عن مسلسل «مقامات العشق»: أن تُلبس آخر وجهَك القميء

 

عن مسلسل «مقامات العشق»: أن تُلبس آخر وجهَك القميء

جريدة الأخبار: الحبكة الرتيبة للقصة، الاعتماد على لغة ابن عربي بدل خلق لغة جديدة مستوحاة من رؤيته، وعدم الجرأة في تسمية الخطاب المكفر له… كلها عوامل جعلت من مسلسل «مقامات العشق» مخيّباً لآمال كل من أراد مشاهدة حياة ابن عربي الروحية ونظرته الصوفية والاطلاع على الصراع السياسي والعقائدي لعصره

«مقامات العشق» (كتابة محمد البطوش ــ وإخراج أحمد إبراهيم أحمد- إنتاج mr7 مفيد الرفاعي لصالح تلفزيون «أبوظبي») حسب توصيفه الرسمي مسلسل تاريخي يروي سيرة محي الدين ابن عربي في ثلاثين حلقة. شاهدت العمل خلال شهر رمضان، وكان مخيباً لأفق توقعي. كنت أتوقع أن يقدم سيرة ابن عربي من خلال الصراع السياسي والعقائدي لعصره الذي عاشه على امتداد العالم الإسلامي في تقلباته التي تركت آثارها في كتاباته، أو أن يقدم حياة ابن عربي الروحية ونظرته الصوفية في صياغة معاصرة.

ما كنت أنتظر أن أسمع ما قرأته وكتبت عنه في مصنفات ابن عربي طوال خمسة عشر عاماً من علاقتي المعرفية به. كنت متشوقاً لقصة تقدم ابن عربي في صياغة تعطي له حضوراً في سياقنا العربي والإسلامي المأزوم، على النحو مثلاً الذي قدمته أليف شافاك لشخصية جلال الدين الرومي في رواية «قواعد العشق الأربعون» بحيث تحولت شخصية جلال الدين الرومي وشمس التبريزي لعمل جماهيري اخترق مختلف الأوساط والأذواق، أو على النحو الذي قدمته الدراما التركية لمؤسس الدولة العثمانية (قيامة آل طغرل) حتى صار طغرل شخصية شعبية محبوبة، وربما يكون جزءاً من نجاحه يعود إلى قدرته على تقديم شخصية ابن عربي كمُلهم للبطل المؤسس للإمبراطورية العثمانية.

مع الأسف الشديد، لم ينجح مسلسل «مقامات العشق» في أن يفعل ذلك، على الرغم من أن المقام السياسي والثقافي والديني الذي نعيشه، مهيّأ لتقديم شخصية ابن عربي ورؤيته الصوفية. لقد أخفق هذا العمل الدرامي في أن يجعلنا نعشقه، لثلاثة أسباب فيما أرى، لا علاقة لها بطاقم التمثيل، فنجوم المسلسل في المجمل قاموا بأداء أدوارهم المرسومة بإتقان عالي المستوى. وقد برعت نسرين طافش في تمثيل شخصيتها كما كُتبت في السيناريو ونُطق لغتها الفصحى نُطقاً جميلاً سلساً، كما فعل ذلك أيضاً مصطفى الخاني بإجادة كبيرة في تمثيل شخصية شيخ حامد. ما هي الأسباب التي حالت دون نجاح هذا المسلسل التاريخي؟

أرى هناك ثلاثة أسباب: الحبكة الرتيبة للقصة، الاعتماد على لغة كتب ابن عربي بدل خلق لغة جديدة مستوحاة من رؤيته، وعدم الجرأة في تسمية الخطاب المكفر لابن عربي.
حسناً فعل كاتب السيناريو في خلق حكاية غير تاريخية، لكن الحبكة لم تتوفر فيها عناصر التشويق ولا حكايات فرعية تتوازى مع زمن الحكاية الرئيسية، لتصب في النهاية فيها. تمّت صياغة السيناريو في قصة مُبسطة، لا بسيطة، الأعداء في مملكة «أرغون» يُحيكون مؤامرة على العالم الإسلامي، يُريدون أن ينفدوا له من الداخل لتدمير خطاب التسامح «المفترض»، وقتل العلماء وإشعال خطاب التكفير، فيرسلون (ست الحسن) الفائقة الجمال للعمل مع (مارتل) المتخفي تحت عباءة رجل دين مسلم متشدد، في مدينة مرسية حيث يعيش علي بن عربي وهي المدينة التي شهدت ولادة ابنه محيي الدين ابن عربي. تدور الأحداث بشكل بارد وبطيء وممل بين هذه الشخصيات خلال خمسين عاماً بين مرسية وقرطبة ومكة ودمشق، ويتخلل ذلك عرض لمقولات ابن عربي على لسان ست الحسن التي تحولت إلى مريدة تعشق والد ابن عربي عشق فناء، فلا تعود ترى في العالم محبوباً غيره.

يستخدم الشيخ حامد أتباعه المتطرفين بشكل فاقع ومبالغ فيه لإثارة الرأي العام ضد والد ابن عربي ويسعى عبرهم لقتله، يُصاب بسهم غادر، لكنه ينجو في مشهد تمثيلي بارد يفتقد لأدنى متطلبات الإقناع والحرفية، كأنك تشاهد مشهداً في السبعينيات حيث لا تقنيات تأخذ قلب المشاهد إلى أعلى درجات التوتر والتشويق والإقناع.

تُمط محاولات قتل ابن عربي الأب والابن طوال خمسين عاماً على مدى ثلاثين حلقة. والشيخ حامد يفشل في التمكن من إنجاز مهمة القتل. وعلى الرغم من انحياز ست الحسن إلى جانب ابن عربي، فإن الحبكة بمبررات غير قوية تجعل مهمة كشف حقيقة الشيخ حامد غير ممكنة. يُهزم الشيخ حامد في الحلقة الثلاثين، ويقدم لنا خلاصة وعظية ركيكة لعمله طوال الحلقات الثلاثين، في صيغة مونولوج داخلي يقول فيه «لا سبيل لك يا مارتل (شيخ حامد) على ابن عربي، الرجل يدعو للحب والحرية وأنت تدعو للكره والتطرف. الحب والحرية يعنيان السلام والرخاء، والسلام يعني التحضر والعلم والفلسفة والازدهار، وهذا ما يغري من يطّلع على فلسفته».
لا شيء في حبكة القصة يُشير إلى وجود عقدة في خطابنا ولا علمائنا ولا فرقنا الكلامية ولا حكامنا ولا إشارة إلى التوظيف السياسي للدين وصناعة خطاب التكفير من قبل الخلفاء ورجال الملل والنحل والدول، في حين أن الحقيقة التاريخية التي لا جدال فيها تقول إن ابن عربي واجه في مسيرته عقدة التكفير والتوظيف السياسي للدين، وواجهت كتبه مصيراً أشد عنفاً بعد تشنيع ابن تيمية عليه. لقد تجاهل السيناريو كل ذلك وفضل أن يُلبس الآخر (الشيخ حامد) وجهنا القميء (التكفير والتقتيل).
خطاب ابن عربي الصوفي يٌقدم حلاً لتفكيك الانغلاقات التي سببتها عقدة التكفير النابتة في بيئتنا وثقافتنا التراثية. وهذا ما حاولت توضيحه في كتابي الصادر هذا العام «لماذا نكفر؟ ابن عربي من عنف الأسماء إلى نفس الرحمن»). تقول لنا حبكة مسلسل «مقامات العشق» هناك فقط مؤامرة على العالم الإسلامي وعلى حضارتنا، تريد تدميرنا من الداخل وإخراجنا من الأندلس، بإضعاف الفكر النير الذي مثله ابن عربي وابن رشد.

تجاهل المسلسل أنّ ابن عربي واجه التكفير والتوظيف السياسي للدين

ليس هناك غير الشيخ حامد في هذه المؤامرة وتابعين له طوال الحلقات الثلاثين، ولا يُقتل سوى واحد من أتباعه في الحلقات الأولى، ويبقى تابعه الثاني معه من دون أن يكتشفه حتى الحلقة الثلاثين. لا تتطور أي شخصية تطوراً طبيعياً. حتى ست الحسن في تحولاتها، اعتمد المؤلف على لحظة الهداية الداخلية على طريقة «ثم اهتديت» وليس الصراع الداخلي. الصراع في حبكة السيناريو لا توتر فيه ولا تغير ولا نمو ولا تعقيد، صراع بسيط بين شخصيات الخير فيها يبلغ حد السذاجة، وشخصيات الشر فيها يبلغ حد التجذر المطلق.

لا يُقتل أحد من هذه الشخصيات، فكيف تريد أن تشدّ المشاهد على مدى ثلاثين حلقة ولا أحد يُقتل من الشخصيات الرئيسية؟ حتى مشهد الحرق البارد الذي دبرته من غير قصد ست الحسن للشيخ حامد ينتهي بنجاته، وتشوه وجهه وفقد إحدى عينيه، فأصبح قبيحاً ليحاكي شخصية الشرير التي يستدل بها الأطفال على الشر من شكله. ربما يكون هناك معنى ضمني حاول من خلاله كاتب السيناريو استحياء تمثيل الشكل النمطي للمفتي الوهابي المتشدد.

يقول لنا سيناريو «مقامات العشق» بشكل ساذج، سنجد الحل ويتحقق الوعي بمجرد أن نكتشف الجاسوس صاحب المؤامرة. وهذا ما وقع للجارية «شقاء» التي أرسلها «مارتل» لابن عربي لقتله بالسُم. وحين اكتشف أمرها، قال لها ابن عربي بعدما وجّه لها النصائح والإرشادات: «الشيخ حامد ليس سوى جاسوس أرسله قومه منذ خمسين عاماً كي يوزع الفتنة بين أتباع هذا الدين». فما كان منها إلا أن تخلت عن خطاب التشدد ونظرتها التكفيرية لبيت ابن عربي، وذهبت تحمل خطاب الهداية واليقظة لمواجهة الشيخ حامد، لتقول له قبل أن يصفعها: «لقد فعلتُ ما أمرتني به (دس السم لابن عربي) وهو مخالف للشرع».

لم ينجح كاتب السيناريو في خلق لغة جديدة يقدم فيها ابن عربي. في أغلب الحوارات تشعر أن اللغة محررة من كتب ابن عربي أو هي نفسها، طويلة لا تناسب لغة الشاشة، وتُشعر المتلقي أنه يسمع لغة لا يفهمها، كما هو الأمر في المناظرة التي جرت في دمشق بين الشيخ حامد وابن عربي واستغرقت ما يقرب من الدقائق السبع حول فكرة وحدة الوجود والحلول والحدود، لغة من نوع: «أفليس في هذا تحلل من الرسوم؟»، «أقول هذا مدعاة للعلم وسعة الأفق دون تحلل من الرسوم»، «من لم يقف على إشارتنا، لم ترشده عبارتنا». هذه لغة السيناريو حين تريد أن تقدم أفكار ابن عربي. لغة مغلقة على المتلقي وعلى عصره، وحين يريد السيناريو أن يُسقط أفكار ابن عربي على الحاضر، فإنه يعمد إلى لغة فاقعة الوعظ والتبسيط والتوجيه، كما في خطاب ابن عربي في الحلقة الأخيرة وهو يعظ الجارية «شقاء»: «أيهما أفضل لبلاد الإسلام، الحرب أم السلم؟ اعلمي أن تطور البلدان وازدهار حضارتها يكون أوقات السلم، العلم والبناء وازدهار الفلسفة والحضارة بكافة أشكالها تكون في أوقات السلم». لقد تجرأ كاتب السيناريو على إعادة تركيب أحداث تاريخية وتقديم وتأخير مراحل زمنية من حياة ابن عربي، لكنه لم يتجرأ على خلق لغة معاصرة تمثل رؤية ابن عربي.

جريدة الأخبار: 

الإثنين 10 حزيران 2019- https://cutt.ly/uiT9H7

اقرأ المقال بصيغة PDF

اترك تعليقاً