لماذا تكره السلطات البحرينية صعصعة بن صوحان؟ ولماذا يحبّه شعب البحرين؟

اضغط هنا للاستماع للحلقة

د. علي أحمد الديري

لقد كان صعصعة بن صوحان منفيًّا للشام في زمن عثمان بسبب ثورته، ومطالبته بالإصلاحات، وفي مرات أخرى، كان مبعوثًا من قبل الإمام علي (ع) وقد التقى بمعاوية مرات كثيرة. وتحكي كثير من الأخبار المدونة في كتب التاريخ عن هذه اللقاءات والحوارات الكثيرة بين معاوية وصعصعة. وقد وردت قصة في كتاب الذهبي “سير أعلام النبلاء”-وهو من الشخصيات الكبيرة وأحد تلامذة ابن تيمية- يقول فيها إنّ صعصعة بن صوحان وفد على معاوية، فخطب، فقال: “إن كنت لأبغض أن أراك خطيبًا”، قال: “وأنا إن كنت لأبغض أن أراك خليفة”¹. أي إنّ معاوية يكره أن يرى صعصعة خطيبًا، وكأنه يقول له: لسانك طويل وتتحدث دائمًا بما يغيظ الحاكم، ولا تسكت عن الحق، ولديك بلاغة مزعجة، فأنا أبغض ذلك فيك. فكيف رد عليه صعصعة بن صوحان بخطابه وبلاغته؟ قال له إنّه أيضًا يبغض أن يراه خليفة. وهذا كلام كبير وفيه بلاغة رائعة جدًّا.

تجد السلطات البحرينية في خطاب صعصعة بن صوحان ما وجده معاوية فيه؛ خطاب مزعج للسلطة، مطالب بالحق، لا يسكت عن الظلم، ويريد الإنصاف للآخرين والعدالة لهم، وهي لا تريد أن تسمع هذا الصوت. أمّا شعب البحرين، فهو في الجانب الآخر، يبغض أن يرى معاوية خليفة، وأن يرى من يمثل نهج معاوية يتسلّط على الآخرين ويظلمهم، ويستأثر بالسلطة، ولا يسمح بمشاركتها، ويحوّلها إلى ملك عضوض. هذه الذاكرة التي تربط شعب البحرين بصعصعة تربطه بخطابه أيضًا، وهو شعبٌ يقدّر صعصعة بن صوحان كخطيب شحشح، متمكن، قوي، وبليغ؛ إنه ليس بليغًا في تركيب الكلمات فقط، إنما تكمن بلاغته بقدرته وجرأته على أن يقول للحاكم الفاسد “أبغض أن أراك خليفة” وحاكمًا وصاحب سلطة.

نلاحظ هنا استخدام كلمة “البغض” أو “الكره”، إذ لا يوجد ما يفسّر أفعال الحكومة البحرينية اليوم من منع لزيارة هذا المقام، والمسجد، والقبر. فلا مصلحة مادية هناك، أو بئر نفط، أو موقع استراتيجي تريد أن تنشئ فيه مشروعًا اقتصاديًّا كبيرًا. لا يوجد ما يدفع السلطة البحرينية لأن تغلق هذا المكان أو توعز إلى التكفيريين والمتعصبين كي يقوموا بتخريبه أو نشر مقالات تشكك في أن هذا المكان قبر لصحابيّ أو تابعي أو شخصية ذات مقام كبير. لا يوجد ما يفسر ذلك غير البغض والكره والحقد. لقد أصبحت هذه أمور من ضمن مهمات الخطاب الحقوقي الذي يسعى لإيقاف الكراهيات وتقليلها ومحاربتها وفضحها، أنا شخصيًّا لا أجد سببًا يفسّر ذلك غير الكراهية.

الكراهية هنا مبنية على أسباب عقائدية، وأسباب أخرى تتعلق بموضع هذا القبر، والمقام والشاهد، في منطقة عسكر الشهداء، التي كان يسكنها البحارنة الذين تعرضوا سابقًا لاضطهادات ولعمليات ترحيل من مساكنهم، وبقي هذا الشاهد شاهدًا على أنهم كانوا هنا. فالسلطة ترفض وجود أي علامة تشير إلى تواجد سكان أصليين في هذا المكان، إذ إنها تتبنى فكرة “بلاد بلا عباد”؛ أي أن هذه المنطقة كانت بغير سكان، وهي التي جاءت، وفتحت وعمرت. ولا أدري كيف يمكن أن يكون هناك فتح من دون وجود بشر في هذا المكان.

ما تقوم به هذه السلطة يُحركه  خطاب الكراهية، فلا يعوز السلطات البحرينية أن تبحث عن مُسوّغ. مثلًا، إذا كانت هذه السلطة لا تؤمن أن هذا المقام هو قبر، فليكن شاهدًا أو مقامًا. هناك مسوغات شرعية لهذا الأمر، فالشيخ علي الطنطاوي، مفتي الديار المصرية، وأحد كبار علماء الأزهر، يقول إن المسلمين ابتكروا فكرة المشاهد والمقامات لكي يتذكروا هؤلاء الصحابة والتابعين والعلماء، وهو يعطي أمثلة على ذلك فيقول إن السيوطي عاش في القاهرة ودفن فيها، ولكن أهل أسيوط أقاموا له في أسيوط مقاما. وصعصعة بن صوحان كذلك، فهو قد دفن بعسكر أو أقيم له مقاما ومشهدا هناك لأنه من أهل البحرين، ومن قبيلة عبد القيس. يمتلك أهل البحرين مشاعر اعتزاز كبيرة به وبأخيه زيد بن صوحان ولهذا بني له مقامًا.

يقدّم الشيخ الطنطاوي مثالًا آخر كالإمام الحسين، والسيدة زينب، ورأس الإمام الحسين، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تقول إن هذه المقامات تعطي مكانة لهؤلاء الأشخاص المسلمين، ولا تتعارض مع الشرع. فلا يوجد أي مسوغ لأن تقوم السلطة بحملة كراهية كي تغلق هذا المكان أو أن تصادره غير الحقد والكراهية والتحامل وإثارة الفتن بين أبناء الدين الواحد، والمجتمع الواحد، والوطن الواحد. 

ومن الأمثلة الأخرى مقام، وشاهد، ومسجد الصحابي أبو أيوب الأنصاري وهو الذي يسمى السلطان أيوب في تركيا. وهذا المكان ليس قبره إنما مقامه، وله قصة كبيرة في فتح القسطنطينية. هذا الشاهد كان بمثابة إلهام روحي كبير أعطى المسلمين الأتراك قوة هائلة لفتح القسطنطينية لذلك أنشئ هذا المسجد الذي لا يزال مقدسًا عند الأتراك. وجرت العادة أن أي حاكم تركي يقصد هذا المقام بعد انتخابه، وحين يلقي الرئيس  خطابا مهما ومصيريا بالنسبة للأمّة يزور المقام.  ولا نستطيع القول تاريخيًّا إن هذا المقام هو قبر لأبي أيوب الأنصاري، ولكنه تأسس استنادًا إلى قصة وحلم. تعتبر الذاكرة التركية والمسلمين اليوم أن هذا المكان هو مكان أبو أيوب الأنصاري. فكيف يمكن لنا أن نفرّط بمقام الصحابي صعصعة بن صوحان، هذا المكان التاريخي الرائع، لأحقادٍ وكراهيات غبية.

نعود لمجلس معاوية بن أبي سفيان الذي نعثر فيه على قصة أخرى بطلها صعصعة بن صوحان، وتعيننا على الإجابة على سؤال هذه الحلقة. تقول القصة: تكلم صعصعة عند معاوية بكلام أحسن فيه، فحسده عمرو بن العاص فقال: هذا بالتمر أبصر منه بالكلام، قال صعصعة: أجل أجوده ما دق نواه ورق سحاه وعظم لحاه والريح تنفجه والشمس تنضجه والبرد يدمجه، ولكنك يا ابن العاص لا تمرًا تصف ولا الخير تعرف، بل تحسد فتقرف.

فقال معاوية لعمرو: رغمًا لك! فقال له عمرو: أضعاف الرغم لك وما بي إلا بعض ما بك² كان ابن العاص يريد أن ينتقص من مقام صعصعة بن صوحان، فقال له إنه يعرف بالتمر أحسن مما يعرف بالكلام. وهنا يشير بقوله إلى عبد القيس الذين سكنوا البحرين واستوطنوها واشتغلوا في الزراعة والنخيل وتركوا حياة البدو وأصبحوا متحضرين؛ والشخص الذي يعطي للغزو والسلب قيمة كبرى يعتبر هؤلاء أهل تمر وينتقص منهم ومن مقامهم. وما زال أهل البحرين يفتخرون أنهم أهل تمر وأهل نخل، والنخل يعرفهم.

وجوابه هنا كان في منتهى البلاغة، فوصف له معرفته وبلاغته مشيرًا إلى أنه يجيد الوصف والبلاغة والكلام، ويمتلك خبرة عريقة جدًّا بالتّمر والنخل، في حين أن ابن العاص لا يعرف أن يصف التمر، أي أنه لا يمتلك الخبرة، ولا المهنة، ولا يعرف اللغة، ولا البلاغة، ولا الخير لكنه حسود ومقرف. فقال معاوية إن صعصعة قد رغم أنف ابن العاص، فأجابه ابن العاص  إنّه قد رغم أنف معاوية في التراب أكثر، وإنه ما ذاق إلا شيئًا من أضعاف الإذلال والترغيم في التراب الذي أصاب معاوية. هكذا هو صعصعة بن صوحان؛ يستخدم اللغة دائمًا للانتصار للحق، وإسكات الظالمين، لذلك لا تحبه السلطة التي تريد إسكات الآخرين، والمعارضة ولا تريد أن يكون في هذا البلد من يستخدم الكلام ببلاغة وإنصاف من أجل الانتصار للحق.

شعب البحرين يحب صعصعة لأنّه كان امتدادًا لبلاغة الكلام المنتصرة للحق وامتدادًا للحق نفسه، وليس امتدادًا للكلام المزيف وليس امتدادً للانتصار للحاكم ذي الملك العضوض. ما زالت البحرين وأهلها أهل تمر وبلاغة وشعر وخطاب، فمساجدهم ومخطوطاتهم وكتبهم تشهد على ذلك.

لذلك نتحدث عن حرب في الذاكرة، فالسلطة لا تريد ذاكرة للبلاغة والانتصار للحق، ولا تريد لهذا المقام أن يذكّر أهل البحرين أنهم أبناء صعصعة بن صوحان، بل تريد أن تجعل أبناء البحرين أبناء معاوية، بمعنى الحاكم الذي يجهّل الناس، ويجعل الناس يسبحونه ويقدسونه ويشتمون ويسبون من هو في مقام عال كالإمام علي الذي شتمه أهل الشام أكثر من سبعين سنة بأمر من معاوية. هذا نوع من أنواع الكراهية التي تورث البغضاء بدل أن تخلق الألفة التي يجب أن تكون بينهم

__________________
١. الذهبي، سير أعلام النبلاء.
٢.  قاموس الرجال: ج 5 ص 123، وبهج الصباغة: ج 11 ص 270.