هناك اليوم في العالم الإسلامي عشرات وربما مئات الجماعات الدينية المتطرفة، التي تُمارس العنف والقتل بصورة عنيفة جدا، وتستخدم أبشع الطرق في قتل مخالفيها. وهذه الجماعات تدافع عن نفسها بأنها تستند في ممارساتها إلى فتاوى دينية يعترف بها جميع المسلمين، وكتباً فقهية يرجع إليها علماء المسلمين وفقهائهم، ولذا فإنها تدّعي دائما في بياناتها، وخطاباتها، ومنشوراتها، بأنها تمثل الإسلام الحقيقي، ولها ردود كثيرة على الفقهاء والمفتين الرسميين في الدول العربية، والمؤسسات الرسمية الدينية الإسلامية، مثل كتاب ” المجن في الرد على بشير بن حسن ” “للجهادي” البحريني تركي البنعلي، وكتاب ” الأقوال المهدية إلى العمليات الاستشهادية ” له أيضا، وكتاب ” مالك بن نبي في الميزان ” لأبو المنذر الساعدي ، و” أعذار المتقاعسين ” ليحيي اليحيى، ورسائل جهيمان العتيبي، وغيرها،وقد رأينا جميعا الفيلم الذي أذاعه تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش ) بعد إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا في 3 / فبراير / 2015،حيث ظهر احد مقاتلي التنظيم وهو يتلو بياناً مطولا قال فيه أنهم يستندون إلى فتوى لابن تيمية ( 661- 728 ) حول جواز الإعدام حرقاً باعتباره ” زجرا لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع”. ومن جانب آخر، فإن كثيرا من العلماء والمرجعيات الدينية الرسمية تنكرعلاقة هذه الجماعات بالدين؛ وتقول بأنها جماعات سياسية، وتقف وراءها أجهزة استخبارات عالمية وصهيونية لتشويه صورة الإسلام، وتمزيق الدول الإسلامية إلى دويلات طائفية، كما فعلت داعش في سورية والعراق، وتستدل على رأيها بآياتٍ قُرآنية تُحرم قتل النفس المحرمة إلا بالحق، ولذا نجد صمتا يسود موقف العديد من المؤسسات الفقهية الإسلامية عن جرائم التنظيمات المتطرفة بحجة أنها غير إسلامية، وكذلك،لم تصدر أي نقدٍ لطروحات هذه التنظيمات، أو ردا على ادعاءاتها، رغم الجرائم البشعة التي ارتكبتها في العديد من الدول العربية، ربما خوفا من أن يطال النقد ” نصوصا مقدسة “.
في هذا الكتاب ” نصوص متوحشة، التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية ” الذي صدر طبعته الأولى عن مركز أول للدراسات والتوثيق ببيروت سنة 2016، يحاول الباحث البحريني الدكتور علي أحمد الديري قراءة سرديات التكفير في سياقها السياسي. حيث يقول: ” أسعى في هذا المجال إلى قراءة نصوص ليس كاجتهادات فقهية أو عقائدية بل كمشاريع سياسية أو مرتبطة بالسياسة، كما هو الأمر مع كتاب الغزالي (فضائح الباطنية) الذي كتبه برسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين”.(1)، ويناقش المؤلف في هذا الكتاب نصوص التوحش ” في ثلاث بيئات سياسية، استخدمت التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري)، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية” (2). ويقول المؤلف في مقدمة كتابه ” كما لا توجد جريمة من غير مجرم، ولا فساد من غير مفسد، فإنه لا يوجد توحش من غير وحش، والوحش هو هذه النصوص ومدارسها التي تبيح القتل وتأمر بالقتل من دون رادع نقدي، أو قراءة تاريخية أو قطيعة معرفية”. (3)
لقد وضع الديري ثلاثة شروط لتعريف نصوص التوحش وهي:
الشرط الأول: أن يكون النص آمرا بالقتل المادي، وليس مكفراً فقط للمسلم الذي يقر بالشهادتين،
والشرط الثاني: أن يكون النص فتوى أو حكماً منتجاً من فقيه وليس مجرد حديث يُروى،
والشرط الثالث: أن يكون النص ضمن فضاء سلطة سياسية تمثل قوة قائمة بالفعل”(4).
ويرى المؤلف بأن النصوص المتوحشة ” أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما عن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث فرضتها ظروف سياسية أيضا”. (5)
ابتدأ الديري مقاربته النقدية لنصوص التوحش بنقد نصوص الغزالي في كتابه ” فضائح الباطنية ” للإمام الغزالي، ويرى الكاتب أن الكتاب ظهر في سياق الصراع السياسي الذي كان قائما آنذاك بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة، واتخذ أشكالا متعددة، مثل: إنكار النسب العلوي للخلفاء الفاطميين، واتهامهم بالكفر والمروق من الدين والإلحاد، حيث يقول الغزالي ” والقول الوجيز فيه أن يُسلك بهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات” (6)، ولم يقتصر الغزالي على الحكم بكفرهم فقط، وإنما أفتى بقتلهم وسفك دماءهم أيضا، حيث قال: ” نغتالهم ونسفك دماءهم، فانهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم. وان كانوا من الفرقة الأولى التي لم يحكم فيهم بالكفر، فهم عند القتال يلتحقون باهل البغي، والباغي يقتل” (7). كما لم تقتصر وظيفة الكتاب في تكفير الفاطميين فقط، وإنما تثبيت شرعية الخلفاء العباسيين أيضا، واعتبارهم خلفاء الله في أرضه وحجته على عباده،حيث كتب الغزالي فصلا بأكمله بعنوان (في إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله، حرس الله ظلاله)، وقال فيه عن الخليفة المستظهر العباسي: ” وأنه يجب على كافة علماء الدهر الفتوى، وعلى البت والقطع، بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ اقضيته بمنهج الحق، وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة، وبراءة ذمة المكلفين عند صرف حقوق الله تعالى إليه، وأنه خليفة الله على الخلق، وأن طاعته على كافة الخلق فرض”(8). ومن الملاحظ أن هذا الكتاب المليء بالعنف يناقض تماما الكتب التي ألفها الغزالي بعد عزلته الروحية التي استمرت خمسة عشر عاما تقريبا، ألّفَ خلالها عدة كتب مهمة تعتبر من المراجع المهمة في التراث الروحي للمسلمين، ولها أهميتها عند أهل التصوف والعرفان، وأبرزها كتاب ” إحياء علوم الدين “، وكتاب ” المنقذ من الضلال”، مما يؤكد السياق السياسي الذي ألف فيه الغزالي كتابه ” فضائح الباطنية”. وأن الغرض من تأليفه كان غرضا سياسيا وهو توظيفه في سياق الصراع الذي كان يدور آنذاك بين الدولتين العباسية والفاطمية.
ثم عرج الديري إلى نقد نصوص الفقيه المغربي ابن تومرت ( 473-524 )، وابن تومرت ينتمي إلى المدرسة السنية الأشعرية، وبالتالي فهو يتوافق كلاميا مع الإمام الغزالي، فكلاهما أشعريان، وقد تتلمذ ابن تومرت عند أئمة الاشعرية في المشرق، فهو يعتبر من تلاميذ المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك لتعزيز مدرسة الأشعرية ضد المدرسة الفاطمية الإسماعيلية التي كانت تهدد المشرق الإسلامي في تلك الفترة فكريا وعسكريا، ولكن الفرق بينهما أن النصوص المتوحشة للغزالي كانت موجهة للإسماعيلية الفاطمية، بينما كان عدو ابن تومرت هم المرابطون الذين كانوا يدينون بالمذهب المالكي في الفروع، بينما كانوا في الأصول يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى، يقول الديري ” توافر لابن تومرت الركن الأول بناء الدولة، فهو ابن عشيرة ( هرغه ) التي تنتمي إلى قبيلة (المصمودة ) البربرية ، هو يحتاج الآن لبلورة عقيدة صلبة تنظم قوة قبيلته لبناء دولة قوية” (9)وهذه العقيدة وجدها في المذهب الأشعري.
ألف ابن تومرت في العقيدة كتابه ” العقيدة المرشدة ” الذي اعتبره بمثابة دستور للموحدين حيث قدم فيه مبادئ ” الإسلام الصحيح ” حسب المعتقد الأشعري، عقيدة الدولة الموحدية. كما ألف ابن تومرت كتابا آخر بعنوان ” أعز ما يطلب ” ويحتوي على آراء ابن تومرت وتعاليمه في المسائل الإيمانية المختلفة، خاصة في الرد على ” المجسمة “، يقول الديري: ” في هذا الكتاب سنعثر على نصوص التكفير والتوحش، وعلى المنهاج الذي وضعه للدولة الموحدية في طريقة تعاملها مع المختلفين معها، وسنجد شرعنة القتل وسفك الدماء الذي اتبعته الدولة الموحدية ضد خصومها” (10). وينقل الديري نصا خطيرا من الكتاب المذكور ويحمل طابعا سياسيا وأيديولوجيا واضحا ضد دولة المرابطين، يقول النص : ” أمر رسول الله ” ص ” بمخالفة أهل الباطل في زيهم وأفعالهم، وجميع أمورهم، وفي اخبار كثيرة قال: ” خالفوا اليهود، خالفوا المشركين، خالفوا المجوس” وكذلك المجسمون، الكفار، وهم يتشبهون بالنساء في تغطية الوجوه بالتلثم والتنقيب، ويتشبه نساؤهم بالرجال في الكشف عن الوجوه، بلا تلثم، ولا تنقيب، والتشبه بهم حرام” (11)، طبعا النص موجه الى المرابطون الذين يتهمهم ابن تومرت بالتجسيم، كما ان المرابطون المغاربة يغطون وجوهم، حتى أصبحت الى اليوم جزءا من ثقافتهم.
ثم أستعرضه الديري النصوص المتوحشة للفقيه الحنبلي ابن تيمية والتكفير المملوكي على اعتباره الفترة التي عاش فيها ابن تيمية، في ظل الصراع بين المماليك من جهة وبين التتار أو المغول من جهة أخرى،حيث خاض الرجل حربا شرسة ضد الأشاعرة والشيعة الإمامية والعلويين وغيرهم من الطوائف الإسلامية، حيث يعتقد ابن تيمية أن الذي يمثل أهل السنة هو الإمام احمد بن حنبل وليس أبو الحسن الأشعري كما يرى غالبية المسلمين “، ومن أبرز الكتب التي الفها ابن تيمية في تأصيل مذهب الإمام احمد والرد على مذهب الأشاعرة هو كتاب ” العقيدة الواسطية “، وكتاب ” العقيدة الحموية “، ولكن هذه العقيدة لم تصبح دستورا لأي دولة، حتى جاء محمد بن عبدالوهاب في القرن واستطاع بالتحالف مع محمد بن سعود ان يجعلها دستورا للدولة السعودية ولا تزال كذلك حتى اليوم.
ولقد لعب ابن تيمية دورا خطيرا في إعطاء السلطان الملك الناصر بن قلاوون ملك المماليك فتوى شرعية في جواز مقاتلة وقتل الشيعة في كسروان بالشام في سنة 1305، التي قام بها 50 ألف جندي وتعرف باسم (فتوح كسروان)، وقد اصدر ابن تيمية فتوى أشاد فيها بهذا الملكالذي قام بهذه المذبحة حيث قال فيها : ” وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوسه المئين”، وقال أيضا : ” وذلك أن السلطان أتم الله نعمته حصل للأمة بمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين ، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين” (12) . كما أفتى ابن تيمية للمماليك بقتال التتار الذي كانوا مسلمين وقدم تبريرا غريبا لجواز قتالهم بقوله: ” فهؤلاء القوم المسؤول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسب إلى الإسلام – وهم جمهور العسكر – ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول وليس فيهم من يصلي إلا قليلاً جداً وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة والمسلم عندهم أعظم من غيره “. (مجموع الفتاوى ج 28 ص 505).(13) إذاً، فإن ابن تيمية أفتى للمماليك بقتال الشيعة في كسروان بحجة أنهم كفار، وموالاتهم – حسب زعمه – للصليبيين، وأفتى لهم بجواز قتال التتار المسلمين بسبب امتناعهم الالتزام بشرائع الله، ولكن، السياسة كانت حاضرة في هذه النصوص المتوحشة.
من يقرأ كتب الجدل المذهبي طوال التاريخ الإسلامي يجد أن النصوص المتوحشة حاضرة فيها بقوة، وهذه النصوص تُوظف دائما في الصراعات السياسية. وكما أنها كانت حاضرة في الخلاف السياسي بين الفاطميين والعباسيين، وفي الحرب بين المماليك والتتار، وفي حروب ابن تومرت ضد المرابطين، فإنها حاضرة اليوم بقوة أيضا في الصراع في سورية والعراق واليمن، وستختفي عندما يتفق الفرقاء على إنهاء النزاع، ثم تعود مجددا في مكان آخر. ما لم يتم نقد هذه النصوص وتفكيكها وقراءتها ضمن سياقها التاريخي والمذهبي.
صالح البلوشي