«لو» تأنيس استيحاشات نكاح الرضيعة(3-3)

ما آليات (كيفيات) خطاب الشيخ محمد صنقور في إزالة استيحاشات حكم نكاح الرضيعة؟ وهل هي آليات تخص هذا الموضوع، أم هي آليات تشتغل في كل الموضوعات التي يتناولها الخطاب الديني الاجتماعي؟
يورد الشيخ محمد صنقور ستة مناشئ للاستيحاش من الحكم بجواز نكاح الصغيرة، وهو يوردها، ليس لتقريرها، أي تقرير حقيقتها، بل لتقرير وهمها، أي أنه يعتبرها استيحاشات وهمية، وهو يشغل تقنياته الحجاجية في إزالة هذه الاستيحاشات الوهمية، ليثبت أن هذا الحكم لا يتعارض حقيقة مع حساسية الذوق العصري أبداً، وذلك لو قدر لنا أن نتخلص من هذه الأوهام الاستيحاشية.
المناشئ الستة للاستيحاش، هي: [1].
المنشأ الأول: هو توهم أن جواز نكاح الصغيرة يساوق جواز وطئها.
المنشأ الثاني: أن تزويج الصغيرة منافٍ لمصلحتها غالباً، وذلك لأن تزويجها سيمنعها من الاستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها.
المنشأ الثالث: أن في تزويج الصغيرة تضييع لحق البنت في تقرير مصيرها بعد البلوغ، حيث أنها ستجد نفسها في عهدة رجلٍ قد لا يكون مقبولاً عندها.
المنشأ الرابع: أن في تزويجها مصادرة لحقها في اختيار شريكها، لأنَّها في زمن صباها لم تكن تُحسن تحديد مصلحتها.
المنشأ الخامس: أنه لا نتعقل تسليط الولي على توريط بنته بزواج قد لا يكون موفَّقاً في مستقبل الأيام، ومجرَّد إعفائها من مسؤولية الزواج في زمن الصبي لا يبرِّر ذلك.
المنشأ السادس: أن الفقهاء يفتون بجواز الاستمتاع بالصغيرة بما دون الوطء، بمعنى انه يجوز للزوج تقبيل الصغيرة ولمسها بشهوة، كما يجوز تفخيذها، وكلُّ ذلك مستبشع في حق الصغيرة.

لو
يعتمد خطاب الشيخ صنقور في إزالة هذه الاستيحاشات أجوبةً، تستند إلى (لو) التبريرية، فهي تبرر كل استيحاش بجواب يحيل الاستيحاش استيناساً.
تفتح (لو) خصوبة التفكير، لكنها خصوبة مقرونة في إرثنا الديني بالشيطان، فلو تفتح عمل الشيطان، و(لو) في خطاب الشيخ صنقور تقتح منافذ للشيطان، شيطان الحيل الشرعية، فهي تتعلق هنا بحالة مستحيلة من منظور (لو) الشيخ صنقور ‘’فالحكم بالجواز أمر افتراضي محض’’ لكنها حالة شرعية، ويمكن لأي شخص غير سوي أن يبرر فعله غير السوي، لو فعلها مع الرضيعة، يمكنه أن يبرر ذلك بحالة الجواز الشرعية.
تتكرر (لو) في خطاب الشيخ صنقور، تكراراً أثيراً يصل إلى حد أن خطابه يكاد يكون قائماً على (لو)، وهي لا تحضر في خطابه من أجل فتح التفكير في حالات لا مفكر فيها، بل من أجل التبرير لحالات يصعب قبول التفكير فيها، ليس لمانع يتعلق بمصادرة حرية التفكير، بل لمانع يتعلق بأبعاد إنسانية وحقوقية وذوقية. وهو مانع يحاول خطاب (لو) أن يخفف منه بتبريرات تزيده استيحاشاً.
هذه عينة من جمل (لو) في خطاب الشيخ محمد صنقور، يمكننا أن نقرأ فيها وظائف عمل خطابية متعددة: [2].
‘’على أنه يمكن للولي أن يشترط على من يريد التزوُّج منها أن يبالغ في توفير أسباب الاستمتاع بالطفولة لها وحينئذٍ يكون على الرجل لو قبل بالشرط الالتزام بمقتضاه’’، ‘’والجواب عن ذلك أنَّه لو اتفق عدم قبولها بالرجل الذي اختاره وليُّها لها. فإن ثمة وسائل تتمكن بواسطتها من التخلُّص من عقد النكاح’’، ‘’فإذا افترضنا (لو) أن زوجها كان صالحاً سوَّياً فإنه لن يجبرها على البقاء عنده والمفترض أنه لم يعاشرها قبل البلوغ. على أنه لو اتفق أنه امتنع من ذلك فلها الحق شرعاً أن ترفع أمرها للقضاء ليفصل في قضيَّتها’’، ‘’والجواب عن ذلك أن الاستمتاع بالصغيرة خصوصاً لو كانت رضيعة أمر لا يكاد يتفق وقوعه، ذلك لأن الأسوياء من الناس لا يستثيرهم من الصغيرة شيء’’، ‘’فإذا افترضا (لو) حرص الولي على تزويج ابنته من رجل صالح سوي فإنه سيكون في مأمن من وقوع ذلك، فالحكم بالجواز أمر افتراضي محض’’، ‘’فليس في تقبيل الزوج لزوجته الصغيرة أو حتى تفخيدها ما يبَّرر الاستبشاع، إذ إن ذلك لن يُنتج إيذاءها لو خشي من أنه سيُنتج الإيذاء الجسدي أو حتى النفسي فإنه سيصبح حراماً بالإجماع’’، ‘’بمعنى أن الاستمتاع بالصغيرة جائز في حدِّ نفسه إذا لم يتعنون بعناوين أخرى طارئة أما لو طرأت عليه عناوين تُوجب وقوع المفسدة الشديدة من الاستمتاع فإنه سيصبح بذلك محرماً’’.
إن (لو) التي يقوم عليها خطاب الشيخ صنقور، ليست فقط آلية تبرير، بل صارت آلية تبرير وتهوين وتخفيف، فهي تبرر هذا التجويز وتهوّن من استيحاشاته، وتخفف من آثاره المحتملة، وبهذه الوظائف تحقق (لو) وظيفتها الأكبر والأخطر، وهي تغييب وقائع الواقع الذي ترصده الإحصاءات والدراسات والتقارير الدولية المتعلقة بالمرأة والطفولة والانتهاكات الجندرية والعنف والتمييز وقصور المحاكم الشرعية والمدنية عن إنصاف حق المرأة وحماية الطفولة. إن منطق خطاب (لو) في خطاب الشيخ صنقور، قد غيّب عن حججه الاستدلال بأي دراسة علمية عن واقع المرأة وقضاياها أو أي تقرير دولي، أو محلي.هناك غياب مطلق للأرقام والحالات وهو غياب يفسره الحضور المطلق لـ (لو) ومقتضياتها.
(لو) لا تحكم هنا موضوع جواز نكاح الرضيعة فقط، بل تحكم كل الموضوعات التي يتناولها الخطاب الفقهي، حتى حين يكون الموضوع هو الدولة.
(لو) بتبريراتها وتهويناتها وتخفيفاتها وتغييباتها، تخلص إلى اعتبار الاستيحاشات وهمية، لكنها لا تعتبر أن الاستئناس أيضا وهمي، وليس مجعولا شرعيا [3].. لذلك فخطاب الشيخ يلجأ إلى حجة الثقافة في تبرير الاستيحاشات، لكنه يلجأ إلى حكم الشرع والنص في تقرير الأحكام، ويهمل حجة الثقافة.
لا يلجأ إلى حجة الثقافة في تبرير فتوى الفقيه وحكمه. الرجوع إلى حجة الثقافة غدا اليوم ضرورة في تقرير الأحكام، وليس في تبريرها فقط، كما يفعل خطاب الشيخ محمد صنقور، وهذا يجعلني أوضح مسألة في غاية الأهمية، وهي تتعلق بمدخلي لقراءة خطاب الشيخ صنقور، فأنا لا أدخل عليه من باب المحاججات المذهبية ولا من باب البحث عن عورات مذهبية، ومن باب كشف المستورات التاريخية المحرجة التي لا يخلو منها مذهب ولا شخص ولا دين ولا حضارة، وليس من باب مناكفة التيار الديني. بل مدخلي هو محاولة لقراءة آليات الخطاب الديني الاجتماعي في قراءة النص الديني وطريقة تعاطيه من الفتاوى وطبيعة الحجج التي يبني بها خطابه ويمارس من خلالها حجاجه مع المختلفين معه. لذلك فموضوعي ليس نكاح الرضيعة، بل الآلية الحجاجية التي يدار بها هذا الموضوع، وهي آلية لا تحكم هذا الموضوع وحده، بل تحكم الخطاب الديني حين يدير أي موضوع آخر.
الفقيه بثقافة عصره يستوحش فيجعل، ويستحسن بثقافة عصره فيجعل أيضاً، وإذا كنا نظن أنه محكوم بنص لا يقبل التأويل المحكوم بالجعل، فسنكون قاصرين في فهم أفق فهم الفقيه.
مشكلة علم الأصول اليوم، أنه ما زال علم أصول النص بمعناه الحرفي الضيق، وتفريعاته التي أتخمته لم تفتحه على شق علم آخر من علوم الإنسان الحديثة، مع أنه علم مركب من مجموعة علوم، لكنه انغلق على العلوم القديمة التي يدين لها بنشأته.
لم تعد آليات علم أصول الفقه،على أهميتها قادرة اليوم وحدها على قراءة النص الديني، هي بحاجة إلى مقدمات خارجية، من خارج النص الديني نفسه، وهي المقدمات التي يشير إليها محمد مجتهد شبستري، بقوله ‘’الفقيه لا يستنبط الأحكام مستعينا بعلم الأصول فقط، وإنما تتدخل أيديولوجيا الفقيه ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع والحق والعدالة والسياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم والحضارة والقيم والأخلاق، في صياغة آرائه واستنباطاته الفقهية وعملية الاجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه لازم من كل هذه المقدمات، وتسير في طريق معين لتتمخض عن نتائج خاصة’’[4].

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5370

الهوامش
[1]، [2]، انظر خطاب شيخ محمد صنقور على الموقع التالي:
http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID= 186
[3] انظر، مناقشتنا لقاعدة ‘’الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة’’، في الحلقة الثانية من قراءتنا لخطاب شيخ محمد صنقور.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5293
[4]علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، تحرير عبدالجبار الرفاعي، ص346

29 تعليقا على “«لو» تأنيس استيحاشات نكاح الرضيعة(3-3)”

  1. نشكرك أستاذ علي على هذه الملاحظات التحليلية لبنية الخطاب الديني من رؤية سردية وسيسيولوجية.
    ويعجبني تحليلك الذي يبتعد عن العصبية الآيدلوجية.
    ونتمنى منك الكثير، ولكن حافظ على هذا المستوى الذي يتسم بعدم التعصب.
    مع أني أميل إلى الفكر الديني كثيرا إلى أني أتابع مقالاتك المتميزة في رحاب الفكر الديني خاصة.
    رعاك الله.

اترك تعليقاً