من بين الأسماء الكثيرة المنخرطة في مجال حقوق الإنسان في العالم العربي ومنطقة الخليج، يبرز اسم الحقوقي عبد الهادي الخواجة على قائمة الحقوقيين في منطقة الخليج العربي ليس كمناضل حقوقي وحسب، بل يحضر وبشكل دائم كمطوّر لمنظومة حقوق الإنسان في دول الخليج العربي عموما، وفي البحرين على وجه الخصوص. فالمكانة التي شغلها الخواجة، تُبرز معها مشروعًا حقوقيًّا متقدّمًا ضمن مشاريع حقوق الإنسان في منطقة الخليج العربي، من جهة، ويتكامل هذا المشروع مع المرجعية الدولية والعالمية لحقوق الإنسان بشكل يقطع صلته بالمرجعيات المحلية لدرجة تُثير قلق خصومه في السلطة، من جهة أخرى. بجانب ذلك فقد انعكس هذا الوضع الجدلي بشكل لافت في عمله الحقوقي مع كبرى المنظمات الحقوقية مثل منظمة «الخطّ الأمامي للدفاع عن مدافعي حقوق الإنسان» إذ وحسب شهادة المنظمة نفسها أن عبد الهادي لم يكن سهلا، فقد كان يثير الأسئلة الصعبة حيال طريقة عملنا وتعاملنا مع بعض الأمور، كان في بعض الأوقات يرى أنه كان يمكن لنا أن نكون أكثر فعّالية مما كنا». وهذا ما جعل من عمل الخواجة الحقوقي متعددًا في صوره ومظاهره متحدًا في جوهره وهدفه.
مثل هذا التركيب المتداخل يجعل من نشاط عبد الهادي الخواجة الحقوقي والسياسي موضوعا مثيرًا للجدل، ويفتح عدة أبواب مؤصدة وغير مطروقة في شأن الحراك الحقوقي في بلد صغير مثل البحرين. إنّ ما يجعل من تجربة الخواجة تجربة مهمّة من تجارب الحرية، هو سعيه الجاد للانتقال بحركة حقوق الإنسان في منطقة الخليج، من مجال التوظيف السياسي والرؤية الفردية – التي هيمنت على حقوق الإنسان منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي – إلى مجال أكثر سعة وأشدّ نضجًا، هو مجال أنسنة حركة حقوق الإنسان والعمل على منحها كامل الاستقلالية. وهذا هو المجال الطبيعي لحركة حقوق الإنسان، أي أنسنتها وجعلها حديثًا يصدر من مفهوم الشعب حيث التنظيم والفعالية والقصد بدلاً من مفهوم الجمهور الذي يقدم على تكرار فعله بشكل عشوائي يصل للغوغائية في كثير من الأحيان.
انطلق الحراك الحقوقي الذي قاده عبد الهادي الخواجه منذ 2001، من منطق التأكيد على أنّ هناك أزمة الثقة بين الدولة كنظام سياسي وبين المجتمع، وما تعنيه تلك الأزمة من وجود أطر استبدادية وسلطوية تتحكم بالمجتمع والدولة معًا. ومن وجهة نظر الخواجة فإنّ مناهضة الاستبداد والحكم الأقلي أو ما يسميه «حكم العصابة» يستوجب تقديم حلول جذرية لأزمة انعدام الثقة بين الدولة والمجتمع، قبل المضي في أي خريطة طريق قد لا تخدم قضية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، إن لم تكن تعمل على تكريس الاضطهاد والحرمان والإفلات من العقاب كما حدث طوال عشر سنوات منذ الإعلان عن خارطة طريق ميثاق العمل الوطني.
في الجانب الأهمّ من مشروع الخواجة نجد التأكيد الصارم عند الخواجة على أنّ المدخل الأبرز للانتقال الديمقراطي هو تمكين حركة حقوق الإنسان في المجتمع وتقوية روابطها لا كرافد أو مساند للعمل السياسي، وإنما كشريك أساسي في عملية الانتقال الديمقراطي وترسيخ الديمقراطية. هذا المنظور أكّد عليه الخواجة كثيرًا وبالأخص عندما أثار قضية التصوّر الذهني المزيف للإمام الحسين في خطاب ليلة عاشر من المحرم «الغاية الأساسية لنشر ثقافة حقوق الإنسان هي الإصلاح الاجتماعي، ولذلك يتم تدريب العاملين في مجال نشر وتعزيز حقوق الإنسان على تأصيل مبادئ حقوق الإنسان من خلال ثقافة المجتمع المتصلة بعقائده وتاريخه وعاداته الاجتماعية، وتكون من مهام المصلح والمدافع تحفيز الأفراد والمجموعات على المبادرة والتحرك في الدفاع عن حقوقهم وحقوق الآخرين وذلك من خلال عرض قيم ونماذج مستقاة من تاريخهم وثقافتهم، ما دام ذلك لا يتعارض مع أصول مبادئ حقوق الإنسان القائمة على حفظ الكرامة وعدم التمييز والحرية»
وتعكس رسالته في نوفمبر 2005 لرفيق دربه نبيل رجب في قضية الاعتداء على الناشط موسى عبد علي خلاصة النهج الذي ثبته الخواجة في الدفاع عن النشطاء وقضاياهم فيقول في رسالة بعثها من القاهرة لنبيل رجب: «لأنني ليس بيدي وسيلة أخرى للتعبير عن الغضب والاحتجاج على ما تعرّض له الأخ الشجاع موسى من اعتداء دنيء وجبان، وعلى ما تقوم به السلطة من اعتداءات مستمرة ضد العاطلين ومسيراتهم السلمية، فإنني سأبدأ منذ صباح الغد إضرابا مفتوحا عن الطعام. وإننا جميعا نعلم بأن قضية موسى لن يتم التحقيق فيها بشكل حيادي؛ لأنّ المتورطين فيها هم في أعلى قمّة هرم السلطة، ولكننا سنقوم بكلّ ما نستطيعه للدفاع عن شرفنا وكرامتنا وحقوقنا. أرجو إبلاغ الأخوة بأنّ علينا جميعا التحلّي بالصبر والإصرار على مواصلة العمل الاحتجاجي السلمي المنظّم، مع عدم الانجرار لما تريده السلطة من عنف وفوضى، وهذا ما تمّ التعاهد عليه. وكذلك تركيز الضغط على السلطة لإصلاح الأوضاع المعيشية وكشف ومعاقبة المتورطين في الاعتداءات، وعدم الانشغال بأية خلافات جانبية. وتضامنا مع الأخ موسى فإنني أنوي الذهاب لزيارته في منزله سيرًا على الأقدام، وذلك في أقرب فرصة بعد وصولي إلى البحرين، وهذا أقل ما أستطيع عمله تعبيرًا عن التقدير والتضامن. الناشطون هنا في مصر قد روّعهم ما حدث للأخ موسى، وهناك حملة تضامن سيقومون بها في القريب العاجل، وهناك تحرك على المستوى الدولي أيضًا».
تعالج هذه الدراسة جزءًا من سيرة المناضل الحقوقي عبد الهادي الخواجة، ومشروعه في بناء الأطر الاجتماعية لثقافة حقوق الإنسان في البحرين، خلال عقد كامل من العمل الجاد والمتنوع. ولمّا كانت السير الذاتية خالية المعنى دون أن تكون ملهمة وصانعة للأحداث، فإنّه من الطبيعي أن تكون دراسة سيرة الخواجة معتمدة أساسًا على الأطروحات والمشاريع والمواقف التي قادها الخواجة خلال السنوات العشر التي قضاها منذ رجوعه البحرين سنة 2001.
من الناحية المنهجية اعتمدت الدراسة على دمج الخبرة الميدانية لتجربة عبد الهادي الخواجة الحقوقية مع مزيج من التحليل والتوثيق التاريخي، بهدف رصد معالم المشروع الحقوقي لدى الخواجة ومطابقته مع الفضاء العملي. أما الغرض من الالتجاء لهذه المنهجية فهو التأكيد على أهمية الربط بين النظرية أو الخطاب الكلامي وبين الممارسات والمواقف على أرض الواقع تعزيزًا لمبدأ المصداقية والنضال الحقوقي. ومن جهة ثانية هي التخلص من مأزق البعد الفردي في تقييم وتحليل نشاط نشطاء حقوق الإنسان والنظر إليهم من منظور تاريخي واجتماعي يتفاعل مع المجتمع المحيط بهم.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، فقد ركّزت الدراسة على فكرة الاحتجاج والاستعانة بها كمحور أساسي وكفعل حقوقي يشمل الكثير من الممارسات، ويتعلق بالعديد من المطالب. فالملاحظ في سيرة الخواجة الحقوقية أنه دائم التركيز على ضرورة تعميق فعل الاحتجاج وتطويره ونقله من المستويات السياسية المباشرة إلى المستوى الحقوقي كإطار عام يدعم من خلاله منظوره الخاص بحقوق الإنسان. وفي هذا الصدد يشكل مفهوم الاحتجاج ركنًا أساسيًا في عملية التحليل والرصد، باعتباره أهم وسيلة من وسائل الدفع بحقوق الإنسان وتطويرها في وسط مجتمع سياسي مغلق. فالاحتجاج هو ممارسة ضغط على السلطة السياسية، لكنه مرتبط بمدى الوعي السائد في المجتمع، تعامل الدولة معه في المراحل التاريخية السابقة تميز بالمنع والقمع من خلال الحرص على أن تقدم مجتمعًا يبدو بدون صراعات اجتماعية، فأي انتفاضة هي مظهر من مظاهر وجود الصراع.
يعالج كل من الفصلين الأول والثاني الجوانب المعرفية والمنهجية لدى عبد الهادي الخواجة. يقدم الفصل الأول المعالم الرئيسية للبيئة السياسية والاجتماعية التي حاول الخواجة أن يعمل فيها ويثبت من خلال مشاريعه الأطر الاجتماعية لثقافة حقوق الإنسان الشعبية، وذلك عبر استعراض العوامل المؤثرة في تشكيل رؤية الخواجة الحقوقية سواء العوامل المباشرة أو غير المباشرة. كما يقدّم الفصل الأول سردًا مختصرًا لسيرة حقوق الإنسان والتحديات التي واجهتها الحركة الحقوقية والنظر إليها كمحفزات لمشروع الخواجة الحقوقي.
في حين يعالج الفصل الثاني الأطر العامة للفكر الحقوقي عند الخواجة وآليات ترجمته عمليًا من خلال أطر اجتماعية ومؤسسات حقوقية عمل الخواجة على تأسيسها أو دعمها. ويقدّم هذا الفصل رؤية عامة حول الأسس المرجعية الحقوقية التي انطلق منها عبد الهادي الخواجة في نشاطه الحقوقي، من خلال انحيازه لوجهات النظر المتعارضة داخل الحقل الحقوقي مثل العالمية (الطبيعي، الكونية) مقابل الخصوصية (الثقافي، النسبي) أو من خلال التجاذب بين أصالة الحقوق أو وضعيتها. فمثل هذه الثنائيات تعتبر بمثابة المعايير التي تؤسس للنشاط الحقوقي رغم خضوع أغلب وجهات النظر تلك لما يعرف بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وسائر المعاهدات الحقوقية التي ناهز عددها المائة معاهدة وميثاق حقوقي. ويحلل هذا الفصل منهجية الخواجة في تثبيت رؤيته العالمية لحقوق الإنسان عبر أربع آليات رئيسية اشتغل عليها لأكثر من عشر سنوات.
أما الفصل الثالث فهو عبارة عن دراسة تطبيقية للمفاهيم النظرية التي حملها الخواجة. وسنرى خلال هذا الفصل والذي يليه مدى حضور فكرة ومفهوم الاحتجاج كأساس نظري وعملي في مشروع الخواجة الحقوقي. لذا سيعالج هذا الفصل الممارسة الحقوقية للاحتجاج من خلال رصد مواقف الخواجة في المفاصل الحقوقية الكبرى واستعراض نماذج من النضال الحقوقي في هذا الشأن. أما الفصل الرابع فهو استكمال لتطبيق المباني النظرية ولكن في بعدها المؤسساتي حيث يسلط الفصل الرابع الضوء على تجربة إنشاء مركز البحرين لحقوق الإنسان باعتباره المؤسسة الأكثر نضجًا والأكثر حضورًا في مجال حقوق الإنسان في البحرين. وفي الفصل الخامس حاولت الدراسة تسليط الضوء على أبرز وأهمّ الملفات الحقوقية التي أثارها عبد الهادي الخواجة في السنوات العشر، وهي ملفات اعتبرت ولا تزال من أهمّ وأخطر الملفات الحقوقية والتي من بينها ملف الامتيازات وملف الفقر وملف التعذيب والقضاء.
في الفصل السادس استعرض منهجية الخواجة في ما يعرف بصناعة النشطاء والاستراتيجيات التي اتبعها في هذا الشأن. أما الفصل السابع فقد تم تخصيصه لتتبع أثر الخواجة في صناعة الرأي العام أو المجال العمومي وسعيه لأن تكون المناقشات الحقوقية علنية وجماهيرية.
ختامًا لا تدّعي هذه الدراسة إحاطتها بأغلب التفاصيل الخاصة بمشروع الخواجة الحقوقي، لكنها تحاول فتح نافذة ولو صغيرة لإظهار ذاك المشروع للنظر في آلياته ونتائجه.
اقرأ أيضًا:
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون