قبيل شهر رمضان الماضي بيومين، أرسلت رسالة اعتذار صوتية للشيخ فضل، لأني في زيارتي الأخيرة له في ديسمبر 2020، وعدته أن أرسل له تعليقا على راويته (إسكندرونه) بعد قراءتها، قلت له أنهيتها في أيام، لكن ازدحام جدول زيارتي لم يمكني من تسجيل مداخلتي عن الرواية. وعلى عادته المهذبة واللطيفة، قال لي أنتظر رأيك دوما ولو جاء متأخرا، لكني متشوق لمعرفة رأيك في روايتي الجديدة (المنذور)سأرسل نسخة إلكترونية خاصة لك.
دوما يجدد لقائي بالشيخ فضل حماسي للأدب، خصوصا وأن اللقاء الأخير كان في مكتبته المزدانة بكتبه الجميلة وروحه المرحة الترحابة، ولوحاته البديعة، واحدة من هذه اللوحات رسمها في صباه في فترة نشأته مع عائلته بالكويت.
في رحلتي العلمية الأولى للتعرف على بيروت ودراسة الماجستير في 2003 تعرفت على الشيخ فضل بمعية الصديق الأديب الشاعر نزار نداوي، والأشقاء حسين مرهون وعباس المرشد وفاضل عنان وحمزة جمال وحيدر جمال. سحنا في الجنوب وعلى نهر الليطاني في رحلة شواء وصلني خبر ولادة ابنتي أماسيل، فكان لاسمها حظ من ماء النهر وفيض شعر الشيخ فضل. تعرفنا على الهرمل ونهر العاصي وسمك (الترويت) النهري بمعية الشيخ، وهناك جرت المناظرة (الشهيرة) بيني وبين النائب الحالي الدكتور إيهاب حمادة، حول نظرية المجاز في التراث والدراسات الحديثة، حاولت أذكر إيهاب بها بعد لقائي به بعشر سنوات لكنه لم يتذكر، قلت له هناك شهود على الحادثة ومازالوا يضحكون علي، لأنك هزمتني فيها.
مع انقطاعات الحياة، إلا أني دوما أعود للوصل مع الشيخ فضل، فأجده أكثر نصاعة وجمالا وجوهرا إنساني. تحولت رحلتي العلمية الأولى لبيروت في 2003 إلى هجرة في 2011، كان الشيخ فضل الملاذ الأول الذي لجأنا إليه، حيث الرحابة والاستضافة وقرة العين.
في ليالي بيت الشعر بمطعم الساحة، الأربعاء الأول من كل شهر، يجمعنا الشيخ فضل، كنت أنتظر هذه الليلة بشوق، تعيدني إلى عالم الأدب والشعر، تصلني بالأصوات الشعرية والأقلام النقدية.
شيء من طيف أحلام عودتي من كندا إلى بيروت بعد إنهاء فصل جنسيتي المسقطة، الوصل بصالون ثقافي وأدبي أعيد تأسيسه مع الشيخ فضل، حيث الفكر والتاريخ والشعر والثقافة. ما كنتُ عابئا بكل ما أسمعه وأعرفه من أزمات بيروت وحصارها، هناك نداء قوي ورغبة عمياء وحاجة روحية للوصل بما أفتقده هنا في هذه البيئة الباردة في كل شيء.
في رسائلنا الصوتية الأخيرة، كنت أقول للشيخ فضل، أدهشتني بتمكنك من تقنيات السرد والكتابة الروائية، وعلى استحياء من شاعريته، قلت: ادخر ما تبقى من العمر لكتابة الرواية. حدثته عن إعجابي الشديد بحكايات الحاج نعمان في رواية (إسكندرونة) وإني ذهلت من قدرته على توظيفها بتقنيات سردية ممتعة، أتذكر من هذه الحكايات: حكاية الراهبة والجرس، حكاية أنوشروان، قصة السباط، حكاية عزرائيل، وانتزاع ثلاثة أرواح، حكاية النبي سليمان، حكاية الصالون، حكاية الحاج معروف. تحضر هذه الحكايات في المواقف السردية ومعها حمولتها الدلالية التي توحي وتشير من دون أن تكون وعظا مباشرا. قلت له وجدت في الشيخ نعمان شخصيتك الحقيقية الممتلئة بالمعنى والحكايات والظرافة والسحر.
أرض الجنوب، أسطورة الشيخ فضل الملهمة، تمثلها في أدبه، فهو (ابن التراب) كما أدبه كذلك، جعل هذا التراب حكاية تُروى، في رواية (المنذور) يقول زبيب بطل الرواية “يحكي [جدي] دائماً مع أرضه، وعندما أسأله ماذا تقول لها، يقول: أجيب أسئلتها وتجيب أسئلتي. قال لي الأرض هي أسطورتي أنا وسأحكيها لك يوماً”.
قلت للشيخ فضل، أنا فُتنت بشخصية زبيب في الرواية، وأسطورته، حتى إنه جاءني في المنام يقترح علي مدخلا لحلقة البودكاست التي أعددتها حول الرواية.
لا أجد في هذه اللحظة غير (زبيب) أتحدث معه عنك يا شيخ، سأصعد إلى عرزاله (بيت فوق الشجرة) بضيعة الشرقية الجنوبية على مقربة من مقام النبي جليل هناك، سأسله عنك، عن خلوتكما معا، عن الرواية التي خصك بأسرارها، وخلّقتها روائيا، فجعلتها رواية تُقرأ بعد أن كانت معتقدا يُروى.
يا زبيب، أخذت معك صديقي حيث أنت والنبي جليل في مقام الخلود، حفرت قبر النبي جليل، وخبأت عنا قبر الشيخ الجليل. قلت لأهل الضيعة إن علامة صدقك أن تموت ليلة أول جمعة بعد أن تكمل بناء المقام، ولم تقل لنا أن شيخنا الجليل سيموت ليلة الجمعة بعد أن يكتب رواية المقام التي هي روايتك، لم تقل لنا إنه مثلك (منذور) أيضا.
كنت يا زبيب، تتكرر في الرواية حين تفهم سر شيء أو حين تتعلق بشيء من الأشياء أو بشخصية من الشخصيات الاستثنائية (يلمس روحي وتلمس روحه). أجزم بيقين الحب أن شيخ فضل لمس روحك وروح الأرض وروح الأسطورة وروح المقام، واليوم أجزم بيقين الموت أنكم لمستم روحه، فرحل إليكم مسرعا وتركنا مع الرواية نقرأ جدلية الحضور والغياب “إن الله يحضر حيث يحضر الإنسان، والإنسان يحضر حين تحضر الحرية والكرامة، وحقه في الحياة. وإن الله يغيب حين تغيب الذات البشرية، والذات البشرية تغيب حين تغيب حرية الإنسان، وكرامته وحقه في الحياة”.
رحمك الله يا شيخ فضل، ما أوحش الجنوب بعدك.