تفخر كلّ أمّةٍ، ويعتزّ كلّ قومٍ بتراث أجدادهم يحوطونه بعنايتهم، ويولونه اهتمامًا كبيرًا، محاولين ترسيخه في نفوس الأجيال الجديدة، وتعريف الآخرين به.
وتتفنن الأمم في طريقة الحفاظ على تراثها، فمرّة يقيمون المتاحف، ويضمّون بين جنباتها ما بقي من إبداعات أسلافهم، ومرة يقيمون المعارض، فيعرضون فيها الصناعات التقليدية، التي برع فيها أسلافهم، ومرة يقيمون الندوات؛ لتسليط الأضواء على ما يميز ذلك التراث، وقد يقيمون لعظمائهم من القادة والساسة والأدباء والمفكرين تماثيل ضخمة، يزينون بها الميادين والساحات العامة؛ اعترافًا بما قدّمه أولئك لأمّتهم.
والأمم حين تفخر بتراث الأجداد، إنّما تفعل ذلك عن وعي بأنّ هذا التراث ركيزة أساسية في وجودها؛ فحاضر الأمّة امتداد لتراثها، وهو المبين للمدى الحضاري الذي وصلت إليه، والحافز لها للمضي قدمًا، والبناء على ما أسسه الأولون.
والبحرين – كغيرها من الحواضر العربية والإسلامية – مرّت بحقبة ازدهارٍ علمي، امتدّت قرونًا عديدة، برز فيها مئات الأسماء من العلماء في شتى ميادين المعرفة، وقد أنتجوا مئات المصنفات في العلوم الدينية والدنيوية، فقد ألفوا في الفقه وأصوله، وفي التفسير، والحديث، واللغة، والفلسفة، والحساب، والفلك، والطب، وغيرها من العلوم المعروفة يومذاك.
وكان المؤمّل من المعنيين بالشأن الثقافي أن يقفوا عند ذلك التراث؛ ليقرأوه ويبينوا خصائصه، ويبرزوا ما انفرد به أولئك العلماء في المنهج أو غيره، غير أن هذا المؤمل لم يكن، بل وجدنا حالا معكوسة؛ إذ تنكّر المعنيون لتراثهم، ولم يبقَ من ذلك الإرث العظيم سوى بضعة أسماء، يتداولها خاصة الخاصة في مجالسهم، ولا تعرف الأجيال المعاصرة عنها شيئًا:
كأنْ لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامرُ
ولقد بُحَّ من المهتمين الصوت، وهم ينادون ويدعون في المحافل العلمية والثقافية إلى إنشاء لجنةٍ متخصصة، تأخذ على عاتقها صياغة تراث هذا البلد، وبخاصة العلمي منه، فتؤوب إلى جمعه من مظانّه، فقد تناثر في مكتبات العراق، وإيران، والهند، إضافة إلى بعض المكتبات الشخصية في البحرين، ثمّ تعكف تلك اللجنة على تصنيف ما جمعت، وتحقيقه تحقيقًا علميًّا، ونشره؛ ليكون بين أيدي الباحثين، ينظرون فيه، ويقيمون عليه بحوثهم، ولمّا يُسْمَع الصوت!!
ولعلّ معترضًا يعترض علينا، فيقول إنّ التراث لم يكن مهملا البتة، ويستدلّ على ذلك بإقامة المعارض، والمهرجانات التراثية وغيرها.
وأقول: إنّ هذا الاهتمام انصبّ على جانبٍ من جوانب التراث، هو الجانب الحرفي، المتمثل في الصناعات التراثية، كصناعة الفخّار والنسيج وغيرها، ولم يحظ التراث العلمي والأدبي لعلماء البحرين وأدبائها بعناية تُذكر، بل طوته يد النسيان.
ولو أننا أنعمنا النظر لأمكننا الوقوف على أبرز مظاهر تناسي التراث العلمي والأدبي البحراني، فكتب وزارة التربية والتعليم الدراسية، التي تعدّ النواة المركزية في التعريف بالبلاد: تاريخًا، وحضارة، وحركة علمية، تخلو تمامًا من ذكر علماء البحرين وأدبائها، والتعريف بهم، وبمنجزاتهم العلمية والأدبية، على الرغم من بروز منارات علمية شامخة في سماء هذه البلاد، كالشيخ ميثم البحراني، والسيد هاشم التوبلاني، والشيخ سليمان الماحوزي، والشيخ يوسف العصفور، ومئات غيرهم.
وقد انعكس هذا الأمر على الطلاب، فبرز جيل جاهلٌ برجالات البحرين، منبتّ الصلة عن ماضيه الثقافي، وقد سألتُ طلبتي في جامعة البحرين عن الشيخ ميثم البحراني، فأجمع أكثرهم على عدم معرفتهم به، وقال بعضهم إنها المرة الأولى التي يطرق فيها هذا الاسم سمعه!!!
ولم تكن وزارة التربية والتعليم وحيدة في ميدان تناسي التراث البحراني، فقد تابعتها جامعة البحرين، فلا هي أنشأت قسمًا لجمع ما تناثر من تراثنا أسوة ببقية الجامعات، ولا استحدث قسم اللغة العربية فيها مسارًا خاصًّا لدراسة الأدب البحراني والتعريف به، بل اكتفى بمقرر (الأدب في الجزيرة العربية) الذي جعله مقررًا اختياريًّا، ولا يأخذ الأدب البحراني فيه بنصيب!
وقد انعكس هذا التناسي سلبًا على برنامج الدراسات العليا في قسم اللغة العربية؛ إذ لم تتناول أية رسالة أدب البحرين، ولا الحركة العلمية فيها، على الرغم من ابتداء البرنامج سنة 1991م!!
وإنْ تعجب فاعجب من مكتبة الجامعة، التي تكاد تخلو ممّا طُبِعَ من نتاج علماء البحرين على قلة هذا المطبوع، وعلى الرغم من توافره في السوق المحلية!!
وتأسيسًا على الحال الموصوفة، لم يبقَ أمام المهتمين إلا القيام بمحاولاتٍ فردية، علّهم ينقذون بها شيئًا، ويخرجونه من دائرة النسيان التي أريد له أن يقبع فيها، فاشتغل بعضهم بما وجد من مخطوطات، وحققها ونشرها، لكنَّ ذلكم العمل – على أهميته – يبقى فرديًّا متناثرًا، والمراد أن يتحوّل إلى عملٍ علميٍّ يحدّه إطارٌ واضح؛ كي يتمكّن من تقديم صورة واضحة لما كانت عليه الحال العلمية في هذه البلاد.
وفي هذه السبيل يأتي هذا البحث؛ فهو يحاول رسم خريطة شاملة للحركة العلمية في البحرين، تلك الحركة التي امتدّت لأكثر من سبعة قرون، فقد حاول تجلية تاريخ المدارس في البحرين، والحالات التي مرت بها في قوتها وضعفها، وتابع البحث أوجه النشاط العلمي في تلك المدارس، كما كان من وُكْدِهِ متابعة إسهامات البحرانيين في العلوم والمعارف الشرعية واللغوية، وإبراز ما يتميّز به النتاج العلمي البحراني في المنهج، والمادة العلمية المطروحة.
وليس أضرّ على هذا البحث من النظر إليه عبر الثقوب السياسية الضيقة المقيتة، ومحاولة إخراجه من الدائرة الوطنية الكبرى، وربطه بفئةٍ أو طائفةٍ دون أخرى؛ فتنطلق الأسئلة الساذجة، التي تنمّ في أغلبها عن ضيق عطن السائل، وانغلاق صدره عن البخوع إلى الحقائق التاريخية، متناسيًا أنّ عملنا هنا إنّما هو عمل المؤرّخ، الذي يذعن إلى الأدلة التاريخية الدامغة، فما وجد منها صادقًا أخذه واعتمده، ولا يمكنه – ما دام صادقًا – أن يختلق وقائع لم تكن، أو يخفي أحداثًا، أو أسماءً كان لها وجودها التاريخي المؤثر.
من أجل ذلك، كان من أوضح اهتمامات الباحث البحثُ، والتنقيبُ في الكتب التاريخية، التي درست البحرين، ورجالاتها في المدة المحصورة في عنوان البحث، فوجد كمًّا هائلا، قديمًا وحديثًا، أمكنه الاطمئنان إليه؛ لتواتر أخباره، وشهادة الواقع عليها، في حين وجد كتاباتٍ حديثة، زعم أصحابها أنهم يؤرّخون بها، كان من وكدها إخفاء الحقائق التاريخية الثابتة، وطمسها بطرقٍ فجّة، في محاولةٍ بائسةٍ لتأسيس ذاكرةٍ حديثة، ليس لها أساس من تاريخ أو جغرافيا، ولا تصمد أمام النظر التاريخي العلمي؛ فكان اطّراحها، وعدم الاعتناء بها أليقَ وأقرب إلى المنهج العلمي.
ولستُ إخالُ هذا البحث يضيق بمن يرشده إلى مكامن القصور أو التقصير، أو يدلّه على حركةٍ علميةٍ لعلماء بحرانيين، كانت في أوال، فأغمض عينه عنها، لكنه يشترط في ذلك كلّه الحجة والدليل التاريخيين، مستمسكًا بقول الحقّ تعالى: ﴿قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ البقرة111.:
لم تكن الرحلة في هذا البحث يسيرة، بل كانت تسير مرة، وتتوقف مرات أخرى؛ ذلكم بأنّ البحث يعتمد أساسًا على مادّةٍ ما يزال أكثرها مخطوطًا، ولم يكن الحصول على نسخٍ من تلك المخطوطات ميسّرًا دائمًا، وكثيرًا ما رجع الباحث بخفي حنين، بعد أنْ أمضى أسابيعَ يرجو من أحدهم إطلاعه على ما يكتنزه من مخطوطات! ولولا أنْ منَّ الله عليَّ بمعرفة الأخ الكريم، سماحة الشيخ محمد عيسى المكباس لوهنت العزيمة، وما واصلت البحث، فلسماحة الشيخ مني الشكر كلّه؛ إذ لم يبخل عليّ بما عنده من كنوز بحرانية، بل زوّدني بنسخٍ مصورة من تلك الكنوز، أسأل الله أن ينفع به، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته.
والشكر موصولٌ إلى أخويّ العزيزين: الدكتور ناصر حميد المبارك، والدكتور علي عبدالنبي فرحان، اللذين تجشّما قراءة الكتاب في مسوّدته، فلم يبخلا عليّ بملاحظاتهما السديدة، وقد أفدت من ذلك كله في تقويم ما اعوجّ، وإصلاح ما بدا من خلل.
اقرأ أيضًا:
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون