قلت لجدتي سلامة أريد أن أكتب تاريخ مأتمك.ما اسم مأتمك؟ ضحكت، كعادتها، لا تبدأ حديثا من غير أن تريك عبر ضحكتها سنها الذهبي الذي يحمل ملمحاً من ملامح تباهيها المعروف بحُليها وذوقها الجديد دوما في اللبس والعطر، كنت في مجلسها العامر بالنسوة دوما من أجيال مختلفة.ستأتي حكاية المأتم إذن منسوجة من سرودات النساء اللاتي يرتدن هذا المجلس، فنساء هذا المجلس هنَّ أنفسهن نساء المأتم. لمجلسها رواد الضحى ورواد الأصيل (العصر)، أعمارهن مختلفة وأمزجتهن مختلفة وحالاتهن الأسرية مختلفة، لكل مهن مكانان، مكانها في المجلس، ومكانها في قلب سلامة، قلبها الذي يسع حكاياتهن وأرواحهن المؤتلفة مع روحها الحيوية دوماً. ليس بين مجلسها ومأتمها سوى نافذة، في المأتم تحضر سير القتلى من كربلاء وآل البيت، وفي المجلس تحضر سير الحياة كلها حلوها ومرها، وغريبها ومألوفها، تجد النسوة في هذا المجلس فضاءهن الحر في السرد والقول، بعيداً عن سلطة الرجل، تأتي الواحدة منهن محملة بيومياتها وأخبار ما يستجد في القرية، وما تقوله الصحف. ”من خلقنا ونحن في هذا المأتم، لا أعرف متى، لكن مأتمنا معروف بمأتم حجي طرار، وكان في السابق معروف بمأتم الحاجية بنت الحايي” من هي الحاجة بنت الحايي؟ ومن أين جاءت؟ تحيلني قيمة المأتم الحاجة سلامة، إلى خالتي خاتون عبدالحسين طرار، فهي ملاية المأتم الآن، وهي من تعرف التاريخ. لكن من أين يأتيها التاريخ؟ في المأتم النسائي لا أحد يعرف التاريخ، لكن الجميع يعيش التاريخ، لا أحد يعرف متى قتل الحسين، لكن جميعهن يعرفن من قتله وكيف قتله وحكاية قتله وما قيل في هذا القتل والروايات التي تسرد هذا القتل. يعرفن كل هذه التفاصيل كما لو أنها وقعت بالأمس، لكنهن لا يعرفن كم كان تاريخ أمس. النساء في المأتم يعشن التاريخ لكنهن لا يعرفن التاريخ، بل ليس هناك تاريخ، هناك لحظة زمنية أبدية سرمدية معاشة بحرارة القتل. من المدرسة من أين يأتي التاريخ لخالتي خاتون إذن؟ ليس من المأتم، إنه من المدرسة، في سنة 1963 يقرر أبوها الحاج عبدالحسين طرار، أن يرسلها مع سبع بنات من القرية إلى مدرسة قلالي الابتدائية للبنات، متحدياً بحمقه المعروف الحظر الذكوري الذي فرضه رجال القرية الذين كانوا يرون تعليم المرأة عيباً يجلب العار، ستكون خاتون ورفيقاتها السبع أول طليعة ديرية تفتح الطريق لتعلم المرأة، هناك في مدرسة قلالي ستعرف معنى التاريخ، وستحفظ وقائعها اليومية مقرونة بالتاريخ المكتوب بطبشور أبيض فوق لوحة سوداء. ستضيف خاتون إلى درس المعلمة بنت سيد يوسف درس مدرسة قلالي، وسيتيح لها هذان الدرسان معرفة جديدة ستمكنها من أن تكون (ملاية مأتم أمها). الدكتورة الملاية ”ستكون خاتون أول دكتورة في الدير” هذا ما كان يبشر به حجي عبدالحسين طرار أهل القرية ويغيض به المناوئين لتعليم المرأة، لكن الدكتورة سينتهي بها الأمر لتكون أول (ملاية) تجمع درس (لمعلمة) ودرس (المعلمة)، أي درس الكتاتيب ودرس المدارس. سيقف بها مرض الربو والضيقة عن تحقيق أمنية أبيها، وستترك المدرسة عند الصف الثاني ثانوي، بعد أن أقعدها المرض. ذات صبيحة جاءت المديرة إلى أمها سلامة: ابنتك لن تقوى على مواصلة الدراسة، لا طاقة لنَفَسِها على رغم ما تملكه من طاقة في نفسها. تقول رفيقة طفولتها، فاطمة بنت حجي حسن، كنا بكثير من التحسر والدهشة نشاهد خاتون وزميلاتها السبع في الصباح الباكر، وهن مجتمعات ينتظرن سيارة حجي حميد غانم لتأخذهن إلى المدرسة، كنا نلمس شرائطهن وملابسهن ونتمنى أن نكون معهن. حين تجلس خاتون لأداء واجباتها المدرسية نتحلق حولها ونقلب أدواتها المدرسية حتى إنَّ بنت سيد هاشم ظنت أن الممحاة الملونة برائحتها الزكية حلاوة، فابتلعتها، لكنها لم تهضمها. لقد تعلمت من مجالسة خاتون القراءة والكتابة بشكل أفضل، مع أني كنت قد تتلمذت على يد الحاجية كلثم بنت الحايي، كانت كلثم تجد فيَّ تلميذة فوضوية وغير منضبطة وصاحبة لسان طويل حتى أنها سمتني (غوغوه) مع ذلك صرت واحدة من القارئات في مأتم حجي طرار، لكني لم أستمر. الخباز ثانياً ما تذكره قيمة المأتم وصاحبته الحاجة سلامة أن المأتم كان ضمن مأتم الحاجي سلمان، وهو من أوائل المآتم النسائية في الدير، وحين حدث خلاف، صار جزءاً من بيتنا الكبير مكاناً للقراءة الحسينية، كان مجلساً في الأصل، وهو مكان الخباز الحالي الذي هو ثاني خباز في القرية بعد خباز حجي عبدالله بن مهدي، لكنه أول خباز يعمل في صيغة مخبز، فقد كان يصنع الحلاوة والزلابيا والكعك و(الكاجي كجو) الذي كان يسميه صرة الخاتون، وهي تسمية أطلقها الخباز الفارسي إبراهيم تعبيراً عن دلاله لخاتون التي كان يخصها بالكعك والحلوى، وكي تتباهى صديقاتها بأنهن قد أكلن كيكاً فقد كن يمسحن شفايفهن بكريم الكيك حتى لو لم يأكلن. انتقل المأتم فيما بعد إلى أكثر من جهة، ضمن البيت نفسه، لكنه لم يسجل أبداً في الأوقاف. قبل وفاة الحاجي طرار بسنة واحدة وذلك في عام ,1977 صرت أنا الممولة للمأتم إضافة إلى التبرعات التي تردني. كان السمك هو وجبة المأتم، ولم نكن نوزع الوجبات خارج المأتم، لكن فيما بعد وحتى الآن صارت الوجبات تصل إلى بيوت المشاركات في التعزية طوال عشرة محرم. الحاجية كلثم ”نجمة، كانت كلثم بنت الحايي نجمة، بيضاء بطلة مهيبة، لم يكن يماثلها أحد” هكذا تستحضر الحاجية سلامة زوجة الحاج عبدالحسين طرار صورة بنت الحايي. جاءت كلثم من سماهيج من بيت الفرج، كانت أرملة، وفي سيرتها أربعة شبان خلفتهم في قريتها سماهيج. كانت في الدير زوجة للحاج حسن أبو الحاج عبدالحسين طرار، وفي الوقت نفسه عمة للوجيه الحاج عبدالله بن عيسى مطر زوج ابنتها. ما أن يحضر اسم الحاج عبدالله بن عيسى في أي سرد عن قرية الدير حتى تأتي سيرته المقرونة دوماً بالتبجيل، ففيما كانت الحاجة سلامة تسرد مرات الحاج عبدالله الصباحية على عمته بنت الحايي وتتذكر صورة عكازه الوقور، تدخل أم فاضل (فوزية بنت الحاج راشد بن حسن) على سيرة السرد، لتروي عن أبيها حديثه المتكرر عن حمارة الحاج عبدالله، كان يُحمِّل عليها تبرعاته ويتركها عند أبواب المحتاجين، فتطرق الباب برجلها، فيعرف صاحب البيت أن هناك فاعل خير لا يودّ أن يعرفه الناس، صار أمر أم الخير( حمارة الحاج عبدالله) معروفاً في القرية، واكتشف أهل القرية فيما بعد أن أم الخير كانت رسولة الحاج عبدالله بن عيسى. لقد أصاب الحاجة كلثم شيئاً من وجاهة زوج ابنتها، فضاعف من حضور شخصيتها البهية في القرية. لكن على المستوى الآخر، لم يكن زوجها الحاج حسن يملك شيئاً من هذه الشخصية، بل لم يكن يملك تقديراً يليق بمكانتها، ”لم يكن يستحقها” هذا ما قالته سلامة الملازمة لها والقائمة على أمورها اليومية. بدأت كلثم تقرأ في مأتم الحاج سلمان الذي هو أول مأتم نسائي، كانت تقرأ هناك مع عمتها أم زوجها فاطمة بنت حسن، لكنها ما لبثت أن استقلت، لتؤسس مأتم الحاجية بنت الحايي الذي سيعرف لاحقاً بمأتم حجي طرار. لن تلحق بالمأتم الجديد خاتون الجدة الأخرى لحجي طرار، كانت خاتون جدة حجي طرار من الأم تقرأ في مأتم حجي عبدالرضا الذي كان يوازي في عراقته مأتم الحاج سلمان. لا أحد يعرف شيئاً عن سيرة خاتون الجدة، تحضر فقط هيبتها، تصفها خاتون الحفيدة بأنها كانت شديدة البياض وعالمة، ولشخصيتها القوية الحضور تسمت سبعاً من بنات العائلة باسمها، سبع خواتم أو سبع خاتونات.لكن خاتون الحفيدة وحدها من ورث بياض خاتون الجدة وصوتها وعلمها في القراءة الحسينية. سترث خاتون أيضاً صوت جدتها فاطمة وحضورها القيادي في المأتم النسائي. القيادة الثلاثية ستكون بنت الحايي هي قارئة المأتم الجديد الكبيرة، وسيتتلمذ على صوتها الشجي، ملايتان سيمتد صوتها فيهما طوال الأربعين سنة اللاحقة على وفاتها في ,1961 الملايتان هما الحاجية مريم بنت الحاج أحمد صمايل (توفيت ديسمبر1997) والمعروفة بالحاجية مريوم، والحاجية شريفة بنت سيد عبدالله (توفيت 2000) والمعروفة بالحاجية شروف. وستنضم الحاجية صفية بنت الحاجي عبدالله محسن (توفيت في فبراير2004)، المعروفة بالحاجية صفوي إلى صفوف ملايات مأتم حجي طرار، جاءت صفوي من رأس رمان متقنة قراءة القصيد والروايات، وسيؤهلها صوتها الذي يحمل الكثير من اسمها لتكون في الصفوف الأولى من القياديات، وسيكون لعطائها المميز أثراً في إثراء مكتبة المأتم (الذي هو عبارة عن قفير توضع فيه الكتب) بالروايات والأشعار والأراجيز والرداديات البكائية. سينهض المأتم على أصوات هذه النسوة الثلاث، ولن يكون لأحد صوت في هذا المأتم إلا حين يتقن درس القراءة على أصواتهن الثلاث، من تأتي من خارج هذا الصوت لا مكان لها في هذا المأتم. ستكون الحاجية مريوم صوت المأتم الأعلى، ستكون ملاية المأتم الأولى، وسترث مع هذا الصوت سلطة الأمر والنهي والتصرف في ما يمكن أن يكون أو لا يكون. وبهذه السلطة ستكرس تقاليدها الصارمة في القراءة، ولن تستطيع متغيرات الثورة الإيرانية وما صاحبها من صحوة دينية أن تنال من هذه التقاليد، فعلى رغم الانفتاح الذي تحمله روح الحاجية سلامة قيِّمة المأتم، فإنها لن تستطيع أن تتجاوب مع مطالب الأصوات الشابة بضرورة التغيير وإفساح المجال لإدخال المحاضرات إلى المأتم، حتى دخول الميكرفون سيحتاج إلى موافقة الحاجية مريوم. كانت الحاجة سلامة تحمل للحاجية مريوم تقديراً نابعاً من تبجيلها للحاجة كلثم، فهي تجد في الحاجة مريوم الوريثة لكلثم ولكتابها، وهي بهذه الوراثة حفظت للمأتم مكانته وبقاءه. حلم كلثم كانت كلثم تُودع سرَّها في سلامة، رأت سلامة ذات حلمٍ أنها تركب وكلثم سفينة في سفر بعيد، تعود السفينة بسلامة وحدها. رأت كلثم وهي البارعة في تفسير الأحلام، رأت بروحها الشفافة في الكشف، بشارة موتها. حين أدخلت المستشفى الأميركي في 1961 قالت لسلامة إنه السفينة التي ستبحر بنا أنا وأنت، ستعودين الدير وحدك دوني. في هزيعها الأخير تطلب كلثم كأس ماء، ولكن ليس أي ماء، تريد ماء من بغلتها (حُب ماء كان في غرفتها) التي كانت تملأها سلامة يومياً من ماء (الجوجب). كيف سيأتي ماء الدير إلى المنامة وكلثم في لحظاتها الأخيرة. هنا تدخل فجأة السيدة معصومة والدة سلامة، وتحمل معها كأس كلثم الأخير، إنه من (بغلتها) الحميمة، تشرب كلثم كأسها الأخير من ماء سلامة، تُسلم يدا سلامة روحَ بنت الحايي إلى السماء، وكأنها تسلم قطعة منها، كانت سلامة تروي وكأنها تستحضر صفاء الكأس نفسه، تطلق سلامة مع موت كلثم آه طويلة: كانت أحنَّ على روحي من أمي نفسها. لن تجد سلامة أكثر من الوفاء لمأتم بنت الحايي تخليداً لذكرى كلثم، أعطت روحها كلها له، وأوقفت حياتها عليه، ووجدت في خدمته استمراراً لقيامها على شأن كلثم اليومي. كتاب كلثم لم تكن سلامة تعرف القراءة ولا الكتابة، ولم ترث من كلثم صوتها المميز، لكنها ورثت روحها وضوءها الخاص، ورثت حباً للناس ومن الناس، وصفاء في الروح والوجه لا مثيل لبشاشته وشفافته. لم تورّث كلثم تركة من مال، لكنها تركت أثراً يحمل روحها وصوتها، تركت (كتابا) ليس له اسم، إنه (الكتاب) هكذا تدعوه تلاميذاتها اللاتي حفظن مأتمها. حين أخذ أبناؤها كتبها، أصرت سلامة مدفوعة بتلميذتيها (مريم) و(شريفة) أن يعود الكتاب إلى مأتم بنت الحايي. ذهبت سلامة إلى بيت أبنائها في سماهيج، وقالت لهم: أريد شيئاً من روح كلثم، أريد كتابها. فيكون لها ما أرادت. من يرث هذا الكتاب يرث مكانة كلثم في المأتم. هو الآن وديعة بين يدي خاتون الحفيدة بعد أن تسلمته من الحاجية مريوم. إنه يحوي روايات ومقاتل وقصيد لا وجود لها في غير هذا الكتاب. تحمله خاتون بحفاوة من يحمل مخطوطة نادرة، استنسخته بيدٍ ماهرة في كتابة المخطوطات، لكن عينيها لا تفارق نسخة كلثم، فالتاريخ في كتاب كلثم، وخاتون لا تعيش التاريخ فقط بل تعرفه منذ أتقنت درس السبورة السوداء. لم تفارق عناية كلثم روح سلامة، جاءها يوم أحد أبنائها، يخبرها أن كلثم زراته في المنام وأوصته أن يوصل لسلامة ما كان يوصله لكلثم، وأن يبرّ سلامة كما كان يبرّ كلثم.