البحرين: أول دولة في مرحلة ما بعد النّفط
تُذكَر مملكة البحرين في الخليج على نحو شائع كأول دولة في مرحلة اقتصاد «ما بعد النّفط» في العالم العربي، سواء من حيث كونها مكان الاكتشاف الأول لكميات تجارية من النّفط في المنطقة، وأيضًا الأولى من حيث نفاده فعليًا. ويشكل المعنى الأوّل حاليًا، معلومة قليلة الأهمية بشكل كبير، فلقد طغت كميات احتياطيات النّفط والغاز الهائلة، المُكتَشفة لاحقًا في المناطق القريبة كالمملكة العربية السّعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة، ومؤخرًا قطر، على الاكتشاف الذي أجرته شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (واسمها حاليًا شيفرون)، في العام 1932. مع ذلك، هناك شيء كامن في هذه التّسمية، يتخطى كونها حقيقة تاريخية: فكرة أن البحرين، كأول المكتشفين، كانت أيضًا الممثل الأول لنوع معيّن من الأمم، سيحظى أفرادها، في العقود التّالية، بأهمية عالمية لم يسبق تصورها. هذا النّوع السّياسي الجديد، وهو بالطّبع الدّولة النّفطية أو الرّيعية، أُبقِي قيد العمل ليس من خلال قوة عاملة منتجة وإدارة اقتصادية سليمة، ولكن بفضل إلهي (أو، على نحو أقل إيحاء، بالتّوزيع الجيولوجي العشوائي للنّباتات والحيوانات الميتة). كان النّفط التّجاري موجودًا منذ حوالي سبعين سنة سبقت اكتشافه في جبل الدّخان في البحرين، لكن بناء نظام سياسي كامل انطلاقًا منه كان تجربة لم يسبق لها مثيل.
لذلك، يدل الجزء الثّاني من تسمية البحرين بالاقتصاد الأول «في مرحلة ما بعد النّفط»، على شيئين بشكل متساو: بيان بالحقائق، ودرس ذي عبرة، في مجالي التّنظيم والاستدامة الاجتماعيين. بلغت ذروة الإنتاج في حقل «عوالي» للنّفط في العام 1970 إلى 76,640 برميلًا يوميًا، وعند تأميمه في العام 1980 كان قد شهد بالفعل انخفاضًا حادًا. وبغض النظر عن التوازن المؤقّت بسبب الأسعار المرتفعة للنّفط في السّبعينيات وأوائل الثّمانينيات، كان واضحًا أن المركز الأول للنّفط في البحرين سيرقى قريبًا إلى اسمه العربي: «جبل الدّخان». حين هزت الحرب الأهلية لبنان في العام 1975، اغتنمت البحرين الفرصة للتّنويع بعيدًا عن الاعتماد على مواردها، وسرعان ما حلت المنامة مكان بيروت كـمركز مالي في الشّرق الأوسط. وبحلول العام 2003، كان إنتاج النّفط منخفضًا بنسبة 51 بالمئة ليصل إلى مجرد 37,550 برميل يوميًا، في حين زادت نسبة الهجرة والتّجنيس، للحفاظ على المجالين النّفطي والمصرفي، عدد سكان الجزيرة ثلاثة أضعاف خلال الفترة ذاتها، ليصبح أكثر من 650,000 مقيم في العام 2001 بعد أن كان يقارب 215,000 مقيم في العام 1971. وسيتضاعف العدد مجددًا في أقل من عشر سنوات، مع ميل التّوازن الديموغرافي في البحرين لناحية غير المواطنين. سيجد تعداد السّكان في العام 2010 أن عدد المواطنين البحرينيين قد تناقص، إذ يشكل فقط 46 بالمئة من السكّان، مقارنة بـ 83 بالمئة منذ أربعة عقود مضت.
لا عجب، عندئذ، أنّ البحرين، بإيراداتها النّفطية الضّئيلة وسكانها الذين يزداد عددهم، والذين أصبح أغلبهم يتوقع الحصول على مزايا الرّعاية الاجتماعية السّخية النّاتجة عن اقتصاد قائم على الموارد – لا عجب أن هذه الدّولة الرّيعية المتردية ستواجه اضطرابًا اجتماعيًا وسياسيًا بخلاف الدول الخليجية العربية المجاورة، الأغنى. النّظام بالكامل قد نفد من الوقود، بكل معنى الكلمة. هذا هو التّحليل المنطقي، على الأقل، الذي يقف خلف تميز البحرين بأنّها أوّل دولة ما بعد ريعية، التي هي تسمية سياسية بقدر ما هي اقتصادية. واستخدامها ليس مقتصرًا على الأوساط الأكاديمية. عند اندلاع احتجاجات الرّبيع العربي في البحرين، وإلى حد ما في عمان في فبراير/شباط 2011، تعهدت الدّول الأخرى في مجلس التّعاون الخليجي بتقديم مساعدة تبلغ قيمتها 10 مليار دولار إلى كل منهما في جزء مما يُدعى بـ «خطة مارشال مجلس التّعاون الخليجي». لم يكن من قبيل المصادفة أن الاضطرابات أصابت أصغر دولتين منتجتين للنّفط في مجلس التعاون الخليجي، واللتين أدت عوائقهما المالية إلى تنامي الغضب الشّعبي. ظاهريًا، ما كان يحتاج إليه هو حقنة مالية، لتقوية الدّعائم الاقتصادية التي تمثّل أسس النّشاط السّياسي بشكل رئيس، للمواطنين الخليجيين، وبالتّالي تقوية أسس استقرار الممالك الخليجية، التي هي أسس اقتصادية بشكل رئيس أيضا.
مع ذلك، هذه التسمية الملتبسة للبحرين، هي تسمية مغلوطة نوعًا ما. فعلى الرّغم من كون انخفاض الإنتاج المحلي للنّفط بشكل حاد منذ العام 1970 أمرًا صحيحًا، كانت إيرادات الحقل البري، منذ معاهدة العام 1958 مع المملكة العربية السّعودية، قد شكّلت فقط نسبة صغيرة من إجمالي عائدات النّفط. في الاتفاق الحدودي بين المملكة العربية السّعودية والبحرين، تنازلت البحرين عن مطالبتها من حقل أبو سعفة النفطي الأكبر بكثير، الموجود على الحدود البحرية لكلا البلدين، مقابل نصف صافي العوائد. وعلى مدى عقد تقريبًا بدأ في العام 1996، عندما كسرت أسعار النّفط أدنى مستوياتها التاريخية، منحت المملكة العربية السّعودية للبحرين كامل إنتاج الحقل. بحلول العام 2003، حصّة البحرين من إنتاج حقل أبو سعفة– التي بلغت حوالي 150,000 برميل يوميًا- شكّلت أكثر من 80 بالمئة من إجمالي إنتاجها. الاستثمارات المستمرة لإعادة تنشيط حقل عوالي قلّصت هذه النّسبة إلى 70 بالمائة اعتبار من العام 2013، مع وعود بالمزيد من الخفض. ومع ذلك، في غياب تغيير جذري في حصّة السّعودية، أو في اعتماد البحرين الساحق على الصّادرات النّفطية، سيوفر نفط حقل أبو سعفة ما بين نصف وثلثي الإيرادات الإجمالية للحكومة في المستقبل المنظور.
يمكن للمرء التّساؤل، إذن، ما إذا كان الإنتاج المحدود للبحرين نسبيا بالمقارنة مع البلدان الأخرى المنتجة للنّفط، يمنعها من أن تكون اقتصادًا ريعيًا متطورًا على نحو كامل. لكن وضعها كدولة ما بعد ريعية، لا يمكن أن ينبع من أن المادة السّوداء تنفد منها، لأن حقل أبو سعفة جعل إنتاجها الإجمالي مستقرًا تمامًا. وعلاوة على ذلك، عندما يطلع المرء على سياق مورد الرّبح الذي تتلقاه البحرين، فإنه ليس من الواضح لماذا يتوجب أن تكون البلاد في وضع مالي وسياسي أسوأ، من بعض جيرانها. بالطّبع، أمام الـ 351 مليار دولار التي كسبتها السّعودية من النّفط في العام 2013، يبدو مكسب البحرين البالغ 16.5 مليار دولار تافهًا. لكن يجب أن تدعم حصة السّعودية مواطنيها الذين يفوق عددهم 21 مليون نسمة، مقارنة بعدد المواطنين البحرينيين الذي يبلغ بالكاد نصف مليون نسمة. وبينما تعتبر إيرادات السّعودية من مواردها، ضخمة في أرقامها الصافية، فهي تبلغ فقط ما يقارب 16,400 دولار للمواطن الواحد، وتتجاوز سلطنة عمان تلك النّسبة بعض الشّيء لتبلغ حوالي 18,300 دولار، وتصل نسبة المواطن في البحرين إلى 29,000 دولار. في المقابل، تصل النّسبة في الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر إلى 73,000 دولار، 131,500 دولار، ومبلغ هائل قيمته 428,000 دولار، للفرد، على التّوالي. لذلك، في حال كانت الصّعوبات السّياسية في البحرين ناجمة عن دولة غير قادرة ماليًا على تلبية التّوقعات المادية لمواطنيها، فإن وضع المملكة العربية السّعودية يدعو للشّفقة وينبغي عليها على الأرجح إعادة النّظر في دورها كجهة مانحة لخطة مارشال مجلس التّعاون الخليجي.
من المؤكّد أنّ البحرين، بقدر ما تخالف وصفها كدولة ريعية، فإن ذلك ليس على أساس افتقارها للموارد، بل لعدم قدرتها منذ فترة طويلة على تحويل هذه الموارد إلى أنواع النّتائج الاجتماعية والسّياسية المرتبطة بهذا الصنف من الدول. وكما لم يدم فيها طويلًا أفق الثّروة النّفطية اللامحدودة، كذلك لم يدم أفق الانسجام الاجتماعي المتولد عن مدّ اقتصادي متنامي. كانت فرص التّوظيف الجديدة في القطاع الحكومي بعيدة كل البعد عن المهن التّقليدية كصيد السّمك وزراعة أشجار النّخيل والغوص بحثًا عن اللّؤلؤ، مع ذلك لم يكن البحرينيون راضين على هذا الأساس بالبقاء أفرادًا منقادين، يرضعون باقتناع من ثدي الدّولة. إنها ملاحظة محلية شائعة أن البحرين تستطيع الاستمرار فقط عشر سنوات من دون انتفاضة شعبية، والقرن القريب، الذي انقضى منذ اكتشاف النّفط قدّم أمثلة قليلة تنقض ذلك. حُطّمت القوة القبلية المطلقة في أوائل العشرينيات على يد الإصلاحات الإدارية المفروضة من قبل البريطانيين، ومنذ ذلك الوقت، استمد الاحتجاج والمعارضة المنظمة الوقود من القومية العربية، والاشتراكية المتطرفة، والأصولية الإسلامية، والدّستورية اللّيبرالية، والتّنافس الطّائفي، والحركات العمالية المتجذرة في قطاع النّفط المملوك للدولة، ذاته الذي يُفتَرَض به إخماد المشاركة السّياسية الشّعبية. وكما يقول قوبين في وقت مبكر من العام 1955، فهناك «توترات كامنة يمكن استغلالها في حال توفرت الظّروف المناسبة».
«على سبيل المثال، اندلعت أعمال شغب بين السّنة والشيعة خلال [الاحتفال الدّيني الشّيعي] في محرم في سبتمبر/أيلول 1953. وقد استلزم ذلك استخدام قوات الشّرطة كلّها وفرض حظر تجول لإعادة السّلم إلى البلاد. في يوليو/تموز من العام التّالي، حين أدين بعض الشيعة على خلفية تورطهم في شجار مع السّنة، نظمت الطّائفة الشّيعية كلها تظاهرة وشنت هجومًا على مركز للشّرطة، قُتِل فيه أربعة من الشيعة، وفي النّهاية، نظّم العمال الشيعة كلهم إضرابًا. بعد ستة أشهر، في ديسمبر/كانون الأول 1954، حصل إضراب عام آخر دعمًا لمطالب مُقَدّمة إلى الحكومة بشأن إصلاحات معينة كان الحاكم قد وعد بها مُسبَقًا».
وبمنحها أسسًا أيديولوجية ومادية جديدة للنقاش والتّنسيق، يمكن القول عندها إن الثّورة النّفطية ساهمت في صعود النّشاط العام في البحرين. لم يكن لها، على أي حال، تأثير معاكس.
انتفاضة الرابع عشر من فبراير/شباط
في فبراير/شباط 2011، وبتشجيع من الانتفاضات الجماهيرية المتتالية في تونس ومصر، نزل مئات الآلاف من البحرينيين إلى الشّوارع للمطالبة بخلع أسرة آل خليفة الحاكمة. كان التّاريخ الذي تم اختياره لبدء الاحتجاجات، 14 فبراير/شباط، يصادف الذكرى التّاسعة لدستور العام 2002 في البحرين، وهو ميثاق مُعَدّل أعلن عنه الملك حمد بن عيسى، المُتَوّج حديثًا وقتها. وأصبحت الوثيقة تشير، بالنّسبة لمعارضي النّظام، وخصوصًا الأغلبية الشّيعية المسلمة المحرومة من حقوقها منذ أمد طويل، إلى الوعد الزّائف بالإصلاح السّياسي في البحرين. وبعد مرور شهر تحديدًا على بداية التّظاهرات، التي شهدت وفيات عنيفة لكل من المحتجين وقوات مكافحة الشّغب، وأدت إلى تعبئة مضادة من قبل السّنة الموالين للحكومة، سُحِق التّحرك أخيرًا مع تدخل بضعة آلاف من القوات البرية التي أرسلتها الدّول الخليجية المجاورة الحريصة على احتواء الأزمة المتصاعدة.
لا يروي هذا الكتاب قصة هذه الانتفاضة –ليس، بالمعنى المباشر على الأقل. لقد كان قيد الإعداد قبل زمن طويل من احتلال المحتجين لدوّار اللّؤلؤة، الذي هُدِم الآن، وأُعيدت تسميته ليصبح «ساحة الشّهداء». بالطّبع، في وصفه الظّروف التي أدت إلى فشل الثّورة في البحرين، يقدم الكتاب إطارًا يمكن من خلاله رؤية هذه الحلقة الأخيرة في تاريخ سياسي مضطرب. مع ذلك، يكمن هدفه الحقيقي في مكان آخر، والشباك التي يريد أن يلقيها أوسع بكثير. وعلى الرّغم من أن تركيزه الأولي على البحرين، يسعى التّحقيق هنا إلى دراسة فئة أكبر من الحالات التي لا يشكل فيها هذا الأرخبيل الصّغير في المياه الضّحلة في السّعودية إلا أفضل مثال معاصر. هذه الفئة التي يمكن أن نسميها الدّولة الرّيعية الفاشلة: دولة ثرية ذات مستويات تاريخية من حيث إيرادات الموارد، وعلى الرّغم من ذلك غير قادرة على شراء الإذعان السّياسي لمواطنيها- أو، لنوع معين من المواطنين. تمثّل مسألة كون حكومة مماثلة غير قادرة على فعل ذلك مشكلة ليس فقط لنفسها، بل للعلوم السّياسية، التي يدور تفسيرها الدّائم للممالك العربية الخليجية على وجه التّحديد حول هذه القدرة المفترضة على استرضاء من يمكن أن يكونوا معارضين من خلال تقديم المنافع المادية. في حال توفرّها، فإن ظروفًا يمكن تحديدها لا تستطيع أن تنجح معها هذه الصيغة لشراء الذّمم السّياسية، عندها يجب أن نراجع ليس فقط توقعاتنا بشان الاستقرار السّياسي المتأصّل لأنظمة دول الخليج العربية، ولكن أيضًا فهمنا بشكل أكثر عمومية لطبيعة الحياة السّياسية في المجتمعات القائمة على الرّيع.
هذا العمل يقدّم بالتفصيل عاملا هاما واحدا يؤثّر في كفاءة الفرضية التي تقول بأن العرب الخليجيين الراضين اقتصاديًا يصنعون عربا خليجيين راضين سياسيًا: وجود انقسام اجتماعي بين صفوف الجماعات المنسوبة*، سواء كان عرقيًا أو إقليميًا أو قبليًا أو طائفيًا كما في حالة البحرين. مستفيدًا من رؤى الزّعماء السّياسيين البحرينيين ونتائج استفتاء مبتكر وتمثيلي على مستوى البلاد، للمواقف السّياسية الشّاملة، يستعرض العمل كيف تُقدم الهويات المنسوبة قاعدة صالحة للتّنسيق الجماعي في دولة من النوع الذي يُعتَقَد أنّه يفتقر إليه بطبيعته. يُظهر التّحليل الاختباري أن الآراء السّياسية وسلوك البحرينيين العاديين لا تُحدد أولًا استنادًا إلى الاعتبارات المادية، بل إلى الموقف المُحدد مذهبيًا للفرد كعضو في المجموعة السياسية الداخلية أو الخارجية. وأكثر من ذلك، يكشف كيف أن الأرباح المادية التي تجمعها الدّول الرّيعية لا تُوَزّع بطريقة محايدة سياسيًا، بل تهدف بشكل رئيسي إلى مكافأة الموالين بدلًا من قلب المعارضين. بالتّالي، في البحرين والّدول الخليجية الأخرى التي تكون فيها الفئات المنسوبة بارزة سياسيًا، ليست الدّولة الرّيعية مستعدة لتقديم الصفقة المادية المفترضة: الثّروة مقابل الصّمت، لكل المواطنين، وليس كل المواطنين مستعدين لقبولها.
يرافق درس أكبر هذا النّقد: ومفاده أن طبيعة وقوة الصّلة، على المستوى الشّخصي، بين الرّضا الاقتصادي والهدوء السّياسي في الاقتصادات القائمة على الرّيع، ستعتمد بالضّرورة على استراتيجية الحكم المعتمدة من قبل النّظام محل التساؤل. وفي حال كانت العلاقة بين المواطن والدّولة مستندة كليًا على الرعاية الاقتصادية، وكانت هذه الرعاية تشمل كل المواطنين في كل المجالات، عندها، قد تكون النّتيجة السّياسية شيئًا قريبًا للدّولة الرّيعية التّقليدية، التي لا تستدعي القلق إلا من الحفاظ على حد أدنى من الرّضا المادي بين الرّعايا. أما في حال كان التّوزيع الاقتصادي ليس سوى جزء من استراتيجية أوسع للدّولة في تحصيل الشرعية السّياسية، أو أنّه يقتصر إلى حد كبير على تركيبة محددة من السّكان، عندها يجب أن تكون هناك مجموعة مختلفة من التّوقعات النّظرية. باختصار، لا بد أن تحيل استراتيجيات الحكم المختلفة التي نشهدها اليوم بين الممالك الخليجية إلى توقعات متباينة على قدم المساواة، حول المدى الذي تبقى فيه الآليات الرّيعية صالحة، وبين من على وجه التّحديد.
اختبار ما لم يُختَبَر
هناك حقيقة غريبة بشأن الافتراض الذي يقول إن الرضا الاقتصادي يولّد انعدام الاكتراث السّياسي في الدّول المعتمدة على الموارد – في ما يتعلق بـ «نظرية الدّولة الرّيعية» هذه-، وهي أن هذا الإطار المفاهيمي الذي اقتُرِح للمرة الأولى منذ حوالي ثلاثة عقود، وأصبح شائعًا منذ ذلك الحين، لم يخضع لاختبار تجريبي حتى الآن. بالطّبع، استدعت بعض نتائجه الطبيعية بحوثا كمية، أبرزها الأثر المترتب عنه، في أنه يفترض أن يميل، على مستوى البلاد، مدى الاعتماد على مورد الأمة، لأن يكون مرتبطًا عكسيًا بمستوى الدّيمقراطية فيها، لأن المزيد من الدّخل في تصرف النّظام يعني رضا عدد أكبر من المواطنين بالتنازل طوعيًا عن حقوقهم السّياسية مقابل مردود مادي. وذهبت دراسات أخرى إلى أبعد من ذلك، لتربط الدّيمقراطية بالمؤشّرات غير المباشرة للاقتصاد الكلّي في النّظام الرّيعي، كنسبة الضّرائب والتوظيف في القطاع الحكومي.
مع ذلك، وعلى الرغم من كل جهودها، لا تستطيع هذه التّحليلات أن تقربنا إلى إثبات الرابط بين الرضا المادي واللامبالاة السّياسية على المستوى الفردي -الرّابط النّظري الذي يحافظ على تماسك الإطار الرّيعي- بدقّة، لأن مثل هذه التحليلات لا تطبّق على المستوى الفردي. أنظمة دول الخليج العربية هذه، الاستبدادية والمعتمدة على الموارد في الوقت ذاته، لا تفعل شيئًا لتبيّن، في العام 2015، في الإمارات العربية المتحدة أو في الكويت، بأن المواطنين الأفراد الرّاضين عن وضعهم الاقتصادي، يميلون أيضًا إلى الرّضا عن الوضع السّياسي في بلدهم -أو أنّهم على الأقل غير مهتمين بتغييره. وعلى نحو مماثل، كون المملكة العربية السّعودية وقطر تحافظان على معدلات توظيف حكومي عالية ولا تفرضان ضرائب على الدّخل، لا يمكن أن يربط مباشرة بين النتائج الاقتصادية لهذه السياسات على المستوى الفردي، وبين التّوجهات السّياسية للمواطنين. باختصار، تم اقتصار التّقييم التّجريبي الموجود للفرضيات الريّعية بشكل كبير على اختبارات أجريت على الملحوظات التي أدت بالذات إلى ظهور النّظرية في المقام الأول، في حين يبقى منطقها السّببي المُقترح غير مُختَبَر.
فرضية الدّولة الرّيعية في صميمها هي قصة عن المكائد السّياسية للحكومات الجشعة بدرجة أقل من أن تكون عن الطبعية الإنسانية وتأثيرها على السلوك السياسي للفرد في ظل ظروف معيّنة. في الواقع، أكثر زعم مستفز للنّظرية الرّيعية هو بالتّحديد أنّها تدّعي فهم الدّوافع السّياسية جدًا للمواطنين: لماذا يصبح النّاس مشاركين في السياسة، أو بدلًا من ذلك مبتعدين عنها، ما الذي يدفع أحدهم لدعم حكومة غير مسؤولة على نطاق واسع أو قبولها بصمت أو رفضها بفعالية. الاقتصاد هو الملك، تقول النظرية، وبإغفالها عوامل المنافسة، فهي تقول بأنها يجب أن لا تكون لها أهمّية. من هنا يتضح أن أي تقييم ملائم لإطار عمل الدّولة الرّيعية يجب أن يتحقق مما تكابر النظرية في الادّعاء بأنّها تعرفه فعلًا، وهو: محددات الآراء والسّلوك السّياسي، على مستوى الفرد، في المجتمعات عالية المحسوبية، والمعتمدة على النّظام الرّيعي. وبما أن منطقة الخليج هي التي شكّلت نموذجا أوّليًا للصيغة الرّيعية، ربما كان الملائم فقط أن يجرى الاختبار الحقيقي الأول لها هنا.
إلا أن الكلام عن شيء من هذا هو أسهل من فعله. المؤشرات الكلّية التي تقيس صادرات الموارد، والانفتاح السّياسي، ومعدلات فرض الضّرائب، والتّوظيف في القطاع الحكومي، متوفرة بسهولة في أغلب البلدان في العالم؛ البيانات الموثوقة بشان الآراء السّياسية وسلوك العرب الخليجيين العاديين ليست كذلك قطعًا. بالإضافة إلى محيط سياسي عدائي تقليديًا تجاه استطلاع الرأي العام، وعدائي على وجه الخصوص تجاه الاستطلاع الذي قد يظهر الآراء السّياسية الشّعبية والدّيموغرافيات المجتمعية، تنبع ندرة البيانات المسحية في الخليج أيضًا من المزيد من الأسباب العملية. أطر المعاينة هي إما غير متوفّرة كلّيًا، أو تُعامل على أنّها سرية من قبل السّلطات الإحصائية في الدّولة. في أي قضية، تتمتع قلة من المؤسسات المحلية بالقدرة والحرية في إجراء جمع علمي للبيانات. في الوقت ذاته، فالسّكان المستهدفون في أفضل الأحوال غير مهتمين بذلك، وفي الغالب هم حذرون أو مرتابون من البحوث المسحية. وكنتيجة لذلك، لم تنجح حتى المبادرتان الرائدتان لجمع البيانات الوطنية عن المواقف السّياسية الجماهيرية حول العالم وفي العالم العربي -وهما على التّوالي، استقصاء القيم العالمية الذي بدأ في العام 1990، ومقياس الدّيمقراطية العربي، الذي أُنشِئ في العام 2005-على الرّغم من جهودهما ومواردهما المُعتَبَرة في إجراء مسح في الدّول الخليجية العربية إلا أربع مرات حتى الوقت الذي بدأت فيه بالكتابة. ولم تتمكن أي من هذه الدّراسات من الإجابة على الأسئلة الحاسمة ولكن الحساسة للغاية بشأن الآراء السّياسية المعيارية والنّشاطات السّياسية.
مع ذلك، حتى لو كان أحدهم قد حصل على مثل هذه البيانات على مستوى الفرد، ما الذي قد يتوقع إيجاده تحديدًا؟ لماذا يتوجب على الفرد التّشكيك بقدرات الممالك الخليجية على شراء الاستقرار السّياسي من خلال توزيع إتاوات الموارد على المواطنين؟ باستثناء البحرين، يبدو أن دول الخليج العربية كفئة متميزة من الأمم، نجحت في تجنب السّخط الجماهيري من النوع الذي هز الأنظمة عبر الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا أو لا يزال يهدّدها. وليس على سبيل المصادفة، قام جميع الحكام الخليجيين بإغراء جيوب المواطنين من خلال حزم رعاية اجتماعية سخية أُعلِن عنها بعد وقت قريب من وصول الرّبيع العربي إلى المنطقة. لذلك، مجددًا، ما الذي يعطي المرء دافعًا واحدًا للاعتقاد بأن تفسيرات الدّولة الرّيعية لا تمسك، على نحو أكثر أو أقل دقة، بفهم سياسات دول الخليج العربية؟
أقول إن الجواب يتمحور حول تفسير المرء للبحرين. إذا كان المرء يرى مخالفة البلاد للافتراضات الرّيعية الأساسية – أي عدم اهتمام المواطنين بالسّياسة أو عدم وجود معارضة سياسية مُنَظّمة وعدم استقرار النّظام في نهاية المطاف- ويعتقد أن مثل هذه التناقضات ناتجة عن السّياسات الدّاخلية البحرينية الفريدة بين الدّول الخليجية، عندها، بالطّبع، تكون دروسها للمنطقة وللعلوم السّياسية محدودة. إما أن حكام البحرين غير بارعين على نحو واضح في الاستمالة السّياسية، أو إمّا أنهم وحدهم يفتقرون إلى الموارد لإنجاز ذلك، أو أن البحرينيين متمردون على نحو فريد بين الشّعوب الخليجية. ولكن، من ناحية أخرى، في حال كانت الظروف الكامنة وراء الخلل في البحرين تنطبق بدرجات في مجتمعات أخرى في المنطقة؛ في حال كانت أزماتها السّياسية الدّائمة لا تُمثل استثناء نظريًا بل تمثّل بكل بساطة واقعية احتمال كامن موجود في أنظمة عربية خليجية أخرى وفقًا لقابلياتهم الخاصة ليكونوا عرضة لمثل هذه الظروف، عندها تصبح الفائدة العلمية لمثال البحرين أكثر بكثير. بقدر ما توجد ظروف قابلة للتّحديد يكون من خلالها التّفسير القياسي الرّيعي للسّياسة في الخليجي غير صالح، وهي ظروف تصف البحرين على نحو خاص ولكن غير فريد، عندها، من خلال دراسة الحالة، يمكن للمرء ليس فقط التّوصل إلى مراجعة نظرية ضرورية، ولكن أيضًا إلى فهم عملي أفضل للعلاقة بين النّظام والمواطن – وكذلك العلاقة بين المواطن والمواطن كونها ستصبح مهمّة أيضًا- في منطقة دول الخليج العربية وما أبعد منها.
إعادة النّظر في صفقات الرّيع
يظهر السّجل المعاصر للسياسة في الخليج أن البحرين ليست الوحيدة التي تشهد على ما يبدو انهيارًا لاتفاق الثّروة مقابل الإذعان المُفتَرَض تطبيقه في المجتمعات الرّيعية. في الواقع، لا يحتاج المرء حتى إلى الرجوع إلى الإخفاقات العملية لنموذج الدّولة الرّيعية لكي يفهم لماذا لم تكن مثل هذه الصفقة مفتوحة الأمد، بين الحكام والرّعايا، موجودة على الإطلاق. في المقام الأول، وكما يمكن لنشطاء المعارضة في أرجاء المنطقة اليوم أن يشهدوا، لن يتم إقناع كل المواطنين بالتّنازل عن حقوقهم السّياسية مقابل الوعد بالثّروة المادية -أو بتوعّدهم بالعنف الجسدي، من أجل هذا المطلب. بالتأكيد، يمكن للمرء أن يتصور مصادر لا تُعَد ولا تُحصى للدّافع السّياسي بعيدًا عن المخاوف الاقتصادية: الإحساس بالتّمييز وعدم المساواة على مستوى الجماعات، الرغبة في حكم تمثيلي وديمقراطي كطبعية فطرية، أو الارتباط بالأيديولوجيات الثّورية كالقومية العربية أو الاشتراكية أو، على نحو أكثر شيوعًا اليوم، التّشيع والسّلفية والتّيارات الإسلامية العامة العابرة للأوطان كالإخوان المسلمين.
وعلاوة ذلك، وعلى نحو أساسي أكثر، حتى لو استطاعت دولة شراء دعم مواطنيها بالإجماع، فهي لا تحتاج حتى إلى محاولة فعل ذلك، لأنها تحتاج فقط إلى أقل تحالف من الموالين مع تّفوق مادي (عسكري) كافٍ لحمايتها من متحدّين مُحتَملين. بالفعل، لماذا إضاعة موارد محدودة في متابعة مواطنين معارضين للواقع الرّاهن في حين يمكن استخدامها لمكافأة أولئك الذين لهم نصيب أساسي في الحفاظ عليها؟ بدلًا من توزيع موارد محدودة بشكل غير فعال على المجتمع بأكمله، يسعى حكام الدّول التّوزيعية**، مثل هؤلاء الذين في الخليج، عمومًا إلى زيادة حصصهم الخاصة إلى الحد الأعلى من خلال تقديم المكافآت بشكل غير متناسب إلى فئة محدودة من المواطنين، الذين يكفي دعمهم لإبقائهم في السّلطة، في حين يُستَثنى بقية السّكان نسبيًا من الفوائد الرّيعية الخاصة بالمواطنة. هذا الدّافع للتّوزيع الموجّه يكون كبيرًا خاصة في البلدان التي يمكن لعدد ضخم السّكان (على سبيل المثال المملكة العربية السّعودية) و/أو حصّة إيرادات منخفضة لكل مواطن (البحرين والمملكة العربية السّعودية وعمان) أن تحد من الفائدة السّياسية لتوزيع أكثر مساواة. مع ذلك، حتى الدّول الأقل تقييدًا بعوامل مماثلة (قطر والكويت والإمارات العربية المتحدة) سعت إلى تجزيء أسواقها السّياسية، وإقامة درجات مواطنة تمنح مستويات متمايزة من الفوائد، ما يعني ضمنًا، بدوره، مستويات متفاوتة من المحسوبية الاقتصادية/السّياسية.
أخيرًا، باستثناء الاهتمامات غير المادية المتنوّعة للمواطنين، ودوافع الدّولة للتّوزيع غير المتكافئ، هناك عملية أخرى تعمل على تقويض الرابط بين الرّضا الاقتصادي والسّياسي في دول الخليج العربية على مستوى الفرد، وهي تتمثل في الجهد المستمر لحكومات دول مجلس التّعاون الخليجي لتنويع مصادر شرعيتها السّياسية.
وفي حين ما يزال أغلب التّركيز التّحليلي مُوجهًا نحو مشكلة التّنويع الاقتصادي بعيدًا عن الاعتماد على عائدات الموارد والقطاعات العامة المتمددة، كان اختبار الجهد الموازي الذي يبذله الحكام الخليجيون -وهو جهد يمكن القول إنّهم قاربوه بجدية أكثر بكثير من مقاربتهم للسّؤال السّابق- للقيام بالتّنويع السّياسي بعيدًا عن الأسس الاقتصادية المحضة للشّرعية، أقل بكثير. مثل هذه الاستراتيجية اتّخذت أشكال متعددة في أرجاء المنطقة، لكن القواسم المشتركة تشمل تركيزًا على الثّقافة والتّراث «الوطنيين»، اللذين يرعاهما ويحميهما شخص الحاكم، وفرصًا للتّعليم العالي والتّحقيق الشّخصي للذّات توفرهما غالبًا مؤسسات غربية، والاستعانة بالشّرعية الدّنية أو القبلية، والسّعي وراء الشّهرة والمكانة الدّوليتين، وتوفير (مع تسليط الضّوء) فوائد غير ملموسة أخرى كالاستقرار السّياسي، لمعارضة المساءلة السّياسية.
اكتسبت هذه الحجة الأخيرة قوة خاصة في أعقاب بدء الانتفاضات العربية في العام 2010 – وللمفارقة، ليس ذلك لكون الدّول الخليجية أفلتت على نطاق واسع من الاضطرابات التي شهدتها المناطق الأخرى، ولكن تحديدًا لأن كثيرين، في الواقع الأغلبية، لم يفلتوا منها. فقد أشارت الأسر الحاكمة في البحرين والمملكة العربية السّعودية والكويت، ومؤخرًا الإمارات العربية المتحدة، إلى الفوضى في الخارج لشرح وتبرير الحاجة إلى إصلاح مدروس في الدّاخل ولتعبئة الدّعم الشّعبي ضد أولئك الذين قد يتجرأون على الإخلال بالوضع السياسي الراّهن المريح، وإن كان غير ديمقراطي. شيعة السّعودية والبحرين، والمعارضة ذات الأغلبية السّنية في الكويت، وأعضاء من الأخوان المسلمين في الإمارات العربية المتحدة – مثل هذه الجماعات تمثل في آفة سياسية ونعمة سياسية في ذات الوقت: أساسا واقعيًا أو محتملًا لمعارضة منظمة، ولكن أيضًا بعبعًا لحشد بقية المجتمع -أو، على الأقل، إخافته إلى حد التّراخي. خصوصًا في مرحلة ما بعد الرّبيع العربي، فإن هذه الدّول الخليجية التي تتبع فيها النطاقات السّياسية مجموعة دينية مصطفّة أو مجموعات منسوبة أخرى، اكتشفت عندها مصدرًا جديدًا قويًا حتى لو كان محفوفًا بالمخاطر، للشرعية غير الاقتصادية: ليس مجرد توفير الاستقرار في منطقة تسيطر عليها الفوضى، ولكن الحماية الفعلية للمواطنين -المواطنين المخلصين- من الأعداء الذين يُخشى منهم في الخارج، ومن وكلائهم المحليين المُخربين. التّوتر المتزايد والعداءات المتصاعدة بين الملكيات العربية السّنية والأنظمة التي يقودها الشيعة في إيران والعراق وسوريا لم تقم إلا بتعزيز هذا السّرد الطّائفي.
المسح السّياسي الجماهيري الأول في البحرين
هذا الافتراض، بأن المنافسة بين الجماعات تساعد في شرح، ليس فقط عدم قدرة البحرين على شراء القبول السّياسي، ولكن أيضًا التّفاوت الملحوظ بين النّظرية الرّيعية والواقع الرّيعي من خلال أغلبية دول الخليج العربية، لا تفتقر إلى التّحديات لمن يتطلّع إلى إثباته تجريبيًا. لأن الأمر لا يستلزم فقط بيانات على مستوى الأفراد حول المواقف السّياسية والظّروف الاقتصادية للعرب الخليجيين العاديين، ولكن، فوق ذلك، بيانات ديموغرافية تعرّف الافراد على أنهم أعضاء من مجتمع منسوب معيّن أو آخر. وحين تكون حتى النّسب الإجمالية للسّنة والشيعة داخل المجتمعات الخليجية مسألة تكهنات -حيث أن الحكومات ترفض تقديم مثل هذه الإحصائيات، أو تزعم غالبًا أنّها لم تُجرِها- يجعل هذان المطلبان مصادر البيانات القائمة كلها غير كافية، بما في ذلك القيم العالمية المذكورة آنفًا ومسوحات الباروميتر العربي.
لذلك، في أوائل العام 2009، حاولت جمع بيانات جديدة من البحرين، مجريًا أول استطلاع سياسي من نوعه للمواطنين البحرينيين. واستخدم الاستطلاع، الذي طُبّق على عينة تمثيلية وطنية من 500 منزل عشوائي، منتشر في أنحاء الجزيرة، الأداة القياسية للباروميتر العربي التي تدرس مجموعة واسعة من المواقف والسّلوكيات الاجتماعية والدّينية والسّياسية، بالإضافة إلى البيانات الاقتصادية المنزلية. وسجل مسح البحرين أيضًا الانتماءات الطّائفية لأفراد العينة، سامحًا ليس فقط بإجراء اختبار تجريبي للجدال الذي يجري في الوقت الحاضر، بل أيضًا بفتح النّافذة الأولى على الدّيموغرافيات الطّائفية في البلاد منذ ما يقرب من سبعين عامًا. المرة الأخيرة التي قدّمت فيها الحكومة البحرينية إحصاءات رسمية عن المجتمعات السّنية والشّيعية كانت في في أول تعداد لها في العام 1941 . ومستخدمًا هذه البيانات البحرينية غير المتاحة سابقًا، يمثل هذا الكتاب التّقييم التّجريبي المنهجي الأول، على مستوى الأفراد، للافتراضات التي تشكّل أساس إطار عمل الدّولة الرّيعية.
بخلاف تأثيرها على السّياسة في حد ذاتها، بين التّأثيرات الفكرية التّحولية للرّبيع العربي، كان إطلاق رصاصة الرّحمة على المفهوم الشّائع لـ «شيخ النّفط» الخليجي، السّعيد للتّخلي عن بلاده ليحكمها أمراء ومتطرفون إسلاميون في حين يُعَربد هو في حياة ترف أصبحت ممكنة بفضل حصته الخاصة من عائدات النّفط في البلاد. ليس فقط في البحرين ولكن في جميع أرجاء منطقة الخليج العربي – في المملكة العربية السّعودية والكويت وإلى حد أقل في عمان والإمارات العربية المتحدة- شهد المراقبون مكمنًا مفاجئًا من الحماس السّياسي بين النّاس العاديين، وهو مُوَجّه ضد الحكومات التي يُفتَرَض أنّها استحوذت دعمهم من خلال النّفط. لا يقدم هذا الكتاب فقط إطارًا مفاهيميًا جديدًا لإعطاء معنى لهذا التّناقض الظّاهري، ولكن أيضًا، وللمرة الأولى، دليلًا تجريبيًا لدعمه.
ملخص الفصول
يتألف الكتاب من ستة فصول. يقدم الفصل الأول تفصيلًا أكثر توسعًا عن الإطار المفاهيمي الذي قدمناه سابقًا: نظرية التّعبئة السّياسية على مستوى الجماعات في الدّول العربية في الخليج. متحديًا أربعة عقود من الحكمة الواردة عن نظرية الدّولة الرّيعية، يقدّم الكتاب حججًا على أن المؤسسات السّياسية والاقتصادية الفريدة في المنطقة لا تساهم في منع التّنسيق السّياسي الشّامل، بل بالأحرى في تفضيل نوع محدد من التّعاون السّياسي الجماعي، وبالتّحديد التّنسيق على أساس الفئات الاجتماعية التي يمكن رصدها بشكل ظاهر، كالانتماء العرقي أو الدّيني أو القبلي أو الإقليمي، وهكذا. والنّتيجة هي ميل بنيوي في الخليج إلى سياسة المجموعة المنسوبة، والتي في البلاد ذات التّركيبات السّكانية المتنوعة تميل إلى إنتاج تنافس سياسي، ليس من قبل المواطنين الذين يتنافسون كأفراد ببساطة للحصول على مخصصات إضافية من أرباح الدّولة، بل من قبل تجمعات عرقية/سياسية أوسع نطاقًا تتنافس للحصول على الأرباح المادية وأيضًا للسّيطرة على النّظام السّياسي نفسه.
وعلاوة على ذلك، يقدّم الكتاب حججًا على أنه بدلًا من عقد اجتماعي ريعي شامل، حيث يسعى حكام الاقتصادات القائمة على الرّيع إلى شراء الدّعم السّياسي الشامل من المواطنين باستخدام الأرباح الاقتصادية، بدلًا من ذلك، يواجه الحكام الخليجيون أنفسهم دوافع قوية لتجزيء أسواقهم السّياسية على طول هذه التّجمعات المُصَنّفة بحسب الأصل، لتعزيز الفروق الاجتماعية الكامنة في المجتمع بدلًا من تقليلها.
وبدلًا من توزيع مواردهم المحدودة بشكل فعال على المجتمع بأسره، يسعى المسيطرون على الدّول الرّيعية بدلًا من ذلك إلى زيادة استفادتهم الخاصة من الأرباح المادية للحكم، إلى أقصى حد ممكن، من خلال تقديم الحد الأدنى من المخصصات إلى المواطنين، الضّرورية لضمان تحالف فائز من المؤيدين. لذلك، ليست المهمة الأساسية للحكومات الرّيعية مجرد توزيع ثروة الموارد على السّكان، بل فعل ذلك بأبخس ثمن ممكن.
على هذا النّحو، فإن السؤال الأساسي جدًا الذي يهم حكّام المجتمعات الرّيعية هو كيف نحقّق التّوازن الأمثل بين الاستقلال الاقتصادي والسّياسي، ما يعني السّؤال كيف نحقّق أكبر قدر ممكن، في الوقت ذاته، (أ) من الاستمتاع الخاص والتصرّف الحر للثروة المتأتّية مباشرة من الموارد؛ و(ب) التّحرر من المساءلة الشّعبية عبر الإرضاء الاقتصادي من خلال التّوزيع.
ومن بين الحلول المختلفة لهذه المعضلة الرّيعية، استراتيجية التّجزئة السّياسية، التي تكافئ فيها دولة ما، على نحو غير متناسب، طبقة من المواطنين المؤيدين، وتستثني على نحو غير متناسب الباقين من الفوائد الرّيعية للمواطنة. وبهذه الطّريقة، لا تُبَدد الفوائد الرّيعية على المجتمع بأسره، ولكن تُرَكز على دائرة محدودة يكون دعمها كافيًا لضمان استمرارية النّظام. يمثل النموذج المعاصر للبحرين الحالة الأمثل لاستراتيجية التّقسيم المجتمعي الموجّه هذه.
يقدم الفصلان الثّاني والثّالث مادة إضافية لهذا التّوضيح النّظري من خلال دراسة حالة التّعبئة السّياسية الطّائفية في البحرين. واضعًا تصورات من مقابلات مع حوالي عشرة زعماء سياسيين ودينيين بحرينيين -أربعة منهم يقضون حاليًا مددًا طويلة بالسّجن على خلفية أدوارهم في انتفاضة الرابع عشر من فبراير/شباط- ويصف هذا الفصل كيف استبدلت سياسات التّنافس الاقتصادي، المُوجَهة للأفراد، التي يفترض بها أن تطبّق في الدول التخصيصية، بتنافس قائم على أساس الجماعات، لتحديد الطّابع الخاص بالأمة نفسها: تاريخها وهُويتها الثّقافية، أسس المواطنة وشروط الاندراج في الخدمة العامة. ويفصلان أيضًا كيف أنّه، نظرًا للتّنافس المحلي والإقليمي، الشّيعي-السّني، جُعِلت الأدوات الفريدة لتخفيف الضّغط السّياسي، التي يقال إنها متاحة في البحرين كدولة ذات اقتصاد ريعي، غير فعالة أو حتى غير صالحة للعمل.
ويقدم الفصل الرّابع تمهيدًا عمليًا ومنهجيًا لتحليل المسح الشّامل للبحرين، مفصلًا طريقة المسح الفعلي ومعالجًا أسئلة نظرية ومنهجية، ومقدمًا أول صورة مباشرة موثوق بها للدّيموغرافيات الطّائفية في البحرين منذ مسحها في العام 1941. في حين يوظف الفصل الخامس بيانات البحرين لتقييم المزاعم النّظرية الأساسية للكتاب، يبدأ بدراسة أنماط توفير السّلع العامة والخاصة في البحرين، خاصة في ما يتعلق بالتّوظيف في القطاع الحكومي. ويقيّم بعد ذلك الأدوار النّسبية للاقتصاد مقابل ديناميات الجماعة في تحديد التوّجهات والسّلوك السّياسي للبحرينيين. ويستخدم بيانات المسح على المستوى الفردي لاختبار ما إذا كانت المواقف القياسية للمواطنين تجاه الدّولة، وكذلك التّصرفات السّياسية التي يقومون بها سواء كانت في صفها أو ضدها، تتأثر بشكل أساسي بالرّضا المادي، بحسب فرضية الدّولة الرّيعية، أو أنّها تتأثر بالانتماءات والتوجهات الدّينية الطّائفية.
ويأتي الفصل السّادس ليختم باستعراض ما سبق، مشيرًا إلى حدوده، ويقترح كيف يمكن تمديد التّحقيق كجزء من أجندة مُنقحة، أوسع نطاقًا، لإجراء البحوث في دول الخليج العربية، تعكس على نحو أكثر دقة الاتجاهات السّياسية الملحوظة في المنطقة، وتستخدم بشكل أفضل المصادر المنهجية الجديدة المتوفرة في وقتنا الحالي.
اقرأ أيضًا:
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون