كثيرون هم من كتبوا عن الحياة العلمية والأدبية في البحرين خلال القرون الماضية، وزخرت مؤلفاتهم التاريخية بالكثير من المشاهد الحية لطبيعة المناخ العلمي الذي كان سائداً في القرون السالفة. لقد كانت الجهود المحلية لعلماء البحرين تمشي في خط متوازٍ مع الجهود التوثيقة التي كانت تتمّ على يد علماء الخارج من الذين كان يُقدّر لهم الاقتراب من المشهد العلمي والاجتماعي في البحرين سواء عبر العلاقات الإنسانية أو عبر الرحلات العلميّة أو عبر المراسلات التي تجري بين علماء الداخل والخارج.
وتتمثل أبرز الجهود المحلية في العناية بتاريخ علماء البحرين في ما قدمه الشيخ يحيى بن حسين بن عشيرة (كان حياً 967 / 1560م) من أعلام القرن العاشر في كتابه (تاريخ مشائخ الشيعة) الذي ترجم فيه لأستاذه الشيخ مفلح الصيمري (ت900 /1494م)، وابنه الشيخ حسين بن مفلح الصيمري (ت 933 / 1526م) بالإضافة إلى مشايخ الشيعة الكبار.
ثم جاءت جهود الشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي (ت 1121/1709م) التي تكللت عن كتاب (فهرست علماء البحرين) الذي أعدّه للطباعة السيد أحمد الحسيني الأشكوري عام (1404/ 1984م) وصدر بعنوان (فهرست آل بابويه) وتضمن كتابين هما (فهرست علماء البحرين) والثاني (جواهر البحرين)، ثم خرجت طبعة أخرى أكثر ضبطاً عام (1421/2011م) بتحقيق الشيخ فاضل الزاكي اعتماداً على نسخة صاحب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، وفهرست الشيخ الماحوزي يتضمن تراجم لأربع وثلاثين شخصية من علماء البحرين.
وفي واقع الأمر إن ما كتبه الشيخ الماحوزي حول علماء البحرين يشمل أيضاً الفصل المعقود لعلماء البحرين في كتاب (بلغة المحدثين) ومجموعة التراجم المتفرقة المذكورة في كشكوله (أزهار الرياض).
كما وتبرز إسهامات الشيخ عبد الله السماهيجي (ت 1135/ 1723م)(1) في (الإجازة الكبيرة) التي تضمنت ترجمة واسعة لعدد من علماء البحرين(2).
والشيخ يوسف البحراني (ت 1186/1772م) في (لؤلؤة البحرين في الإجازة لقرّتي العين)، تلاه بعد نحو قرن ونصف كتاب الشيخ علي بن حسن البلاديّ (ت 1340/1922م) في كتابه أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والإحساء والبحرين).
ثم جاءت جهود الحاج محمد علي التاجر (ت 1340/1967م) في كتابه (منتظم الدريّن في أعيان الإحساء والقطيف والبحرين) والذي تضمن توثيقاً موسعاً لعدد من الشخصيات الأدبية والعلمية من البحرين وشرق الجزيرة العربية(3).
وبعدها تلاحقت الإصدارات الحديثة التي ظهرت في هذا الحقل واتسمت بكثير من الإحاطة والتتبع، ولعل أبرز هذه الجهود، جهد الدكتور سالم عبدالله النويدري في كتابه (أعلام الثقافة الإسلامية في أربعة عشر قرناً) الذي يعد أكثر الأعمال شموليةً واستقصاءً، وكذلك الشيخ محمد عيسى المكباس الذي قدم في (موسوعة شعراء البحرين) جرداً مهماً لأبرز علماء البحرين المغمورين.
وإلى جانب هذه الجهود المحليّة التي اهتمت بترجمة رجال الفكر والأدب والعلوم البحرانيين، كانت هناك جهود موازية لا تقلّ أهميّة عن جهود علماء الداخل؛ فقد زار البحرين الميرزا عبدالله الأفندي الأصفهاني (ت1130/1718م) في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، ودوّن رحلته في كتابه «الفوائد الطريفة». وفي القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، زارها الشيخ شرف الدين محمد مكي الجزيني وأقام بمنطقة البلاد القديم عامين، ودوّن عن علماء البلاد نصّاً تضمن الكثير من المعلومات التاريخية المنفردة. ولأن نص الجزيني الذي تركه مؤلفه بلا عنوان، لا يزال مخطوطاً، فقد تصدى الشيخ إسماعيل الكلداري لتحقيقه وإخراجه، والكتاب ينتظر الطباعة.
أيضاً كتب السيد علي بن أحمد الحسيني الشيرازي المدني (ت 1120/1708م) المعروف بابن معصوم كتابه القيّم (سلافة العصر في محاسن أهل كل مصر)، وللسيد علي هذا أكثر من آصرة ووشيجة تربطه بالبحرين، ليس لأنه أرّخ لشعرائها وأدبائها وأعلامها في كتابه السلافة؛ بل لأنه اختلط بعلماء البحرين (المهاجرين إلى إيران والهند)، وكاتبهم، وأخذ العلم عن بعضهم ونشأت له مع البعض الآخر صداقات متينة ومودة غامرة، وهو ما يتضح بجلاء في (سلافة العصر) الذي طُبع في مصر سنة 1906.
ذكر السيد المدني في هذا الكتاب، الأكابر من الفضلاء والنبلاء ومجيدي الشعراء والبلغاء من أعلام القرن السابع عشر الميلادي/ الحادي عشر الهجري، واشتمل كتابه على محاسن أهل العصر وأخبارهم وتقييد أشعارهم وشواردهم، حيث ترجم لأكثر من مئة شخصية كان نصيب شعراء البحرين منها إحدى عشرة شخصية.
لقد كتب هذا الأديب الموسوعي والرحالة المغامر عن السيد ماجد بن هاشم الحسيني البحراني (ت 1028/ 1618م) العالم الأديب والشاعر الذي تولى القضاء في شيراز، وذكر طرفاً من شعره. ومن بديع شعره في الغزل:
حسناء ساءت صنيعاً في مُتيمها يـا ليتهـا شفعت حُسناً بإحسانِ
دنت إلينـا ومـا أدنـت مودتـهـا فما انتفاع امرئٍ بالباخل الدّاني
كما ترجم للسيد حسن بن أحمد الحسيني الغريفيّ (ت 1001/1593م)، وقال إنه «بحر علم تدفقت منه العلوم أنهاراً»، و«الفقه كان أشهر علومه»، وكان بالبحرين «إمامها». وهو من تلامذة الشيخ داود بن أبي شافيز (ت 1020/ 1611م) الذي أنشد حين بلغه خبر وفاة تلميذه:
هـلـك الـقـصرُ يـا حمـام فـغنـى طـربـاً منك فـي أعالي الغصونِ
ونتعرف في «السلافة» على السيد محمد بن عبدالله الحسيني ابن شبانة البحراني الذي هاجر إلى الهند واجتمع بوالد صاحب السلافة الأمير أحمد بن معصوم قبل أن يقصد إيران ويستقر بمدينة أصفهان التي تولّى فيها منصب «شيخ الإسلام». وينقل ابن معصوم أن هذا السيد كان قد كاتبه سنة (1070/1660م)، ومدحه شعراً.
كذلك يرد ذكر السيد عبدالله ابن السيد محمد بن شبانة (ابن السابق)، وهو شخصية أدبية مرموقة كانت لها علاقة وطيدة مع والد صاحب السلافة في الهند، ولكن حدث بينهما – كما يبدو من شعره – ما يستوجب الاعتذار وأورد له شعراً كثيراً في هذا الجانب.
كذلك نقف على شخصية السيد ناصر بن سليمان القاروني، الشاعر الأديب، إذ يروي صاحب السلافة عن شيخه العلامة جعفر ابن كمال الدين البحراني أكثر شعر السيد ناصر، وينقل عنه بعض أحواله. ومما رواه أن السيد ناصر أنشد على قبر السيد حسين بن عبد الرؤوف البحراني :
الــحــكــمُ والإمــضــاءُ والأمــرُ والـحـلـمُ والإغـضــاءُ والــصـبـرُ
فـيــك اجــتـمـعـن وإن واحـدةً مــنـها يـحـقّ بـهـا لـك الـفـخـرُ
كما يتحدث السيد ابن معصوم عن السيد عبد الرضا بن عبد الصمد المولى البحراني وأخيه السيد أحمد، ويقول عن الأخير ولا يحضرني من شعره غير ما أنشدنيه له شيخنا العلامة جعفر بن جمال الدين البحراني.
كما يفرد للسيد علوي بن إسماعيل البحراني مساحة لترجمته، وقال عنه: «فاضل في النسب والأدب»، ويبدو أن السيد علوي هذا قد هاجر إلى القطيف وربما كان مقيماً فيها، حيث يقول: «وهو اليوم شاعر هجر».
كذلك يترجم للسيد عبدالله ابن السيد حسين البحراني. قال عنه: «وقد صحبني سنيناً وما زلت بفراقه ضنيناً حتى فرّق الدهر بيننا»، ومما نظمه السيد حسين لصاحبه ابن معصوم:
فـخر الـعلا بحر الـمكارم لم تزل بـكمُ الـمعـالـي تستـطيـل عُـلاءَ
طوقتني طوق السرور فهاك من جـيـد تـطـوق بـالـسـرور ثـنــاءَ
ويرد اسم الفقيه الشيخ داود بن أبي شافيز المتكلم الجدلي والشخصية الأدبية المعروفة. ويختم ابـن معصوم شـخصيات أدبـاء البحرين بشخصية الشاعر العلم أبو البحر جعفر بن محمد الخطي (ت 1028/1618م)، الذي وُلد في القطيف وعاش أغلب حياته في البحرين وانتقل إلى إيران.
والذي يتضح من خلال ما أورده ابن معصوم في السلافة، أن البحرين كانت تعيش قبل أكثر من ثلاثة قرون ونصف نهضة أدبية كبرى، وكانت مدارسها تكتظ بالعلماء، وتلك صفحة مشرقة من تاريخ البلاد حقّ لنا أن نفخر بها ونعتز.
وضع ابن معصوم كتابه «سلافة العصر» بعد أن قرأ في مكة المكرمة كتاب «ريحانة الألبّا وزهرة الحياة» للعلامة شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي (ت 1068/1658م)، وأبدى إعجابه بالكتاب، لكنه قال إنه «أهمل ذكر جماعةٍ من أكابر الفضلاء وأماثل النبلاء، ومجيدي الشعراء ومفيدي البلغاء»، فعزم على استدراك النواقص بكتابٍ يذكر فيه ما فات صاحب الريحانة وما سبقه من مؤلفين، مع حرص على انتقاء الأشعار المفيدة التي لم يخالطها الغثّ والسمين.
ميزة كتاب السلافة، أنه ترجم لشخصيات لم يرد لها ذكر في كتب أخرى، وأورد أشعاراً لم ترد في الكتب السابقة عليه، مما يجعل كتابه منفرداً ومتميزاً، والميزة الأخرى أنه ترجم لشعراء وأعيان عصره من السُّنة والشيعة، وهو ما يجعل كتابه يتسم بالشمول والموضوعية، وقد اتسع أطلسه الأدبي إضافة إلى «محاسن» أهل البحرين والعجم والعراق؛ محاسن أهل الحرمين والشام ونواحيها، واليمن، والمغرب.
وقد وظّف السيد المدني رصيده العلميّ وثقافته الموسوعية وخبرته الواسعة في علم الحديث والتراجم والرحلات، والشعر والبديع والنحو والصرف، وسكب كل ذلك في «سلافته» التي شرع في تأليفها سنة (1081/1670م)، وفرغ منها سنة (1082/1670م)، سالكاً فيها مسلك الثعالبي (ت 451/ 1066م) في «يتيمة الدهر»، والباخرزي أبو الحسن علي بن أبي الطيب (ت 467/1075م) في «دمية القصر».
قدم ابن معصوم في «السلافة» لمحة عن من ترجم لهم، فعرّف بهم من حيث النسب، وتاريخ الولادة والوفاة، ومكان الدفن، والمرتبة العلمية، والمكانة الاجتماعية، والمذهب الديني، والمؤلفات إن وجدت، وأورد بعضاً من الشعر. ويزخر الكتاب بالمحسنات البديعية التي أغرق بها كتابه انسجاماً مع ما كان سائداً في عصره من أساليب الكتابة النثرية.
القيمة التاريخية للكتاب
أما أهمية الكتاب بالنسبة للبحرين فتكمن في التالي:
1. يُعدّ كتاب سلافة العصر أقدم نص أدبي جمع النصوص الشعرية لكبار شعراء البحرين في القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، وكثير من غرر القصائد التي تضمنتها السلافة رواها ابن معصوم من مسموعاته، ما يعني أنها لم تكن مثبتة في مصدر مكتوب يحفظها عن الضياع ويصونها من النسيان.
2. إن هذه النصوص الشعرية التي تضمنتها السلافة تكشف عن الخصائص النفسية لأصحابها، وطبيعة العلاقات العلمية والاجتماعية والإنسانية التي كانت سائدة في ذلك العصر، وسيادة شعر الحنين إلى الوطن وازدهار شعر المدح والثناء وأدب الاعتذار.
3. تتيح لنا نصوص السلافة، صورة واضحة المعالم مليئة بالتفاصيل لطبيعة المشهد العلمي والأدبي الذي كان سائداً في البحرين، كما نقف على حقيقة اجتماعية كانت ظاهرة بوضوح، ولازمت التاريخ العلمي للبحرين ألا وهي ظاهرة الهجرة التي كانت تحدث بشكل واسع عند علماء البحرين ولدوافع مختلفة.
4. تحدد لنا السلافة خريطة جغرافية لمجتمعات الهجرة التي احتضنت البحرينيين في القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي حيث شهدت إيران والهند والعراق بالإضافة إلى الجزيرة العربية كثافة بنسبة معينة.
5. حدّدت نصوص السلافة بعض المدارس العلمية وأسماء بعض المساجد والمناطق والقرى البحرانية، وهذه التسميات لها قيمتها التاريخية البالغة بالنسبة للمهتمين والباحثين بالبحث التاريخي للبحرين.
لهذه الاعتبارات، وجدنا من المفيد استخلاص القسم المتعلق بعلماء وشعراء وأدباء البحرين من سلافة العصر ومحاسن أهل كل مصر، راجين أن تتمّ به المنفعة للمشتغلين بالأدب والتاريخ والمعنيين بالتراث العلمي للمنطقة عموماً وللبحرين بشكل خاص.
ولا يفوتنا هنا أن نشيد بالجهد المشكور الذي بذله الدكتور محمود خلف البادي في تحقيق كتاب السلافة(1) غير أن عمله التحقيقي شابته عيوب جمّة نظراً لعدم الاطلاع الكافي على تاريخ المنطقة والإحاطة بتراجم الرجال فيها، وافتقاره للخبرة الكافية بأسماء القرى والمناطق البحرانية، وهو ما أوقعه في أخطاء فادحة، ناهيك عن الأخطاء الطباعية التي ظهر بها العمل. وبالرغم من ذلك، فقد استفدنا من عمل الدكتور الباديّ وحاولنا تجنب العثرات التي وقع فيها، واستكمال النواقص التي اعترت عمله.
ولقد تمثل عملنا في الكتاب بـالتالي:
1. ضبط الآيات القرآنية برسم المصحف ووضع تخريجها في الهامش.
2. ضبط النص، وتلافي الأخطاء التي ظهرت بها النسخ القليلة المطبوعة من السلافة في رسم الكلمات مما يسبب تشويشاً للقارئ وارتباكاً في فهم النص.
3. مقابلة النصوص الواردة في الكتاب مع المصادر التي نقل منها المؤلف أو التي ذكرت في مصادر أخرى، مع وضع الاختلافات الواردة في بعض النسخ الخطية بين معقوفين [ ] مع الحرص على تجنب إغراق الحواشي في تفاصيل النسخ ومسمياتها.
4. تخريج الأحاديث من مصدرها الذي نقل عنه المؤلف.
5. شرح غريب الألفاظ في الهامش.
6. التعريف بالأعلام والأماكن الواردة في الكتاب.
7. إنشاء فهارس فنية في آخر الكتاب ليسهِّل على الباحث الرجوع إليها.
وقبل أن أختم هذه المقدمة لن أنسى إزجاء جزيل الشكر لكل من قدّم لي يد العون والمساعدة، ولا بدّ من التنويه هنا بالتشجيع الذي لقيته من لدن سماحة الشيخ محمد عيسى المكباس، كما أشكر الإخوة والأخوات العاملين في مركز أوال للدراسات والتوثيق وعلى رأسهم الصديق الدكتور علي أحمد الديري الذي كان لتشجيعه وإحاطتي بالرعاية والتوجيه أبلغ الأثر في خروج العمل بالصورة التي هي عليه.
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون