التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”

مكتبة الدكتور علي زيتون:

التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة” البقاعية في رابية “علي زيتون”…

زينب طحان*

«قال لي الكتاب ثمنه ليرة وعشرة قروش»؛ نظرت إلى نقودي وجدتها لا تتجاوز التسعين قرشاً؛ ممدت له يدي قائلا: «ليس لدي غيرها»، رفع حاجبيه معلناً لي رفضه. لم يبق أمامي إلا الخروج خالي الوفاض. ومن ثم وقفت أتأمل كتاب «العواصف» لجبران خليل جبران وأنا واقف خلف زجاج مكتبة المعدارني في زحلة، جبران الذي كنت شغوفاً بقراءة كتبه إلى حدٍ كبير لم تسعفني كل محاولاتي المضنية في الادخار من تجميع ثمن كتابه هذا. هل تعلمين كيف كنت أوفّر النقود لشراء الكتب؟!..بدأت وأنا في المرحلة المتوسطة من دراستي؛ ولد صغير لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، كنت أقول للسائق الذي يقلّني ورفاقي من ضيعتي إلى مدينة زحلة، اثنين بواحد، إذ كان ثمن أجرة النقل للشخص الواحد ربع ليرة. فأحياناً كنّا نوفق بسائق يوافق على شرطنا، لنتمكن من ادخار بعض القروش. وبعد جهد جهيد تمكنت من ادخار هذه القروش فهل أقبل بالهزيمة وخيبة الأمل؟!.. حثّني رفيقي الذي كان معي على معاودة المحاولة؛ دخلنا مجدّداً وأجرينا مداولات عديدة حتى وافق أخيراً: «خذه واخرج».

عصامي يقتني المعرفة:
الباحث والناقد والأستاذ الجامعي الدكتور علي مهدي زيتون، من بيئة فقيرة تعيش في ضيعة بقاعية من لبنان تسمّى «حوش الرافقة»، ولد في العام 1947 في بيت صغير، علّمته قسوة الحياة أن الدنيا تؤخذ غلاباً، وقلّة نادرة من الناس من يُولد وفي فمه ملعقة ذهب. ولكنّه هو بجهوده الخاصة وبعصاميته الشريفة تمّكن أن يخلق لنفسه عالماً أروع من الذهب، تملّكه حبّ المعرفة منذ صغره. وكان يراها بعيدة عنه كل البعد فجلبها إليه متحدياً كل صعاب الحياة. يروي الدكتور زيتون لنا حكايته مع الفقر وشغفه بالكتاب: «في المرحلة المتوسطة والثانوية كنت أجمع بعض القروش التي أستطيع بها أن أشتري كتابا معينا.. فلم يكن هناك من مصدر مالي محدد يمكن أن يساعدني على الشراء .. فأنا من بيئة فقيرة في قرية بقاعية فقيرة، وكان الأهل بالجهد الجهيد يشترون لنا الكتب المدرسية فلم يكن باستطاعتهم أيضا تأمين كتب أخرى. فقد كانوا يعطونا يوميا نصف ليرة للذهاب والإياب من المدرسة في زحلة. وكنا نوفّر من النصف الليرة . وكان واحدنا في تلك المرحلة يقضي شتاءه كاملا بالذهاب إلى زحلة للتعلم ويعود منها ببنطال واحد وقميص واحد لا كنزة ولا سترة تقيه من قساوة الثلج والبرد. وفي أول الشتاء كان أهلنا يشترون لنا جزمة واحدة يجب أن تستمر متحدية الثلج والبرد والوحول حتى نهاية المدرسة.. وفي الصيف كانوا يشترون لنا حذاء واحدا وأيضا يفترض أن نقضي به كل الموسم( كنا نسميه قديما شوادر) يجب أن نكمل به صيفنا.. لم يكن هناك رصيد لشراء الكتب أبدا كنا نلعب على وتر النقليات لكي نوفّر لشراء الكتب لنطالعها».

المكتبة: أسفار وتراث
اليوم تتربّع في بيته المؤلف من طبقتين مكتبة ضخمة يتجاوز عدد الكتب فيها الأربعة الاف، وكلّها من كنوز الكتب التراثية الأدبية والتاريخية. الناقد والباحث الأستاذ الجامعي الدكتور علي زيتون، اسم يتشرّف به أهل البقاع قاطبة لمآثره الثقافية ودوره الاجتماعي في المنطقة، حيث يرأس الملتقى الثقافي الجامعي، ويدير مع الشاعر عمر شبلي مجلة «المنافذ الثقافيّة» يترك فيها الدور الكبير لطلابه الكثر في شحذ قدراتهم البحثية النقدية.

إلا إن لمكتبته الخاصة قصة أخرى، فهو لم يتقصّد أبداً تأسيسها؛ كان شغفه بالمعرفة والثقافة تدفعه دفعاً إلى شراء أي كتاب يراه حاجة ملّحة له في مشواره العلمي الذي بدأ منذ السبعينيات من القرن الماضي، عندما انتسب إلى جامعة دمشق بدأ اهتمامه بالكتب يزداد شغفاً، مع الكتب المقررة في الجامعة التي كان يحتفظ بها تباعاً عاماً بعد عام حتى السنوات الأربع، ولا تزال جزءاً من مكتبته الخاصة. يقول الدكتور زيتون: «في الحقيقة لم أفكر بإنشاء مكتبة لكنني كنت شغوفا بالكتاب عموما، خصوصا عندما بدأت بدراستي الجامعية ومن ثم الماجستير والدكتوراه الحلقة الثالثة وبعدها الدكتوراه الفئة الأولى دولة. كان الموضوع الذي اخترته موضوعا تراثيا يتعلق بشعر ابن الساعاتي الذي ينتمي إلى القرن السادس الهجري (الثاني عشر ميلادي) وكان عليّ أن اعود إلى كتب مجاميع الأدب لكي أتعرّف سيرة هذا الشاعر وإلى الرجالات الذين اتصل بهم وإلى سيرهم وإلى مرحلته التاريخية ومميزاتها وظروفها، فكنت لا اعتمد كثيرا على ما يوجد من مجاميع في المكتبات العامة بل كنت أفتش في كل دور النشر والمعارض والمكتبات الضخمة عن مثل هذه الكتب وأقوم باقتنائها ..».

لم يوفّر الطالب علي زيتون الطموح بامتلاك المعرفة فرصة إلا ويستغلها لجلب ما كان يحتاجه من كتب ومخطوطات في تلك المرحلة من حياته. فقد كان يوصي أصحاب دور النشر في بيروت وسوريا التي أيضاً درس فيها حيث حصّل الثانوية العامة والإجازة في اللغة العربية وآدابها. يعدّ اللوائح بأسماء الكتب التي يحتاجها ويرسلها مع المسافرين والمغتربين. ولا ينسى كيف أوصى والديه عندما سافرا إلى العراق بغرض زيارة المقامات المقدسة بشراء كتب «وفيات الأعيان» لابن خلّكان، حيث حملا له المجموعة كلها معهما متحمّلين أعباء السفر في تلك المرحلة الزمنية، في السبيعينيات، عندما كان السفر بحد ذاته صعباً للغاية. وطبعاً هو بدوره كان يلّف على دور النشر والمعارض في بيروت ليشتري كل ما يرى أنه سيكون عوناً له في دراسته وأبحاثه الجامعية.

ومن هنا توجد «في مكتبتي مجموعة كبيرة من هذه المجاميع من «الأغاني» إلى «وفيات الأعيان» إلى مصادر الدراسة الأدبية بأنواعها المختلفة»- يقول الدكتور زيتون – ويكمل: «في أثناء دراستي الدكتوراه في الإعجاز القرآني وأثره في تطور النقد الأدبي كان عليّ الاتصال بالمدارس الكلامية وذلك لأن الاعجاز يتعلق بمسألة كلام الله، هل هو قديم أم محدث. وقد بنى الأشاعرة على نظرية قدم القرآن الكريم كل حركتهم النقدية وكذلك المعتزلة بنوا على رأيهم في حدوث القرآن الكريم كل حركتهم النقدية. المهم أن دراسة الاعجاز لفتت اهتمامي إلى المدارس الكلامية فإذا بي عندما أحظى بكتاب للمعتزلة أو الاشاعرة اقتنيه على الفور. وحين كنت في معترك السياسة في مرحلة من حياتي أقنيت كل الكتب التي لها علاقة بالفلسفة الوجودية من ناحية وبالفلسفة الماركسية من ناحية أخرى. وتشكلّ مجموعة الكتب الفلسفية المرتبطة بالوجودية أو بالماركسية جزءا من هذه المكتبة..».

تتوزع مكتبة الباحث الدكتور علي زيتون إلى أصناف مختلفة من العناوين المتعددة، فالصنف الأول الذي تتأسس منه المكتبة هي المجاميع التي تتناول أعلام الشعر والأدب في التراث العربي كله. وكما أن للحداثة الأدبية والحداثة الشعرية حيّزا كبيرا، إذ تجد فيها الكتب التي تتناول الأدب والنقد واللغة من منظار حداثي. وهناك قسم كبير من المكتبة قد يعادل خمس المكتبة أو أكثر هو من كتب النقد الأدبي التي تعنى بالقضايا الحداثية نقدا وشعرا وايقاعا ولغة وإلى ما هنالك. إضافة إلى الكتب التي تعنى بالتاريخ والسياسة والفلسفة الإسلامية والغربية.

تضمّ المكتبة نحو أربعة الاف كتاب وأكثر ربما، إذ لم يجرِ الدكتور زيتون إحصاء دقيقاً لها. وكانت موزّعة بشكل عشوائي، غير أن طلاب زيتون قدموا هذا الصيف إلى منزله وقاموا بورش عمل عديدة صنّفوا فيها كل ما تحتويه هذه المكتبة الغنية. وهناك خزانات خاصة للنقد الأدبي وخزانات خاصة بالشعر، وهناك كتب الرواية والمجموعات القصصية، خزانة وأكثر تخصهم، إلى جانب كتب النقد الأدبي القديم بدءا من كتب القرن الثالث الهجري، الجاحظ وابن قتيبة وابن سلام الجمحي.. أي كل أسماء الأعلام والتراجم من القرن الثالث. وكذلك كتب من القرن الرابع والخامس والسادس والسابع إلى القرن الثامن الهجري كل كتب النقد الأدبي القديمة وكل ما كتب عنها …

مؤلفات «زيتون» تضفي رونقها الخاص:
يُضاف إلى هذه المكتبة الثرية مجموعة مهمة من مؤلفات الباحث نفسه، الدكتور زيتون، الذي استغلّ جهده البحثي الطويل خلال تدريسه النقد الأدبي في الجامعة اللبنانية أن تمكّن من إعداد كتب مهمة شكّلت عوناً رائداً للطلاب والباحثين على السواء. فبعد أطروحة الدكتوراه، التي نشرت في دار المشرق تابعة لدير الأباء اليسوعيين، وكانت بعنوان «الإعجاز القرآني وأُثره في تطور النقد الأدبي من بداية القرن الخامس الهجري إلى نهاية القرن السابع الهجري»، صدر له في مطلع حياته التدريسية في الجامعة ثلاثة كتب، الأول عن الحداثة الشعرية والثاني عن الشاعر العراقي السياب: لغته ورؤيته إلى العالم، والثالث في لغة الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين الشعرية. بعدها صدر له شرح دواوين شعرية، لأهم شعراء العصر الأموي والعباسي، إلى جانب ديوان منسوب إلى الإمام علي (ع) عن دار الجيل. كما كُلف بتحقيق «تاريخ القرماني»، وهذا الكتاب بعدما صار بين يدي الناشر خرج من لبنان بظروف غامضة وفقد كل أثر له. وبعدها صدر كتاب «النص الشعري المقاوم في لبنان»؛ «النص من سلطة المجتمع إلى سلطة المتلقي»، ومن ثم تلاثة كتب عن دار الفارابي، «الاعجاز القرآني والنقد الأدبي»، وهو متمم لما بدأ به في أطروحة الدكتوراه، و»أدبية الخطابة الإسلامية، مدرسة نهج البلاغة»، وكتاب «في مدار النقد الأدبي»، وأخيرا صدر له مجموعة شعرية بعنوان « سجال الرؤية ورؤيا».

يأسف الدكتور علي زيتون لحال الكتاب اليوم، ولعدم اهتمام طلاب الجامعات بتكوين مكتبتهم الخاصة. فهو يرى أن المقررّات الجامعية لم تعد تكفي لتقديم المعرفة والثقافة اللازمة للطلاب الجامعيين، وذلك لأن العديد من الأساتذة يلجأون إلى محرك البحث العالمي على شبكة الانترنت «غوغل» ويسحبون منه المادة والمعلومات، ويلصقونها ببعضها البعض ومن ثم يقدمونها للطلاب. وهذا عمل مؤسف فعلاً. من هنا يوجّه الباحث زيتون طالب اليوم «الذي يتوخى مستقبلا علميا محددا أن يبدأ من سنته الأولى باقتناء الكتب التي يحتاج إليها في اختصاصه وتفيده وليجمعها شيئا فشيئا فيأتي زمن يجد أن لديه مكتبة تفرح القلب ويعتز بها. وخصوصا في مرحلة بات العزوف عن الكتاب أمرا سهلا». وبتقديره المسؤولية جماعية تقع على الأهل والجامعة والأساتذة ومن ثم على مؤلفي الكتب والباحثين أنفسهم، إذ عليهم أن يؤلفوا كتباً مغرية لهذا الجيل تلفت انتباههم وتدفعهم دفعا لكي يقرأوا الكتاب ويقتنوه.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو 2 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>