ظل الاعتقاد بوجود (360) قرية وبلدة بحرانية قبل مجيء العتوب إلى جزيرة البحرين يكرره بعض المؤرخين والجغرافيين في بعض كتاباتهم لزمن تجاوز أكثر من سبعة قرون متتابعة، وهم من أقوام مختلفين، عرب ومسلمين وأجانب، وفي قرون مختلفة، وبقي هذا الاعتقاد أحد الظواهر التاريخية للمجتمع البحراني، وبالطبع لن يكون بمقدور باحث متأخر رفض هذا الاعتقاد السائد عند مجموعة المؤرخين طوال هذا التاريخ وشطبه بمجرد رغبة داخلية لدى هذا الباحث أو ذاك، ويمكن في سياق ذلك أن ينتهي أمر هذا الاعتقاد بأحد خيارين.. إمَّا الرفض بجهل وعناد وهيمنة أفكار مسبقة.. أو الأخذ بطريقة البحث العلمي المشفوع بالأدلة التاريخيَّة الممكنة ـ بخاصة مع تكرار دائم لآراء هؤلاء المؤرخين ـ بأن جزيرة البحرين (أوال) كانت منذ قديم الزمــان مأهولة بالسكان وبكثافة بشرية تنسف قولهم بأنها (بلاد بلا عبـاد)، وبقي وجود هذا العدد الكبير من القرى أحد أهم ظواهر الكثافة السكانية لهذه الجزيرة.
وقد ظلت «جزيرة أوال أو البحرين» عبر العصور مقراً متجدداً لحركة الاستيطان من قبائل عربية أصيلة ومن جاليات أعجمية آتية من بلدان المحيط ومناطقه، وهذا اعتقاد تاريخي آخر آزر كذلك اعتقاد مجموعة من المؤرخين قالوا في وضوح بوجود هذا الكم الكبير من القرى والبلدات البحرانية في جزيرة أوال من فترة ما قبل القرن الهجري السابع إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري وما تبعه من شتات مفجع حلَّ بأهالي هذه القرى وسكَّانها، فالمحاولات التي شطبت بكلماتها وجود (360) قرية وبلدة أو تجنبت الإشارة إليها هي لسوء الحظ حقيقة مؤسفة، ولكنها لا يمكنها أن تلغي وجودها أبداً، ولا ينفيها من الواقع التاريخي للشعب البحراني الذي عانى من اضطهاد الظالمين ومن زيف زبانيتهم.
وترسخ «الاعتقاد» بهذا الوجود للقرى البحرانية بالعدد المذكور نتيجة كتابات بعض المؤرخين والجغرافيين ورحلاتهم للمنطقة أو زياراتهم الميدانية أو بواسطة ما تولد لديهم من ثقة هذا «العالم» أو ذاك «المؤرخ الناقل» ونقله معلومات تهم شأن ووجود هذه القرى عن مؤرخ سابق عليه، وآزرت هذا الاعتقاد «البراءة الداخلية» عند مجموعة من المؤرخين والجغرافيين والرحالة، ونقاوة قلوبهم وألسنتهم، وخلو نفوسهم من العصبية المذمومة التي تعادي الحقائق كما هي في حركة الواقع التاريخي، وقبولهم بها، فأصبح الاعتقاد بوجود «360» قرية بحرانية حقيقة تاريخية مستخلصة ـ كما تقدم القول ـ إمَّا بواسطة زيارة ميدانية اطلع عليها المؤرخ القائل بها جعلته يستصعب المكابرة فيها والتعالي عليها، أو عن طريق رصيد المؤرخ الناقل لها بالثقة من مؤرخ ناقل، وسابق عليه زمنياً.
وإذا تمّ حساب الفترة الفاصلة من قول ابن المجاور الشيباني في كتابه «تاريخ الاستبصار» بوجود ثلاثمائة وستين قرية إمامية عدا واحدة إلى فترة لاحقة عاشها بعض المؤرخين العرب في القرن الثاني عشر الهجري وأكدوا فيها الإيمان بوجود (360) قرية بحرانية في أوال وجزرها التابعة لها كالشيخ محمد بن خليفة النبهاني وحافظ وهبة ونصوص لعلماء أجانب فإنَّ العمر الزمني للاعتقاد بهذا الكم الكبير من القرى لا يقل في حده الأدنى عن سبعة قرون، ولكنَّ تقديراتنا لوجودها الفعلي كان بين القرن السابع الهجري حتى القرن الثاني عشر، أي بزمن خمسة قرون هجرية.
ثم بدأت هذه القرى في التناقص والزوال شيئاً فشيئاً لأسباب أمنية واجتماعية وسياسية ومعيشية أو اقتصادية كما قال الرحالة الدانمركي كريستن نيبور قبل وبعد حدوث ما عرف بمأساة «الشتات الأعظم» في أعقاب الحملات العمانية، والغزو البرتغالي، وتدخلات جماعات البدو والعثمانيين ثم سلسلة حملات الغزو الخارجيَّة المتتالية، وما تبعتها من هجمات قبائل البدو وجماعات الهولة ما قبل عام 1130ه، وهو العام الذي حدثت فيه أصعب حملات الغزو العماني وأشدها على البحرين، ثم في حملات بين عام (1130ـ 1197هقبل مجيء العتوب للجزيرة واحتلالها، ففي هذه الفترة فرَّ كثير من أهالي البحرين عن جزيرتهم إلى أماكن آمنة في بلاد الجوار، وهم اليوم يتوزعون في القطيف والأحساء ومدن في جنوب العراق، ومدن في الساحل الجنوبي ـ الغربي لإيران، وقد رصد المؤرخ البريطاني لوريمر هذه الحالة في كتابه «دليل الخليج» بعناوين فرعية عديدة مثل مهاجرون بحرانيون، والبحرينيون في إيران.
ومع أنَّ الدكتور فؤاد إسحاق الخوري ـ بحسب ما نعلمه ـ هو أول المشككين في الاعتقاد بوجود هذا الكم الكبير من مجموعة القرى والبلدات البحرانية، وشكك في وجود هذه القرى خلال الثمانينات العالم الألماني «بول كوبتش» في مقال بمجلة الوثيقة عام 1983م، ثم تبعهما بعض أصحاب الهوى، وقد نقل هذا الاعتقاد من أبناء الجزيرة، وممن قابلهم خلال زيارته للجزيرة سواء من العلماء أو المثقفين، وربما من عوام النَّاس، وهذا يعني شيوع الاعتقاد بوجود (360) قرية وبلدة بحرانية على ألسن العلماء والعامة على حد سواء، وتأصلها في الثقافة المحلية والشعبية، فإذا وصل الاعتقاد إلى المستوى الشعبي من الناس فمعناه تفشي انتشاره خارج نطاق العلماء ودائرة ذوي الفكر، وأصبح له سلطة نافذة بين الناس، ودلَّ بذلك على قوة الاعتقاد به وترسخه في الذاكرة الاجتماعية والتاريخية.
وقد عالجنا هذا الاعتقاد كرأي شائع بين مجاميع الناس، وكإشكالية لا تستند إلى حقائق تاريخية في أذهان المشككين، ورددنا عليه من مصادر بعض المؤرخين والجغرافيين من تقدم منهم ومن تأخر، وكذلك وضعنا أمام القارئ الكريم ما تيسَّر لنا من وثائق وأرشيف العهد العثماني التي تؤكد على شيوع ظاهري لهذا الاعتقاد، بل تجسدها في كتابات ورسائل من أمراء وقضاة أتراك وعثمانيين.
وتطلبت الدراسة إثارة قضية العلاقة بين «تقلص عدد القرى البحرانية وبين ما وقع من حوادث أسماها بعض الباحثين بـ «شتات أهل البحرين» وهيامهم ـ مروعين فزعين ـ خارج بلادهم البحرين» نتيجة وقوع مظالم داخلية وخارجية ثقيلة باتجاه مناطق داخل الجزيرة أو باتجاه الخارج ببلدان مجاورة بإقليمنا الخليجي، وذلك في فترة ما قبل مجيء العتوب إلى جزيرة البحرين عام 1197ه / 1783م.
بل إنَّ بعض هذه القرى البحرانية قد اندثرت في زمن العتوب، فهناك قرى اندثرت في عهدهم القريب من تاريخ 1783م مثل قرى بربورة، وبدعة، وبيجوية، دوستان، الفلاة، فارسية، حليتان، الحمَّالة، الهريدية، الحجير، والعقارية، حالة ابن سوار، الجبلة، الجسيرة، الجزائر، أبو خفير، مانع، مروزان ـ التي ذكرها الشاعر ابن المقرب العيوني في إحدى قصائده ـ المويلغة، نورجرفت، الرقعة، رزقان، وكذلك اندثار قرية الشريبة وأهلها من أهل السنَّة كالجسيرة، وقرية «مراقيب» أو تداخلت حدودها مع حدود مناطق عمرانية قائمة فعليَّاً أو جديدة فاختفى اسمها تدريجيّاً، ونسي النَّاس تداول ذكرها باسمها التاريخي، بينما اندثرت مجموعة كبيرة من القرى قبل عهد العتوب وبخاصة ما قبل القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين وأبعد.
واستخلصنا في النهاية بعض النتائج التي توصلنا إليها أو تحسسنا بروزها خلال معالجتنا العلمية لمشكلة العدد الكبير لقرى البحرين (360)، وزوال وخراب كثير من هذه القرى، واستعرضنا آراء المؤرخين المؤيدين لوجود هذا العدد، ومَنْ أثار تشكيكات ـ بدوافع متعددة ـ بشأن وجودها التاريخي، ورتبنا هذه المعالجة في فصول (عشرة)، بالإضافة إلى عرض عدد من الوثائق التاريخيَّة، وقد وضعناها في نهاية الدراسة بقسم منفرد في فصل مستقل هو (الفصل الحادي عشر) وأسميناه فصل «وثائق الدراسة وملاحقها، ونتائجها».
وهذه الفصول كما يأتي:
الإطار العام لدراسة المشكلة.
قضية التشكيك وإنكار القرى الثلاثمائة والستين.
أوال وسكانها في حديث المؤرخين.
مسوغات الاعتقاد بوجود 360 قرية.
عدد قرى البحرين الـ 360 في أقوال المؤرخين والوثائق العثمانية.
قرى البحرين الـ 360 في أقوال المؤرخين المحدثين والمعاصرين.
الدراسات التي حصرت القرى البحرانية.
القرى البحرانية في كتب التراجم والدراسات المعاصرة.
القرى المندثرة في جزر البحرين.
خراب القرى البحرانية والشتات.
التنظيم الإداري للقرية البحرانية قبل مجيء العتوب من القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر الميلادي.
وثائق الدراسة وملاحقها، ونتائجها.
ونتمنى أخيراً أن تكون فصول هذا الكتاب في غالب تفاصيلها قد قدمت بعض جوانب الإجابة على تشكيك بعض الباحثين بدوافع علمية، وعن تشكيك بعضهم الآخر بدوافع العصبية السياسية وغيرها، وقدَّمت أدلة منطقية على وجود هذه القرى في الواقع التاريخي للشعب البحراني من امتداد القرون الوسطى حتى بدايات العصر الحديث، وﷲ سبحانه وتعالى يهدينا سواء السبيل والبحث عن الحقيقة.
الكتاب متوفر على متجر:
– نيل وفرات (ورقي والكتروني)
– جملون
– أمازون