلبة والقهر السياسي، ويستخدم أبشع الأدوات لسحق الآخر. شعر أن كيانه أصبح مهدداً ومحاطاً بالتشكيك في الوطنية والولاء والوجود التاريخي، كانت تلك هي الشرارة التي جعلت الكاتب البحريني “وسام السبع” يؤصل اهتمامه بالتاريخ البحريني المكتوب أكثر، ويتقصى الذاكرة المطاردة والمطرودة من حيز التداول في الفضاء العام أكثر، تلك التي غيبها التعليم الرسمي ومحقها الإعلام الرسمي الذي يحتكر الحقائق.
مركز (أوال للدراسات والتوثيق)، حاور الأستاذ وسام السبع الكاتب في صحيفة الوسط البحرينية، والمهتم بالتاريخ والتراث الثقافي، ومؤسس موقع (مرايا التراث في التاريخ والتراث البحريني). ناقشه في الجهود الأهلية والفردية المهتمة بتاريخ البحرين وتراثها العلمي والاجتماعي، وعن أسباب ضعف البحث التاريخي في البحرين وفق ما يرى، عن تجربته الشخصية في الكتابة التاريخية، وعن انجازاته المنشورة والمستجدة في هذا المجال.
أوال: موقع مرايا التراث في التاريخ والتراث البحريني ، كما يدل اسمه هو موقع الكتروني معني بتاريخ البحرين، أي تاريخ هذا الذي تهتمون بجمعه وحفظه؟ وهل مهمة كتابة تاريخ البحرين هي مهمة رسمية تقوم بها الدولة أم مهمة أهلية؟
وسام السبع: يشغل موقع “مرايا التراث” المعني بتاريخ وتراث البحرين وظيفتين رئيستين:
الأولى: جمع وأرشفة كل المقالات والأبحاث، والتعريف بكل الجهود العلمية والبحثية التي اتخذت من تاريخ البحرين وتراثها العلمي والاجتماعي موضوعًا لها سواء كانت أطاريح دكتوراه أو رسائل ماجستير أو المقالات الصحفية التي تطرح قضية او فكرة لها علاقة بالتاريخ والتراث.
الثانية: تتمثل في خلق وعي تاريخي متقدم لدى البحرينيين ومحاولة تعميق هذا البعد المغفل في ثقافة البحرينيين واهتماماتهم لأسباب مختلفة منها ما يتصل بطبيعة الخبرة الثقافية التي هي إفراز طبيعي للمناهج الدراسية التي تعرض لها البحرينيون في المدارس النظامية عبر عقود طويلة، ومنها ما يرتبط بالندرة والنقص الفادح في كمية الدراسات والأبحاث والمصادر التي تروي بأمانة قصة ماضي البحرين وتاريخها العريق وإسهامات علمائها وشعرائها وأناسها البسطاء وتفاصيل كفاحهم من أجل البقاء ومواجهة كل الظروف الإنسانية الصعبة التي كانوا تعرضوا لها في ما مضى في سياق الاضطرابات السياسية والدموية الرهيبة التي مرّ بها البلد وكابدوا جرّاء ذلك من تداعياتها الاجتماعية والنفسية والفكرية.
تركيز المرايا إذًا كان ولا يزال منصبًّا حول إعطاء جدارة أكبر للرواية المقصية والذاكرة المطاردة والمطرودة من حيز التداول في الفضاء العام، ذاكرة الناس وقصة المهمشين، تلك القصة التي لا نعثر على أي أثر ينبئ عن وجودها فعلا بسبب سيادة ثقافة تاريخية أُتخمنا بها عبر مناهج التعليم الرسمي والإعلام الرسمي الذي يحتكر الحقائق أو هكذا يسوّق لنفسه، حقائق اليوم وحقائق الماضي وحقائق المستقبل. المرايا تريد منح اعتبار لهذا التاريخ المسكوت عنه، التاريخ المبعثر والمفكك والمسافر إلى المهاجر البعيدة حيث وصل ذات يوم بحرينيون هاربون من شبح الموت أو بحثًا عن ملاذ آمن يوفر لهم حق العيش بكرامة موفورة، هذا التاريخ الذي نجده في تراث مخطوط يشكو الإهمال وسوء التقدير من أبنائه والمنتسبين له، هذا التاريخ نجده في الصور القديمة، وفي حكايات المغتربين ومرويات الأجداد وكبار السن ومكاتباتهم إلى من يحبون. التاريخ القابع في ثنايا الوثائق الأجنبية ويُراد له أن يبقى حبيساً أبدياً للأدراج الرطبة في أرشيفات الرجل الأبيض. هذا التاريخ الذي تعطينا (الأرض) بعضًا من فصوله وقد بهتت الألوان ونأت الصورة وغابت الملامح.
على أن المرايا تحاول أن تعطي، قدر الإمكان، أولويةً للطرح العلمي المتوازن بعيدًا عن التعاطي المتحمس والتناول الارتجالي الذي يؤدي إلى الإفراط في نسج تاريخ يقوم على المبالغة واعتماد الخرافات والأساطير والمسائل الظنية وتوظيف ما هو شائع في الذاكرة الشعبية دون دليل علمي يسند وجاهته، وفي كل ما تطرحه المرايا تحاول تجنب السقوط في فخاخ التسطيح والتسويق لثقافة شعبوية هي لا شك تدغدغ خيال المتلقي وتلهب حماسه، لكنها غير جديرة علميًا لأنها لم تتوفر على الشروط التي وضعتها المرايا وتحاول أن تحتكم إليها في ما تنشره من مقالات وأبحاث.
وهذا ما يفسر المواد القليلة المنشورة في الموقع مقارنة بكل ما يتوفر في الساحة البحرينية اليوم من مقالات تاريخية وكم هائل من الصور والتعليقات المثيرة التي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الاجتماعي بصورة ملحوظة في إبرازه والاهتمام به.
أوال: هل الموقع له أسرة تحرير خاصة أو من هم الكتاب الذين يكتبون في مرايا التراث؟
السبع: ليس لمرايا التراث هيئة تحريرية بالمعنى الإداري للكلمة؛ ولكن هناك مجموعة من الأصدقاء الباحثين والكُتّاب والإعلاميين يحرصون على رفد الموقع ببعض المقالات والدراسات التي تدخل ضمن دائرة اهتمامات الموقع كمقالات الشيخ إسماعيل الكلداري والأستاذ عبد الخالق الجنبي والشيخ محمد عيسى المكباس والأستاذ علي السلاطنة والأستاذة رملة عبد الحميد والأستاذة نوال عبد الكاظم خفي وآخرين، على أن المادة الرئيسية لمرايا التراث تتكون من الأبحاث والدراسات والمقالات التي سبق نشرها في وسائل ووسائط إعلامية أخرى، من صحف ومدونات ومواقع ومجلات وكتب كمقالات الأستاذ حسين الجمري والدكتور منصور محمد سرحان، والدكتور محمد حميد السلمان وآخرين. وبالإمكان ملاحظة كم التنوع في الأسماء التي نحرص على نشر كتاباتها في الموقع حرصًا على خلق ذاكرة تراكمية وتأسيس أرشيف يضم كل ما يُكتب عن تاريخ البحرين والتعريف بأبرز الكتب والدراسات والأطروحات العلمية المرتبطة بتاريخ البحرين بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.
أوال: كيف انطلقت فكرة تأسيس الموقع وما هي الدوافع التي دفعتكم لتأسيس موقع يعنى بالتراث والتاريخ؟
السبع: البداية كانت من فكرة راودتي عن إنشاء مدونة شخصية تضم كل كتاباتي الصحافية، وكنت في هذه الفترة شديد الاعتناء بالموضوعات التاريخية قارئًا وكاتبًا، فقد كنت أحرص بين فترة وأخرى على اختيار موضوع تاريخي أكتب فيه، ومن وحي هذا الاهتمام بدأت تستقر عندي فكرة جمع كل ما يُكتب وينشر عن تاريخ البحرين، وفي المرحلة الأولى كنت أنشر هذه المقالات في مدونتي الشخصية ضمن باب أسميته تاريخ وتراث يضم إضافة إلى مقالاتي التاريخية مقالات لباحثين وإعلاميين آخرين، وبعد أن كثرت المواضيع استقر عزمي على ضرورة تخصيص مدونة أخرى تهتم بنشر كل ما يتعلق بتاريخ البحرين مع إجراء تحسينات وتطوير أخرى في أقسام المدونة ونوعية الخدمات التي تتيحها للمتصفح المهتم. وهكذا انبثقت مدونة مرايا التراث في الثاني من أبريل 2013 م بعد أشهر قليلة من تدشين مدونتي الشخصية.
أوال: هناك الكثير من المواقع الإلكترونية والمدونات التي تعنى بتاريخ البحرين مثل مدونة سنوات الجريش وموقع تاريخ وتراث البحرين… ما الذي يميز موقع مرايا التراث عن باقي المواقع؟ وهل هناك تعاون بينكم وبين مواقع أخرى لديها نفس أهدافكم ؟
السبع: بالطبع تمثل مدونة (سنوات الجريش) تجربة رائدة ومتقدمة جدًا، وقد طرحت نفسها كأول تجربة في الإعلام التاريخي المتخصص بالبحرين، وقد استطاع مؤسس وصاحب المدونة الاستاذ جاسم حسين آل عباس أن يقود هذا الصرح الثقافي المتميز بكل جدارة وتمكن لعشقه وحماسه ودأبه وغيرته على تاريخ وطنه. وهذه جهود محترمة ومقدّرة تعاطى معها البحرينيون بكل محبة وتعطش لأنها جاءت تلبي الحاجة التي يستشعرها البحرينيون حيال تاريخهم والتعرف على بلدهم من خلاله.
بالطبع هناك عدد من المدونات والحسابات التاريخية التي ظهرت مؤخرًا يحدوها أمل في تقديم مادة تاريخية تلبي الطلب المتنامي للقارئ البحريني ذلك أن “العرض” أو ما هو موجود فعلًا أقل بكثير من “الطلب” الذي تمثله رغبة جمهور القراء بمختلف أعمارهم واهتماماتهم، وأعتقد بأن كل جهد مهما كان متواضعًا وبسيطًا فهو يسهم دون شك في إثراء الذاكرة التاريخية ويشكل إضافة في سجل تاريخ البحرين الذي عانى طويلًا من الإهمال والتنكر وقد آن الأوان لإعطائه ما يستحق من رعاية واهتمام. هناك انتقادات ممكن توجيهها للكثير مما يطرح في هذا الإطار، لكن تبقى أن وظيفة النشر الإعلامي لأي مادة تاريخية أفضل بكثير من عدم النشر والإحجام عن القيام بأي دور إيجابي ومبادر في هذا الاتجاه. النشر يعني إتاحة مادة جديدة أمام الباحثين والقراء، وهو ما يخلق حراك ثقافي ويعطي لهذه المسائل زخم يجتذب من حوله من المهتمين والباحثين عن المعرفة والقراء العاديين وهذا بدوره يشكل حالة إيجابية متقدمة بكل ما تستجلبه من مظاهر نقاش وحوار ونقد؛ فالمعرفة تتقدم وحركة الأبحاث تتطور وتزداد نضجًا بهذه الأمور.
أما بخصوص التعاون، فليس هناك تعاون بالمعنى الذي يفترضه السؤال، لكن تجمعني مع عدد كبير من الباحثين والمهتمين لقاءات منتظمة وبرامج ثقافية ولدينا تواصل دائم، ويحدث أن ينشر موضوع في (مرايا التراث) ثم يعاد نشره في (سنوات الجريش) وفي غيرها من الحسابات الإلكترونية المهتمة بتاريخ وتراث البحرين، كما يحدث العكس بالطبع، ففي نهاية المطاف تجمعنا اهتمامات مشتركة ويحركنا هم واحد المساهمون فيه بايجابية قليلون والقارئون فيه كثر..
أوال: تكلمت عن دور الصحافة المحلية ودور وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المقالات والدراسات فماذا تقول عن مجموعات الواتساب الخاصة بالباحثين التاريخيين؟
السبع: بالفعل هذه ظاهرة إيجابية جدًا لها انعكاس كبير على مستوى العلاقات التي تربط المهتمين بالشأن التاريخي وتتيح لهم فضاء رحب يتبادلون فيه الأفكار والنقاشات والأخبار عبر مجموعات الواتساب التي استطاعت أن تفتح آفاق جديدة من التعرّف ومن ثم التعاون مع أسماء لباحثين ومهتمين بالشأن التاريخي البحراني، لقد استطاعت هذه المجموعات أن تقرب المسافات وأن تجمع المهتمين بقضايا التاريخ والتراث من مختلف أصقاع العالم، وهذه وسيلة جديدة بالإمكان الإفادة منها في بلورة مشاريع هادفة ونسج علاقات صداقة من مختلف الدول والبلدان ممن يشتركون في الهم التاريخي والبحثي.
وأنا أعرف، بل ومنضم، لأكثر من مجموعة بحرينية وأجنبية تضم باحثين ومهتمين بقضايا التراث والتاريخ وأرى أن هذه المجموعات تحقق قدر كبير من الفائدة وتخلق مساحة إنسانية جميلة من التواصل مع طيف واسع ومتنوع من الناس الذين يجمعهم هم مشترك وهواية واحدة.
وأملي أن تعزز هذه الوسيلة المهمة والنافعة من مكتسباتها بصورة أكبر بحيث تُترجم عبر مشاريع عمل مشتركة أو أنشطة وبرامج ثقافية واقعية تلبي الاحتياجات الثقافية والاجتماعية الملحة على مستوى واقع البحث التاريخي.
أوال: لك العديد من الكتب والإصدارات ككتاب (مآذن ونخيل) و(النازحون من الريف) و(الذوق العرفاني لعلماء البحرين)…هل نترقب منك إصدارات جديدة قريبا؟
السبع: كتاب (مآذن ونخيل) هو أول تجربة لي في عالم النشر، وهو كتاب تضمن مجموعة من المقالات والبحوث التاريخية مما يدخل ضمن تاريخنا الثقافي، أما بخصوص العناوين الأخرى فهي ملفات صحفية كتبتها ونشرت في الصحافة البحرينية.. وفيما يتعلق بالإصدارات فأنا أتهيأ لنشر ثلاثة كتب قريبًا .. وهي: (المدارس الدينية في البحرين: دراسة تاريخية اجتماعية لواقع الدرس الشرعي في البحرين في القرنين الحادي والثاني عشر الهجريين)، و (علماء البحرين في أعيان الشيعة.. إعداد ودراسة)، و (محاسن أهل البحرين من سلافة العصر لعلي خان المدني). وهناك مجموعة أخرى نشرتُ أغلب موادها –ضمن حلقات- في الصحافة المحلية وأتحين الفرصة لإعادة تحريرها تمهيدًا لإصدارها متى ما تهيأت الظروف لذلك.
أوال: كتبت مقالات عديدة ومتنوعة، كتبت عن التصوف الشيعي في البحرين، عن مسؤولية الخطاب الديني الآن، عن النازحين من الريف الكتل النيابية في برلمان 197، عن التنوع الديني في البحرين نعمة أم نقمة، والعديد من المقالات أخرى، إذا أردنا تحديد هوية كتاباتك، ما هي أهم المواضيع التي تعمل عليها؟
السبع: كانت ميولي “أدبية” منذ بدأت رحلتي مع الكتب، وهذا ما حملني على الدخول في المسار الأدبي في المرحلة الثانوية، وعندما أكملت الدراسة الجامعية اخترت التخصص في الفلسفة وعلم النفس، نظرًا لميلي الشديد لعلم النفس والاجتماع، لم أحب الفلسفة يومًا، علاقتي بها كعلاقتي بالرياضيات مليئة بالريبة والعداء المستحكم. لقد تشكل وعيي من خلال القراءة الحرة، وإذا كانت الدراسة الأكاديمية وفرت لي الأرضية المنهجية اللازمة للتأسيس العلمي، فإن المكتبة والكتاب أخذ بيدي إلى آفاق فكرية وإنسانية أرحب وأشد اتساعًا وأكثر تنوعًا، هكذا وجدت نفسي محاطًا بكتب في الفكر الإسلامي وفي الأدب وفي علم النفس والاجتماع والتاريخ، وكنت أتنقل بين هذه الحقول العلمية بمنتهى السلاسة كمن يتنقل بين أجزاء من حديقة غنّاء واسعة الأكناف.
في مرحلة تالية من العمر، دخلت عالم الصحافة بشكل جدّي عام 2001 م، بعد أن كنت أكتب لها – قبل هذا التاريخ – على استحياء وبشكل غير منتظم، لكن الصحافة اليومية لم تجذبني، الإيقاع السريع للأحداث يجرفني إلى مناطق شديدة التغير، وهذا لا يناسب مزاجي المولع بالهدوء، والأهم من كل ذلك سلبت مني الصحافة اليومية رفقتي مع الكتاب، لذلك قررت سريعًا أن أعيد تأطير علاقتي بالصحافة بحيث تكون علاقتي بها لا من خلال الحدث اليومي، بل من خلال الكتابة الأسبوعية، لأنها أكثر ملائمة لمزاجي الكسول والباحث دومًا عن أشياء أبعد من الحدث اليومي، أشياء ذات قيمة قارّه تتعدى الصفة الآنية سريعة الذبول والأفول.
تجربتي في الصحافة أتاحت لي العمل على مشاريع كتب، في فترة من الفترات انشغلت بتوثيق تاريخ الحركة الوطنية بتلاوينها الفكرية المختلفة (التيار الإسلامي، البعث العربي الاشتراكي، التيار الشيوعي) وقد أنجزت حول هذه التجارب التنظيمية التي درستها ما يمكن أن يشكل اليوم كتبًا قد يكون لها قيمة معينة لأنها كانت تستند إلى مقابلات صحفية تنشر معطياتها لأول مرة, وقد كانت هذه الملفات التي نشرتها في صحيفة الوطن البحرينية تحضى بتحفيز وتشجيع كبيرين من الصديق الراحل والناقد البحريني المعروف الاستاذ محمد البنكي الذي كان رئيساً لتحرير الوطن وقتها.
وبعد أحداث فبراير 2011 م، وفي أعقاب الظروف العصيبة التي مرت على البحرين استجدّت عندي أولويات جديدة ترتبط باهتمامات قديمة، وشكل التاريخ جزءا من منطقة اشتغال يجب التركيز عليه، وكنت مدفوعًا في ذلك بالمناخ المعادي الذي أصبح مسيطرًا على تمام المشهد، مُناخ كريه كان يكرس لثقافة النبذ والتجريح والغلبة والقهر السياسي ويستخدم أبشع الأدوات لسحق الآخر والقضاء على أي ملامح تعكس حالة التنوع الديني والمجتمعي الذي كانت حتى وقت قصير واحدة من علامات الفخر لدى البحرينيين.
هزني ذلك في العمق، صدمني، شعرت بأن كياني مهدد، أصبحت محاط بالتشكيك، تشكيك في ولائي لوطني، تشكيك في وطنيتي، تشكيك في تاريخي وعراقة ارتباطي بالأرض، من هنا كانت الشرارة التي انطلقت بها في تأصيل هذا الانتماء عبر الكلمة المكتوبة.
ما الخيط الذي يربط بين كتاباتي؟ هي كل هذه الأشياء التي تعبر عن كينونة الإنسان وتجسد ارتباطه بالحياة: الدين والأدب والناس والتاريخ والبحرين والنخيل وكتاب يصدر هنا ومخطوط محقق هناك، أكتب ما أجد أنه يعبر عن أصالتي وثراء التاريخ الذي أتوسده وأتكئ عليه وأهش به على الدجالين والكذابين والمدلسين وأعداء الحب والسلام ممن يعتاشون على التزوير والتسول.
أوال: كيف تقيّم واقع البحث التاريخي في البحرين؟ وما هي انطباعاتك عن الأنشطة والبرامج الثقافية التي بدأت مؤخرًا تولي “التاريخ” اهتمامًا ملحوظًا؟
السبع: السؤال أكبر من حدود مقدرتي على الإجابة عليه، لكن سأتحدث عن انطباعي عن الجهود الأهلية في الاهتمام بالقضايا التاريخية، ولعل (جمعية تاريخ وآثار البحرين) من أبرز وأنجح مؤسسات المجتمع المدني اهتمامًا بالمسائل التاريخية وللدكتور عيسى أمين دور رائع جدًا في قيادة نشاط الجمعية وللجمعية موسم ثقافي سنوي يحاول قدر الإمكان أن يستضيف ضمن فعالياته أكبر قدر ممكن من الباحثين والمهتمين لإلقاء محاضرات ثقافية وتاريخية.
كما وأن الصحافة المحلية لها دور كبير في نشر العديد من المقالات والدراسات وتظهر في هذا الإطار مقالات الأستاذ حسين الجمري والدكتور محمد حميد السلمان والأستاذ مهدي عبدالله. بينما يفضل بعض الباحثين والمهتمين أن ينشر ما يكتبه في وسائل التواصل الاجتماعية سواء عبر الفيسبوك والإنستغرام أو المدونات وهنا تظهر جهود الأستاذ جاسم حسين والشيخ بشار العالي والأستاذ توفيق الرياش والأستاذ محمود عبد الصاحب والأستاذ حسين المديفع والأستاذ ميرزا القصاب وآخرين.
غير أن ما يلاحظ إجمالًا على المشهد الثقافي المحلي فيما يتعلق بالتعاطي مع حقل التاريخ، وهو حقل جديد كليًا على البحرينيين بالمناسبة، جملة من الأمور:
بروز الهاوي في مقابل المتخصص: إذ يلاحظ بروز طبقة كبيرة من المهتمين الهواة بمتابعة ودراسة القضايا التاريخية وهذا أمر إيجابي بحد ذاته، لأن “الهاوي” اليوم قد يتحول إلى “متخصص” غدا إن أحسن استغلال مواهبه وأبدى الجدّية الكاملة في تنظيم معارفه وأثبت كفاءته العلمية في إعداد البحوث والدراسات وأتيحت له الفرصة للمشاركة بشكل فعلي في النقاشات والأنشطة الثقافية والتاريخية التي تجري بين الحين والآخر.
الفردية في مقابل العمل المؤسسي: لعل أكبر المشاكل التي تحدّ من تعميق وتطور تجربة البحث التاريخي في البحرين هي “سيادة الروح الفردية” في العمل البحثي التاريخي، وغياب مظاهر العمل كفريق عمل جماعي، ولدينا تجربتين ماثلتين تستحقان الإشادة: الاولى تبنتها جمعية العاصمة للثقافة الإسلامية التي أصدرت حتى الآن خمسة أجزاء من الموسوعة المصورة لتوثيق الحياة العمرانية والاجتماعية لمدينة المنامة “ملامح”، أما التجربة الثانية فتتمثل في الكتاب الذي سيصدر قريبًا عن قرية النويدرات بإشراف الدكتور عبد علي محمد حسن الذي تم إعداده من قبل مجموعة من الباحثين المتخصصين في تاريخ القرية. وهذه تجارب ناجحة يمكن الاستفادة منها واتخاذها نموذج لما يجب أن يكون عليه العمل الجماعي المؤسس، وبالطبع أنا لست من دعاة التخلص من المؤلف، فهناك باحثون على جانب كبير من الكفاءة والمقدرة على إنتاج أعمال علمية متميزة وناجحة لكنني اتحدث عن ضرورة إشراك الشباب المهتمين بقضايا التاريخ في فرق عمل بحثية تذلل لهم المصاعب وتأخذ بيدهم في هذا الطريق وبذلك نحصل على نتائج ايجابية وسريعة في هذا الاطار.
الانكفاء في مقابل التواصل والانفتاح: ويتمثل ذلك في عزوف الباحثين الجادين في القضايا التاريخية عن الإعلام والحضور المباشر في قلب المشهد الثقافي المحلي، وهذا “الاحتجاب الاختياري” للباحث المتخصص يفتح المجال واسعًا أمام تدوال وانتشار ثقافة تاريخية “شعبية” لا تتوفر على الشروط والدقة المطلوبة في مسائل حساسة كمسائل التاريخ.
طغيان الاهتمامات التراثية والفلكلورية على حساب دراسة وتحليل الأحداث والمراحل التاريخية، فقد برز لدينا باحثون ومهتمون كثر في مجالات دراسة التراث الشعبي في حين ظل مجال البحث التاريخي يشكو الإهمال والضعف، وبقي عدد الباحثين فيه قليل جدًا.
كلمة أخيرة ترتبط بأسباب ضعف البحث التاريخي في البحرين، التي ترجع في المقام الأول –كما أرى- إلى غياب التراكم المعرفي للأبحاث الأكاديمية، وهذه مهمة تقوم بها الجامعات الوطنية في كل بلد يتعامل بتقدير وإجلال لتاريخه، أما في البحرين فهناك نقص فادح ومعيب جدًا لهذا التراكم المعرفي، والموضوع التاريخي لا يشكل هاجسا فعليا لجامعة البحرين ولا لغيرها من الجامعات الوطنية الخاصة، في حين كان يمكن أن يشكل “تاريخ البحرين” بكل مراحله موضوعًا دراسيًا وحقلًا أثيرًا للبحث على مستوى رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه.
السبب الثاني: غياب المؤسسات الرسمية والأهلية التي ترعى الطاقات والكوادر الشبابية التي لديها ميل وحب للتاريخ، وقدرة واستعداد ورغبة للتخصص والكتابة فيه، ناهيك طبعا عن غياب التحفيز المادي والمعنوي للأعمال البحثية المتميزة.
إن غياب هذه المؤسسات يعني حرمان أفواج شبابية من الباحثين والمهتمين لا يحصلون على التدريب وورش العمل التي تصقل مهاراتهم في البحث العلمي.
السبب الثالث: ضعف التواصل المباشر بين الباحثين والمهتمين بالتاريخ يساهم في خلق حالة من السلبية وانعدام الثقة، فمن المعروف أن الجلسات المنتظمة التي تجمع المتخصصين تؤجج الحماس وتفتح آفاق جديدة للتفكير في قراءة ودراسة وبحث الكثير من الكتب والموضوعات المشتركة أمام الباحثين، كما أنه يتيح لهم الفرصة لمعرفة الأعمال البحثية التي يجري كتابتها وهو ما يساعد على تلافي إعادة تكرار الاشتغال بالموضوع الواحد، أو على الاقل توحيد وتنسيق الجهود وتكاملها.