جدليات تاريخية بنظرة مغايرة

رحلة المؤرخ خليفة مع التأريخ والأرشيف..
جدليات تاريخية بنظرة مغايرة

*زينب طحان

ينحدر المؤرخ عصام خليفة من بيتٍ توارث فيه الثقافة أبًا عن جد. جدّ العائلة الخوري يوسف فارس خليفة كان كاهنًا في قرية حدتون الواقعة في جرد البترون، وكان خطّاطًا ينقل الكتب من اللغة السريانيَّة والأرمنيَّة والعربيَّة. يذكر أنَّ والده قال له يومًا إنّه «استهلك 12 رطلًا من الحبر». يبتسم خليفة عند جملته الأخيرة. كان والده، كجدّه، زجالًا، يقتني الكتب ويشترك في المجلات. لا يزال يذكر تلك المكتبة التي كانت تنتصب وسط بيته. يقول الدكتور خليفة إنّه نهل منها، وقرأ الروايات العالمية والشعر العربي والأدب اللبناني فتمكّن من اللغة. ويضيف: «بدأنا قراءة الكتب من الصّف الابتدائي الأول».

رحلة خليفة مع الأرشيف
أبدع في اللغة العربيّة، غير أنّه تولّع بالتاريخ أيضًا، فأحزن قلب أستاذه حين اختار التخصص به. تخرج من الجامعة اللبنانية في العام 1972، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا، بعدما هاجر إليها حين بدأت الحرب الأهلية، وكانت أطروحته تتمحور حول النظام الطائفي والعلمانية من العام 1958 إلى العام 1975. اشتغل بالأرشيف الفرنسي والأرشيفات المحليّة كلها، وجمع كمًّا كبيرًا من الكتب والوثائق، بيد أنّه صبّ اهتمامه فيما بعد على الفتح العثماني، بدءًا من العام 1516، فأصبح لديه حتى اليوم خمسة عشر كتابًا، تعدّ كلّها مراجع علميَّة وبحثيَّة، ليس في لبنان والعالم العربيّ فحسب، بل في أوروبا أيضًا.
أسَّس خليفة مكتبته مذ كان في المرحلة الابتدائيَّة. كان والده آنذاك يعطيه المال (نصف ليرة أو ثلاثة أرباع الليرة)، فيذهب برفقة شقيقه إلى بيروت، وتحديدًا إلى ساحة البرج، ويشتري الكتب «العتيقة» من أمام «الروكس».

اليوم، تحوي مكتبته أكثر من أربعين ألف كتاب، إلى جانب خمسة ملايين وثيقة ومخطوطة تقريبًا، تتمحور موضوعاتها حول تاريخ لبنان القديم والوسيط والحديث والمعاصر، تاريخ سوريا ومصر وأوروبا، الاقتصاد، الجغرافيا، والجيوبوليتيك، ولكنّ الكتب في غالبيتها تعتني بالتاريخ العثماني في القرون الثلاث؛ السادس والسابع والثامن عشر. كما أنَّ مكتبته تحفل بموسوعات عن الأدب والشعر والروايات والفلسفة وعلم الاجتماع والديموغرافيا.

لا يزال إلى اليوم شغوفًا في الحصول على المخطوطات التاريخيَّة. يشتري القديمة منها من أشخاص لا يعرفون قيمتها العلميّة، وتكلّفه أقلّ واحدة منها نحو ألفي دولار، سواء حصل عليها من لبنان أو خارجه. من إسطنبول إلى باريس، كان يحصل عليها أو يصوّرها، وهو يمتلك مئات الآلاف منها على ميكروفيلم، فضلًا عن وثائق كثيرة تدور موضوعاتها حول الأديار والمحاكم الشّرعية والمؤسَّسات التاريخية في لبنان. ومنذ فترة قريبة، حصل على وثائق جديدة. يقول خليفة في هذا المجال: «البحث في ملفّات التأريخ عمل لا ينتهي أبدًا».

يعدّ الدكتور خليفة نفسه من مدرسة جديدة في دراسة التاريخ، أهم عناصرها عدم الاقتصار في الأبحاث على الجانب السياسي والعسكري، بل الاهتمام بالديموغرافيا والحضارة المادية أيضًا. «هذه المسائل لا يهتمون بها في لبنان، فضلًا عن التاريخ الاجتماعي والتربوي والثقافي»، يضيف.

ويتابع شارحًا: «أقوم حاليًا بوضع غرافيك ومنحنيات وجداول حول إحدى الوثائق العثمانيّة، وأعمل على تحليلها وقراءتها ديموغرافيًا. مثلًا، أعدّ الأسماء، وأحلّل تركيبها، هل هي أسماء دينية؟ وما هو هذا الدين؟ هل هو عهد جديد؟ كما أبحث في المهن أو الحرف، وفي أسماء الحيوان.. هذا البحث متعب. عملت أيضًا، على سبيل المثال، في مجال الأوقاف؛ أوقاف مدينة بعلبك وقراها، ودرست ماهيتها، فهناك مثلًا أوقاف للمساجد، وأوقاف تربوية، وأخرى عسكرية لدعم القلاع…».

رحلة طويلة عاشها أستاذ التأريخ عصام خليفة، ولا يزال، مع أرشيف الدولتين الفرنسية والعثمانية تحديدًا. أتقن اللغة العثمانية التي تختلف عن اللغة التركية الحديثة، أي الحرف اللاتيني، ما سمح له بالولوج إلى هذا الأرشيف، فبدأ أبحاثه في الديموغرافيا، التي تعني معرفة البلدات والمناطق، عدد سكانها، أسمائهم، نتاجها الزراعي وغيره. وبعد جهد مضنٍ استمرَّ لسنوات، تمكّن من الانتهاء من كتاب «أطلس لكلّ لبنان».
يقول خليفة: «هذا الأطلس لكلّ لبنان في القرن السادس عشر. ركَّزت فيه على إحصاءات عثمانيَّة. كانت الإحصاءات تتمّ من خلال أسماء الرجال الناضجين، والإنتاج، والضّرائب، والوضع الاقتصاديّ. وقد اطلعت على «مهمّة دفتري»، وهي الأحداث السياسيَّة والعسكريَّة والتّنظيمات الإداريّة، وبدأت أبحاثي في هذا المجال».

يقول عن عمله في مجال الديموغرافيا التاريخيَّة، إنّ هذا العلم جديد، ارتكز فيه على الإحصاءات العثمانية، فاستطاع أن يتعرّف إلى المناطق كلها، بما فيها طوائفها، من الشمال إلى الجنوب. ويضيف: «لم يكن للبنان وجود آنذاك. كانت هناك ولايات؛ طرابلس وصيدا ودمشق. هذا التقسيم أوجد خصوصيّة لجبل لبنان، وخصوصًا مع المعنيين، بدأت تتسَّع لاحقًا مع الشهابيين في زمن المتصرفية، حين وُضع البروتوكول، وأصبح هناك اتفاقات دولية منحت لبنان «شخصيّته».

وينفي خليفة ما يطرحه البعض من اضطهاد المسيحيين في القرن السادس عشر، مشيرًا إلى أنّ وجودهم اتّسع آنذاك، حيث كانوا يتواجدون من الشمال حتى خطّ بكفيا المتن الشمالي… ثم توسّع، ووصل إلى الجنوب، إلى القليعة ورميش، وإلى البقاع الأوسط والشمالي (رأس بعلبك والقاع والفرزل)، ومن ثم توسّعوا جنوبًا، حيث كانت تلك المناطق تشهد حركات ديموغرافية للشيعة.

حصن الحريات في الشرق
ولكنّ المسيحيين، يضيف خليفة، واجهوا مصاعب في القرن السابع والثامن والتاسع عشر في ظل «نظام الالتزام»، فبرز الظلم الاقتصادي والضرائب والاقتتال، ونشأت الإمبراطورية العثمانية. وفي القرن التاسع عشر، بدأ العمل على إشعال الصراعات والفتن الطائفية، وكان واضحًا التدخل الأوروبي والإنكليزي والفرنسي إلى جانب الطوائف في الداخل، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الصراعات الداخلية.

رغم ذلك، فإن لبنان كان حصن الحريات في الشرق في الحقبة العثمانية، إذ كانت أول مطبعة في العالم العربي فيه (مطبعة قزحيا سنة 1587)، إضافة إلى الدور الذي أدّته الإرساليات التبشيرية الغربية، ومبادرتها إلى تأسيس المدارس، التي كانت تباشيرها في روما سنة 1584، حين خرّجت طلائع الموارنة الذين بدأوا يطوّرون الكنيسة، وينقلون الأساليب العلمية والتربوية إلى جبل لبنان، بعدما افتتحوا فيه المدارس. ولا تزال بعض المؤسسات التربوية شاهدة حتى اليوم على تلك الحقبة، من مثل الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اليسوعية، اللتين تنافس فيهما البروتستانت والكاثوليك. وقد زادت مدارس الإرساليات، ودخلت المرأة سلك التعليم. وكانت أول مدرسة تستقبل الإناث هي «المدرسة الوطنيّة» لبطرس البستاني في العام 1834. كما بدأ حضور المجلات والصِّحافة يبرز في القرن التاسع عشر.

ويضيف: «كلّ هذه العوامل جعلت لبنان في طليعة بلدان المنطقة العربية آنذاك. ولم تقف المسألة عند حدوده، بل ذهبت جماعة النهضة (جرجي زيدان، وأمين الهلال، ويوسف الخازن، وغيرهم كثر)، إلى مصر، حيث شكلوا النهضة العربية. الأمر نفسه حصل مع شيعة جبل عامل، الذين انفتحوا على إيران وأدّوا دورًا في النهضة.. ومع السنّة الَّذين ذهبوا إلى الأزهر، فكان الشيخ رشيد رضا أحد أشهر الأعلام».

هذا الأمر يدلّ، في رأي خليفة، على أنّ أبناء الطوائف في جبل لبنان، كانوا يتعايشون معًا في أجواء من الألفة، ويتشاركون أدوار النهضة، ويمارسون حرياتهم، ويتآخون مع بعضهم البعض. وفي ظل الألفة السائدة، كانت بعض العائلات تعتنق دين البيئة الموجودة فيها، من دون ترهيب أو تعنيف، وكانت تتكيّف مع محيطها الديني والاجتماعي.

من جهةٍ ثانية، كان للإرساليّات التبشيريَّة الغربيَّة دور في لعبة التجاذات الطائفية والفتن في ربوع جبل لبنان. لا ينفي الدكتور خليفة الدور السلبي لتلك الإرسافليات ومدارسها، الَّتي بدأت تنتشر قبل القرن الثامن عشر. يقال إنّها بدأت في إضعاف الدولة العثمانية من خلال إثارة النعرات الطائفية، وهذا هو المنحى السلبي في تواجدها. لم يرسل الغرب إرساليّاته من دون أن تكون مترافقة ومصالحه الاستعمارية والاقتصادية؛ فالفرنسي يبحث في كيفيَّة تأصيل وجوده التّجاريّ، وللإيطالي والإنكليزي والأميركي والروسي مصالحه أيضًا. من هنا، كان تعليم اللغات وما يلحق بها من علوم مختلفة وحديثة جدًا في تلك الحقب التاريخية، ولكن الإمبراطورية العثمانيَّة كانت بعيدة عنها.

يرى خليفة أنّ هذا الأمر طبيعيّ، ويعترف به، ولكنّه يرفض التوقف دومًا عنده، بل يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك. ويقصد به التثاقف الغربي – الشرقي الَّذي أسس لنهضة كبرى في جبل لبنان تحديدًا، وجعل من لبنان منارةً للشرق. ويقول: «ترجم أجدادنا تلك الثقافات، وأنشأوا جسرًا تواصليًا ثقافيًا. من هنا، كان التفاعل كبيرًا بين الغرب والشرق».

خصوصية لبنان الجيوبوليتيكيَّة
يرى خليفة أنّ للبنان خصوصيَّته منذ الحقبة العثمانية. ففي مرحلة الإمارة، كان ثمة نوع من الوراثة، حيث كان آل معن وآل شهاب يلتزمون جمع الضرائب أبًا عن جدّ. ومع ضعف الدولة، تكرَّستحوي اللامركزية. هنا، أصبح الأمير بشير الشهابيّ حاكمًا محليًا يمتلك استقلالًا ذاتيًا، كما أنّ علاقته بالغرب ساعدته على تقوية دينامية المجتمع وثقافته، فنشطت المدارس والصِّحافة والطّباعة. وهنا أيضًا، في رأي خليفة، تكمن عقدة المسألة الشرقيَّة، فإذا كانت سوريا مفتاح آسيا، فإنّ لبنان هو مفتاح سوريا، الَّذي يمكن من خلاله الدخول إلى المنطقة.

ويتابع: «يعرف الغرب أهميَّة لبنان الجيوبوليتيكيَّة. وليس صدفةً أنَّ العثمانيين ضغطوا على لبنان في الحرب العالمية الأولى، من خلال المجاعة، للقضاء عليه، لكي لا تقوم فيه ثورة ضدهم، فشنَّوا حصارًا بريًا عليه، فيما شنّ الغرب حصارًا بحريًا، حتى وقعت المجاعة (إضافةً إلى أسباب أخرى)».

لم يكن ممكنًا للإمبراطورية كلّ ذلك التقدّم، وهي على أبواب فيينا في عهد سليمان القانوني، بعدما صارت تتقهقر، وبخاصة بعد صعود نظام «الالتزام». ولهذا النظام حكاية كبرى يسردها لنا المؤرخ خليفة، إذ يقول إنّ فرسان الدولة كانوا يباشرون بأنفسهم في القرن السادس عشر مهامّ تنظيم المجتمعات. فارس عثماني مثلًا، كان يدير قرية يونين البقاعية، فيجمع الضرائب، وينظّم العسكر فيها خلال الحروب، ويمسك بزمام كلّ الأمور ومجرياتها. وعندما بدأت الإمبراطوريَّة تضعف، أخذت تكلّف أحد أبناء البلدة أو المنطقة، كابن حمادة في الهرمل مثلًا، ليكون وكيلًا لجمع الضّرائب (كان يجمع مثلًا 400، فيعطي الدولة 100، ويستولي على ما تبقى)، فاشتدّ الظلم على الناس. بالطبع، كان الغرب يدير مصالحه في الإمبراطورية، ويكرّس الضعف، من خلال ربط كل طائفة بكنيسته التي تدعم فرنسا أو أميركا أو روسيا أو إيطاليا. وبذلك، بدأ الحسّ الوطني والارتباط بالهوية العربية والإسلامية يتضاءل، فتمّ ربط الموارنة بروما، وأدخِل السريان ضمن التقاليد اللاتينية، كذلك الأمر مع الروم الكاثوليك وغيرهم، وراح الصراع بين الكنائس والطوائف يتشكّل..

وفي الوقت نفسه، كانت الإمبراطورية العثمانية تمارس ظلمًا من نوع آخر على الناس. وهنا، كان «مضرب تخلّفنا»، فقد بلغ حينٌ من الزمن، كان حاكمُ مصر يجبر كلَّ مسيحيّ على وضع صليب خشبي على رأسه، ليبقى منحنيًا، ثم جاء السلطان سليم وأقدم على الهجوم على الصفويين في كلدران سنة 1514، وعلى بلاد الشام بعد معركة مرج دابق، فأتى على الشيعة والعلوييين معًا، وفُرِض على الناس يومذاك مذهبٌ واحد لا مفر لهم منه، فكان الاضطهاد والقمع كبيرًا، وأُسِّست الملل، وفُرِض نظام الجزية بعد ذلك، وأُجبر الجميع على الرضوخ.

كان هناك الكثير من المسيحيين في سوريا (القلمون حتى دير عطية). يقول المؤرخ خليفة إنّ لديه أسماءهم، ولكنّ ديموغرافية المنطقة بدأت تتغيَّر رويدًا رويدًا، لأسباب عديدة، منها أسباب داخلية. ويروي أن الشخص الذي لم يستطع دفع الجزية، كان يعتنق الإسلام. وفي الآن ذاته، كان هناك استنزاف ديموغرافي للمسلمين في الحروب، إذ أضحى عدد المسيحيين كبيرًا، فيما قلّ عدد المسلمين.

للمؤرخ خليفة مؤلفات عديدة تدور موضوعاتها حول الجيوبوليتيك والسياسة الجغرافية المتعلّقة بالحدود بين الدول. وكان لهزيمة حرب حزيران في العام 67، أثر كبير في توجيه بعض مسارات البحث التاريخي لديه، فعكف على قراءة تاريخ «إسرائيل» والحركة الصهيونيَّة، وتبيّنت له أطماعها بلبنان منذ ذلك التاريخ، فألّف أحد عشر كتابًا في هذا الموضوع، تمحورت حول الحدود والمياه، وتناولت موضوعين أساسيين؛ لبنان والمنطقة العربية، والحدود اللبنانية – السّورية. وكانت له صولات وجولات في مزارع شبعا، بعد أن كلّفه مجلس الوزراء بدراسة الموضوع، فقدم تقريرًا من ثمانين صفحة، مع زميلين آخرين، استعان فيه بالأرشيف الفرنسي، ليثبت أخيرًا لبنانية المزارع.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: جدليات تاريخية بنظرة مغايرة

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>