حوار مع البحريني علي الديري: "داعش" تجلٍّ للنصوص المتوحشة للإسلام السلجوقي

بغداد – العالم الجديد

الخميس 6 آب 2015

“نصوص متوحشة…التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية” كتاب الناقد والكاتب البحريني الدكتور علي أحمد الديري. يُتوقع له أن يثير جدلاً واسعاً، وذلك لسخونة الأحداث التاريخية الذي يبحث فيها.

يقتحم الديري بمشرط نقده منطقة تاريخية ملتهبة، وفترة زمنية متأججة بالصراعات العقائدية والحروب السياسية. المنطقة هي مصر والشام والعراق، في الفترة بين القرنين الخامس والسابع الهجري تحديداً، ومن هناك يبحث في نصوص الفقهاء التي جعلت من التوحش عقيدة دينية، وشرعنت التكفير والقتل، بل جعلته فرضاً جهادياً واجباً، كما يدخل في تناول السياقات التاريخية والسياسية التي صنعت هذه النصوص ووجهتها.

ما علاقة كل هذا بوقتنا الحاضر؟ ولماذا العودة إلى هذه النصوص؟ ولماذا هذه الفترة وهذه البقعة الجغرافية بالذات؟ وما الذي يريد الديري الوصول إليه؟ هذا ما سيتبدى لنا من خلال الحوار التالي.

  • سؤال: التوحش صفة في الغالب ترتبط بالحيوان فتصنفه ضمن دائرة الحيوانات المتوحشة. في حديثك عن النصوص المتوحشة، ما هو مفهومك للتوحش؟ وماذا تقصد بالنص المتوحش؟

    يحيل موضوع التوحش إلى عالم الحيوان، حيث لا مكان لعقل يتحكم بغريزة. وتوحش الإنسان يتحقق بفقدانه لعقله فيغدو مسيَّراً بالغريزة. وبالعادة الغرائز تضيق بالآخر وتتسع للأنا، فيها الأنانية والعنف. ما أقصده بالتوحش، هو حالة فقدان الإنسانية التي من أهم سماتها العقلانية لصالح سيطرة الحالة الغريزية المحكومة بالغضب والاستحواذ.

    يلفتنا الفيلسوف سلوترداك في كتابه (بنك الغضب) إلى أن طاقة الغضب التي في الإنسان وما يرتبط بها من دوافع أولية مثل الفخر والاعتزاز والانتقام والحسد والغيرة والتنافس، هي عرضة للاستثمار، عبر الخطابات التي تفجرها.

    والنصوص المتوحشة، هي النصوص التي لا تعترف بالآخر، فلا تكتفي بتكفيره بل توجب قتله. فهي النصوص التكفيرية التقتيلية.

    الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والإسلامية، وظواهر التطرف والتكفير، أحالتني إلى مراجعة نصوص التراث الإسلامي، للبحث عن الأسباب المغذية لهذه النصوص التي تنضح بالكراهية فحسب، بل  بإعطاء المبررات الدينية للقتل، إنها تخلع شرعية دينية على فعل القتل.

  • سؤال: هل نفهم أنّ أحكام التكفير تستدعي القتل بشكل حتمي؟

    يلفتنا الباحث الانثروبولوجي المرحوم فؤاد الخوري، أنّه ما من دين أو طائفة أو ملّة أو فرقة إلّا وتعتقد أنّ الله عزّ وجلّ قد خصّها برسالة مميزة أو ميثاق مميّز، وأنّه في سبيل ذلك فهو يقف إلى جانبها يشدّ أزرها ويعمل على انتصارها بطريقة أو بأخرى. كلّ الأديان “شعوب مختارة”، وإلّا لما بقي المؤمنون على إيمانهم.

    علينا أن نميز بين التكفير والقتل، فالحكم بكفر الآخر يأتي من باب تحديده وفقاً لمنظور عقائدي معيّن، فالكافر هو الذي لا يؤمن بمعتقدات دينية لجماعة معينة، ونعته بالكافر تأتي من باب تحديد أنه خارج الإطار الديني الذي يجمع أفرادها. وقريب من هذا ما أسماه الشيخ أكرم بركاته في أطروحته للدكتوراه عن التكفير، بالإيمان المذهبي والإيمان الإسلامي، لكن هذا المصطلح قد لا يتوقف عند تحديد النظرة الدينية للآخر، بل قد يوجب قتله، وهنا يتحول النص الديني من مجرد نص تكفيري إلى نص متوحش، وهذا ما أهتم بمتابعته.

  • وضع نص الغزالي في قائمة نصوص التوحش صادمة، فنصوصه المعروفة تحتفي بالتصوف والحكمة؟

    أنا أتحدث عن الغزالي حين كان في بلاط السلاجقة قبل أن يدخل تجربته الروحية،  أبي حامد الغزالي صنف الآخرين من غير أهل السنة بين: ضال وكافر ومرتد، حتى وضع الإسماعيليين والفاطميين في خانة الفئة الأخيرة، وهي خانة تستوجب على الخليفة قتل المرتد وقتل زوجته وقتل ابنه إن لم يقبل الإيمان على منهج الخليفة.

    لكن الغزالي وتحديداً في كتابه “فضائح الباطنية” لم يعمد إلى رسم هذه الحدود وفق معيار ديني خالص، فموقفه من الإسماعيليين والفاطميين كان مبنياً على خلفية موقفهم من الخلافة العباسية، وبتعبير أدق جاءت هذه التصنيفات نظراً لعداوة هاتين الفئتين مع السلاجقة، الذين كانت بيدهم الشوكة، حسب تعبير الغزالي، وحكموا باسم المدافيعن عن الأرثوذكسية السنية، أي الطريق المستقيم الوحيد لفهم الإسلام وسنة النبي.

    في كتابه (فضائح الباطنية) يقول الغزالي “…وَإِنَّمَا الْوَاجِب قَتلهمْ وتطهير وَجه الأَرْض مِنْهُم هَذَا حكم الَّذين يحكم بكفرهم من الباطنية وَلَيْسَ يخْتَص جَوَاز قَتلهمْ وَلَا وُجُوبه بِحَالَة قِتَالهمْ بل نغتالهم ونسفك دِمَاءَهُمْ فَإِنَّهُم مهما اشتغلوا بِالْقِتَالِ  جَازَ قَتلهمْ”

    إنه نص مرعب، وحين تقرأ تفصيله لهذه الأحكام، يصاب بدنك بالارتعاش، لكم العنف والتوحش الذي فيها.

  • أعلنت أنك “خارج الطائفة” يوما.. وها أنت “خارج الوطن”. ألم تكن متهيئا لذلك وعدّتك الفكر ومناقشة التراث؟

    لم تكفرني طائفتي حين كتبت كتابي، ولم تهدر دمي، ولم أعزل اجتماعياً، أقصى ما حدث كان صراعات كلامية، لكني حين صرت (خارج السلطة) أصبحت في دائرة الاستهداف وأسقطت جنسيتي.

    المحنة تلاحق المثقف حين يكون (خارج السلطة أو السلطنة) ومنذ الخلافة الإسلامية، تمّ تحديد الكافر بأنه الخارج عن سلطة الخليفة، وخطاب التكفير مصاغ في تراثنا على هذا المقاس، وما زال حتى اليوم مقاساً فاعلاً، وأستطيع القول من جانب ما، إن التكفير في عصر الخلافة بمثابة إسقاط الجنسية في عصر الدولة الوطنية، وكلاهما يستخدمان أداة ضد المعارضين لسياسة الخليفة أو سياسة الحاكم.

    (الغزالي) مثلا كتب نصوص التكفير بإملاء الوزير السلجوقي الداهية، نظام الملك، وقد صاغ خطاباً فقهياً اعتبر فيه معارضي السلاجقة والخلافة العباسية مرتدين، يجب قتلهم وسبيهم، هكذا بجرة فتوى صارت الدولة الفاطمية بعظمتها خارج الإسلام، ومن يؤمن بخلافتها كافر مرتد.

  • كيف يمكن أن نكوّن مقاربة بين الكتب التراثية والحداثة، أو سمات العصر الحديث؟

    عليك أن تخرج منها أولاً، ثم تجعلها موضوعاً للاشتغال النقدي، أو أنك ستتسمم بها وتموت وتميت الآخرين معك. المثال الأكثر وضوحاً هنا هو بعض الجامعات السعودية المتخصصة في الدراسات الإسلامية، تستميت في في تحقيق كتب ابن تيمية وفتاويه وتعممها وتعد حولها مئات الدراسات، لكن ليس بهدف فهمها كجزء من التراث والماضي، بل بغرض بعثها والعيش عليها والتعلم منها وإنتاج نسخة من الإسلام مطابقة لها، تحت عنوان الإسلام السلفي أو الإسلام الحنبلي أو إسلام العصر الذهبي: إسلام النبي والصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

    الموت الذي نعيشه اليوم هو نتيجة للموت الذي بعثناه من نصوص ابن تيمية، والقنابل التي تفجر اليوم في أجساد المصلين، شفراتها منصوص عليها في حروف ابن تيمية المتوحشة. يقول محقق كتاب ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) “أما بعد فهذا الكتاب قنبلة من أقوى ما ألقى شيخ الإسلام على حزب الشيطان من قنابل الحق والهدى”

  • ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

    أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.

    هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان هناك المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة.

    وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

  • ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

    يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك “الأرثوذكسية” في قراءته للتراث الإسلامي و”الأرثوذكسية” في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من قبل السلطة السياسية.

    احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.

    السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوما أحاديا وقطيعا لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة بشهوة القتل وغريزة التوحش.

  • هل يمكن اعتبار الجماعات المتشددة الحالية امتدادا للسلاجقة؟

    أنا أعتبرها كذلك في جانب من جوانبها، فالسلاجقة جماعات مقاتلة لم تكن تجيد حتى العربية، ليس لديها خلفيات ثقافية، وجدت لذتها في الجهاد والقتال. جيوش السلاجقة وجدت في (تثبيت الأرثوذكسية السنية) فرصة لتثبيت شرعيتها في العالم الإسلامي السني، فالسلاجقة كمحاربين أتراك أشداء كانوا يفتقدون إلى العمق الحضاري أو الثقافي الذي يعطي لوجودهم معنى، إضافة إلى أنّهم بحاجة إلى شرعية تجعل من سلطتهم مبررة تحت مظلة الخليفة العباسي.

    وقبل أن يجدوا في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، وجدوا ذلك في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تمّ توسيع دائرة العدو، فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهاً للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسببا في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.

    لقد خلعت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) مدعومة بالسلطة السياسية (السلاجقة، الزنكيون، الأيوبيون) كل المعاني التأثيمية على كلمة (باطني)، وصار معنى السنة يتوضح بمعارضته لمدلول (الباطنية) التي صارت تدل على معاني متعددة وربما متضاربة من نحو: كافر، مرتد، منافق، إسماعيلي، فاطمي، رافضي، شيعي، يضمر الشر للإسلام، معادي للسنة، يكفر الصحابة، عدو، خائن، متهتك، ضال، مبتدع.

    صار الجهاد هو القيمة الأكثر حضوراً فترة الحكم السلجوقي وما انبثق عنه من حكم الزنكيين والأيوبيين، وصارت الأرثوذكسية السنية كما تبناها هؤلاء هي الأيديلوجيا المعبرة عن فكرة الجهاد، فصار قتال الصليبين والباطنيية مهمة جهادية أولى.

    شهوة الجهاد عند المقاتلين الأتراك أعطت لـ(السنة الصحيحة) مفهوما قاطعا كحد السيف، لا يقبل التعدد والاختلاف. فراحوا يوحدون الجغرافيا والأفكار والعقائد. هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير التي رسمها سيف الجهاديين الذين كانوا حماة الخلافة الإسلامية وشوكتها كما عبر الغزالي.

    رابط الموضوع

 

اترك تعليقاً