عاشت بلدان الجزيرة العربيّة منذ القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي حياة مضطربة سببها التقسيم السِّياسي، إذ انهار كيان المدينة ممّا أثّر سلباً على الحياة الفكرية. وأخذ البدو يُسيطرون على القسم الواقع في هذه الجزيرة، والأعاجم يسيطرون على الجزر الواقعة في الخليج.
وسار الزمن، والحركة الأدبيّة والشعـريّة تتفاعل بين شعوب الجزيرة، والخليج، حتى أطلّ القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي إذ بدأت شواطئ الخليج تستقبل الجيوش التركيّة، وسيطر البرتغاليون على الجزر وبعض الموانئ، وساد الركود الثقافي فيها إلاّ قلاعاً غدت مناراً للفكر والأدب أنعشت الحياة الفكريّة، وبرز فيها عدد من العلماء المبرّزين في العلوم العقليّة والفلسفيّة والحديث وغيرها. وكذلك انتعش الأدب وبدأ يأخذ مكانته التاريخيّة، ونشطت محافل الأدب، ولمع نجمُ أحدِ الشعراء في هذا، ألا وهو جعفر بن محمد الخَطّي الموسوم «بأبي البحر». وقد كان ظهور هذا الشاعر في فترة تعدّ من أحرج الفترات الزمنية التي مرّت بها منطقة الخليج حيث تكالب البرتغاليّون والعثمانيّون على المنطقة.
وأبو البحر الخَطّي هو أحد شعراء المنطقة في أواخر القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وأوائل القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي. وهو مِنَ الذين لم ينالوا حظهم من العناية والدرس المستفيض، إلاّ عند القليل مِنَ الدّارسين المحدثين.
وممّا دفعني لاختيار أبي البحر الخطّي موضوعاً لرسالتي أمور متعدّدة منها:
أوّلاً : أنه كان يمثل ظاهرة لافتة في عصره مِنْ حيث التجديد والابتكار وإحياء الشعر القديم، في الوقت الذي كان فيه الشعراء يغلب على شعرهم التكلف والزخارف اللفظية والمحسّنات البديعيّة. فكان ذلك بحقّ ظاهرة تستحق الدراسة والاهتمام.
ثانياً : الحاجة إلى الكشف عن شعراء مغمورين في منطقة الخليج، فقصدت شاعراً يعدُّ مِن مشاهير القرن الحادي عشر الهجري/السادس عشر الميلادي. فأكون قد ساهمت في إلقاء الضَّوْء على قصائده وإشهارها لعلّ ذلك يعوّض شيئاً ممّا أصابه مِنْ ظُلم الدارسِين وإجحافهم له، بُغية تقديمه للقارئ.
ثالثاً : إبراز بعض تراث المنطقة وواحدٍ من أدبائها للعالَم، وهذا واجب أبناء المنطقة ذاتها.
رابعاً: قلّة اهتمام الباحثين بدراسته، ولعلّ ذلك يعود إلى نقص المصادر، والمراجع الكافية للدراسة.
كانت تلك هي أهمّ البواعث على الكتابة عنه، ولا سيّما عندما قرأت ديوانه. فدفعني ذلك كلّه إلى الكشف عن مكانة هذا الشاعر.
وقد اتّبعت في دراستي لأبي البحر الخطّي منهجَين:
أ ـ المنهج الخارجي، وهو المنهج التاريخي الذي يستمدّ عناصره من خارج الأثر الأدبي، ومِن مزايا هذا المنهج إلقاء الضَّوْء على النَّصِّ من خارجه، وبواسطته درستُ حياة الشاعر، وما أحاطها مِنْ ظروف في حلِّه وترحاله، لذلك بدأت البحث بتمهيد تاريخي عن الشاعر وعصره حتى وفاته سنة (1028/1619) وقد أفادني هذا المنهج في دراسة قصائده الشعريّة، وجعلني أعالج في الفصل الأول من الباب الأول عصر الشاعر، فتعرّفت أولاً على العصر الذي نشأ فيه وتأثر به، وتناولت بيئته السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة لأستطيع تحديد الموقف الذي سار عليه، ثمّ أفادني في عرض حياته بشيءٍ مِنَ التفصيل.
ب ـ أمّا المنهج الداخلي: فقد درست نتاجه الشعري مستلهماً المناهج الحديثة كالبنيوي، على سبيل المثال، فأفادني في دراسة قصائد الشّاعر، وتحليلها بعد الإحصاء الذي أجريته في الدّيوان مما ساعدني في إرجاع كل نصّ إلى غرضه، كما أنّه أفادني في دراسة الخصائص الأسلوبية من خلال دراسة المستويات في الباب الثالث.
أمّا خطّة البحث فقد جاءت في مقدّمة وتقويم لأهم المصادر والمراجع المعتمدة في البحث وثلاثة أبواب شاملة عشرة فصول وخاتمة، ثم ثبت بالمصادر والمراجع ومجموعة مِنَ الفهارس الفنيّة.
وتأسيساً على المنهجيّة المتّبعة في مثل هذه الدِّراسات بدأت الباب الأوّل بثلاثة فصول. الأوّل: عن الرجل ونشأته. أمّا الفصل الثاني فكان للحديث عنِ الشاعر ونشاطه الاجتماعي، وتطرّقت فيه إلى رحلاته. أمّا الثالث، فقد خُصِّص للحديث عن ديوانه (مخطوطاته)، وأماكن وجودها.
أمّا الباب الثاني، فقد عالجتُ فيه الأغراض الشعرية حسب أهميَّتها فـي الدّيوان. فقد جاء الفصل الأوّل منه خاصاً بالمدح ومقامه في الدّيوان، والممدوحين من الأمراء ورجالات عصره، ومدائحه لإخوانه وأصدقائه وكذلك مدائحه لآل البيت النبوي، دارساً تركيب قصيدة المدح عنده. أمَّا الفصل الثاني فقدِ اشتمل على أغراض الحنين والفخر ومقامها في الدّيوان، ومِنْ ثمّ معانيها. ويطرح الفصل الثالث من هذا الباب الأغراض الشعريّة الأخرى وهي: الرثاء، فالوصف، فالغزل، فالعتاب، فالاعتذار، فالشكر، ثمّ الهجاء.
وأخيراً كان الباب الثالث، وقسّمته إلى أربعة فصول فحاولت فيه استلهام طرق المنهج البنيوي كمنهج تحليلي في النقد الحديث، كما أنّني أقمت التحليل بحسب المستويات، فكان الفصل الأوّل للمستوى الصَّوْتي والعروضي، وأمّا الفصل الثاني فقد جاء خاصّاً بالمستوى الصرفي، والمستوى التركيبي، وأمّا الفصل الثّالث فقد تناول المستوى المعجمي (دراسة ألفاظه)، ثمّ جاء الفصل الرّابع، ودار حول المستوى البلاغي.
وأجملت في الخاتمة أهمّ النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث. ومِنَ المصادر الّتي عوّلت عليها في دراسة الشاعر كثيرة منها: خلاصة الأثر للمحبّي، وأمل الآمل للعاملي، وسلافة العصر لابن معصوم، وأنوار البدرين لعلي البلادي، فقد أعانتني هذه وغيرها في دراسة الشاعر وعصره.
أمَّا الدراسات الحديثة عن حياته وشعره فهي قليلة مختصرة، وهي منشورة في بعض الكتب والمجلاّت، أو مبثوثة في بعض البحوث التي تركّز على جانبٍ واحدٍ من شعره. وأهمّ ما كتب عنِ الشّاعر نذكره على النحوِ التالي: ما جاء في دراسة لعز الدّين التّنوخي في مجلّة المجمع العلميّ العربيّ (دمشق)، ودراسة أخرى لحاجم الربيعي في مجلّة الخليج العربيّ الصَّادرة عن مركز دراسات الخليج العربيّ (جامعة البصرة). ودراسة ثالثة بعنوان «الشَّاعر المغمور» لخالد الفرج في مجلّة المنهل. فضلاً عن بعض الكتب والمقالات الأخرى التي أفادتني في دراستي هذه، ومِنْها النقد الأدبي الحديث لمحمّد غُنيمي هلال، وقراءات أسلوبيّة في الشعر الحديث لمحمّد بن عبد المطلب، والشافي في العروض والقوافي لهاشم صالح منّاع، وغيرها.
وكنتُ أشعر بالمتعة وأنا أدرس نتاج أبي البحر الخطّي، واستمتعت بصحبته التي جمعت بيني وبينه طوال فترة البحث، إلاّ أنني واجهتُ في أثناء إعداد بحثي هذا صعوبات كثيرة منها:
1. عدم وجود ديوان محقّق تحقيقاً علميّاً فديوانه لم يحظَ بعناية علمية كافية إذ كان مخطوطاً بحَوْزة أشخاص مِنَ المهتّمين بالتراث الأدبي في منطقة الخليج، منذ فترة طويلة، وكان هؤلاء شحيحين لا يسمحون لأحد بالاقتراب من تلك المادة التراثيّة التي بحوزتهم، إلى أن حصلت على نسخة الدّيوان المطبوع الوحيدة الذي أخرجه الخطيب علي بن الحسين الهاشمي (عضو جمعية الرابطة العلمية الأدبيّة في النجف الأشرف) سنة (1373 /1953)، فتفضّل بها عليّ الأديب السعودي السيد عدنان العوّامي من القطيف بالمملكة العربية السّعوديّة.
2. قلّة المعلومات المتعلّقة بحياة الشاعر في المصادر والمراجع وأغلبها تتشابه في طرحها حتّى تكاد تكون متكرّرة. كما أنّني تعبت في البحث عنِ المصادر والمراجع التي تعينني في كتابة مادّة البحث، فقمت بزيارات متعدّدة لبلدان مجاورة لبلدي البحرين، وأخرى بعيدة بغية البحث عن معلومة أو كتاب يفيدني، مثل: المملكة العربيّة السعوديّة، وبالخصوص المنطقة الشرقيّة، وكذلك جامعة الرياض ودولة الكويت وبخاصّة مكتبة جامعة الكويت، وقد ظفرت بنسخة مِنْ ديوان الشاعر إلاّ أنّها طبق الأصل للنسخة المتوافرة لديّ، وجمهورية مصر العربيّة متجوّلاً بين مكتباتها الخاصّة والعامّة، بالإضافة إلى مكتبتَي جامعة القاهرة والإسكندريّة، وكذلك مكتبة الجامعة الأردنيّة بعمّان، وإيران، وبالتحديد مكتبة المرعشي النجفي بقمّ، والجمهوريّة العربيّة السوريّة قاصداً مكتبة الأسد والمكتبة الظاهريّة، والمملكة المغربيّة باحثاً عمّا يفيدني مِْن معلومات وكتب في جامعة محمّد الخامس في الرِّباط. وكانت حصيلة ذلك أنّني ظفرت بكتب ومقالات لم تكن متوافرة في بلدي البحرين فضلاً عن زيارات للشخصيّات المهتمّة بتراث المنطقة في البحرين، والسعوديّة.
3. لم يكن بوسعي التعريف ببعض الشخصيّات التي أشار إليهم الشاعر في بعض قصائده، إذ خلت المصادر التاريخيّة التي تحدّثت عن تلك الحقبة حتى من الإشارة إليهم.
وفي الختام أتمنّى أن أكون قد قدّمت جزءاً من واجبي نحو عَلَم من أعلام الأدب في منطقة الخليج العربي ليكون محطّ أنظار محبّي التراث الأدبيّ. ولا يسعني إلاّ أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لكل مَنْ أولاني العناية والتشجيع، وأخصُّ بالذكر الدكتورة هبة شبارو سنُّو أستاذة النحو العربي والأدب بجامعة القدّيس يُوسُف، والمشرفة على رسالتي، والبروفسور أهيف سنُّو مدير معهد الآداب الشَّرقيّة، القارئ الثّاني اللذين كان لتوجيهاتهما وملاحظاتهما الأثر البالغ في إخراج هذا البحث بالصّورة الّتي هو عليها. كما أنّني أشكر كل من سهّل لي الحصول على المصادر والمراجع سواء في البحرين أم في خارجها، وكل من وقف بجانبي وأعطاني من جهده ووقته.
وأخيراً فإنني أقرُّ بأنّ هذه الرسالة ليست منزَّهةً عمّا يعتري أيّ جهد إنسانيّ من نواقص، وآمل أن تكونَ نواةً لدراسات لاحقة عنِ الشاعر أبي البَحر الخطّي.
اقرأ أيضًا:
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون